الكروموسوم ٩: المرض

الأمراض الخطيرة تتطلب علاجات خطيرة.

جاي فوكس
يوجد على الكروموسوم ٩ جين معروف بدرجة كبيرة؛ الجين الذي يحدد فصيلة دمك. ظهرت فصائل الدم في ساحات المحاكم قبل تقنية البصمة الوراثية بوقت طويل. ومن وقت لآخر كان رجال الشرطة يحالفهم الحظ ويجدون صلة بين دم المتهم والدم الموجود في مسرح الجريمة. كانت فصائل الدم تبرئ ساحة المتهمين؛ بمعنى أن النتيجة السلبية تثبت قطعًا أنك لست المجرم، والنتيجة الإيجابية توحي فقط بأنك من الممكن أن تكون القاتل.1

بيد أن هذا المنطق لم يؤثر بالدرجة الكافية في المحكمة العليا بكاليفورنيا التي أصدرت عام ١٩٤٦ حكمًا بنسب أحد الأطفال للممثل تشارلي شابلن، على الرغم من الدليل الدامغ على عدم وجود تطابق بين فصيلتي دمهما، لكن القضاة لم يكونوا يومًا بارعين في العلوم. وفي قضايا النسب، كما هي الحال في قضايا القتل، كانت فصائل الدم — شأن البصمة الوراثية وحتى البصمات العادية — صديقة للأبرياء. وفي عصر البصمة الوراثية صارت فصائل الدم لا لزوم لها في عالم الأدلة الجنائية. إن لفصائل الدم أهمية أكثر بكثير في عمليات نقل الدم، لكن هذا، مجددًا، على النحو السلبي تمامًا؛ فتلقي الفصيلة الخاطئة من الدم يمكن أن يكون أمرًا قاتلًا. يمكن لفصائل الدم أن تمدنا ببعض الرؤى عن تاريخ الهجرات البشرية، مع أن الجينات، مرة أخرى، حلت محلها بالكامل في هذا المنحى. قد يجعلك كل هذا تظن أن فصائل الدم تتسم بالملل إلى حد ما، لكنك ستكون مخطئًا في ظنك هذا؛ إذ إنه منذ عام ١٩٩٠ اضطلعت فصائل الدم بدور جديد تمامًا، ألا وهو إمكانية تعريفنا بكيفية وسبب اختلاف جميع الجينات بهذا الشكل. إنها سبيلنا إلى فهم تعدد أشكال الجينات لدى البشر.

أول وأكثر نظام معروف لفصائل الدم هو نظام ABO. كان لهذا النظام، المكتشف لأول مرة عام ١٩٠٠، ثلاثة أسماء مختلفة ذات تبعات محيرة؛ ففئة الدم الأولى وفقًا لتسمية موس كانت مكافئة للفئة الرابعة وفقًا لتسمية يانسكي. وتدريجيًّا انتصرت العقلانية وصارت التسمية المتبناة من قبل المكتشف القادم من فيينا لفصائل الدم هي السائدة على مستوى العالم وهي فصائل الدم A وB وAB وO. وقد عبر كارل لاندشتاينر عن الكارثة التي ستقع جراء نقل فصيلة دم خاطئة قائلًا إن خلايا الدم الحمراء ستلتصق معًا. لكن العلاقة بين فصائل الدم لم تكن بسيطة؛ فأصحاب فصيلة الدم A يمكنهم التبرع بدمهم لأصحاب الفصيلتين A وAB، وأصحاب الفصيلة B بمقدورهم التبرع لأصحاب فصيلتي الدم B وAB، ولا يمكن لأصحاب الفصيلة AB إلا التبرع لأصحاب فصيلة الدم نفسها، أما أصحاب فصيلة الدم O فيمكنهم التبرع بدمهم لأصحاب أي فصيلة أخرى. ولهذا السبب يعرف صاحب هذه الفصيلة باسم المعطي العام. أيضًا لم يكن هناك أي سبب جغرافي أو عرقي واضح خلف الفصائل المختلفة؛ فنحو أربعين بالمائة من الأوروبيين فصيلة دمهم O، وأربعين بالمائة مثلهم فصيلة دمهم A، وخمسة عشر بالمائة فصيلة دمهم B، وخمسة بالمائة فصيلة دمهم AB. والنسب متشابهة في بقية القارات، مع استثناء وحيد لافت للنظر في الأمريكتين؛ حيث دماء السكان الأصليين جميعهم تقريبًا من الفصيلة O، باستثناء بعض القبائل الكندية التي في المعتاد تكون فصيلة دمها A، والإسكيمو الذين تكون فصيلة دمهم في بعض الأحيان AB أو B.
لم تبدأ الأسس الجينية لفصائل الدم في الاتضاح حتى عشرينيات القرن العشرين، لكن وجب الانتظار حتى عام ١٩٩٠ حتى نكتشف الجينات الخاصة بها. إن A وB نسختان «سائدتان» للجين نفسه، أما O فهي النسخة «المتنحية» منه. يوجد الجين في الكروموسوم ٩، قرب نهاية الذراع الطويلة له. ونص الجين، البالغ طوله ١٠٦٢ «حرفًا»، مقسم إلى ستة إكسونات («فقرات») قصيرة وواحدة طويلة موزعة على عدد من «الصفحات» داخل الكروموسوم البالغ عدد حروفه ١٨٠٠٠ حرف. هو من الجينات متوسطة الحجم إذن ويتخلله خمسة من الإنترونات الطويلة. هذا الجين هو وصفة لتصنيع إنزيم الجالاكتوزيل ترانسفيريز؛2 وهو بروتين يملك القدرة على تحفيز تفاعل كيميائي.
الفارق بين الجين A والجين B هو سبعة حروف من أصل ١٠٦٢ حرفًا، منها ثلاثة حروف مترادفة أو ساكنة؛ بمعنى أنها لا تحدث فارقًا في الحمض الأميني المختار في سلسلة البروتين. أما الأحرف الأربعة المهمة فهي أرقام ٥٢٣ و٧٠٠ و٧٩٣ و٨٠٠. لدى أصحاب فصيلة الدم A تكون هذه الحروف C، G، C، G، أما لدى أصحاب فصيلة الدم B فتكون G، A، A، C. هناك أيضًا بعض الفوارق الضئيلة. وبعض الناس يملكون بعضًا من حروف A وبعضًا من حروف B، كما توجد نسخة نادرة من فصيلة الدم A يكون فيها أحد الحروف مفقودًا بالقرب من النهاية، لكن هذا الاختلاف المقتصر على الأربعة أحرف كافٍ لجعل البروتين مختلفًا اختلافًا يكفي لاستثارة رد فعل مناعي إذا نُقلت الفصيلة الخاطئة من الدم.3
تختلف فصيلة الدم O عن الفصيلة A في حرف واحد فقط، لكن بدلًا من استبدال هذا الحرف بآخر فإن هذا الحرف محذوف، فالحرف رقم ٢٥٨ لدى أصحاب فصيلة الدم O، الذي من المفترض أن يكون G، محذوف تمامًا، وهو الأمر الذي يخلف أثرًا واسع المدى لأنه يتسبب فيما يعرف باسم طفرات تحول القراءة أو تحول الإطار، التي تكون لها تبعات أعظم أثرًا. (تذكر أنه لو كانت شفرة فرانسيس كريك الخالية من الفصلات التي تحدث عنها عام ١٩٥٧ صحيحة لما حدث هذا النوع من الطفرات.) تُقرأ الشفرة الجينية على صورة كلمات ثلاثية الأحرف دون أي علامات ترقيم. يمكن لعبارة باللغة الإنجليزية مكونة من كلمات ثلاثية الأحرف أن تبدو على الشكل التالي: the fat cat sat top mat and big dog ran bit cat. أعترف أنها ليست عبارة شعرية بليغة، لكنها تكفي لتوصيل معنى. وإذا غيرت حرفًا واحدًا منها، كحرف c في كلمة cat مثلًا، فستظل توصل معنى: the fat xat sat top mat and big dog ran bit cat. لكن إذا حذفت نفس الحرف وقرأت الحروف التالية عليه على صورة مجموعات ثلاثية الأحرف فستصير العبارة كلها غير ذات معنى: the fat ats att opm ata ndb igd ogr anb itc at. وهذا هو ما حدث في جين فصيلة الدم لدى أصحاب الفصيلة O. فبسبب نقص حرف واحد في مكان مبكر نسبيًّا من الرسالة صار الجزء المتبقي من الرسالة يقول شيئًا مختلفًا اختلافًا كليًّا. ومن ثم يُصَنَّع بروتين مختلف ذو خصائص مختلفة. ولا يُحفز التفاعل الكيميائي.
قد يبدو هذا الأمر خطيرًا، لكن يبدو أنه لا يمثل أي فارق على الإطلاق. فأصحاب فصيلة الدم O لا يعانون أي قصور في أي من مناحي الحياة، فليس من المرجح إصابتهم بالسرطان عن غيرهم، ولا هم سيئون في لعب الرياضة، أو يعانون قصورًا في قدراتهم الموسيقية أو أي شيء. وحتى في ذروة الافتتان بفكرة تحسين النسل لم يدع أي سياسي لتعقيم أصحاب فصيلة الدم O. وفي حقيقة الأمر إن الشيء المميز بشأن فصائل الدم، الشيء الذي جعلها مفيدة للغاية وغير محط أي تحامل سياسي، هو أنها تبدو خفية تمامًا؛ بمعنى أنها لا تقترن بشيء على الإطلاق.
لكن هنا تبدأ الإثارة. فإذا كانت فصائل الدم خفية ومحايدة، فكيف تطورت إلى وضعها الحالي؟ هل هي الصدفة المحضة التي جعلت جميع سكان الأمريكتين من أصحاب فصيلة الدم O؟ للوهلة الأولى تبدو فصائل الدم مثالًا على نظرية التطور المحايد، التي دعا إليها موتو كيميورا عام ١٩٦٨ والتي ترى أن أغلب الاختلافات الجينية الموجودة لا تحدث أي فارق، وهذا لأنها لم تحدث بفعل الانتخاب الطبيعي لهدف محدد. كانت نظرية كيميورا تقضي بأن أي طفرة تبدأ تيارًا متواصلًا من الطفرات التي لا تؤثر بأي قدر في عمل الجين إجمالًا، وأنها سرعان ما تُمحى بفعل التراكم الجيني؛ أي التغير العشوائي. وعلى هذا تكون هناك حركة إعادة تنظيم متواصلة ليس لها تأثير في تكيفنا. وإذا عدت إلى كوكب الأرض بعد مليون عام فستجد أن أجزاءً كبيرة من الجينوم البشري ستكون مختلفة لأسباب محايدة تمامًا.
ظل كل من «دعاة الحيادية» و«دعاة التطور» فترة من الوقت متمسكين بمعتقداتهم، وحين استقرت الأمور كان عدد معقول من الناس مقتنعين بنظرية كيميورا. ففي حقيقة الأمر، من الثابت أن أغلب الطفرات لها آثار محايدة. وبصفة خاصة، كلما أمعن العلماء النظر في كيفية تغير البروتين زاد يقينهم بأن أغلب التغيرات لا تؤثر في «المواقع النشطة» التي يؤدي فيها البروتين حيله الكيميائية. ففي أحد البروتينات حدث ٢٥٠ تغييرًا منذ العصر الكمبري بين أحد أنواع المخلوقات وآخر، ومع ذلك ستة منها فقط هي التي كانت ذات أهمية.4
لكننا الآن نعرف أن فصائل الدم ليست محايدة كما يبدو عليها، وأن هناك بالفعل منطقًا كامنًا خلفها. منذ أوائل ستينيات القرن العشرين صار من الجلي تدريجيًّا أن هناك علاقة بين فصائل الدم والإسهال، فالأطفال أصحاب فصيلة الدم A يقعون ضحايا بعض أنواع الإسهال التي لا تصيب غيرهم، كما يقع الأطفال أصحاب فصيلة الدم B ضحايا لأنواع أخرى، وهكذا. في أواخر ثمانينيات القرن العشرين اكتُشف أن أصحاب فصيلة الدم O كانوا أكثر عرضة للإصابة بمرض الكوليرا. وبعد عشرات الدراسات عن الأمر، بدأ الأمر في الاتضاح أكثر؛ إذ لم يثبت أن أصحاب فصيلة الدم O أكثر عرضة لهذا المرض وحسب، بل إن أصحاب فصائل الدم A وB وAB يختلفون فيما بينهم في مستويات قابلية الإصابة به. إن أكثر الناس مقاومة للمرض هم أصحاب فصيلة الدم AB، يليهم أصحاب فصيلة الدم A، ثم B، وجميعهم أكثر مقاومة للمرض بكثير من أصحاب فصيلة الدم O. إن مقاومة المرض قوية للغاية لدى أصحاب فصيلة الدم AB حتى إن هؤلاء الأشخاص محصنون تقريبًا من مرض الكوليرا. بالطبع سيكون من عدم المسئولية الزعم أن هؤلاء الأشخاص يمكنهم شرب المياه الملوثة من أحد مجاري كلكتا، إذ قد يصابون بأمراض أخرى، لكن من الثابت أنه حتى لو التقط هؤلاء الأشخاص بكتيريا الضَّمَّة المسببة لمرض الكوليرا واستقرت في أمعائهم، فلن يصابوا بالإسهال.
لم يعرف أحد بعد كيف يوفر الطراز الجيني AB الحماية من واحد من أكثر الأمراض الخبيثة القاتلة التي تصيب البشر، لكن هذا الأمر يضع الانتخاب الطبيعي أمام مشكلة فورية ومثيرة للاهتمام. تذكر أن لدى كل واحد منا نسختين من كل كروموسوم، لذا الأشخاص أصحاب الفصيلة A هم في حقيقة الأمر AA، بمعنى أنهم يملكون الجين A في كل من نسختي الكروموسوم ٩، وبالمثل الأشخاص أصحاب الفصيلة B هم في حقيقة الأمر BB. الآن لنتخيل مجموعة من السكان مكونة من هذه الفصائل وحسب؛ AA وBB وAB. الجين A يقاوم الكوليرا أفضل من الجين B. لهذا من المرجح أن يرزق أصحاب الفصيلة AA بأطفال أكثر قدرة على البقاء من أصحاب الفصيلة BB. وهو ما يعني انقراض أصحاب الفصيلة BB واختفاءهم. هذا هو الانتخاب الطبيعي. بيد أن الأمر لا يسير على هذا النحو، لأن أصحاب الفصيلة AB هم أصحاب أفضل مقاومة. وعليه يكون أكثر المواليد صحة هم الناتجون عن تزاوج أصحاب الفصيلتين AA وBB؛ فهكذا سيمتلك جميع أبنائهم الفصيلة AB التي تقاوم مرض الكوليرا على أفضل نحو. لكن لو تزاوج أحد أفراد الفصيلة AB مع آخر من أصحاب الفصيلة نفسها، فسيكون نصف الأبناء فقط يملكون الفصيلة AB؛ والنصف الباقي سيمتلك الفصيلتين AA وBB، وأصحاب الفصيلة الأخيرة هم الأكثر عرضة للإصابة بالمرض. إنه عالم غريب متقلب؛ فحتى أفضل تركيبة مفيدة في جيلك تضمن لك أن ترزق بأطفال عرضة للإصابة بالمرض.
الآن تخيل ما سيحدث لو كان جميع قاطني مدينة ما يمتلكون الفصيلة AA، لكن وصلت إليها امرأة فصيلتها BB. إذا استطاعت درء خطر الكوليرا عن نفسها حتى تتمكن من الإنجاب فسيكون لأطفالها الفصيلة AB، الذين سيقاومون المرض. وبعبارة أخرى، ستظل المزية مصاحبة للنسخة النادرة من الجين، لذا لا يمكن أن تنقرض أي من النسختين لأنها لو صارت نادرة، فستعود وتسود مجددًا. يعرف هذا في مجالنا باسم الانتخاب المعتمد على التكرار، وهو يبدو من أكثر الأسباب شيوعًا وراء ذلك التنوع الجيني الموجود بداخلنا.
هذا من شأنه تفسير التوازن بين فصيلتي الدم A وB. لكن إذا كانت فصيلة الدم O تجعلك أكثر عرضة للإصابة بمرض الكوليرا، فلماذا إذن لم تنقرض هذه الفصيلة بفعل الانتخاب الطبيعي؟ الأرجح أن الإجابة تكمن في مرض آخر؛ الملاريا. فأصحاب فصيلة الدم O يبدون أكثر مقاومة بقليل لهذا المرض عن أصحاب فصائل الدم الأخرى، ويقل احتمال إصابتهم بأنواع مختلفة من السرطان. هذه المزية ربما تكون هي التي منعت هذه النسخة من الجين من الفناء، بالرغم من قابلية أصحاب هذه الفصيلة للإصابة بالكوليرا. لقد حدث توازن نسبي بين جينات الفصائل الثلاث الرئيسية للدم.

كان أول من لاحظ العلاقة بين الطفرات والمرض هو أنتوني أليسون، خريج جامعة أكسفورد ذو الأصول الكينية، وذلك في أواخر أربعينيات القرن العشرين. لقد شك أن تواتر الإصابة بمرض يدعى فقر الدم المنجلي في أفريقيا‏ قد يكون مرتبطًا بانتشار الملاريا. إن طفرة الخلايا المنجلية، التي تجعل خلايا الدم الحمراء تنهار في غياب الأكسجين، عادة تكون قاتلة لمن يملكون نسختين منها، بيد أنها تكون مؤذية بدرجة غير حادة لمن يملكون نسخة واحدة وحسب، لكن من يملكون نسخة واحدة من هذه الطفرة يكونون مقاومين بدرجة كبيرة لمرض الملاريا. فحص أليسون دماء الأفارقة الذين يعيشون في مناطق انتشار الملاريا ووجد أن من يملكون الطفرة تقل احتمالات إصابتهم بطفيل الملاريا أيضًا. إن طفرة الخلايا المنجلية منتشرة على وجه العموم في الجزء الغربي من أفريقيا‏، حيث تستوطن الملاريا، كما أن هذه الطفرة تشيع لدى الأمريكيين من أصل أفريقي، الذين أتى بعض من أسلافهم من غرب أفريقيا‏ في سفن العبيد. إن فقر الدم المنجلي هو الثمن الباهظ الذي ندفعه اليوم لمقاومتنا الملاريا في الماضي، إلى جانب أن أنواعًا أخرى من فقر الدم، على غرار أنيميا البحر المتوسط المنتشرة في حوض البحر المتوسط وجنوب شرق آسيا، تبدو وكأنها آثار وقائية مشابهة للملاريا، نظرًا لوجودها في مناطق سبق أن غزاها هذا المرض.

إن جين الهيموجلوبين، الذي تحدث فيه طفرة الخلايا المنجلية على صورة تغير في حرف واحد فقط، ليس الوحيد في هذا الخصوص؛ إذ يرى أحد العلماء أنه فقط قمة جبل جليد من المقاومة الجينية للملاريا، فهناك ما يصل إلى اثني عشر جينًا تتباين في قدرتها على مقاومة مرض الملاريا، وهذا الأمر لا ينسحب على الملاريا وحدها؛ فيوجد على الأقل اثنان من الجينات يتباينان في قدرتهما على مقاومة مرض السل، منهما الجين الخاص بمستقبل فيتامين د، والمرتبط بدوره بالتفاوت في قابلية الإصابة بمرض تخلخل العظام. كتب أدريان هيل من جامعة أكسفورد يقول:5 «من الطبيعي ألا نستطيع مقاومة الافتراض أن ما قام به الانتخاب الطبيعي لمقاومة مرض السل في الماضي القريب هو ما أدى إلى زيادة انتشار الجينات التي تجعلنا عرضة للإصابة بمرض تخلخل العظام.»
في الوقت ذاته، ظهر ارتباط مشابه حديث بين مرض التليف الكيسي الجيني وبين العدوى بالتيفود. ونسخة الجين CFTR الموجودة على الكروموسوم ٧ التي تسبب مرض التليف الكيسي — وهو مرض خطير يصيب الرئة والأمعاء — تحمي الجسم من الإصابة بالتيفود، وهو المرض المعوي الذي تتسبب فيه بكتيريا السالمونيلا. إن من يملكون نسخة واحدة فقط من الطفرة لا يصابون بالتليف الكيسي، لكنهم يصيرون محصنين تقريبًا من الإسهال الموهن والحمى التي يسببها مرض التيفود. يحتاج التيفود النسخة الطبيعية من الجين CFTR كي يدخل إلى الخلايا ويعديها، لكن النسخة الطافرة، التي ينقصها ثلاثة من حروف الحمض النووي، لا تساعده على عمل هذا. وبقتل من يملكون نسخًا أخرى من الجين ضغط التيفود ضغطًا طبيعيًّا على النسخ الطافرة كي تنتشر، لكن لأن من يرثون نسختين من الطفرة يكونون محظوظين إن استطاعوا العيش من الأساس، لم يستطع الجين أن يكون شائعًا مطلقًا. مرة أخرى نجد أن أحد الأمراض هو الذي ساعد على بقاء نسخة نادرة كريهة من أحد الجينات.6
على وجه التقريب يعجز واحد من كل خمسة أشخاص عن إفراز الصورة القابلة للذوبان في الماء من البروتين المحدد لفصائل الدم في اللعاب وغيره من سوائل الجسم. إن «غير المفرزين» هؤلاء أكثر عرضة للإصابة بالعديد من الأمراض من بينها التهاب السحايا وداء المبيضات والعدوى المتكررة لمجرى البول، لكنهم أقل عرضة للإصابة بالأنفلونزا أو الفيروس المخلوي التنفسي. وأينما نظرت فستجد أن السبب الكامن وراء أي من التنويعات الجينية مرتبط بطريقة أو بأخرى بأحد الأمراض المعدية.7

لم نتناول هذا الموضوع إلا تناولًا سطحيًّا. فحين أصابت الأمراض الوبائية الخطيرة، كالطاعون والحصبة والجدري والتيفوس والأنفلونزا والزهري والتيفود والجديري المائي، أسلافَنا في الماضي، تركت آثارها على جيناتنا. وقد انتشرت الطفرات التي ضمنت لنا البقاء، بيد أننا دفعنا ثمنًا غاليًا لهذه المقاومة، وقد تراوح هذا الثمن من الثمن الفادح (فقر الدم المنجلي)، إلى النظري (عدم القدرة على تلقي دماء من فصيلة مختلفة).

في حقيقة الأمر، حتى وقت قريب كان الأطباء معتادين على التقليل من أهمية الأمراض المُعدية. إن العديد من الأمراض التي كان يُعتقد أنها تحدث بسبب الظروف البيئية أو ظروف العمل أو النظام الغذائي أو حتى بمحض الصدفة بدأ يُنظر إليها الآن على أنها آثار جانبية لأمراض معدية مزمنة تسببها فيروسات أو بكتيريا غير معروفة جيدًا. أكثر هذه الأمراض إثارة للدهشة هي قرحة المعدة. لقد حققت العديد من شركات الأدوية مكاسب هائلة من وراء العقاقير الجديدة التي تهدف إلى مكافحة أعراض القرح، في حين كل ما كنا نحتاج إليه هو المضادات الحيوية. تحدث القرح بفعل بكتيريا تدعى بكتيريا المعدة الحلزونية، التي عادة ما يصاب الناس بها في فترة الطفولة، وليس بسبب الطعام الدسم أو القلق أو الحظ السيئ. وبالمثل، هناك روابط قوية بين أمراض القلب والإصابة بفيروس الكلاميديا أو القوباء، وكذلك بين أنواع متعددة من التهاب المفاصل وعدد من الفيروسات، وبين الاكتئاب أو الفصام وفيروس مخي نادر يدعى فيروس مرض بورنا الذي عادة ما يصيب الجياد والقطط. قد تكون بعض من هذه الصلات مضللة، وفي أحيان أخرى قد يتسبب المرض في جذب الميكروب وليس العكس، لكن الحقيقة المثبتة هي أن الناس يتفاوتون من حيث مقاومتهم الجينية لأمراض مثل أمراض القلب. وربما ترتبط هذه التنوعات الجينية هي الأخرى، بدرجة مقاومة العدوى.8
بشكل ما، يعد الجينوم بمنزلة سجل مكتوب لتاريخنا المرضي؛ كتاب طبي مقدس لكل شخص وعرق. قد تعكس هيمنة فصيلة الدم O على السكان الأصليين للأمريكتين حقيقة أن الكوليرا وغيرها من أشكال الإسهال — وهي الأمراض التي عادة ترتبط بالازدحام والظروف غير الصحية — لم تستوطن في قارتي نصف الكرة الأرضية الغربي المسكون حديثًا إلا في وقت قريب نسبيًّا. ومع هذا فإن الكوليرا كانت مرضًا نادرًا يقتصر وجوده فقط على دلتا نهر الجانج قبل ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حين انتشرت انتشارًا مفاجئًا في أوروبا والأمريكتين وأفريقيا‏. إننا بحاجة إلى تفسير أفضل لهذه الهيمنة المحيرة لفصيلة الدم O لدى سكان الأمريكتين الأصليين، خاصة في ظل حقيقة أن دماء المومياوات في أمريكا الشمالية قبل مجيء كولومبوس كانت في المعتاد من فصيلتي A أو B. يبدو الأمر وكأن فصيلتي الدم A وB دُفعتا إلى الانقراض سريعًا بفعل عوامل ضغط تطورية قاصرة على نصف الكرة الغربي. هناك تلميحات بأن السبب قد يكون مرض الزهري، وهو المرض الذي يبدو متوطنًا فقط في الأمريكتين (لا يزال هذا الأمر محل جدل محتدم في الأوساط المعنية بالتاريخ الطبي، لكن تظل الحقيقة هي أن آثار مرض الزهري موجودة في الهياكل العظمية في أمريكا الشمالية قبيل عام ١٤٩٢، لكنها غير موجودة في الهياكل العظمية الأوروبية قبل هذا التاريخ.) يبدو أن أصحاب فصيلة الدم O أقل قابلية للإصابة بمرض الزهري بالمقارنة بأصحاب فصائل الدم الأخرى.9
الآن تدبر أحد الاكتشافات العجيبة الذي لم يكن ليحمل مغزى كبيرًا قبيل اكتشاف العلاقة بين قابلية الإصابة بالكوليرا وفصيلة الدم. إذا طلبت — بصفتك أستاذًا جامعيًّا — من رجلين وامرأتين أن يرتدوا قمصانًا قطنية، دون أن يضعوا أي مزيلات للعرق أو عطورًا، مدة ليلتين ثم يسلموك القمصان بعدهما، غالبًا ما سيُسخر منك بوصفك مغرمًا بالروائح الكريهة. وإذا طلبت من ١٢١ رجلًا وامرأة أن يشموا إبط هذه القمصان القذرة ثم يصنفوها وفق جاذبية الرائحة، فسيُنظر إليك — على أفضل حال — على أنك شخص غريب الأطوار، لكن لا ينبغي أن يجد العلماء الحقيقيون حرجًا في أي شيء. كانت نتيجة هذه التجربة، التي أجراها كلاوس فيديركيند وساندرا فوري، هي اكتشاف أن الرجال والنساء يفضلون أكثر (أو ينفرون بقدر أقل من) رائحة جسد أفراد الجنس الآخر المختلفين عنهم أشد الاختلاف من الناحية الجينية. نظر كل من فيديركيند وفوري إلى جينات التوافق النسيجي الموجودة على الكروموسوم ٦، وهي الجينات المشتركة في تعريف الذات والتعرف على الأجسام المتطفلة عن طريق الجهاز المناعي. هذه الجينات متنوعة إلى حدٍّ بعيد. وفي حالة تساوي كل العوامل الأخرى، ستفضل أنثى الفأر التزاوج مع ذكر يحمل جينات توافق نسيجي مختلفة تمامًا عن جيناتها، وهو الأمر الذي تعرفه بتشمم رائحة بوله. لقد كان هذا هو الاكتشاف الذي دفع فيديركيند وفوري إلى التنبه لاحتمال أننا نحن أيضًا نحمل القدرة نفسها على اختيار شركائنا اعتمادًا على جيناتهم. وحدهن النساء اللاتي يتعاطين حبوب منع الحمل فشلن في إظهار تفضيل واضح لقمصان الرجال ذوي جينات التوافق النسيجي المختلفة، لكن هذه الحبوب معروف عنها التأثير في حاسة الشم. وقد عبر فيديركيند وفوري بقولهما:10 «لا أحد رائحته طيبة من وجهة نظر الجميع؛ فالأمر يعتمد على من الذي يشم من.»
فُسرت دائمًا تجربة الفئران في ضوء فكرة التزاوج الخارجي؛ فالأنثى تحاول العثور على شريك مختلف من الناحية الجينية حتى يكون المواليد ذوي مجموعة متنوعة من الجينات ومن ثم يقل خطر إصابتهم بالأمراض الوراثية الخلقية. ومع ذلك فقد يكون تصرف هذه الفأرة — والأشخاص الذين شموا القمصان القطنية — منطقيًّا من منظور فصائل الدم. تذكر أنه عند التزاوج في أوقات انتشار وباء الكوليرا فإن أصحاب الفصيلة AA من الأفضل أن يبحثوا عن شركاء فصيلتهم BB، حتى يمتلك جميع أطفالهم الفصيلة AB المقاومة للكوليرا. إن كان النظام نفسه ينطبق على جينات أخرى وتطورها المشترك مع أمراض أخرى، في ظل كون جينات التوافق النسيجي هي المكان الرئيسي لمقاومة الجينات، فإن مزية الانجذاب الجنسي إلى أطراف على النقيض من الناحية الجينية تكون واضحة وضوح الشمس.
إن مشروع الجينوم البشري قائم على فكرة مغلوطة؛ فلا يوجد ما يسمى ﺑ «الجينوم البشري»، ولا يمكن تعيين مثل هذا الشيء في أي زمان أو مكان. ففي مئات من المواقع المختلفة، المتناثرة عبر الثلاثة والعشرين كروموسومًا، توجد جينات تختلف من شخص لآخر. لا يمكن لأحد أن يقول إن فصيلة الدم A هي «الطبيعية»، والفصائل O وB وAB «شاذة». لذا حين ينشر مشروع الجينوم البشري التتابع الجيني التقليدي للبشر، ما الذي سينشره في موضع الجين الخاص بتحديد فصيلة الدم في الكروموسوم ٩؟ إن الهدف المعلن للمشروع هو نشر تتابعات متوسطة أو «متفق عليها» لمائتين من الأشخاص المختلفين، لكن هذا سيناقض المغزى الأساسي من الجين المحدد لفصيلة الدم، لأن جزءًا أساسيًّا من وظيفته هي ألا يكون متماثلًا لدى كل شخص. إن التنوع جزء موروث لا يتجزأ من الجينوم البشري، أو أي جينوم آخر.

أيضًا ليس من المنطقي أن نأخذ لقطة فوتوغرافية لهذه اللحظة الحالية ثم نعتقد أن الصورة الناتجة عنها ستتسم بالثبات والاستمرارية، فالجينومات تتغير. ونسخ مختلفة من الجينات تزداد وتقل في الشيوع بسبب شيوع الأمراض وانحسارها. ينزع البشر بطريقة يؤسف لها إلى المبالغة في أهمية الاستقرار، والإيمان بالتوازن، لكن الجينوم في حقيقة الأمر مسرح ديناميكي متغير. في وقت ما من الماضي، آمن علماء البيئة بوجود «ذروة» للحياة النباتية؛ فغابات البلوط توجد في إنجلترا وغابات التنوب في النرويج، لكنهم تعلموا من خطئهم هذا، فعلوم البيئة — مثل الجينات — لا تهدف لإيجاد حالة من التوازن، بل هي معنية بالتغير، والتغير ثم التغير. لا شيء يظل على حاله إلى الأبد.

ربما كان أول من أدرك هذه الحقيقة هو جيه بي إس هالدان، الذي حاول العثور على سبب وراء ذلك التنوع الجيني البشري الهائل. عام ١٩٤٩ افترض أن التنوع الجيني ربما يكون متعلقًا بدرجة كبيرة بالضغط الذي تمارسه الطفيليات. لكن في عام ١٩٧٠ حرك زميل هالدان، الهندي سوريش جاياكار، المياه الراكدة حين اقترح أنه لا توجد حاجة إلى الاستقرار، وأن بمقدور الطفيليات أن تتسبب في إحداث دائرة سرمدية من التقلب في الجينات. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، انتقلت الشعلة إلى الأسترالي روبرت ماي الذي أوضح أنه حتى في أبسط نظم الطفيل والعائل، ربما لا توجد نتيجة مستقرة؛ وأن الحركة الفوضوية الأبدية يمكن أن تنتج عن نظام جبري. وبهذا صار ماي من الآباء المؤسسين لنظرية الفوضى. ثم انتقلت الشعلة بعدها إلى يد البريطاني ويليام هاميلتون، الذي طور نماذج رياضية لتفسير تطور عملية التناسل الجنسي اعتمدت على سباق تسلح جيني بين الطفيليات وعوائلها، الذي أفضى إلى ما أسماه هاميلتون «الاضطراب الدائم في العديد [من الجينات]».11

في وقت ما من سبعينيات القرن العشرين، مثلما حدث قبل نصف قرن في عالم الفيزياء، تداعى عالم اليقين والاستقرار والحتمية في علوم البيولوجيا. وفي مكانه يجب علينا أن نبني عالمًا من التقلب والتغير وعدم القدرة على التنبؤ. إن الجينوم الذي نفك شفرته في هذا الجيل ما هو إلا لمحة خاطفة لوثيقة دائمة التغير؛ ولا توجد طبعة نهائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤