الكروموسوم ١٦: الذاكرة

تتكفل الوراثة بأي تعديلات تحتاجها آلياتها.

جيمس مارك بالدوين، ١٨٩٦
الجينوم البشري كتاب، ومن خلال قراءته بحرص من البداية إلى النهاية — مع الأخذ في الاعتبار مواضع الشذوذ مثل الدمغ — يمكن لأي فني ماهر أن يُصنّع جسدًا بشريًّا كاملًا. وفي وجود الآليات الصحيحة لقراءة الكتاب وتفسيره، يمكن لفرانكنشتاين بارع معاصر أن ينجز هذا العمل الفذ. لكن ماذا بعد ذلك؟ سيصنع جسدًا بشريًّا ثم يصب فيه إكسير الحياة، لكن كي يعيش هذا الإنسان بحق، سيكون عليه أن يفعل ما هو أكثر من الوجود فقط؛ إذ سيكون عليه أن يتكيف، ويتغير، ويستجيب، كما سيكون عليه أن يكتسب استقلاليته، وأن يهرب من سيطرة فرانكنشتاين. يوجد منطق كامن وراء فكرة فقدان الجينات للسيطرة على ما تصنع، تمامًا كما حدث مع طالب الطب سيئ الطالع في رواية ماري شيلي. فلا بد للجينات من أن تعطي الحرية للجسد كي يشق طريقه في الحياة. إن الجينوم لا يخبر القلب متى يدق، ولا يخبر العين متى تطرف، ولا يخبر العقل متى يفكر. وحتى لو وضعت الجينات بعض المعايير الضابطة للشخصية والذكاء والطبيعة البشرية بدقة مدهشة، فإنها تعرف متى تفوض. وهنا، على الكروموسوم ١٦ توجد مجموعة من أعظم المفوضين؛ الجينات التي تسمح بالتعلم والذاكرة.1

نحن البشر محكومون بدرجة مدهشة بما تمليه علينا جيناتنا، ومع هذا فنحن محكومون بدرجة أكبر بما نتعلمه خلال حياتنا. إن الجينوم كمبيوتر لمعالجة المعلومات؛ يستخلص المعلومات المفيدة من العالم المحيط عن طريق الانتخاب الطبيعي، ثم يجسد هذه المعلومات في تصميماته. لكن التطور يعالج المعلومات معالجة بطيئة للغاية، بحيث يحتاج إلى عدة أجيال لكل تغيير يجريه. لا عجب إذن في أن الجينوم وجد أنه من المفيد له أن يخترع آلة أسرع بكثير، وظيفتها استخلاص المعلومات من العالم المحيط في دقائق، أو حتى ثوانٍ، ثم تجسيد المعلومات في صورة سلوك، وتلك الآلة هي المخ. إن الجينوم يزودك بالأعصاب التي تخبرك بأن يدك تتعرض لحرارة شديدة، ويمدك المخ بالسلوك المتمثل في إبعاد يدك عن سطح الموقد.

يقع موضوع التعلم في نطاق علوم الأعصاب وعلم النفس. وهو نقيض الغريزة؛ فالغريزة سلوك محدد جينيًّا، أما التعلم فهو سلوك قابل للتعديل بالخبرة. ليس بين الاثنين أرضية مشتركة كبيرة، أو هذا ما جعلتنا المدرسة السلوكية في علم النفس نؤمن به طوال السواد الأعظم من القرن العشرين، لكن لماذا تحتاج بعض الأشياء إلى التعلم في حين هناك أشياء أخرى غريزية؟ ما السبب وراء كون اللغة غريزية، والمفردات واللهجات مكتسبة؟ كان جيمس مارك بالدوين — بطل هذا الفصل — منظّرًا تطوريًّا أمريكيًّا مغمورًا في نهاية القرن التاسع عشر، وقد كتب عام ١٨٩٦ مقالًا يلخص فيه جدلًا فلسفيًّا شائكًا، لكن لم يكن للمقال سوى أثر بسيط في ذلك الوقت، أو في أي وقت طوال الواحد والتسعين عامًا التي تلت كتابته في واقع الأمر. لكن بضربة حظ خرج هذا العالم من عالم النسيان على يد مجموعة من علماء الكمبيوتر في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، حين رأى هؤلاء أن نظريته مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمشكلة تعليم أجهزة الكمبيوتر كيفية التعلم.2

كان السؤال الذي تناوله بالدوين بالبحث هو: لماذا يتعلم الفرد شيئًا ما في حياته بدلًا من أن يكون هذا الشيء مبرمجًا بداخله على صورة غريزة؟ هناك معتقد شائع أن التعلم شيء طيب، والغريزة شيء سيئ، أو بالأحرى، أن التعلم شيء متقدم والغريزة شيء بدائي. وعلى هذا يعد احتياجنا لتعلم كافة السلوكيات التي تعرفها الحيوانات معرفة غريزية سمة تميز جنسنا البشري. وضع الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي — وفق هذه الفكرة — التعلم هدفًا أسمى؛ بحيث صار هدفهم هو ابتكار آلة متعلمة ذات غرض عام. لكن كان في هذا نوع من خلط الحقائق؛ فالبشر يفعلون بالغريزة الأشياء نفسها التي تقوم بها الحيوانات، فنحن نزحف ونقف ونمشي ونبكي وتطرف أعيننا على النحو الغريزي نفسه الذي يحدث لدى أي طائر صغير. إننا نوظف التعلم فقط من أجل الأشياء الإضافية التي أضفناها إلى الغرائز الحيوانية؛ أمور مثل القراءة وقيادة السيارة والمعاملات المصرفية والتسوق. وكما كتب بالدوين فإن: «الوظيفة الرئيسية للوعي هي تمكين [الطفل] من تعلم الأشياء التي فشلت الوراثة الطبيعية في نقلها إليه.»

وبإجبار أنفسنا على تعلم شيء ما، نضع أنفسنا في بيئة انتقائية تُعلي من قيمة الحلول الغريزية المستقبلية للمشكلة. وعلى هذا تحل الغريزة تدريجيًّا محل التعلم. على هذا النحو نفسه — كما أوضحت في الفصل الخاص بالكروموسوم ١٣ — وضع اختراع صناعة الألبان الجسم أمام مشكلة تتمثل في عدم قدرته على هضم سكر اللبن. كان أول الحلول حلًّا ثقافيًّا، تصنيع الجبن، لكن لاحقًا طور الجسم حلًّا فطريًّا عن طريق استمرار إنتاج إنزيم اللاكتيز في سن البلوغ. ربما في يوم ما قد تصير معرفة القراءة والكتابة سمة فطرية إذا وُضع الأشخاص الأميون في موضع تكاثر غير مواتٍ فترة طويلة بما يكفي. ومن ثم، بما أن عملية الانتخاب الطبيعي قائمة في الأساس على استخلاص المعلومات المفيدة من البيئة المحيطة ثم ترميزها داخل الجينات، من المنطقي النظر إلى الجينوم البشري بوصفه نتاج أربعة مليارات عام من التعلم التراكمي.

ومع ذلك، هناك حدود لمزية جعل السلوكيات غريزية. ففي حالة اللغة المنطوقة — وهو النطاق الذي نتمتع فيه بغريزة قوية، وإن كانت مرنة — من الواضح أنه سيكون ضربًا من الجنون أن يقدم الانتخاب الطبيعي على جعل اللغة بكل مشتملاتها، حتى المفردات، شيئًا غريزيًّا، فبهذه الطريقة ستكون اللغة أداة غير مرنة إلى حدٍّ بعيد؛ فافتقاد كلمة بمعنى الكمبيوتر سيجعلنا نحتاج إلى أن نصفه بأنه «الشيء الذي يفكر حين تتواصل معه». وبالمثل حرص الانتخاب الطبيعي (ولتغفر لي هذا الاختزال الغائي) على تزويد الطيور المهاجرة بنظام ملاحي قائم على النجوم غير مكتمل التجميع. فبسبب تتابع الاعتدالين الربيعي والخريفي، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تغيير الاتجاه نحو الشمال، من الضروري بمكان للطيور أن تعيد ضبط بوصلة النجوم الخاصة بها في كل جيل عن طريق التعلم.

إن تأثير بالدوين يتركز على التوازن بين التطور الثقافي والتطور الجيني. وهما ليسا نقيضين، بل رفيقين، يتبادلان التأثير أحدهما في الآخر من أجل تحقيق أفضل النتائج. بوسع العُقاب أن يتعلم تفاصيل الحياة من والديه كي يتكيف على أفضل نحو مع الظروف المحلية. أما الوقواق — على النقيض — فعليه أن يدمج كل شيء داخل غريزته لأنه لن يقابل والديه مطلقًا. سيكون عليه أن يطرد إخوته من العش في غضون ساعات من فقس البيض، والهجرة إلى الجزء الصحيح من أفريقيا‏ في شبابه دون وجود لوالدين يرشدانه، وأن يكتشف بنفسه كيف يعثر على اليرقات ويأكلها، ثم العودة إلى موطنه الأم في الربيع التالي ليتزاوج، ثم يجد عشًّا يصلح للسكنى؛ كل هذا من خلال سلسلة من السلوكيات الغريزية تتخللها فترات من التعلم الحصيف من واقع الخبرة.

وبالدرجة نفسها التي نسفه بها من اعتماد المخ البشري على الغرائز، نقلل بشكل عام من قدرة الحيوانات على التعلم. فالنحل الطنان — على سبيل المثال — ثبت أنه بالإمكان تعليمه بالخبرة كيف يجمع الرحيق من أنواع مختلفة من الزهور، فالنحل المدرب على أحد أنواع الزهور يعجز عن جمع الرحيق من الأنواع الأخرى، حتى يُدرب على ذلك. وفور أن يعرف كيف يتعامل مع النوع الجديد، ولنقل مثلًا قلنسوة الراهب، يصير أفضل في التعامل مع الزهور ذات الأشكال المشابهة كعشبة القمل، وبهذا يثبت أنه لم يكتف بحفظ شكل زهرة معينة وحسب، إنما عَمّم بعض المبادئ المجردة.

مثال شهير آخر على قدرة الحيوانات على التعلم نجده في حيوان بسيط آخر هو حلزون البحر. ليس بالإمكان تخيل حيوان أكثر بدائية منه، فهو حيوان كسول، ضئيل الحجم، بسيط التركيب، وصامت. يوجد لديه مخ دقيق ويعيش حياة خالية من التوتر إلى حدٍّ يُحسد عليه، قوامها الأكل والتناسل وحسب. هو عاجز عن الهجرة أو التواصل أو الطيران أو التفكير. إنه موجود وحسب. إن حياته، بالمقارنة مثلًا بطائر الوقواق، أو حتى النحل الطنان، هي تجسيد للبساطة. ولو كانت فكرة أن الحيوانات البسيطة تستخدم الغرائز والحيوانات المعقدة تتعلم صحيحة، فلن تكون هناك حاجة بحلزون البحر إلى التعلم على الإطلاق.

ومع ذلك فهو قادر على التعلم. فإذا اندفعت دفقة مياه صوب خيشومه، يسحب الحلزون خيشومه. لكن إذا تكرر اندفاع المياه نحو الخيشوم، يبدأ تدريجيًّا في التوقف عن سحب الخيشوم. يتوقف حلزون البحر عن الاستجابة لما تعرف عليه بكونه إنذارًا زائفًا ليس إلا، إنه «يتكيف». ليس هذا بالطبع كتعلم حساب التفاضل، ومع هذا فهو نوع من التعلم. وعلى العكس، إذا تعرض هذا الحلزون لصدمة كهربية ذات مرة، قبل اندفاع دفقة المياه صوب خيشومه، يتعلم الحلزون أن يسحب الخيشوم بصورة أكبر من السابق، وهي الظاهرة المعروفة باسم اكتساب الحساسية. ويمكن أيضًا جعله «يتكيف شرطيًّا»، مثل كلب بافلوف الشهير، بحيث يسحب خيشومه حين يتلقى دفقة لطيفة من المياه إذا كانت هذه الدفقة مقترنة بصدمة كهربية. وعلى هذا تسببت الدفقة اللطيفة، التي في المعتاد غير كافية لجعله يسحب خيشومه، في سحب الحلزون لخيشومه على نحو حاد. إن حلزون البحر — بعبارة أخرى — مؤهل لأنواع التعلم نفسها لدى الكلاب أو البشر؛ كالتكيف واكتساب الحساسية والتعلم الترابطي. ومع هذا فهو لا يستخدم حتى مخه. إن هذه الانعكاسات العصبية والتعلم الذي يعدلها تحدث في العقدة العصبية الجوفية، وهي محطة عصبية فرعية موجودة في بطن هذا المخلوق اللزج.

كان لمجري هذه التجارب، إريك كاندل، دافع آخر غير مضايقة الحلزون؛ إذ كان يريد تفهم الآلية الأساسية التي يحدث بها التعلم. ما التعلم؟ ما التغيرات التي تقع داخل الخلايا العصبية حين يكتسب المخ (أو العقدة العصبية الجوفية) عادة جديدة أو تغيرًا سلوكيًّا؟ يتكون الجهاز العصبي المركزي من مجموعة كبيرة من الخلايا — تنتقل عبر كل واحدة منها إشارات كهربية — والتشابكات العصبية؛ وهي نقاط الوصل بين الخلايا العصبية. وحين تصل إشارة كهربية أحد التشابكات يكون عليها أن تتحول إلى إشارة كيميائية — مثل قطار الركاب الذي يصل إلى معدية تنقل الركاب عبر قناة بحرية — قبل أن تستأنف رحلتها الكهربية. تركز انتباه كاندل على الفور على التشابكات العصبية بين الخلايا. يبدو أن التعلم يغير من خصائصها. وهكذا، حين يتكيف الحلزون البحري على الإنذار الكاذب، فإن التشابك بين الأعصاب الحسية المستقبلة والخلايا العصبية المسئولة عن تحريك الخيشوم يضعف إلى حد ما. وعلى العكس، حين يكتسب حلزون البحر الإحساس بمثير جديد، يقوى التشابك العصبي. وبالتدريج وببراعة توصل كاندل وزملاؤه إلى جزيء معين في مخ حلزون البحر هو أساس عملية تقوية التشابكات العصبية وإضعافها. وهذا الجزيء يسمى أحادي فوسفات الأدينوزين الحلقي والمعروف اختصارًا باسم جزيء AMP الحلقي.

اكتشف كاندل وزملاؤه سلسلة من التغيرات الكيميائية تتركز حول هذا الجزيء الحلقي. وبصرف النظر عن الأسماء، لنتخيل سلسلة من المواد الكيميائية التي تحمل الحروف أ، ب، ج، د … إلخ.

(أ) يصنّع (ب)،
الذي ينشط (ج)،
الذي يفتح طريقًا يسمى (د)،
وبذا يسمح بتدفق المزيد من (ﻫ) إلى الخلية،
وهو ما يعزز إفراز (و)،
وهو الناقل العصبي الذي ينقل الإشارة عبر التشابك إلى الخلية العصبية المجاورة.
ويحدث أن يعمل (ج) أيضًا على تنشيط بروتين يدعى CREB بتغيير شكله. إن الحيوانات التي تفتقد النسخة النشطة من البروتين CREB يظل بمقدورها التعلم، لكنها تعجز عن تذكر ما تتعلمه بعد انقضاء ساعة أو نحو ذلك. سبب هذا هو البروتين CREB، الذي عند تنشيطه يبدأ في تفعيل بعض الجينات ومن ثم يغير من شكل التشابك العصبي ووظيفته. الجينات المعدلة تسمى جينات CRE، وهي اختصار لعبارة «عناصر الاستجابة لجزيء AMP الحلقي». أعرف أنني لو توغلت في التفاصيل أكثر من هذا فسوف تمل حديثي، لكن اصبر معي، فالأمور ستصير أكثر بساطة قريبًا.3
بسيطة للغاية في حقيقة الأمر حتى إنه حان الوقت لمقابلة «المغفلة». والمغفلة هي ذبابة فاكهة طافرة عاجزة عن تعلم أن رائحة معينة دائمًا ما تُتبع بصدمة كهربية. إن هذه الذبابة، المكتشفة في سبعينيات القرن العشرين، هي بداية سلالة من «ذبابات التعلم الطافرة» التي اكتُشفت عن طريق منح مجموعة من الذباب المعرض للإشعاع مهام تعلم بسيطة، ثم استيلاد تلك التي تعجز عن القيام بهذه المهام. وسرعان ما تبعها أنواع أخرى من الذباب الطافر سميت ﺑ «الخرقاء» و«الكرنبة» و«فاقدة الذاكرة» و«اللفت الأصفر» و«الفجل» و«اللفت». (ومجددًا نرى أن علماء الوراثة العاملين على ذباب الفاكهة لديهم حرية أكبر في اختيار أسماء الجينات عن زملائهم الذين يدرسون جينات البشر.) وعلى أي حال اكتُشفت إلى الآن سبع عشرة طفرة متعلقة بالتعليم لدى الذباب. شرع تيم تالي من معمل كولد سبرينج هاربور، مسترشدًا بالعمل البارع لكاندل مع حلزون البحر، في البحث عن مكمن الخطأ المحدد لدى هذا الذباب الطافر. ولسعادة تالي وكاندل كانت الجينات «التالفة» في جميع الذباب الطافر مشتركة في تصنيع أو الاستجابة للجزيء AMP الحلقي.4
فكر تالي بعد ذلك في أنه ما دام قادرًا على إزالة قدرة الذباب على التعلم فيمكنه أيضًا تغيير هذه القدرة أو تحسينها. وبالتخلص من الجين الخاص بالبروتين CREB طور ذبابة تستطيع التعلم، لكنها لا تستطيع تذكر ما تعلمته، إذ إن الدرس المتعلم سرعان ما يخبو من ذاكرتها. وسرعان ما طور سلالة من الذباب تتعلم بسرعة بالغة بحيث تستطيع فهم الرسالة بعد درس وحيد فيما تحتاج غيرها إلى تكرار الدرس عشر مرات كي تتعلم الخوف من الرائحة المتبوعة دومًا بصدمة كهربية. وصف تالي هذا الذباب بأنه يملك ذاكرة فوتوغرافية؛ ولكنه غير ماهر بالمرة، إذ يبالغ في التعميم مبالغة بشعة، مثل شخص يمعن في التركيز على نحو مبالغ فيه في حقيقة أن الشمس كانت ساطعة حين تعرض لحادث دراجة، حتى إنه يرفض بعدها ركوب دراجته في أي يوم مشمس. (الأشخاص البارعون في استراتيجيات تقوية الذاكرة، مثل الروسي الشهير شيراشفيسكي، يعانون هذه المشكلة نفسها، فهم يحشون رءوسهم بالعديد من الحقائق التافهة حتى إنهم يعجزون عن التفرقة بين الغث والسمين في أي موقف. إن الذكاء يتطلب مزيجًا حصيفًا من التذكر والنسيان. عادة ما أندهش من السهولة التي «أذكر» بها، أي أدرك، أنني قرأت نصًّا معينًا من قبل أو سمعت برنامجًا إذاعيًّا محددًا من قبل، ومع ذلك فأنا لا أستطيع سرد أيهما؛ فالذكرى نفسها محجوبة على نحو ما عن وعيي. ومن المرجح أنها ليست محجوبة بهذا القدر في عقول أساتذة التذكر.)5
يؤمن تالي بأن جين البروتين CREB يقع في قلب آليات التعلم والذاكرة، أي إنه أشبه بجين مهيمن ينشط غيره من الجينات. وعلى هذا يصير بحثنا عن كيفية فهم عملية التعلم بحثًا جينيًّا في نهاية المطاف. وبدلًا من الهرب من سيطرة الجينات عن طريق اكتشاف الطريقة التي نتعلم بواسطتها وليس الطريقة التي نتصرف بها غريزيًّا، وجدنا أن أفضل السبل لفهم التعلم هو فهم الجينات ومنتجاتها التي تمكن عملية التعلم من الحدوث.
بالطبع لن يكون مفاجئًا إذا علمنا أن جين البروتين CREB ليس مقتصرًا على الذباب والحلزون وحسب. فعلى نحو عملي، يوجد هذا الجين في الفئران أيضًا، وقد خُلّقت فعلًا فئران طافرة أزيل منها الجين CREB. وكما هو متوقع، صارت هذه الفئران عاجزة عن تعلم المهام البسيطة، مثل تذكر مكان الرصيف الموجود تحت الماء في أحواض السباحة (هذا التدريب يعد من أدوات التعذيب الشائعة في تجارب التعلم على الفئران)، أو تذكر أي الطعام من الآمن تناوله. يمكن أيضًا إصابة الفئران بفقدان ذاكرة وقتي بحقن «مضاد جيني» للجين CREB في أمخاخها، يعمل على إسكات الجين فترة من الوقت. وبالمثل، تصير الفئران ذات قدرة فائقة على التعلم إذا كان الجين CREB لديها فائق النشاط.6
لا يفصل الفئران عن الإنسان من الناحية التطورية إلا هامش ضئيل؛ فنحن البشر نملك الجينات CREB أيضًا، وجين CREB البشري موجود على الكروموسوم ٢، لكن حليفه الأساسي، الذي يمكنه من أداء وظيفته والمسمى CREBBP موجود على الكروموسوم ١٦. إن وجود هذا الجين — برفقة جين آخر من جينات التعلم موجود هو الآخر على الكروموسوم ١٦ ويسمى ألفا إنتجرين — أعطانا مبررًا (وإن كان ضعيفًا) لتخصيص هذا الفصل للتعلم.
في ذبابة الفاكهة، يبدو أن النظام AMP الحلقي ينشط على نحو خاص في مناطق المخ المسماة بالأجسام الفطرية، وهي خلايا عصبية متفرعة على شكل الفطر موجودة بأمخاخ ذبابة الفاكهة. إن لم تملك الذبابة هذه الأجسام الفطرية في أمخاخها فستكون بوجه عام غير قادرة على تعلم الربط بين الرائحة والصدمة الكهربية. يبدو أن البروتين CREB والبروتين AMP الحلقي يؤديان عملهما في هذه الأجسام الفطرية، وإن كنا لا نزال في بداية الطريق إلى معرفة كيفية حدوث هذا على وجه التحديد. بالبحث المنهجي عن طفرات أخرى في ذبابة الفاكهة تكون عاجزة عن التعلم أو التذكر، عثر رونالد ديفيز ومايكل جروتويل وزملاؤهما في هيوستن على نوع مختلف من الذباب الطافر يسمى «فولادو». (وهم يوضحون لنا مشكورين أن كلمة «فولادو» Volado تعني في العامية التشيلية «شارد الذهن» أو «كثير النسيان»، وهي في الغالب تطلق على كبار العلماء.) ومثل «الخرقاء» و«الكرنبة» و«اللفت الأصفر»، يجد الذباب «شارد الذهن» صعوبة كبيرة في التعلم. لكن على عكس هذه الجينات، ليس لفولادو أي علاقة بالبروتين CREB أو البروتين AMP الحلقي، فهو وصفة لوحدة فرعية من البروتين تسمى ألفا إنتجرين، التي تعبر عن نفسها في الأجسام الفطرية، والتي يبدو أنها تلعب دورًا في ربط الخلايا بعضها ببعض.
للتيقن من أن هذا الجين ليس أحد جينات «عصا الطعام» (راجع الفصل الخاص بالكروموسوم ١١) وأنه يسبب العديد من الآثار إلى جانب التأثير في الذاكرة، قام العلماء بهيوستن بعمل بارع؛ إذ أخذوا بعضًا من الذباب الذي أزيل الجين «شارد الذهن» منه، ثم أدخلوا نسخة جديدة منه مرتبطة بأحد جينات «الصدمة الحرارية»، وهي جينات تنشط عند التعرض لحرارة مفاجئة، وقد رتبوا الاثنين بحرص بحيث تعمل جينات «شارد الذهن» فقط عند عمل جينات الصدمة الحرارية. وهكذا، في درجات الحرارة العادية لم يستطع الذباب التعلم، لكن بعد التعرض لصدمة حرارية بثلاث ساعات، صار قادرًا على التعلم الجيد. وبعدها بعدة ساعات، بعد زوال أثر الصدمة الحرارية، فقد مجددًا القدرة على التعلم. هذا يعني أن الجين «شارد الذهن» مطلوب في لحظة التعلم ذاتها؛ إنه ليس مجرد جين مطلوب لبناء الروابط التي تقوم بالتعلم وحسب.7
إن حقيقة كون وظيفة الجين «شارد الذهن» هي تصنيع البروتين الذي يربط الخلايا بعضها ببعض تلمح بفكرة مثيرة للاهتمام مفادها أن الذاكرة قد تتكون — حرفيًّا — من عملية ربط للوصلات الموجودة بين الأعصاب. فحين تتعلم شيئًا ما، فأنت تغير شبكة الترابطات الملموسة داخل عقلك وذلك بأن تخلق روابط جديدة وثيقة في أماكن كانت الروابط فيها غائبة أو ضعيفة. يمكنني القبول بأن هذه هي الكيفية التي يجري بها التعلم والتذكر، لكني أجد صعوبة في تخيل أن تذكري لمعنى كلمة «فولادو» volado يتكون من روابط اتصالية مقواة بين عدد من الخلايا العصبية. الأمر محير للعقل بشدة. إنني أشعر أن العلماء، بدلًا من إزالة الغموض من المشكلة عن طريق اختزالها إلى المستوى الجزيئي، فتحوا الباب أمام لغز آخر مثير للاهتمام؛ محاولة تخيل كيف أن الروابط بين الخلايا العصبية لا تمدنا بآلية للتذكر وحسب، بل تكون هي ذاتها الذاكرة. إن الأمر محير مثل فيزياء الكم، ومثير للاهتمام مثل ألواح الويجا والأطباق الطائرة.
لنتوغل قليلًا في هذا اللغز المحير: يشير اكتشاف الجين «شارد الذهن» إلى أن بروتينات الإنتجرين تلعب دورًا أساسيًّا في التعلم والذاكرة، لكن كانت هناك من قبل فعلًا تلميحات من هذا النوع. فبحلول عام ١٩٩٠، كان معروفًا أن عقارًا يثبط الإنتجرينات يمكنه التأثير في الذاكرة. وعلى وجه التحديد كان هذا العقار يتداخل مع العملية المعروفة باسم التقوية طويلة الأمد التي يبدو أنها من المتطلبات الأساسية لتكوين الذاكرة. في الجزء الأسفل من المخ، يوجد تكوين يطلق عليه الحُصين (hippocampus بالإنجليزية، وتعني باليونانية حصان البحر)، وجزء من الحُصين يسمى قرن آمون (على اسم الإله المصري القديم الذي اقترن بالكبش، والذي اتخذه الإسكندر الأكبر نفسه «أبًا» له بعد زيارته التي يكتنفها الغموض إلى واحة سيوة). في قرن آمون بالتحديد يوجد عدد كبير من الخلايا العصبية «هرمية الشكل» (لاحظ استمرار التأثير المصري) التي تجمع المدخلات من الخلايا العصبية الحسية الأخرى. إن الخلايا العصبية الهرمية من الصعب «استثارتها»، لكن إذا وصل مدخلان منفصلان في الوقت نفسه فسيعمل تأثيرهما المشترك على استثارتها. وعند استثارتها مرة سيكون من اليسير استثارتها مجددًا، لكن فقط من قبل واحد من المدخلين اللذين تسببا في استثارتها من البداية، وليس من قبل أي مدخل آخر. وعلى هذا يمكن لرؤية أحد الأهرامات وصوت كلمة «مصر» أن يشتركا معًا كي يستثيرا أحد الخلايا الهرمية، مما يخلق ذكرى ترابطية تجمع الاثنين. بيد أن التفكير في فرس البحر، مع أنه قد يكون مرتبطًا بنفس الخلية الهرمية، ليس «مقوى» بالصورة نفسها لأنه لم يحدث في الوقت نفسه. هذا مثال على عملية التقوية طويلة الأمد. وإذا فكرت، على نحو مبسط للغاية، في الخلية الهرمية بوصفها ذكرى عن مصر، يصير ممكنًا استثارة هذه الذكرى عن طريق الكلمة أو الصورة، لكن ليس عن طريق حصان البحر.

تعتمد التقوية طويلة الأمد، مثل تعلم حلزون البحر، بشكل مطلق على تغير في خصائص التشابكات العصبية، وهي في هذه الحالة التشابكات الواقعة بين خلايا المدخلات والخلايا الهرمية. هذا التغير يشمل الإنتجرينات بالتأكيد. والعجيب في الأمر أن كبح الإنتجرينات لا يؤثر في تكوين عملية التقوية طويلة الأمد، لكنه يؤثر في استمراريتها. يبدو أننا نحتاج الإنتجرينات حرفيًّا من أجل ربط التشابكات العصبية معًا.

أشرت ضمنًا منذ لحظات قليلة إلى أن الخلايا الهرمية قد تكون هي خلايا الذاكرة. لكن هذا هراء. إن ذكريات الطفولة الخاصة بك لا تكمن على الإطلاق في الحُصين، بل في القشرة الحديثة. إن الموجود في الحُصين وبالقرب منه هو آلية تكوين الذكريات الجديدة طويلة الأمد. من المفترض أن الخلايا الهرمية تعمل بطريقة ما على نقل الذكريات المتكونة حديثًا إلى مكان تخزينها النهائي. نحن نعرف هذا من واقع قصتي شابَّين سيئي الحظ تعرضا لحادثين غريبين في خمسينيات القرن العشرين: الأول، والمعروف في الأدبيات العلمية بالحروف الأولى إتش إم، استُؤصل جزء من مخه بغرض منع نوبات الصرع التي أصابته جراء حادث دراجة. أما الثاني، المعروف باسم إن أيه، فكان فني رادار يعمل لدى القوات الجوية، وذات يوم وهو يعمل على بناء أحد النماذج حدث أن استدار بينما كان زميل له يلعب بسيف مبارزة صغير، ما أدى إلى دخول السيف من فتحة أنف إن أيه نافذًا إلى مخه.

يعاني كلا الرجلين إلى يومنا هذا حالةَ فقدان ذاكرة حادة. إن بمقدورهما تذكر أحداث الطفولة بوضوح وصولًا إلى سنوات قليلة سابقة على الحادث. إنهما قادران على حفظ الأحداث الجارية وقتًا قصيرًا إذا طُلب منهما استدعاؤها بعدها بوقت قصير ودون حدوث مقاطعات. بيد أنهما عاجزان عن تكوين ذكريات جديدة طويلة الأمد، وهما عاجزان عن تذكر وجه أي شخص يرونه كل يوم أو معرفة الطريق إلى منزليهما. وفي حالة إن إيه (الأقل حدة)، لا يستطيع حتى الاستمتاع بمشاهدة التليفزيون لأن الإعلانات تجعله ينسى ما كان معروضًا قبلها.

بإمكان إتش إم تعلم كيفية أداء مهمة جديدة والاحتفاظ بالمهارة المتعلمة، لكنه يعجز عن تذكر أنه تعلمها من الأساس، وهو ما يشي بأن الذاكرة الإجرائية تتكون في مكان ما من المخ يختلف عن مكان الذكريات «التصريحية» الخاصة بالحقائق والأحداث. يتأكد هذا التمايز من واقع دراسة أجريت على ثلاثة من الشباب يعانون حالة فقدان ذاكرة حاد للحقائق والأحداث، وقد وُجد أنهم اجتازوا مرحلة المدرسة مكتسبين مهارات القراءة والكتابة وغيرها من المهارات بقدر قليل نسبيًّا من الصعوبة. وحين خضع ثلاثتهم للفحص بالأشعة تبين أن منطقة الحُصين لديهم صغيرة صغرًا غير معتاد.8
لكن بإمكاننا أن نكون أكثر تحديدًا من مجرد القول إن الذكريات تتكون في منطقة الحُصين. إن التلف الذي تعرض له كل من إتش إم وإن أيه يشير إلى وجود ارتباط بين جزأين آخرين من المخ وبين تكوين الذاكرة؛ الفص الصدغي الأوسط، غير الموجود لدى إتش إم، والدماغ البيني، غير الموجود بشكل جزئي لدى إن أيه. انطلاقًا من هذه الحقيقة، ضيّق علماء الأعصاب تدريجيًّا نطاق البحث عن أعضاء الذاكرة إلى تكوين رئيسي واحد؛ القشرة المخية حول الأنفية. ففي هذا المكان تُعالج المعلومات الحسية، المرسلة من مناطق البصر والسمع والشم وغيرها من المناطق، وتُحول إلى ذكريات، على الأرجح بمساعدة البروتين CREB. بعد ذلك تُمرر المعلومات إلى الحُصين ومن هناك إلى الدماغ البيني بغرض التخزين المؤقت. وإذا تقرر أن المعلومات تستحق التخزين الدائم، تُرسل مجددًا إلى القشرة الحديثة كذكرى طويلة الأمد؛ تلك اللحظة الغريبة التي تجد نفسك فجأة فيها غير مضطر إلى البحث عن رقم هاتف أحدهم وأنك قادر على تذكره. ويرجح أن تُنقل الذكريات من الفص الصدغي الأوسط إلى القشرة الحديثة ليلًا أثناء النوم؛ نظرًا لأن خلايا هذا الفص لدى الفئران تنشط كثيرًا خلال الليل.

إن المخ البشري أكثر إثارة للإعجاب من الجينوم. فإن كنت من محبي القياسات الكمية فإن المخ به تريليونات التشابكات العصبية بدلًا من مليارات القواعد فقط، ويزن أكثر من كيلوجرام، وليس ميكروجرامات فقط. وإذا كنت تفضل الهندسة فهو ماكينة تناظرية ثلاثية الأبعاد، وليس فقط آلة رقمية أحادية البعد. وإذا كنت من محبي الديناميكا الحرارية، فالمخ يولد كميات كبيرة من الحرارة أثناء عمله، مثل المحرك البخاري. ومن وجهة نظر أخصائيي الكيمياء الحيوية، يحتاج المخ آلاف البروتينات المختلفة، والناقلات العصبية وغيرها من المواد الكيميائية، وليس مجرد أربع قواعد من الحمض النووي. ولغير الصبورين، يتغير المخ حرفيًّا تحت سمعنا وبصرنا؛ حيث تتشكل التشابكات العصبية كي تكون الذكريات الجديدة المكتسبة، فيما يتغير الجينوم أبطأ من سير النهر الجليدي. ولمحبي فكرة الإرادة الحرة، فإن تشذيب الشبكات العصبية في أمخاخنا، على يد ذلك البستاني الصارم المسمى بالخبرة، يعد أمرًا أساسيًّا لعمل ذلك العضو بطريقة سليمة، في حين تنقل الجينومات رسائلها على نحو محدد مسبقًا وبقدر قليل نسبيًّا من المرونة. يبدو إذن من جميع الأوجه أن للحياة الحرة الواعية اليد العليا على الحياة الأوتوماتيكية المحددة من قبل الجينات. ومع هذا، كما أدرك جيمس بالدوين وعباقرة الذكاء الصناعي المعاصرون، فإن ذلك الفصل ما هو إلا وهم زائف، فالمخ مخلوق على يد جينات، وهو جيد بقدر جودة تصميمه الأصلي، وحقيقة كونه آلة مصممة بحيث تقبل التعديل من قبل الخبرة ذاتها محفورة في جيناته. أما لغز كيفية قيامه بهذا فيظل أحد أعظم التحديات التي تواجهها علوم الأحياء الحديثة. ومع ذلك لا شك في أن المخ البشري هو أرفع مثال على قدرات الجينات. إنه علامة على وجود قائد عظيم يعرف متى يفوض المهام؛ وقد عرف الجينوم فعلًا متى يفوض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤