في المدينة الخاطئة

جمهورية تشكو سلوفاكيا من الجمهوريات الحديثة التي ظهرت عقب الحرب، وكان أهلها قبلًا من رعايا النمسا والمجر، وأهل هذه الجموهرية الجديدة أقوام حديثو العهد بالوطنية إذ كانوا قبلًا ملكًا مشاعًا بين النمسا والمجر، فحكومتهم وأدباؤهم وساستهم يجهدون أنفسهم لإيجاد عاطفة التماسك والوطنية فيهم الآن.

والقصة التالية وضعَهَا أحد أدبائهم المدعو كاريل كابيك وهو يرمي إلى هذه الغاية، وقد جعل موضوعها قصة النبي لوط وخروجه من مدينة سدوم إذ أمر الله بإهلاك قومها لطغيانهم وانغماسهم في الخطايا والموبقات. قال الكاتب:

نزل سدوم ملكان وقت المساء فرآهما لوط ووقف لكي يستقبلهما ثم انحنى أمامهما ووجهه إلى الأرض.

ثم قال لهما «انزلا في منزل خادمكم واقضيا الليل واغسلا أقدامكما فإذا جاء الصباح فذهبا إلى حيثما تشاءان».

ولكنهما أجاباه قائلين: «سنقضي الليل في طرق المدينة».

ثم قال له: «أهنا أحد غير هؤلاء الذين نراهم؟ زوج ابنتك وأبناؤك وبناتك وغيرهم ممن يوجودون في المدينة؟ اجمعهم جميعًا وأخرجهم من هذا المكان فإننا سنهلك من فيه من السكان لانغماسهم في الدنس والخطيئة حتى صار الله يمقتهم».

وسمع لوط هذا الكلام فاغتم غمًّا شديدًا فسألهم قائلًا: «ولماذا أترك هذا المكان؟».

فقالا: «لأن يهوه (الله) لا يريد أن يهلك الصالحين».

فوجم لوط طويلًا ثم قال: «اسمحا لي أن أغادركما حتى أخبر أصهاري وبناتي كي يتهيَّئُوا لترك المدينة».

فأجاباه إلى ما طلب فخرج يهرول إلى شوارع المدينة، وصار يعدو ويصيح في الناس: «أيها الناس! اخرجوا من هذا المكان فإن الله سيدمر المدينة».

ولكن الناس حسبوه يسخر منهم فلم يلتفتوا إليه، فعاد لوط إلى منزله ولكنه لم ينم بل قضى الليل قاعدًا يفكر، فلما انتشر ضوء الفجر جاء الملكان إلى لوط ثانيًا وقالا له: «قم خذ امرأتك وبنتيك واخرجوا لئلَّا تهلكوا مع الذين سيهلكون لذنوبهم».

فقال لوط: «كلا، لن أخرج، لقد استشرت نفسي طول الليل ورأيت أني لا أقدر على ترك المدينة لأني واحد من أهلها».

فقال الملكان: «أنت رجل صالح ولكن أهل سدوم جائرون طغاة وقد أغضبت ذنوبهم الله، فما يعنيك من أمرهم؟».

فقال لوط: «لست أعرف ما يعنيني وإنما أقول إني فكرت فيما يجب أن أعمله مع أهل سدوم، فرأيت أني قد قضيت حياتي وأنا أشكو منهم وأحكم على أفعالهم وأقسو في الحكم، ولكني أراني الآن حزينًا لأنهم قد قضي عليهم بالهلاك، أجل إني قد ذهبت إلى أهل مدينة سيجور فرأيت أنهم أكثر صلاحًا وتُقًى من أهل سدوم».

فقال الملكان: «قم واذهب إلى سيجور فإنها لن تهلك».

فقال لوط: «وما يعنيني من شأن سيجور؟ إني أعرف رجلًا صالحًا هناك كان يشكو من أهل مدينته كما أشكو أنا من أهل سدوم، والآن اتركاني فلست أقدر على ترك سدوم».

فعاد الملكان يُلِحَّاِن عليه بالخروج وقالا له: «قد أَمَرَنَا الله بأن ندمر سدوم» فقال لوط وهو هادئ: «فلتكن مشيئة الله، لقد فكرت طول الليل وتذكرت عدة أشياء جعلتني أبكي، هل سمعتم أهل سدوم وهم يغنون؟ كلا، إنكم لا تعرفونهم ولو عرفتم لما جئتم إليهم بهذه المهمة، فإن فتيات هذه المدينة إذا سِرْنَ في الطرق تبخترن في مشيتهن وتغنين بالأغاني العجيبة ويضحكن عندما يستيقن من الآبار. وليس في العالم ماء أصفى من ماء سدوم، وليس في العالم لغة أحلى من لغة سدوم، وإذا تكلم طفل فهمتُه كأنه ابني، وإذا لعب فإنما يلعب ما كنت ألعبه في طفولتي.

وكنت وأنا طفل إذا بكيت لاطفتني أمي بلغة سدوم. آه يا ربى إني أشعر كأن هذا قد حدث أمسِ فقط».

فقال أحد الملكين: «إن أهل سدوم قد أذنبوا وذنوبهم تعدو حدود الغفران ولذلك …».

فقاطعه لوط قائلًا: «أجل إنهم أذنبوا ولكنك هل لاحظت بعينك صُنَّاعَ المدينة؟ فهم يشتغلون كأنهم يلعبون فإذا صنعوا قدرًا جميلة أو نسجوا قطعة من المدينة الكتان فليس يملك أحد قلبه من أن يطفر عندما يرى هذه الأيدي الصناع الماكرة وهي تشتغل، وقد يجلس الإنسان أمامهم طول النهار لا يسأم لفرط ما يبدونه من المهارة، وإذا أخطئوا غضب الإنسان لخطئهم أكثر مما يغضب لخطأ الصناع في سيجور. بل يشعر الإنسان بعذاب هذا الخطأ كأنَّه هو نفسه قد أخطأ فما هي قيمة صلاحي إذا كنت من أهل سدوم؟ فإذا كنتم ستقضون على سدوم فاقضوا عليَّ أنا أيضًا فلست رجلًا صالحًا بل واحد منهم؛ ولذلك إني لن أترك هذا المكان».

فاربدَّ وجه الملك وقال مغضبًا:

«إنك ستهلك إذن معهم».

فأجاب لوط: «قد يكون ذلك، ولكني سأعمل جهدي كي أنجيَهم من الدمار، ولست أعرف ما سأفعله ولكني أعتقد أن واجبي يحتم عليَّ مساعدتهم إلى النهاية. أتظن أنه من السهل عليَّ أن أتركهم؟ إني أخالف إرادة الله فهو لا يسمع لي، ولو سمع الدعوات إليه أن يمنحني ثلاثة أعوام أو ثلاثة أيام أو حتى ثلاث ساعات. وما قيمة ثلاث ساعات في عين الله؟ لو أن الله أمرني أمس بترك المدينة لقلت له: أمهلني يا ربى حتى أتكلم مع هذا وأخاطب ذاك، أجل إني قضيت حياتي أحكم عليهم بدلًا من أن أتوسل إليهم وأغريهم بالصلاح فكيف أتركهم الآن ليهلكوا؟! ألست أنا أيضًا مسئولًا عن انغماسهم في الخطيئة، لست أحب أن أموت لكني لا أستطيع رؤيتهم يهلكون ولذلك سأبقى هنا.

فقال الملك: «ولكنك لن تستطيع تخليص سدوم».

فأجابه لوط قائلًا: «أعرف ذلك ولكني سأحاول. لقد كنت قاسيًا عليهم طول حياتي وحملت معهم أثقل أعبائهم وهو طغيانهم، ولكني يا ربي لست أقدر على التعبير عن مكانهم في قلبي وقصاراي أن أمكث معهم».

فقال الملك: «إن قومك هم الصالحون الذين يؤمنون بالرب الذي تؤمن به أما أهل الخطيئة والشر وعبدة الأوثان فليسوا من قومك».

فقال لوط: «كيف لا يكونون قومي وهم أهل سدوم، إنك لا تدرك معنى ما أقول لأنك لا تسمع إلى صوت الدم والأرض، تقول عن سدوم إنها مدينة الإثم والشر، ولكن أهل سدوم عندما ينفخ بوق الحرب لا يقاتلون من أجل إثمهم وشرهم، بل يقاتلون من أجل أشياء ثمينة، حتى أشرارهم يستطيعون أن يموتوا من أجل الغير؛ فسدوم هي كل شيء، وإذا كان الله يرى فيَّ بعض المزايا فليُعْزِهَا إلى سدوم لا إلي وماذا أن قائل بعد هذا؟ ألا قل لربك: إن عبدك لوط قد وضع نفسه بين رجال سدوم يدافع عنهم ويحميهم منك أنت كأنك عدوه.

فصاح به الملك: «قف ما أفظع خطيئتك ولكن الله لم يسمعك، قم واستعد لترك المدينة وانج بزوجتك وابنتيك».

فتفجرت عينا لوط بالدموع وقال: «أجل يجب أن أنجيهم، أنت محق في هذا أرشدني».

ولكنه تلكًأ، فأخذه الملكان من ذراعيه وأخذا زوجته وابنتيه وقادوهم إلى الخارج؛ وذلك لأن الله كان يرحم لوطًا.

فلما خرج لوط بأهله صلَّى قائلًا: «كل ما بي من حياة فهو من سدوم، فلحمي من أرضها ولغتي هي لغة رجالها ونسائها، وما لعنت هؤلاء الرجال والنساء مرة إلا وأنا أقبلهم، أجل يا سدوم إني أراك عندما أغمض عيني لأنك كائنة في نفسي كما كنت أنا كائنًا فيك. سدوم. سدوم ألست أجمل بلاد العالم؟

لو أني رأيت نافذة من نوافذ بيوتك عليها غطاء من الكتان لعرفتك منها وقلت هذه نافذة بيت من بيوت سدوم، إني كالكلب يؤخذ من صاحبه ويبعد عنه فيضع أنفه في التراب فيشم رائحة صاحبه، إني أؤمن بالله ونواميسه ولم أؤمن بك سدوم ولكنك كائنة، أما البلاد الأخرى فظل زائل لست أرتاح إذا جلست إلى حائط من حيطانها أو شجرة من أشجارها.

إني أؤمن بالله لأنه رب سدوم فإذا ذهبت سدوم فسيذهب إيماني.

«أبواب سدوم. إلى أين أذهب عنك؟ وفي أي فراغ أضع قدمي؟ أجل ليس تحت قدمي أرض فإنا أقف وكأني لست أقف، اذهبْنَ عني يا بناتي فلست أقدر على أن أسير أكثر مما سرت».

فحملوه إلى خارج المدينة وقال الملَكان: «انجوا بحياتكم ولا تلتفوا إلى الوراء ولا تمكثوا في هذا السهل، بل فروا إلى الجبال حتى لا تهلكوا».

وكانت الشمس قد طلعت عندما قالا ذلك، ثم دمر الله مدينة سدوم ومدينة عمورة وأمطرهما وابلًا من النار والحمم، ورأى لوط ذلك فصاح صيحة الألم وجرى عائدا إلى المدينة.

فعدا وراءه الملكان وصاحا به: «ماذا تفعل؟!».

فقال لوط: «أذهب لكي أساعد أهل سدوم» ثم دخل إلى المدينة وهي تحترق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤