الكروموسوم ١٢: التجميع الذاتي

تفرض الطبيعة على البيضة غايتها، والبيضة دجاجة في طور التكوين.

بن جونسون، مسرحية1 «الخيميائي»

توجد تشبيهات بشرية لكل شيء تقريبًا في الطبيعة؛ فالوطاويط تستخدم السونار؛ والقلب مضخة؛ والعين كاميرا تصوير؛ والانتخاب الطبيعي هو المحاولة والخطأ؛ والجينات وصفات؛ والمخ مكون من أسلاك (محاوير، جمع محوار) ومفاتيح توصيل كهربية (تشابكات عصبية)؛ والنظام الهرموني يستخدم آليات ضبط التغذية الراجعة مثل مصانع تكرير البترول؛ والجهاز المناعي هو وكالة لمنع أنشطة التجسس؛ والنمو الجسدي يشبه النمو الاقتصادي. وتتوالي التشبيهات إلى ما لا نهاية. ومع أن بعض هذه التشبيهات يمكن أن يكون مضللًا، فإننا على الأقل على معرفة بالأساليب والتقنيات التي تستخدمها الطبيعة لحل العديد من المشكلات وتنفيذ تصاميمها البارعة. وقد أعدنا اختراع أغلب هذه الأساليب والتقنيات كي نستخدمها بأنفسنا في حياتنا التكنولوجية.

لكن يتحتم علينا الآن ترك هذه المنطقة المريحة كي نخوض في المجهول. فمن أعجب الأشياء وأجملها وأغربها التي تقوم بها الطبيعة دون أي صعوبة ظاهرة هو شيء لا يوجد عندنا أي تشبيه له؛ إنه بناء الجسم البشري من خلية صغيرة غير متمايزة تسمى البويضة المخصبة. تخيل محاولة تصميم جهاز ما (أو حتى برنامج كمبيوتر) يمكنه القيام بعمل مشابه لهذا العمل الفذ. ربما جرب البنتاجون عمل هذا الأمر، كما أعتقد: «صباح الخير ماندريك، مهمتك هي تصنيع قنبلة تنمو ذاتيًّا من قطعة من الصلب الخام وكومة من المواد المتفجرة ليس إلا. لديك ميزانية غير محدودة وألف من أذكى العقول تحت إمرتك في صحراء نيومكسيكو. أريد رؤية النموذج الأولي في أغسطس (آب). إن باستطاعة الأرانب القيام بهذا الأمر عشر مرات في الشهر. بالتأكيد ليس الأمر بهذه الصعوبة. هل من أسئلة؟»

دون الاستعانة بالتشبيهات، من الصعب حتى تصور كيفية قيام الطبيعة بهذا العمل الفذ، فهناك شيء ما، في مكان ما، يفرض نمطًا معقد التفاصيل على البويضة وهي تنمو وتتطور. لا بد من وجود خطة. وما لم نكن سنركن إلى فكرة التدخل الإلهي وحدها، فإن ما يفرض هذه التفاصيل يكمن بالتأكيد داخل البويضة نفسها. لكن كيف يمكن للبويضة أن تضع نمطًا دون أن تكون هي ذاتها قد بدأت بنمط؟ لا عجب إذن من تفضيل الكثيرين على مدار القرون الماضية لنظريات التكون المسبق، وهو ما وصل ببعض الناس إلى أن يظنوا أنهم رأوا في الحيوان المنوي صورة مصغرة للإنسان. بيد أن فكرة التكون المسبق، حتى كما لاحظها أرسطو، تُرحل المشكلة فحسب؛ إذ كيف اتخذت هذه الصورة المصغرة هذا الشكل؟ لم تأت النظريات التالية بما هو أفضل، على الرغم من اقتراب صديقنا القديم ويليام باتسون من الإجابة الصحيحة اقترابًا مدهشًا حين افترض أن جميع الكائنات الحية مكونة من سلسلة مرتبة من الأجزاء أو القطع، وعبر عن هذا بمصطلح «التكوين المثلي». وقد شاع كذلك في سبعينيات القرن العشرين محاولة تفسير علم الأجنة استنادًا إلى علوم متزايدة التعقيد مثل الهندسة الحسابية والموجات الساكنة وغيرها من المجالات، لكن لسوء حظ علماء الرياضيات، اتضح أن الحل الذي تقدمه الطبيعة، كشأنها دائمًا، أبسط وأسهل في الفهم بكثير، مع أن تفاصيله معقدة بشدة. الأمر كله متعلق بالجينات، التي تحتوي في حقيقة الأمر على خطة التكوين في صورة رقمية. توجد مجموعة ضخمة من هذه الجينات التطورية بالقرب من منتصف الكروموسوم ١٢. إن اكتشاف هذه الجينات وتوضيح طريقة عملها يعد على الأرجح أعظم جائزة حصل عليها علم الوراثة الحديث منذ اكتشاف الشفرة الوراثية نفسها. وقد قام هذا الاكتشاف في أساسه على مفاجأتين مذهلتين توصلنا إليهما بقدر من حسن الحظ.2

حين تكون البويضة في طريقها للنمو إلى جنين، لا تكون في البداية إلا خلية غير متمايزة. بعدها بالتدريج تطور نوعين من عدم التماثل: محور الرأس الذيل، ومحور البطن الظهر. لدى ذبابة الفاكهة وضفادع الطين، تحدد الأم هذين المحورين، بحيث تخبر خلاياها أحد طرفي الجنين بأن يصير الرأس وأحد الجانبين بأن يصير الظهر. لكن لدى الفئران والبشر، تتطور هذه الاختلافات في فترة لاحقة ولا يعلم أحد كيف يحدث هذا بالتحديد. يبدو أن لحظة غرس البويضة في الرحم تلعب دورًا حيويًّا.

في ذبابة الفاكهة وضفادع الطين، يمكن فهم حالات عدم التماثل؛ إذ إنها تتكون من انحدارات في المنتجات الكيميائية لجينات مختلفة آتية من الأم. وفي الثدييات كذلك، من المؤكد تقريبًا أن حالات عدم التماثل تحدث لسبب كيميائي. فكل خلية يمكنها، إن جاز لنا القول، تذوق الحساء الموجود داخلها، ثم تغذي هذه المعلومات في جهاز تحديد المواقع الكمبيوتري الصغير ومن ثم تحصل على قراءة تقول: «أنت تقعين في الجزء الخلفي من الجسم، بالقرب من الجزء السفلي فيه.» من الجميل أن تعرف أين أنت.

لكن معرفة مكانك ليس إلا البداية. أما معرفة ما ستفعل فور وصولك إلى مكانك المنشود فهي مشكلة مختلفة تمامًا. تعرف الجينات المتحكمة في هذه العملية باسم الجينات «المثلية». على سبيل المثال: عندما تعرف الخلية البشرية موقعها تبحث عنه في الكتيب الإرشادي الذي تحمله وتجد التعليمات: «انمي لتصيري جناحًا»، أو «ابدئي في أخذ شكل خلية الكلى» أو شيئًا على هذا النحو. بالطبع لا تسير الأمور بمثل هذه الصورة الحرفية، فلا وجود لأجهزة كمبيوتر أو كتيبات إرشادية، وإنما فقط سلسلة من الخطوات الأوتوماتيكية التي يُنشط فيها أحد الجينات جينًا آخر ينشط بدوره جينًا ثالثًا. لكن من الممكن الاستعانة بتشبيه الكتيب الإرشادي؛ لأن أجمل ما في عملية نمو الجنين، وأكثر جزء يجد البشر صعوبة في فهمه، هو أنها عملية لا مركزية بالكامل. فبما أن كل خلية في الجسم تحمل نسخة كاملة من الجينوم فلن تحتاج أي خلية لانتظار التعليمات من سلطة ما، بل تتصرف كل خلية وفق المعلومات التي تملكها والإشارات التي تتلقاها من الخلايا المجاورة. لكن البشر لا ينظمون مجتمعاتهم على هذا النحو، بل نحن مهووسون بترك أكبر عدد ممكن من القرارات كي تتخذها سلطة حكومية مركزية. ربما يجب علينا الاقتداء بالخلايا.3

منذ بداية القرن العشرين، يفضل علماء الوراثة إجراء دراساتهم على ذبابة الفاكهة، وذلك لأنها تتكاثر بسرعة وبسهولة في المعامل. بيد أنه يجب علينا التوجه بالشكر إلى هذه الذبابة الصغيرة لأنها أوضحت لنا الكثير من المبادئ الأساسية للوراثة: كفكرة ارتباط الجينات بالكروموسومات، أو اكتشاف مولر بأنه من الممكن عمل طفرات جينية باستخدام الأشعة السينية. ومن بين الذباب الطافر بفعل هذه الطريقة، بدأ العلماء يجدون أن بعضها صار ينمو بطرق غير عادية؛ إذ كان لها أرجل في المكان المفترض فيه وجود قرون الاستشعار، أو أجنحة في المكان المفترض فيه نمو مثبتات صغيرة تسمى الرسن. بعبارة أخرى، إن قطعة من قطع الجسم كونت جزءًا سليمًا، لكن في موضع مختلف من الجسم. لقد وقع خطأ ما في الجينات المثلية.

في أواخر سبعينيات القرن العشرين شرع عالمان يعملان في ألمانيا هما ياني نوسلين-فولهارد وإريك فيشاوس في البحث عن أكبر عدد ممكن من هذا الذباب الطافر ووصفه. خدر العالمان الذباب بمواد كيميائية تسبب له طفرات، ثم استولداه بالآلاف، وببطء عزلا الذباب الذي يملك أطرافًا أو أجنحة أو غيرها من أجزاء الجسم التي نمت في مكان غير مناسب. وبالتدريج بدآ في ملاحظة نمط متسق. كانت هناك جينات «فارقة» لها تأثيرات بالغة، إذ تحدد مناطق كاملة من الجسم، وجينات «زوجية السيطرة» تقسم هذه المناطق وتحدد تفاصيل أدق، وجينات «محددة للقطبية» تقسم هذه التفاصيل بالتأثير فقط في الجزء الأمامي أو الخلفي من القسم الصغير. بعبارة أخرى، بدت الجينات التطورية وكأنها تتصرف على نحو هرمي، مقسمة الجنين إلى أقسام أصغر وأصغر حتى تخلق المزيد من التفاصيل.4

مثل هذا الكشف مفاجأة كبيرة. فحتى ذلك الوقت كان من المفترض أن أجزاء الجسم تحدد نفسها وفق جيرانها من الأجزاء المختلفة، وليس وفق خطة جينية كبرى. لكن حين ثُبتت جينات ذبابة الفاكهة الطافرة وقُرِئَتْ تتابعاتها، ظهرت مفاجأة جديدة. وكان نتاج ذلك واحدًا من اكتشافين يتعذر تصديقهما، وقد أوصلانا إلى أكثر الإضافات المعرفية روعة في القرن العشرين: وجد العلماء تجمعًا من ثمانية جينات مثلية موضوعة على الكروموسوم نفسه، جينات صارت تُعرف باسم جينات هوكس. لا شيء غريب إلى الآن، لكن ما كان غريبًا بحق هو أن كل واحد من الجينات الثمانية كان يؤثر في جزء مختلف من الذبابة، وكانت جميعها مصطفة في «نفس ترتيب الأجزاء التي تؤثر فيها في الذبابة»؛ فالجين الأول يؤثر في الفم، والثاني في الوجه، والثالث في أعلى الرأس، والرابع في العنق، والخامس في الصدر، والسادس في مقدمة التجويف البطني، والسابع في ظهر التجويف البطني، والثامن في الأجزاء الأخرى من التجويف البطني. لم يكن الغريب في الأمر أن أول الجينات يؤثر في رأس الذبابة وآخرها يؤثر في الجزء الخلفي منها وحسب، بل أنها جميعًا مصطفة بالترتيب على الكروموسوم، دون استثناء.

لمعرفة مدى غرابة هذا الأمر، عليك أن تدرك مقدار العشوائية التي تتوزع بها الجينات في المعتاد. في هذا الكتاب، أخبرتك بقصة الجينوم بنوع من الترتيب المنطقي، منتقيًا الجينات التي تناسب غرض كل فصل، لكني بهذا خدعتك بقدر ما؛ إذ لا يوجد سبب أو نظام تتوزع وفقه الجينات إلا نادرًا. في بعض الأحيان، تحتاج بعض الجينات أن تكون بالقرب من جينات أخرى بعينها. بيد أنه تصرف حرفي من الطبيعة بالتأكيد أن توزع الجينات المثلية وفق ترتيب استخدامها على هذا الشكل.

وكانت تنتظرنا مفاجأة ثانية. فعام ١٩٨٣ اكتشفت مجموعة من العلماء يعملون في معمل والتر جيرينج في بازل شيئًا تشترك فيه جميع هذه الجينات المثلية. لقد كانت جميعها تملك «الفقرة» نفسها من النص، وطولها ١٨٠ «حرفًا»، داخل الجين، وهو ما يعرف باسم العلبة المثلية. في البداية بدا هذا الاكتشاف غير ذي صلة. فعلى أي حال لو كانت هذه الفقرة واحدة في جميع الجينات، فليس بوسعها أن تجعل الذبابة تملك ساقًا مكان أحد قرون الاستشعار. إن كل الأجهزة الكهربائية بها قوابس، لكن لا يسعك التفريق بين آلة تحميص الخبز والمصباح الكهربي بالنظر إلى القابس فقط. إن تشبيه العلبة المثلية بالقابس تشبيه وجيه؛ فالعلبة المثلية هي الجزء الذي عن طريقه يرتبط البروتين الذي يصنعه الجين بأحد خيوط الحمض النووي كي ينشط أو يثبط جينًا آخر. وجميع جينات العلبة المثلية هي مفاتيح توصيل تنشط وتثبط جينات أخرى.

ومع هذا مكنت العلبة المثلية علماء الوراثة من البحث عن جينات مثلية أخرى، مثلما يبحث العامل وسط كومة من الخردة عن أي شيء متصل بقابس. كان زميل معمل جيرينج، إيدي دي روبرتيس، يفتش وسط جينات الضفادع، بدافع حدسي لا أكثر، عن «فقرة» تشبه العلبة المثلية، وفعلًا وجدها. وحين نظر في الفئران وجدها ثانية تحمل الخيط نفسه المكون من ١٨٠ حرفًا تقريبًا؛ إنها نفس العلبة المثلية. ليس هذا وحسب، بل اكتشف أيضًا أن الفئران تملك مجموعات من جينات هوكس (أربع مجموعات منها بدلًا من واحدة)، وعلى النحو نفسه الموجود لدى ذبابة الفاكهة كانت هذه المجموعات مصطفة واحدة تلو الأخرى حيث جينات الرأس في البداية وجينات الذيل في النهاية.

كان ذلك الاكتشاف الخاص بالجينات المثلية لذبابة الفاكهة والفئران غريبًا بما يكفي؛ إذ كان يوحي بأن آلية نمو الجنين تتطلب من الجينات أن تكون على الترتيب نفسه الذي عليه أجزاء الجسم. وما ضاعف من غرابة الأمر هو أن جينات الفئران كانت هي نفسها بوضوح جينات ذبابة الفاكهة، بمعنى أن أول جين في مجموعة جينات ذبابة الفاكهة، والمسمى lab، مشابه للغاية لأول جين في ثلاث من المجموعات الجينية للفئران، والمسماة a1 وb1 وd1، والأمر نفسه ينطبق على كل جين من الجينات الأخرى.5
بالطبع توجد اختلافات. فالفئران لديها تسعة وثلاثون من جينات هوكس، مقسمة على أربع مجموعات، وبها ما يصل إلى خمسة جينات هوكس إضافية في نهاية كل مجموعة، وهذه غير موجودة لدى ذبابة الفاكهة. ومع ذلك لا يزال التشابه مثيرًا للذهول. ومن فرط إثارته للذهول، لم يصدقه إلا قليل من علماء الأجنة في البداية؛ إذ ساد الشك بأن الأمر لا يعدو كونه مصادفة ضُخِّمت. يذكر أحد العلماء أنه عند سماع هذا الأمر للمرة الأولى لم يعره اهتمامًا بوصفه مجرد فكرة أخرى من تلك الأفكار الجامحة التي تخرج من والتر جيرينج، لكن سرعان ما اتضح له جدية الأمر. أطلق جون مادوكس، رئيس تحرير دورية «نيتشر» على هذا الكشف: «أهم اكتشاف لهذا العام (حتى الآن).» وعلى مستوى علم الأجنة، ما نحن إلا ذباب مبجل؛ إذ يملك البشر مجموعات جينات هوكس نفسها الموجودة لدى الفئران، وواحدة منها، المجموعة C، موجودة على الكروموسوم ١٢.

كان لهذا الكشف الثوري اثنان من النتائج الفورية: إحداهما تطورية والأخرى عملية. النتيجة التطورية هي أننا جميعًا ننحدر من سلف مشترك مع الذباب كان يستخدم الطريقة نفسها في تحديد أنماط الجنين منذ أكثر من ٥٣٠ مليون عام، وأن هذه الآلية كانت ناجحة للغاية حتى إن جميع أفراد سلالة هذا السلف المنقرض ظلوا يستخدمونها. في حقيقة الأمر، حتى المخلوقات المختلفة عنا، مثل قنفذ البحر، يُعرف عنها الآن أنها تستخدم المجموعات الجينية نفسها. ومع أن الذبابة أو قنفذ البحر قد يبدوان مختلفين تمامًا عن الإنسان، فإذا قارنا أجنتهما بأجنة أحد المريخيين مثلًا فسنجد أنها أكثر شبهًا بالبشر. أثارت تلك النزعة المتحفظة التي لا تصدق لعلم الوراثة الجنيني الدهشة العارمة في نفوس الجميع. أما النتيجة العملية التي تمخضت عن هذا الكشف فكانت على نحو مفاجئ أن كل هذه العقود من العمل الجاد على جينات ذبابة الفاكهة صارت ذات صلة كبيرة بالبشر. وإلى يومنا هذا يعرف العلم عن جينات ذبابة الفاكهة أكثر بكثير مما يعرف عن جينات البشر، وهذه المعرفة صارت الآن ذات أهمية مضاعفة. كان الأمر أشبه بتسليط ضوء مبهر على الجينوم البشري.

يتضح لنا الدرس ليس فقط من جينات هوكس بل من جميع الجينات التطورية. كان يُظن فيما مضي — بمسحة من العجرفة — أن الرأس مقصور وجودها فقط في الفقاريات، وأننا نحن الفقاريات بعبقريتنا الفائقة اخترعنا مجموعة جديدة من الجينات لبناء نهاية أمامية «ذات دماغ»، وأكملنا هذا بالمخ. لكننا الآن نعلم أن زوجين من الجينات المشاركة في تكوين المخ داخل الفئران، Otx (١ و٢) وEmx (١ و٢)، مكافئان على نحو شبه تام لاثنين من الجينات المشاركة في تطور الرأس لدى ذبابة الفاكهة. فأحد الجينات — المسمى على نحو مناقض لعمله باسم الضرير — يلعب دورًا أساسيًّا في تكوين العين لدى الذبابة، ومن الواضح أنه الجين نفسه الذي يشارك أساسيًّا في تكوين العين لدى الفئران، ويعرف هناك باسم pax-6. وما ينطبق على الفئران ينطبق على البشر؛ فالبشر والذباب ليسوا إلا تنويعات لفكرة أساسية لكيفية بناء الجسم مرسومة في مخلوق أشبه بالديدان كان يعيش في العصر الكمبري. ولا تزال الجينات نفسها تؤدي المهمة نفسها. بالطبع توجد اختلافات، فلو لم توجد اختلافات لكنا سنشبه الذباب، لكنها اختلافات دقيقة على نحو مدهش.
إن الاستثناءات أكثر إقناعًا من القاعدة. على سبيل المثال: يوجد لدى الذباب جينان مسئولان بطريقة أساسية عن تحديد الفارق بين ظهر الجسم وبطنه؛ أحدهما: يدعى decapentaplegic، هو المشكل لخلايا الظهر، بمعنى أنه عندما يعبر عن نفسه يجعل الخلية تصير جزءًا من الظهر. أما الآخر: المسمى short gastrulation فهو المشكل لخلايا البطن، أي إنه يجعل الخلية تصير جزءًا من بطن الذبابة. لدى ضفادع الطين والفئران، وبالتأكيد عندي وعندك، يوجد جينان مشابهان. و«نص» أحدهما، BMP4، يشبه إلى حد بعيد «نص» الجين decapentaplegic، و«نص» الآخر، chordin، يشبه إلى حد بعيد «نص» short gastrulation. لكن ما يثير الدهشة هو أن لكل منهما تأثيرًا معاكسًا تمامًا في الفئران عن تأثيره على الذبابة؛ فالجين BMP4 هو المشكل لخلايا البطن، والجين chordin هو المشكل لخلايا الظهر. هذا يعني أن المفصليات والفقاريات هما نسختان متعاكستان. في وقت ما من الماضي السحيق، كان لهما سلف مشترك، لكن أحد أحفاد هذا السلف المشترك بدأ في السير على بطنه فيما أخذ الآخر يسير على ظهره. قد لا نعرف مطلقًا أي الطريقتين كانت «طريقة السير السليمة»، لكننا نعرف يقينًا أنه كانت هناك طريقة سليمة للسير؛ لأن الجينات المشكلة للظهر وتلك المشكلة للبطن تعود إلى وقت سابق على ذلك الفصل بين السلالتين. وهنا نتوقف لحظة لإبداء التقدير والإجلال للعالم الفرنسي العظيم إتيان جيفري سان هيلير، الذي كان أول من خمن هذه الحقيقة عام ١٨٢٢، وذلك بملاحظة الطريقة التي تنمو بها الأجنة لدى الحيوانات المختلفة، وحقيقة أن الجهاز العصبي المركزي لدى الحشرات يقع على طول بطنها، لكنه لدى الإنسان يقع على طول الظهر. تعرضت فرضيته الجريئة لكثير من السخرية طوال ١٧٥ عامًا سادت فيها فرضية مغايرة تقول إن الجهازين العصبيين لكلتا الفصيلتين تطورا تطورًا مستقلًّا، لكنه كان محقًّا تمامًا.6
الواقع أن التشابه بين الجينات قوي للغاية إلى حد يسمح لعلماء الوراثة في الوقت الحالي، وعلى نحو روتيني، بعمل تجربة مذهلة بمعنى الكلمة. بإمكانهم إزالة أحد الجينات في الذبابة عن طريق عمل طفرة مقصودة بها، ثم عن طريق الهندسة الوراثية يضعون مكانه جينًا مكافئًا من الجينات البشرية ومن ثم تنمو ذبابة طبيعية. هذه التقنية تعرف باسم الإنقاذ الجيني. وبمقدور جينات هوكس البشرية إنقاذ الجينات المكافئة لها لدى ذبابة الفاكهة، على غرار الجين Otx والجين Emx. وفي الواقع، تعمل هذه الجينات بكفاءة كبيرة حتى إنه يستحيل تقريبًا معرفة أي الذباب أنقذته الجينات البشرية وأيها يحمل جينات الذباب الطبيعية.7

هذه هي ذروة انتصار الفرضية الرقمية التي بدأ بها هذا الكتاب؛ فالجينات ليست إلا أجزاء من برمجيات يمكنها العمل داخل أي نظام؛ إذ إنها تستخدم الشفرة نفسها وتؤدي الوظيفة نفسها. وحتى بعد ٥٣٠ مليون عام من الانفصال تستطيع حواسبنا التعرف على برامج الذباب والعكس بالعكس. إن استخدام تشبيه الحاسب هنا ملائم حقًّا، فذروة العصر الكمبري، ما بين ٥٤٠ و٥٢٠ مليون عام مضت، كانت وقت التجريب الحر لتصميم الجسد؛ مرحلة أشبه بمرحلة منتصف ثمانينيات القرن العشرين فيما يخص برامج الحاسب. لقد كانت هذه على الأرجح هي اللحظة التي ظهرت فيها أول جينات مثلية على يد فصيلة محظوظة من الحيوانات، والتي ننحدر منها جميعًا. بالتأكيد لم يكن هذا الكائن سوى شيء يعيش في الطين يسمى — بقدر من التناقض — باسم الدودة المسطحة المستديرة، وعلى الأرجح لم يكن إلا إحدى خطط الأجساد المتناحرة، لكن سلالته هي التي ورثت الأرض، أو أجزاء كبيرة منها. هل كان هو صاحب أفضل تصميم، أم الأبرع في تسويق نفسه وحسب؟ من كان أَبِل في العصر الكمبري ومن كان مايكروسوفت؟

لنلق نظرة أكثر قربًا على أحد جينات هوكس البشرية الموجود في الكروموسوم ١٢. إن الجين هوكس C4 هو المكافئ لجين يسمى dfd لدى الذباب، سيؤثر فيما سيكون الأجزاء الفموية في الذبابة البالغة. وهو يحمل تتابعًا قريبًا للغاية من نظرائه: A4 وB4 وD4 الموجودة في كروموسومات أخرى، ونسخ الفئران الخاصة بالجينات نفسها: a4 وb4 وc4 وd4. في جنين الفأر، تؤثر هذه الجينات في الأجزاء التي ستكون الرقبة؛ الفقرات العنقية والحبل الشوكي الذي يمر بها. إذا «أزلت» واحدًا من تلك الجينات بفعل طفرة مصطنعة فسيؤثر ذلك في فقرة أو اثنتين من الفقرات العنقية لدى الفأر، لكن تأثير عملية الإزالة هذه سيكون محددًا للغاية؛ إذ يجعل الفقرات المصابة تنمو وكأنها في موضع أعلى في رقبة الفأر عما هي عليه. إن جينات هوكس ٤ مطلوبة لجعل كل فقرة عنقية مختلفة عن الفقرة العنقية الأولى. وإذا أزلت اثنين من جينات هوكس ٤، فستتأثر المزيد من الفقرات. وإذا أزلت ثلاثة من الجينات الأربعة فسيتأثر المزيد من الفقرات العنقية. لذا يبدو أن هذه الجينات الأربعة لها تأثير تراكمي من نوع ما، فبالتحرك من الرأس نحو المؤخرة تنشط الجينات واحدًا تلو الآخر، وكل جين جديد يحول جزءًا من الجنين إلى جزء أكثر تكاملًا من الجسد. وبامتلاك أربع نسخ من كل جين هوكس نملك نحن والفئران قدرًا أكبر من السيطرة على نمو أجسادنا عما تملكه الذبابة التي تملك مجموعة جينات هوكس واحدة.

يصبح من الجلي أيضًا سبب امتلاكنا لما يصل إلى ثلاثة عشر جينًا من جينات هوكس في كل مجموعة وليس ثمانية كالذباب. تملك الفقاريات عظم ذنب تالٍ على الشرج، بمعنى أن العمود الفقري يمتد لما بعد الشرج. إن جينات هوكس الإضافية الموجودة لدى البشر والفئران، ولا توجد لدى الذباب، مطلوبة من أجل برمجة نمو الجزء السفلي من الظهر والذيل. وبما أن أسلافنا، حين صاروا من القردة العليا، انكمش الذيل لديهم تمامًا، فإن هذه الجينات من المفترض أنها صامتة إلى حدٍّ ما فينا بالمقارنة بنظيرتها لدى الفئران.

نحن الآن في موضع يؤهلنا للإجابة عن سؤال محوري؛ ما المغزى وراء اصطفاف جينات هوكس على هذه الصورة بحيث تؤثر الجينات الأولى في رأس الحيوان، وذلك في كل فصيلة أُخْضِعَت للدراسة إلى الآن؟ لم توجد إجابة محددة لهذا السؤال بعد، لكن هناك فكرة جديرة بالاهتمام. ليست أول الجينات من حيث الترتيب هي التي تؤثر في أول أجزاء الجسم وحسب، بل هي أيضًا أول جينات تعبر عن نفسها. جميع الحيوانات تتكون من المقدمة إلى المؤخرة، وعلى هذا فإن التكوين الخطي المتزامن لجينات هوكس يتبع تسلسلًا مرحليًّا، ومن المرجح أن يعمل تنشيط كل جين من جينات هوكس على تنشيط الجين التالي له على الخط نفسه أو يسمح له بالانفتاح والقراءة. والأرجح أن الفكرة نفسها تنطبق على تاريخ تطور الحيوانات؛ إذ يبدو أن أسلافنا طوروا أجسادًا أكثر تعقيدًا بإطالة الجزء الخلفي من الجسم وتطويره وليس الأمامي، وعلى هذا فإن جينات هوكس تعيد التتابع التطوري القديم نفسه. وحسب عبارة إرنست هايكل الشهيرة: «تاريخ تطور الفرد يلخص تاريخ تطور النوع.» فتطور الجنين يحدث بالتتابع نفسه الذي تطور به أسلافنا.8
على الرغم من إتقان هذه الحكايات، فإنها لا تروي إلا جزءًا بسيطًا من القصة. لقد أضفينا على الجنين نمطَا عدم التماثل العلوي السفلي وعدم التماثل الأمامي الخلفي، ومنحناه أيضًا مجموعة من الجينات التي تنشط وفق تسلسل توقيت محكم، ومن ثم يؤثر كل واحد منها في جزء مختلف من الجسم. إن كل قسم من أقسام هوكس ينشط جينه، الذي بدوره ينشط غيره من الجينات. يجب على كل قسم أن يتمايز بالصورة الملائمة؛ فيجب عليه — على سبيل المثال — أن ينمي أحد الأطراف. لكن مكمن البراعة فيما يحدث بعد ذلك هو أن الإشارات نفسها تُستخدم كي تعني أمورًا مختلفة في أجزاء مختلفة من الجسم. فكل قسم يعرف موقعه وهويته ويستجيب للإشارات على النحو الملائم. يعد صديقنا القديم decapentaplegic أحد المحفزات على نمو الأرجل في أحد أقسام الذبابة، والجناح في قسم آخر. وهو بدوره ينشط عن طريق جين آخر يسمى hedgehog أو «القنفذ» ووظيفته التداخل مع البروتين الذي يعمل على تثبيط الجين decapentaplegic وهو ما يؤدي إلى تنشيطه. جين «القنفذ» من الجينات المسماة بالجينات قطبية القسم، وهو ما يعني أنه يؤثر في كل قسم، لكن في الجزء الخلفي منه فقط. لذا، إذا نقلت قطعة نسيج معبرة عن هذا الجين إلى القسم الداخلي من القسم الخاص بالجناح، فستحصل على ذبابة لها جناح ذو شكل معكوس؛ بنصفين أماميين مندمجين من المنتصف ونصفين خلفيين مندمجين من الخارج.

لن تندهش حين تعلم أن الجين «القنفذ» له مكافئ لدى البشر والطيور. يوجد ثلاثة جينات مشابهة بدرجة كبيرة تدعى «القنفذ الصوتي» و«القنفذ الهندي» و«قنفذ الصحراء» تؤدي الوظيفة نفسها تقريبًا لدى الأفرخ والإنسان. (لقد أخبرتك من قبل أن لعلماء الوراثة عقولًا غريبة؛ فهناك جين موجود الآن يسمى «القنيفذ» وعائلتان جديدتان من الجينات تسميان «الخنزير الوحشي» و«المرموط». وقد بدأ الأمر كله لأن ذباب الفاكهة ذا النسخة المعيبة من جين «القنفذ» كان له مظهر شوكي.) وتمامًا كما في الذباب فإن وظيفة جين «القنفذ الصوتي» وشريكيه المخططين هو إخبار القسم أين ينبغي أن يكون الجزء الخلفي من الطرف. وهو ينشط في العمل حين يكون برعم الطرف قد تكون فعلًا، بحيث يخبر برعم الطرف أي جهة هي الخلفية. وإذا قمت في اللحظة المناسبة بزرع كرية ميكروسكوبية في بروتين الجين «القنفذ الصوتي» ثم أدخلتها بحرص في الجانب الخاص بالإبهام في برعم جناح جنين الطائر مدة أربع وعشرين ساعة فستكون النتيجة جناحين معكوسين ملتحمين من النصف الأمامي لهما نصفان خلفيان إلى الخارج، بدرجة دقة تماثل تلك التي حصلنا عليها في ذبابة الفاكهة.

جينات «القنفذ» تحدد مقدمة الجناح ومؤخرته، وجينات هوكس هي التي تقسمه بعد ذلك إلى أصابع. وتحويل برعم الطرف البسيط إلى يد ذات خمسة أصابع يحدث في كل شخص منا، لكنه حدث أيضًا، وفق إطار زمني مختلف، حين طورت أولى رباعيات الأرجل أيديها من زعانف السمك منذ حوالي ٤٠٠ مليون عام. وفي واحدة من أكثر الأحداث العلمية المُرضية في العلم الحديث، وجد علماء الحفريات الذين يدرسون تحول الأشكال القديمة أرضًا مشتركة مع علماء الأجنة الذين يدرسون جينات هوكس.

بدأت القصة باكتشاف حفرية تسمى أكانثوستيجا في جرينلاند عام ١٩٨٨. أدهشت الحفرية — التي كانت نصف سمكة ونصف رباعية الأرجل ويعود عمرها إلى ٣٦٠ مليون عام — الجميع نظرًا لامتلاكها أطرافًا رباعية تقليدية مع أيدٍ ذات ثمانية أصابع في نهاية كل واحد منها. كان هذا أحد التصميمات التجريبية التي جربتها رباعيات الأرجل وهي تزحف عبر المياه الضحلة. وبالتدريج، من حفريات أخرى، صار جليًّا أن اليد التي نملكها جميعًا تطورت بطريقة غريبة من زعنفة السمكة؛ عن طريق تطوير قوس منحنٍ إلى الأمام من عظام الرسغ انبثقت منه الأصابع تجاه الجانب الخلفي من اليد (الخنصر). لا يزال بمقدورك رؤية هذا النمط في صور الأشعة السينية ليدك. كل هذا عرفناه من عظام الحفريات الجافة، لذا تخيل مدى دهشة علماء الحفريات حين قرءوا عن اكتشاف علماء الأجنة أن هذه هي الكيفية التي تؤدي بها جينات هوكس عملها داخل الطرف. ففي البداية تنشئ تأثيرًا متدرجًا متجهًا ناحية الجهة الأمامية من الطرف النامي، كي تقسمه إلى عظام ذراع ورسغ منفصلة، ثم تدرجًا معاكسًا على الجانب الخارجي من آخر العظام كي تخرج منه الأصابع الخمسة.9

ليست جينات هوكس وجينات «القنفذ» هي الجينات الوحيدة التي تتحكم في عملية النمو. توجد عشرات من الجينات الأخرى التي تؤدي أعمالًا بارعة كي تحدد أين وكيف تنمو أجزاء الجسم، وهي جميعًا تؤلف نظامًا عبقريًّا للتجميع الذاتي. من هذه الجينات أفراد عائلتي جينات «باكس» و«الجينات الفارقة» التي تحمل أسماء مثل: «الحافة الجذرية» و«الحذف المتساوي» و«فوشي تارتزو» و«الأحدب» و«كرابل» و«المارد» و«المشرشر» و«كنيربس» و«طائر الريح» و«الصبار» و«هاكيبين» و«الأفعى» و«جوركن» و«أوسكار» و«عديم الذيل». إن دخول عالم علوم وراثة الأجنة يشبه قراءة إحدى روايات تولكين؛ إذ يتطلب أحيانًا من المرء تعلم حصيلة واسعة من المفردات، لكنك — وهنا تكمن روعة الأمر — لست بحاجة لتعلم طريقة تفكير مختلفة، فلا توجد فيزياء معقدة أو نظرية الفوضى أو ديناميكية الكم أو مفاهيم مبتدعة. ومثل اكتشاف الشفرة الجينية نفسه فإن ما بدا في البداية مشكلة لا يمكن حلها إلا باستخدام مفاهيم جديدة اتضح أنه ليس سوى تتابع بسيط حرفي مفهوم بسهولة للأحداث، فمن عدم التناظر للمواد الكيميائية المدخلة في البويضة تتابعت بقية الأحداث، فالجينات ينشط بعضها بعضًا، معطية الجنين رأسًا ومؤخرة. بعد ذلك تنشط جينات أخرى بالتتابع من الجزء الأمامي للخلفي بحيث تعطي كل قسم الهوية الخاصة به. بعدها تستقطب جينات أخرى الأقسام إلى أنصاف أمامية وخلفية. بعدها تفسر جينات أخرى كل هذه المعلومات وتكون زوائد وأعضاء أكثر تعقيدًا. إنها عملية كيميائية بسيطة تسير خطوة بخطوة كانت ستروق لأرسطو عن سقراط. ومن عدم التناظر البسيط يمكن تطوير نمط معقد. وفي الواقع، يعد تطور الأجنة عملية سهلة للغاية من حيث المبدأ، لكن ليس من حيث التفاصيل؛ حتى إنه لمن المغري التساؤل: هل حري بالمهندسين البشر محاكاتها، وأن يخترعوا آلات قادرة على التجميع الذاتي؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤