لمحة في الأدب الروسي

من سمات الأدب الروسي تلك السذاجة النادرة التي لا تكاد توجد في أدب الأمم الأخرى، فالألفاظ على قدر المعاني والمجازات والاستعارات وسائر ألاعيب البديع لا وجود لها إلا في النادر الأقل.

ومن سماته أيضًا تلك النزعة التقريرية والاقتصار على وصف حادثة أو حالة دون تمهيد أو استنتاج، فالمؤلف لا يعظ ولا يعلق ولا يشرح، وإنما يقرر ويترك الصورة الذهنية التي يرسمها بقلمه تفعل فعلها في ذهن القارئ.

ومن سمات الأدب الروسي أيضًا نزعة أخرى هي النظر إلى الجوانب المظلمة والتلذذ بوصف الأمراض والكوارث والفاقة والتعس وما إلى ذلك، ولكن ليس كل أدباء روسيا سواء في ذلك، فمن أشدهم ميلًا إلى هذه النزعة دستؤفسكي وأندرييف، ولكن تشيهوف وتولستوي لم تخل قصصهما من هذه النزعة أيضًا.

وتشيهوف هذا هو من الذين أتقنوا فن القصة الصغيرة، وأظن أن أكبر ما جعله يملك ناصية هذا الفن هو أنه يمتاز حتى على سائر أدباء الروس بمبالغته في السذاجة، فهو لا يتكلف إحساسًا كاذبًا ولا يداري ولا يبالغ، وقد قال عنه الأديب المعروف مكسيم جوركي.

«أظن أن كل من حضر أنطون تشيهوف كان يشعر دون أن يعي برغبته في أن يكون أكثر سذاجة وأصدق مظهرًا مما كان قبلًا، وكثيرًا ما كنت أرى الناس يخلعون عن أنفسهم ذلك الكساء المزخرف الرخيص من عبارات الكتب والألفاظ المنمقة، وسائر تلك الحيل التي يتحلى بها الروسي لكي يظهر بمظهر الأوروبي كما يُزَيِّنُ المتوحشون أنفسهم بالصَّدَفِ وأسنان السمك، فكان تشيهوف يكره أسنان السمك وريش الديكة، فكان ينزعج إذا رأى أحدًا قد وضع على نفسه كساء لامعًا غريبًا لكي يظهر بذلك ضخمًا في أعين الناس، وكنت ألاحظ أنه عندما كان يرى رجلًا في هذا الزي يحاول أن ينفذ من هذا البهرج إلى نفسه الحية، وقد عاش تشيهوف طول حياته صريحًا حرًّا في قرارة نفسه ولم يكن يبالي بما كان ينتظره الناس منه أو بما يطالبه به أناس آخرون أخشن منهم طبعًا».

وفيما يلي يرى القارئ إحدى قصص تشيهوف وهو يمثل فيها سذاجة طفل قد هجر أبوه أمه لعلاقتها برجل أخر يزور البيت ويجالس هذا الطفل. قال:

كان بيلاييف شابًّا في الثانية والثلاثين، أحمر الوجه، عليه دلائل الشبع والعافية، وكان يملك بعض الأملاك في بطرسبرج، ويقصد أكثر أوقاته لزيارة مضمار سباق الخيول، فلما كان مساء أحد الأيام توجَّه إلى منزل مدام أولجا حيث كان يقيم معها أو كما كان يقول هو أنه كان يمثل معها قصة غرامية طويلة متعبة. والحقيقة أنه كان في هذا الوقت قد انتهى من قراءة الصفحات الأولى اللذيذة من هذه القصة، ولم يبق سوى صفحات لا تنتهي وليس فيها شيء من اللذة والطلاوة.

ولما لم يجد مدام أولجا في المنزل جلس على ديوان في غرفة الاستقبال ينتظر مجيئها، فما هو أن فعل ذلك حتى سمع صوت طفل يقول:

«مساء الخير يا بيلاييف، ستكون أمي هنا حالًا، فقد ذهبت مع سونية إلى الخياطة».

وكان صاحب هذا الصوت طفلًا يدعى اليوشا وهو ابن مدام أولجا، وكان في الثامنة من عمره حسن الهيئة جميل اللباس، فكانت سترته من القطيفة، يغطي ساقيه جورب أسود، وجاء وجلس على ديوان آخر في الغرفة نفسها، ثم تولاه مرح الطفولة وكأنه أراد أن يقلد بهلوانًا رآه يلعب من مدة في أحد الملاهي، فرفع ساقه في الهواء ثم رفع الأخرى، فلما تعبت ساقاه الجميلتان عاد إلى يديه وحاول أن يمشي عليهما، وكان يفعل ذلك بجد واهتمام وهو يلهث ويئن كأنه يأسف لأن الله قد أعطاه هذا الجسم المرح.

فقال بيلاييف: «مساء الخير يا بني، أأنت اليوشا؟ إني لم أراك، كيف والدتك؟»

فقبض اليوشا على قدمه اليسري بيده اليمنى وجذبها وهو يتلوى في ذلك ثم وثب على قدميه، ونظر إلى بيلاييف من خلال ظل المصباح وقال: «لا أدري كيف والدتي، فهي امرأة وكل امرأة تشكو من شيء ما».

وأخذ بيلاييف ينظر إلى وجه اليوشا، ولم يكن قد انتبه إلى هذا الصبي قبلًا طول مدة علاقته بمدام أولجا، بل كان يتجاهل وجوده، وكان اليوشا أمامه كل يوم، ولكن بيلاييف لم يسأل نفسه مرة عن سبب وجوده أو عن الدور الذي يمثله.

وكان وجه اليوشا في غسق ذلك المساء يشبه بجبهته البيضاء وعينيه السوداوين وجه مدام أولجا في الصفحات الأولى من تلك القصة الغرامية، فشعر بيلاييف وهو ينظر إليه بعاطفة الصداقة نحوه، وقال له: «تعال إلى هنا أيها الصغير، تعال هنا لكي أراك جيدًا».

فقفز اليوشا من الديوان إلى بيلاييف فوضع بيلاييف يده على كتف الصبي النحيف وقال: «كيف حالكم الآن؟».

«كان حالنا أحسن من الماضي».

– «ولم؟»

«مسألة بسيطة. كنت أنا وسونية لا نحفظ سوى الموسيقى والقراءة أما الآن فهم يجعلوننا نحفظ الألفاظ الفرنسية، هل حلقت لحيتك؟»

– «نعم»

«هذا صحيح، لحيتك قصيرة. دعني ألمسها. هل تؤلمك؟»

– «كلا».

«لماذا إذا شددنا شعرة واحدة تؤلمنا وإذا شددنا خصلة كبيرة لا تتألم؟ ولماذا لا تربي شعرك في عارضيك؟ هنا يجب أن تحلق شعرك أما هنا في الجوانب فيجب أن تتركه».

ثم أخذ يلعب في سلسلة بيلاييف وقال: «عندما أذهب إلى المدرسة العليا ستشتري أمي لي ساعة وسأجعلها تشتري لي سلسلة مثل هذه … ماما … نوط، نعم نوط، أبي له نوط مثل هذا في سلسلة، ولكن نوط أبي عليه حروف أما هذا فعليه قضبان صغيرة … وصورة أمي في وسط نوطه، وأبي له سلسلة مختلفة ليس فيها حلقات … تشبه الشريط …».

– «وكيف تعرف؟ هل ترى أباك؟»

«أنا، نعم … كلا … أمي».

احتقن وجهه بالحياء وارتبك وشعر كأن كذبته قد بانت، فأخذ يمسح النوط بشدة، فأحد بيلاييف نظره فيه وقال: «هل ترى أباك؟».

«لا … لا … لا».

«قل الحق بشرفك، فإنه ظاهر أنك تكذب، فما دمت قد فلتت الحقيقة من لسانك فلا تحاول الإنكار الآن، قل هل تراه؟ قل لي الآن أنت صديقي».

فتردد اليوشا ثم قال: «ولكنك لا تخبر أمي؟».

– «كلا، أبدًا».

– «بشرفك».

– «بشرفي».

– «احلف».

– «إنك لطفل غريب، ماذا تظنني؟».

فنظر اليوشا إلى ما حوله ثم فتح عينيه وهمس إلى بيلاييف قائلًا: «ولكن أرجوك ألَّا تخبر أمي، ولا تخبر أحدًا لأن هذا سر، وإذا عرفت أمي نقع كلنا أنا وسونية وبيلاجيه، اسمع الآن: أنا وسونيه نذهب كل يوم ثلاثاء وجمعة ونقابل أبانا فإن بيلاجيه تأخذنا قبل العشاء للتنزه فنجد أبانا ينتظرنا في مطعم إيفل، وهو يجلس في غرفة وحده وأمامه مائدة من الرخام عليها منفضة في شكل أوزة بدون ظهر».

– «وماذا تفعلون هناك؟»

– «لا شيء، نقول أولًا: كيف حالك؟ ثم نجلس حول المائدة ويشتري لنا أبونا الفطائر والقهوة، وسونية تأكل الفطير المحشو باللحم، أما أنا فلا أطيق ذلك لأني لا أحب سوى عصيدة الكرنب الأبيض، ونحن نأكل كثيرًا عند أبي حتى إننا عندما نجلس مع والدتنا في العشاء نجتهد في أن نأكل شيئًا حتى لا تلحظ أننا أكلنا قبلًا»

– «وعن أي شيء تتكلمون؟»

«مع أبي؟ نتكلم عن أي شيء، فهو يقبلنا ويعانقنا ويذكر لنا نوادر مضحكة، وهو يقول لنا أننا عندما نكبر سيأخذنا لكي نعيش معه، وسونية تقول إنها لا ترغب في الذهاب أما أنا فأرغب ذلك، وطبعًا سأشتاق لرؤية والدتي ولكني سأكتب إليها خطابات، ويمكننا أن نأتي ونزورها في وقت الإجازات. ألا يمكن ذلك؟ إنها فكرة غريبة، وأبي يقول أيضًا إنه سيشتري لي جوادًا، وهو كثير الحنان علينا، ولا أدري لماذا لا تطلب إليه أمي أن يأتي ويسكن معنا هنا، ولماذا تمنعنا من أن نزوره، أتعرف أنه يحب والدتي جدًّا؟ فهو يسألنا دائمًا عن صحتها وعمَّا تفعل، ولما كانت مريضة أمسك رأسه بيديه هكذا … ثم. ثم أخذ يمشي بسرعة في الغرفة، وهو يطلب منا أن نطيعها ونحترمها على الدوام، اسمع هذا: هل صحيح إننا تعساء؟»

– «أهم … لماذا؟»

– «هذا ما يقوله أبي، يقول: «أنتم أطفال تعساء» أليس كلامه هذا غريبًا؟ فهو يقول: «أنتم تعساء وأنا تعيس وأمكم تعيسة» ويقول لنا أيضًا: «يجب أن تصلوا لأجل أنفسكم ولأجل والدتكم»

ثم نظر اليوشا إلى طائر محنط في الغرفة واستسلم للخواطر.

فقال بيلاييف وصوته يتهدج: «إذن … هذا ما تفعلونه، تلتقون في المطاعم وأمكم لا تدري شيئًا».

– لا، لا تدري شيئًا وكيف تدري؟ فإن بيلاجيه لا تخبرها، وقد أعطانا أول من أمس بعضًا من الكمثرى، كانت حلوة كالمربى فأكلت منها اثنتين».

– «أهم اسمع لي … اسمع، هل قال أبوك شيئًا عني»

– «عنك؟ ماذا أقول؟».

ونظر الصغير إلى وجه بيلاييف كأنه يتفرسه ثم هز كتفيه وقال: «لم يقل شيئًا مهمًّا».

– «مثال ذلك، ماذا قال؟».

– «ألا تغضب إذا قلت لك؟».

– «وماذا بعد ذلك؟ ولِمَ؟ هل يسبني أمامكم؟».

– «لا. لايسبك ولكنه مغضب، ويقول إنك علة شقاء أمي وإنك سبب خراب بيتها، وكلامه من هذا الموضوع غريب، فإني أقول له إنك حنون شفيق وإنك لا توبخ أمي مطلقًا، ولكنه يهز رأسه».

– «فهو إذن يقول إني خربت بيتها؟»

– «نعم. ولكن لا تغضب».

فنهض بيلاييف ووقف قليلًا ثم أخذ يمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ثم جعل يدمدم قائلًا: «كل اللوم عليه، ومع ذلك يقول إني خربت بيتها، ألَعَلَّهُ الحمل البريء؟ فهو إذن يقول لكم إني خربت بيت والدتكم؟»

– «نعم. لكنك قلت إنك لن تغضب، ألم تقل ذلك؟»

– «لم أغضب، وليس هذا شأنك، إن هذا لأمر عجب، لقد وضعوني هم أنفسهم في المسألة كما تُوضع الدجاجة في الحساء والآن يقع عليَّ اللوم».

ثم سمع طرقات على الباب، فقفز اليوشا وجرى إلى خارج الغرفة، وبعد لحظة دخلت سيدة تصحبها صبية صغيرة، وكانت السيدة مدام أولجا والصبية ابنتها سونية، ودخل في أثرهما اليوشا وهو يقفز ويمرح ويلوح بيده، فلما رآهما بيلاييف هز رأسه واستمرَّ في مشيه في الغرفة، ثم دمدم قائلًا: «طبعًا إن الذنب ذنبي وإلا فعلى من يقع أنه صادق فهو زوج قد ثلم عرضه».

فقالت مدام أولجا: «عمَّ تتكلم؟»

– «عم أتكلم؟ ألم تسمعي ما يشيعه زوجك عني؟ يقول إني وغد سافل خربت بيتك وأشقيت أبناءك، فكلكم في شقاء وأنا وحدي السعيد، سعيد جدًّا جدًّا».

– «لا أفهم ما تقول، ماذا جرى؟»

– «اسمعي أنت لما يقوله هذا الصغير».

فاحتقن وجه اليوشا ثم عراه الشحوب وصارت عضلات وجه تختلج من الخوف، ثم نظر إلى بيلاييف وقال وهو يهمس همسًا عاليًا: «اسكت».

ونظرت مدام أولجا إلى اليوشا وهى مدهوشة ثم إلى بيلاييف ثم إلى اليوشا ثانيًا.

فقال بيلاييف: «اسأليه؛ فإن هذه المجنونة بيلاجيه تأخذ الطفلين وتذهب بهما إلى المطاعم ويجلسون جميعًا مع زوجك، ولكن ليس هذا محور الموضوع.

فمحور الموضوع أن زوجك يعد نفسه ضحية وأني أنا الشقي الذي خربت بيتكم».

فتنهد اليوشا وقال: «ألم تعدني بشرفك يا بيلاييف؟» فأبعده بيلاييف عنه وقال: «شرفي! أي شرف إن هذا النفاق هذا الكذب …»

فقالت مدام أولجا وعيناها تغصَّان بالدموع:

«لا أفهم هذا. أخبرني يا اليوشا هل تزور أباك؟»

ولكن اليوشا لم يسمع هذا السؤال لأنه كان ينظر والرعب قد ملك عليه كل حواسه إلى بيلاييف، ثم قالت أمه: «هذا محال سأذهب إلى بيلاجيه وأسألها».

وخرجت مدام أولجا من الغرفة فقال اليوشا وجسمه كله ينتفض: «لقد وعدتني بشرفك».

فأبعده بيلاييف عنه بيده وأخذ يمشي في الغرفة، وكان قد تملَّكَهُ الغضب حتى أنساه وجود الطفل كما كانت عادته قبلًا فقد كان يعتبر نفسه رجلًا كبيرًا ذا خطر، فلم يكن في أفكاره ما يتسع للانتباه للأطفال وجلس اليوشا مع سونية في إحدى زوايا الغرفة، وجعل يقص عليها كيف خدعه بيلاييف، وكان طول الوقت يرتعش ويتلعثم ويبكي، وكانت هذه هي أول مرة في حياته واجه فيها الكذب مواجهة خشنة، ولم يكن يعرف قبل هذا الوقت أنه يوجد في هذا العالم بجانب الكمثرى الحلوة والفطائر والساعات الغالية أشياء أخرى عديدة لا تستطيع لغة الأطفال أن تعبر عنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤