الفصل الأول

الكلمة والضحكة

الكلمة أكبر الفتوح الإنسانية في عالم الكشف والاختراع، لو لم يخترعها الإنسان لوجب أن يخترع ما يساويها وينوب عنها؛ لأنه لا حياة له بغير التفاهم بينه وبين أبناء نوعه، ولا تفاهم على شيء من الأشياء بغير الكلمة أو ما يدل دلالتها …

أنقول على شيء من الأشياء وكفى؟

كلا، بل نعمم القول على الأشياء وما ليس بشيء من الأشياء، ونضرب المثل بيوم الأربعاء أو يوم الخميس أو يوم من الأيام في الشهر الأول من السنة الحاضرة.

ما هو ذلك اليوم؟ وما هو ذلك الشهر؟ وما هي تلك السنة؟

يصعب علينا أن نسميها شيئًا من الأشياء يتأتى لنا أن نشير إليه كما نشير إلى كل شيء نراه أو نحصره.

مسافة من الفلك تدور فيها الأرض حول نفسها، وليست هي بالمسافة الثابتة التي تعود إلى مكانها في مجرى المنظومة الشمسية من أجواز الفضاء!

شيء أو لا شيء …

ولكنه على ذلك اسم لا بد منه لمن يذكر التاريخ، ولمن يعمل في ساعته الحاضرة، ولمن ينظر إلى المستقبل ويقرر له المواعيد والمواقيت.

والاسم في اللغة هو الذي استطاع أن يصطاد للعقل هذه المسافة المجهولة من الفضاء الأبدي ويعطيها الدلالة التي لا غنى عنها.

ولكنها ليست بالدلالة الوحيدة التي لا غنى عنها.

كل ما تدل عليه اللغة لا غنى عنه للإنسان، ومنه هذه المحسوسات التي نلمسها ونراها بالعين، كالطريق والمركبة والكرسي والإناء، فإننا نجرب الاستغناء عن اللغة يومًا ونحاول أن نتفاهم عليها وهي غائبة عنَّا لا نستطيع أن نشير إليها.

لا سبيل!

وصدق القرآن الكريم، كل علم هو علم الأسماء، والله علَّم آدم الأسماء كلها؛ لأنها هي العلم الإنساني من مبدئه إلى منتهاه.

إلا أنه علم الإنسان.

وكل علم للإنسان يعرض له النقص من بعض نواحيه، فإذا قال لنفسه: لا بد لي من اللغة! فلا ينسَ أن يقول لنفسه: نعم. وحذار من هذه اللغة؛ فإن النفع منها للعقل عظيم جد عظيم، ولكن الضرر منها غير قليل وغير مأمون.

من منافعها أنها تحصر المارد المنطلق فتحبسه في القمقم المرصود مطيعًا حيث يراد.

ومن أضرارها أنها تحبس المردة الكثيرة في قمقم واحد؛ فتنطلق مرة واحدة حيث يراد واحد منها، وتنحبس مرة واحدة حيث نريد أن نطلق منها هذا وندع منها ذاك.

عودتنا اللغة أن نحسب كل اسم عَلمًا على شيء واحد، وكثيرًا ما يكون هذا الاسم كالقمقم الذي يحتوي فيه عشرات المردة بعلامة واحدة، وما من شبه بينها غير تلك العلامة لضرورة التمييز والتقسيم.

تعودنا أن نسأل: ما العلم؟ ما الفهم؟ ما الحسُّ؟ ما الضمير؟ وتعودنا أن نسأل: كيف نعلم؟ ما وسيلة الفهم؟ ولماذا نحس؟ وما بالنا نصغي للضمير؟

تعودنا ذلك، وتعودنا أن نجيب بجواب واحد، وكأننا نسأل في جميع هذه الأحوال عن شيء واحد.

وما نسأل في الحقيقة إلا عن أشياء كثيرة تنبئ عنها كلمة واحدة.

ما نسأل في الحقيقة إلا عن عشرين ماردًا أو أكثر من عشرين، يجمعهم القمقم الواحد الذي نشير إليه.

وفي سياق هذه الرسالة — رسالتنا عن حكمة جحا أمير المضحكين — نسأل كما تعودنا من كل كلمة: ما الضحك؟

ولماذا نضحك؟

وما الضحك بشيء واحد …

وما نضحك بسبب واحد …

وما نفكر في الضحك على نحو واحد …

ولكنها الكلمة التي لا غنى عنها، ولا أمان منها كذلك ما لم نعرف سر الرصد المسحور.

وها نحن أولاء في هذه الرسالة نعرف سر هذا الرصد في كلمة واحدة — كلمة الضحك — لنعرف منها أمير المضحكين بين المضحكين، ونعرف منها أضاحيكه بين أشتات المضحكات.

الضحك ضحوك عدة إذا صح هذا التعبير، وليس بضحك واحد ونحن نضحك لأسباب كثيرة، ولسنا نضحك لسببٍ فردٍ لا يتعدد، ويوشك أن يكون لكل حالة من حالات ضحكتها التي تصدر عنها ولا تصدر عن حالة غيرها، كأنما هي لغة كاملة على أسلوبها في التعبير.

هناك ضحك السرور والرضا، وهناك ضحك السخرية والازدراء، وهناك ضحك المزاح والطرب، وهناك ضحك العجب والإعجاب، وهناك ضحك العطف والمودة، وهناك ضحك الشماتة والعداوة، وهناك ضحك المفاجأة والدهشة، وهناك ضحك المقرور، وضحك المشنوج، وضحك السذاجة، وضحك البلاهة، وما يختاره الضاحك وما ينبعث منه على غير اضطرار.

بل ربما كان لكل مضحكة من هذه المضحكات ألوان لا تتشابه في جميع الأحوال.

فالضاحك المسرور قد يكون سروره زهوًا بنفسه واحتقارًا لغيره، وقد يكون سروره فرحًا بغيره، لا زهو فيه بالنفس ولا احتقار للآخرين.

والضاحك الساخر قد يضحك من عيوب الناس؛ لأنه يبحث عن تلك العيوب ويستريح إليها، ولا يتمنى خلاص أحد منها، وقد يضحك من تلك العيوب؛ لأنه ينفِّس عن عاطفة لا يستريح إليها عامة بين إخوانه الآدميين، ولا خاصة في أحد يعنيه من أولئك الإخوان.

والضاحك من عيوب السخف والحماقة قد يضحك من السخيف الأحمق أو يضحك من الذي يحكيه في سخافته وحمقه، فيعرف كيف يحكيه، وكلاهما باعث من بواعث الضحك مخالف لغيره في أثره وداعيه ومعناه.

هذه المسألة وُضِعت موضع التجربة العلمية بعد انتشار الصحافة، وتنوُّع موضوعاتها، واختصاص طائفة منها بموضوع الفكاهيات والمضحكات، وتنافس الكُتَّاب في ابتداع فن جديد من أساليب الفكاهة والضحك، كلما أَلِف القُراء أسلوبًا منها وسئموه أو اشتاقوا إلى غيره، فظهرت الفوارق بين النكات التي تدعو إلى الضحك، وتمايزت بأسمائها وعلاماتها، وأوشك الكُتاب الفكاهيون أن يتمايزوا بالتفوق في كل باب من هذه الأبواب، واستطاعوا أن يفرقوا بينها بالتعريفات أو بالحدود المفهومة.

ولعلنا نطالب هؤلاء الكتاب بما ليس عندهم إذا سألناهم أن يرجعوا بهذه الفكاهات المختلفة إلى مصادرها من الطبيعة البشرية والعلل الفلسفية، ولكننا نستطيع أن نعتمد على تجربتهم في التنويع والافتنان؛ لأنه عمل يزاولونه كل يوم، ويعرفون خطوات الانتقال فيه من فن إلى فن، ومن أسلوب إلى أسلوب، ولو لم يكن هذا الاختلاف في الأساليب إلا اختلافًا في التعبير والتنميق.

ومن أمثلة الاجتهاد في التفرقة بين موضوعات الضحك والفكاهة كتاب مزاج الفكاهة The Humour of Humour لمؤلفه إيفان إيسار Evan Esar الذي اشتغل زمنًا بكتابة الفكاهات وتقسيمها وترتيب أقسامها، وأراد بكتابه هذا من عنوانه إلى خاتمته أن يكون تطبيقًا لآرائه واختباراته؛ لأن العنوان نفسه يشتمل لعبًا بالألفاظ كاللعب الذي يدخل في النكات الجناسية؛ لأن كلمة «هيومر» بالإنجليزية تأتي بمعنى المزاج، وتأتي بمعنى الفكاهة، وتدل على أخلاط الجسم في مذهب الأقدمين، كما تدل على وسائل تعديل هذه الأخلاط بالدواء أو بتطييب الخواطر وتنزيه النفوس.

ولا تُحصَى أفانين الضحك والفكاهة كما شرحها المؤلف في كتابه، ولكننا نشير إلى بعضها على سبيل التمثيل، وندع للقارئ أن يقيس عليها من تجاربه ما يشاء.

•••

فمن هذه الأفانين «الملاحظة المزدوجة أو الملاحظة اللاذعة»، ومثالها كلمة تقال عن الزواج من أجل المال: «إنه يصلح أبًا لها بسنه، وزوجًا لها بثروته»، أو كلمة تقال عن البخيل: «إنه يضع نقوده في الحَشِيَّة ليجد تحته شيئًا يستند إليه.»

ومن هذه الأفانين «الآبدة»، أو العبارة الشاردة، والفرق بينها وبين الملاحظات السابقة أنها أقرب إلى المثل السائر الذي يسهل تعميمه ولا يخص أحدًا بعينه. وأما الملاحظات السابقة فأكثرها يقال عن الأشخاص أفرادًا بغير تعميم، ويدور على شئونهم ولا يدور على المواقف والأطوار.

ومن أمثلة النكتة الآبدة أو العبارة الشاردة أن «الأخلاق طلاء تمسحه الخمر»، وأن «السن تخون أصحابها»؛ لأنها تدل على السنين، وأن «الحكيم حين تقنعه حكمته بأن يتزوج يصبح الأحمق زوجًا وله أبناء»، وأن «لابس النظارة منظره بغيرها أحسن ونظره بغيرها أقبح»، وأن الأمريكيين أحرار لأنهم «يأخذون» حريات كثيرة!

ومنها اللغز، وعماده على المغالطة، أو على جمع المتشابهات التي تختلف في الحقيقة أبعد اختلاف.

ومثاله أن يسأل السائل: «لماذا وضعوا واشنطون على تل؟» فيجيب المجيب: «لأنه مات».

أو يسأل السائل: «ما ذلك الشيء الذي يصنعه الرجل واقفًا وتصنعه المرأة جالسةً ويصنعه الكلب على ثلاث؟»

والجواب: «المصافحة أو تحية السلام عند اللقاء».

ومن أفانين الفكاهة الجناس اللفظي، وهو يشبه اللغز في السؤال والتورية.

يسأل السائل: «ما وجه الشبه بين الفلاسفة والمرايا؟»

والجواب: «التأمل والنظر!»

أو يسأل السائل: «ما وجه الشبه بين الكتاب والشجرة؟»

والجواب: «كلاهما له ورق!»

أو يسأل السائل: «تُرى هل يُحاسَب الرجل على قتل الوقت إذا حطَّم الساعة؟»

والجواب: «كلا، إذا ضربت الساعة أولًا».

ومن هذه الأفانين المساجلة والمحاورة، وقد يكون السائل فيها هو المجيب.

تقول لي: «لماذا تشرب الخمر؟ … قل لي ماذا تقترح أن أصنع بها؟»

وتسألني: «أي الدجاج أطول رقادًا؟ كيف؟ ألا تعلم؟ … الذي مات!»

ومنها الظن المختلف، وهو يتوقف على الموقف، وتعدد المشتركين فيه، ووجود اللبس الذي يدعو إلى اختلاف الظنون، ومثاله قصة عن أربعة في مقصورة قطار: فتاة حسناء، وامرأة عجوز، وكهل فرنسي، وضابط ألماني أثناء احتلال الألمان باريس. ودخل القطار نفقًا فسُمِع في المقصورة صوت قبلة وصفعة، ثم خرج القطار من النفق وهم صامتون وعلى وجه الضابط الألماني أثر صفعة، فقالت المرأة العجوز لنفسها: «ما أطهرها من فتاة!» وقالت الفتاة الحسناء لنفسها: «عجبًا له! يقبِّل العجوز ولا يقبِّلني؟» وقال الضابط الألماني: «يا له من فرنسي خبيث! غنم القبلة، وغنمت أنا الصفعة!» وقال الفرنسي: «لقد نجوت بها، قبَّلت ظاهر كفي وصفعت الألماني، ولم يتهمني أحد!»

ومنها النادرة، وهي نكتة لا بد لها من قصة تتعلق بصناعة أصحابها أو بعملهم وقواعده المتعارف عليها. كان مارك توين — الكاتب الفكاهي المشهور — يعمل في إحدى الصحف، وتكاد الديون تستغرق مرتبه، وكان من عادته أن يهمل كل إنذار يأتيه من صاحب دين، واتفق يومًا أن كاتبًا من مساعديه كان إلى جانبه وهو يهم بأن يلقي بعض هذه النذر في سلة المهملات، فنبَّهه الكاتب قائلًا: «انتظر يا سيدي، فإن في ظهر الورقة كلامًا يقول فيه صاحب الدين إنه سيقاضيك إن لم تسرع إلى السداد» فقال له مارك توين كأنه ماضٍ في عمله: «ألا تعلم يا صاح أن الورقة التي تكتب على وجهين تُهمل في هذا المكان؟!»

•••

ومنها الكلمة التي تقال وتفهم على معنيين؛ أحدهما يَسرُّ، والآخر يزعج أو يخيف. وتشبهها كلمات الجناس كلما دلت على نقيضين.

يقول الرجل لزميله في بلاد «النيام نيام» آكلة البشر: «إن الزعيم يريدك للغداء».

أو يقول فرنكلين وهم يكتبون وثيقة الاستقلال: «يجب أن يتعلق بعضنا ببعض وإلا تعلقنا على انفراد».

أو يقول الشيطان: «الفضيلة في الوسط»، وهو يجلس بين رجلين من رجال السياسة!

أو يقول قدح الماء للبرشامة: «تقدمي وأنا بعدك»، وفيها مثل لظاهر التحية وباطن الاشتراك في البلاء!

أو تقول الفتاة لمن يغازلها: «أنا كالقاطرة، إن لمستني صرخت!»

ومما أحصاه الفكاهيون المعاصرون من أساليب التعبير الفكاهي أسلوب القلب والعكس، ومن أمثلته: «إن الحب يذهب بالزمن، وإن الزمن يذهب بالحب»، ومنها: «إن بعضهم يحب أن يشاهد الصور المتحركة، وبعضهم يشاهد الصور المتحركة ليحب»، ومنها: «إن الإنسان يخلق المتاعب، وإن المتاعب تخلق الإنسان»، ومنها: «إن من يتعمق إلى أساس الأمور ترفعه الأمور إلى الذروة العليا»، ومنها: «ليس الضحك بداية سيئة للصداقة ولكنه نهاية حسنة».

وتكرار الكلمة في مواضعها فن من فنون الفكاهة، كتكرار ذكر الذكاء في هذه العبارة: «الفتاة الذكية أذكى مما يبدو عليها؛ لأن الفتاة الذكية لا تبدي ذكاءها …»

أو هذه العبارة: «غير المتوقع يقع أحيانًا حين لا تتوقع من المرء ما هو خليق أن يقع منه».

أو هذه العبارة: «علينا أن ننسى أنفسنا لنشعر بالسعادة، ولكننا لا نسعد إذا نسينا أن ننسى أنفسنا».

والنسيان المعهود في العلماء والمعلمين يضحك أو يُحسب من أسباب الفكاهة، وتُروى لذلك قصص كثيرة هذه أمثلة منها:

جلس أستاذ في مكتبه بالمنزل وهو في قلق شديد على زوجته التي أدركها المخاض، وإذا بقريبة له تقتحم المكتب لتبشره بولادتها وتصيح به: «إنه ولد» … ويكون قد ذهل عما حوله فيسألها: «وماذا يريد؟!»

وذهب أستاذ إلى طبيب فقال له: «أخرج لسانك»، ثم قال له: «لسانك في حالة حسنة، ولكن ما هذا الطابع الذي عليه؟» فابتسم الأستاذ وقال: «أهو هناك وأنا أحسبني وضعته على الغلاف؟!»

وأكذوبة إبريل وما جرى مجراها فن من هذه الفنون الفكاهية. يقول مارك توين: «إن أول إبريل يوم واحد في السنة يذكرنا بغفلتنا في جميع الأيام …»

ويقول المتندرون بهذا اليوم: إن الذين يولدون فيه يكتمون تاريخ ميلادهم ليثبتوا وجودهم ويستريحوا من ولع الناس بتذكيرهم ما يحاولون كتمانه، وكذلك من يولد في اليوم التالي أو اليوم السابق … ولكنهم يطلقون اسم مغفل إبريل على كل ضحية تجوز عليه الأكاذيب في يوم مجعول لهذه الأكاذيب.

والعثرة اللسانية أو القلمية تضحك وتهيئ النفس للفكاهة، ومن قبيلها قول بعض الخطباء على إثر حفلة موسيقية من الحفلات التي لا تكثر في القرى: «إنها لحسن الحظ حفلة نادرة»، ويشبه هذه العثرة أن طبيبًا كتب شهادة وفاة فوضع اسمه في موضع سبب الوفاة بدلًا من موضع التوقيع!

والغلطة مع حسن النية تثير الغيظ فيمن يصاب بها وتثير الضحك فيمن يشاهدها، وإحدى النوادر المروية عن هذه الغلطات أن صاحب حانة كان يقف وراء البنك في حانته إذ هجم عليه قادم مستعجل وسأله في لهفة: «أعندك شيء يزيل الفواق؟» فلم يجبه صاحب الحانة ولكنه ضربه بالفوطة المبلولة على وجهه، فنظر الرجل إليه شزرًا وهَمَّ أن يبطش به لولا أن بادره صاحب الحانة معتذرًا، وقال له إنني أرحتك بهذه الضربة من الفواق … ثم ظهر أن الرجل لم يكن به فواق، وإنما طلب الشراب الذي يزيله لزوجته التي كانت في السيارة عند الباب!

وقد يتبع الغلطة حسن التخلص فتضيف إليها فكاهة على فكاهة.

أخذ بعض المدعوين إلى إحدى الولائم في حديث مع جارته، وأحب أن يبدأه بالغيبة والنقد؛ لأنها من الأحاديث المحبوبة في أمثال هذه المجتمعات، فأنحى بالذم والوقيعة في رجل لا يعرفه على مسافة منهما، وفاجأته السيدة قائلة: «ويحك! إنك تعني زوجي!» قال: «نعم، ولهذا أكرهه!»

وأراد طبيب مستشفى المجانين أن يتصل برقم يحتاج إلى التحدث مع صاحبه على عجل، فجن جنونه لإهمال العاملة ومراوغتها في الجواب، وصاح بها محتدمًا: «ويلك! أتعلمين من أنا؟» قالت: «لا، ولكني أعلم أين أنت!»

والغلطة المطبعية إحدى الغلطات الفكاهية أو المضحكة، وهي خاصة بكل لغة، وقلَّما تصلح للترجمة إلى لغة أخرى، ولكننا نضرب لها الأمثلة بما عرفناه من غلطات المطبعة عندنا، وإحداها غلطة الصفَّاف في نقل السطور بين إعلانات الزواج وإعلانات الوفيات، فإذا بالخبر يقرأ أن العروس تقبل التهنئة من المدعوين ثم شيعوه بالرحمات والدعوات!

وحدث في الاحتفال برفع الستار عن تمثال نهضة مصر أن حكمدار العاصمة وقف على مقربة من كبار الرؤساء وقبعته على رأسه ومنشته في يده؛ فعلقنا على ذلك في كتابة أخبار الحفلة، واضطربت السطور بين يدي الصفاف فجرى الخبر على هذا المثال: «وحضر فلان وفلان وصاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، ولوحظ عليه أنه كان يلبس قبعته ويعبث بمنشته وهو على مقربة من كبار ولاة الأمور.»

وكتب بعض المخبرين حديثًا مع مستر فريدريك، فإذا به يسمى مستر فريد بك!

وغلطات المطبعة من هذا القبيل لا تحصى في جميع اللغات، ولكنها تزداد في اللغة العربية لتشابه بعض الحروف.

وحسن التخلص وحده قد يحول الموقف من الغضب إلى الضحك، ولو عرف السامع أنه ملفق للخلاص من الحرج واللوم.

ذهب عريس مع عروسه إلى محطة السكة الحديد للسفر إلى ضاحية يقضيان فيها شهر العسل، ثم عاد إلى عروسه من شباك التذاكر ومعه تذكرة واحدة فصاحت به مغضبة: ما هذا يا عزيزي؟ تذكرة واحدة؟!

فما كان أسرع منه إلى الاعتذار بالكلمة الوحيدة التي تخطر على البال، ولا يخفى على الزوجة أنها عذر مختلق للخلاص من هذا المأزق الأليم في مطلع شهر العسل. قال: ما هذا يا عزيزتي؟ لقد أنسيتني نفسي!

وفوجئ موظف في مصرف وقد أغمض عينيه وكاد أن يستسلم للنعاس، قال الرئيس: «أنائم في أول النهار؟»

قال الموظف «اليقظ»: «على رسلك يا سيدي الرئيس، ألا أستطيع أن أغمض عيني لحظة للصلاة قبل بدء العمل؟»

•••

ويذكرون من ضروب الضحك خيبة الحيلة وارتدادها على صاحبها، أو ظهور الخديعة على من يفرط في الذكاء فلا يلبث أن يبدو لنفسه ولغيره كأنه مفرط في الغباء.

دخل رجل على طبيب في «عيادته» فاعتقد الطبيب أن الزائر مريض يطلب العلاج، وأراد أن يوحي إليه بمقدار أجرته في غير مساومة، فعمد إلى التليفون وأداره وراح يقول لمحدثه المزعوم: «نعم! أنا الدكتور جونسون، إنني مشغول جدًّا … تسأل عن القيمة المطلوبة؟ إنها كما أخبرتك خمسمائة ريال … وأنت تذكر هذا؟ حسن … إلى اللقاء إذن!»

ثم وضع سماعة التليفون والتفت إلى الزائر متسائلًا: «ماذا أستطيع أن أصنع لك يا سيدي؟»

فأجابه الزائر: «لا شيء، إنني موظف مصلحة التليفونات الذي طلبت لإصلاح تليفونك!»

وكان موظفان يعملان في مكتب واحد، يفرغ أحدهما من عمله نحو الساعة الرابعة كل يوم، ويبقى الآخر بعده ساعتين أو أكثر لإنجاز عمله، فسأل هذا صاحبه ذات يوم: «كيف تنجز عملك في هذا الموعد؟!» قال صاحبه: «إنني لا أنجزه أيها الزميل، ولكنني كلما صادفت مسألة معضلة كتبت على الورقة: «يعرض على مستر سمث»، ولا بد أن يكون في هذا المكتب «مستر سمث» واحد على كل حال!»

فخلع صاحبه سترته ونظر إليه متحديًا وهو يقول كمن نشط من عقال: «الآن تبقى أنت للساعة السادسة … أنا مستر سمث الذي تجهله، فاعرفه بعد اليوم!»

ومن أساليب الفكاهة الأقضية التي يسمونها بالأقضية السليمانية:

اتهم رجل بالسرقة، فأراد المحامي أن يجر القاضي إلى شرك يغريه بالوقوع فيه، وتحذلق في دفاعه متعمدًا فقال: «إنكم تعاقبون رجلًا كاملًا بعمل ذراع واحدة هي التي جذبت السلعة المأخوذة من وراء القضبان.»

قال القاضي وهو يظن أنه أوقع المحامي في شركه: «حسن! نحن نحكم على الذراع بالسجن ستة أشهر، ولينطلق صاحبها حيث يريد.»

فخلع المتهم ذراعه المصنوعة وهَمَّ بالانصراف!

والمفارقة إحدى هذه المضحكات، وعلى نحوها نصيحة الناصح: «لا تقصَّ على الأصلع حكاية يقف لها الشعر، فهو جهد ضائع»، وعلى نحوها تحذير المحذر: «لا تقتل الرجل الذي قبَّل زوجتك اليوم، فإنك لم تقبلها منذ سنة!»

ويأتي الضحك من تناقض المعاني الكثيرة في هذا التحذير.

فمنها أن الرجل الذي قبل الزوجة لقي عقوبته التي تساوي القتل.

ومنها أنه قام بواجب أهمله الزوج.

ومنها أنه لازم في المستقبل.

ومنها أشباه ذلك كثير …

وعلى نحوها: «إن غاية الكسل أن تستيقظ عند الفجر لكي تجد وقتًا طويلًا للدوران».

والصورة الهزلية في الكلام أهم هذه المضحكات، ومن هذه الصور أن فلانًا بلغ من طول وجهه أن الحلاق يتقاضاه أجر الحلاقة ضعفين، وأن فلانًا بلغ من ضخامته أن ظله وقع على رجل فمات، وأن فلانًا بلغ من طوله أنه يصعد على كرسي ليغسل أسنانه!

وسرعة الجواب مع المغالطة فيه لون من ألوان الفكاهة وتهيئة النفس للضحك.

مصور له أولاد قِباح، يداعبه ناقد فيعجب له كيف يصنع أولاده بهذا القبح ويصنع صوره بذلك الجمال.

والمصور يجيب: «لا عجب يا سيدي، أولادي أصنعهم في الظلام وصوري أصنعها في النور!»

وتقول فتاة لزميلتها: «لقد رفضت الزواج من فلان، وهو منذ ثلاثة أشهر عاكف على الشراب.»

فتقول الزميلة وهي تصطنع الجد في الجواب: «هذا الذي نسميه مبالغة في إحياء الأفراح!»

وتهزأ سيدة من زميلتها المؤلفة فتسألها: «من الذي ألف لك كتابك الأخير؟ إنه بديع!»

وجواب المؤلفة من جنس السؤال: «سرني والله أنه أعجبك، من الذي قرأه لك؟»

•••

وتعد «المقالب» من بواعث الضحك، وهي الأكذوبة التي توقع السامع في بعض الغرم أو بعض التعب، دون أن يصحبها ضرر أليم، والمبالغة فيها كاختلاق أخبار النعي، والاعتدال فيها كالدعوة إلى وليمة، ولا وليمة! أو تقديم الحلوى وفيها دواء … غير مطلوب.

ومن الفكاهة إتباع الحكمة بحكمة أخرى توافق مقدماتها ولا تخطر في الحسبان، ومن أمثلتها أن الألفة في الحب تولد الاحتقار … والأطفال، وأن الفتاة التي تشبه الكتاب المقروء توضع مثله على الرف، وأن تفاحة في اليوم تبعد عنك الطبيب، ولكن بصلة في اليوم مفعولها أكيد … تبعد عنك كل إنسان، وأن اثنين لازمان للشجار، ولازمان أيضًا للزواج، وأن المال ينطق … والمال يخرس!

والسخرية إحدى هذه الألوان، ومن السخرية أن يقول القائل جادًّا كأنه يعني ما يقول: «ما بال فلان ينتقم مني كل هذا الانتقام؟! إنني لم أحسن إليه كل هذا الإحسان؟!»

وذهب فتى إلى شباك البريد، فوجد الموظفتين في شاغل عنه بحديث طويل عن زي فستان السهرة الذي كانت تلبسه إحداهما، فتأنق الفتى في الوصف والرجاء، وطلب إلى إحداهما أن تتفضل بإعطائه طابعًا قرمزي الوسط وردي الحافة منقوش الأطراف والجوانب، ومشغولًا كله، ولا يساوي مع هذا أكثر من ثلاثة مليمات!

والمحاكاة باب من أبواب السخرية، تتشابه الأمثلة عليها، ويدخل فيها التهكم والمجاراة.

خلا أحد المدعوين بإحدى المدعوات في سهرة الرقص فقبَّلها، واستجابت لقبلته لحظة غير قصيرة، ثم قالت له بعد أن افترقت شفتاها وشفتاه: «أتعلم أنها أول قبلة رضيت بها في حياتي؟» فقال الفتى كأنه يجاريها: «نعم، لأنك على ما يظهر ورثت الشيء الكثير بغير تعليم.»

وتحدث بعض الجلساء في دعوة عامة عن الثروة ووسائل جمعها، كأنه يوهم السامعين أنه من أصحابها، فأثنت إحدى الجالسات على سرعة فهمه؛ لأنه يعرف الكثير عن المكاسب مع قلة ما يكسب!

•••

والنصائح المطردة، مع القياس الظاهر، مع استحالتها بعد التأمل اليسير، أحد هذه الأقسام التي اصطلحوا على تقسيمها في الصحافة الفكاهية، ومن قبيلها هذه النصائح:
  • قل لا لمن يهمون بالزواج.

  • وقل لا لمن يهمون بالطلاق.

  • وقل لا لمن يهمون بالموت.

  • وقل لا لمن يهمون بالولادة.

ويتمشى على أسلوب هذه النصائح الهازلة جواب رجل أصيب بالزكام وأشار عليه صديق بوصفة ناجعة، فقال له: «نعم، اليوم أعمل بوصفة جونس، وغدًا بوصفة سميث، وبعد غد بوصفة براون، فإن بقيت مني بقية لوصفتك يوم الأحد فهو دورك!»

وقد تطرد الوصايا التالية مع هذا النسق من النصيحة:
  • لا تطرد الذبابة من جبهة امرأتك بمطرقة!

  • لا تقلق إذا علمت أن كل شيء يذهب في الغسيل، حتى البدلة!

  • لا تنتفخ وأنت تعلم أن الصفر أسمن الأرقام!

  • لا تحمل هم الزبدة، إنك تصنعها من حشائش الأرض، متى تيسرت البقرة!

  • لا تتردد في بذل النصيحة، لا أحد سيسمعها.

  • لا تعمل بنصيحة، وأولها هذه!

•••

وعندهم فكاهة يسمونها فكاهة «قبل وبعد» مدارها على المقابلة بين هذين الطرفين في مسائل الزواج على الخصوص، وهذه أمثلة منها:
  • قبل الزواج تقبِّل الفتاة الفتى لتربطه، وبعد الزواج تربطه لتقبله.

  • قبل الزواج يأخذ الرجل بيد المرأة حبًّا، وبعد الزواج يأخذ بيدها دفاعًا عن النفس.

  • قبل الزواج يقول الرجل: لا بد أن ينفذ أمري في منزلي أو أعرف السبب، وبعد الزواج يعرف السبب!

  • قبل الزواج يسعى الرجل إلى المرأة، وبعد الزواج يسعى للمرأة!

  • قلَّما يكون الرجل بالمزايا التي تراها فيه المرأة قبل الزواج، وقلما يكون بالعيوب التي تراها فيه بعد الزواج.

  • في بعض البلاد الشرقية لا يرى الزوج امرأته قبل الزواج، وفي البلاد الغربية لا يراها بعده!

ويلحق بهذه الزوجيات تهكم المحدثات والمحدثين من بنات «الدقة القديمة» كما يقال في مصر باللغة «البلدية»، ومنه أمثال هذه المقارنة:
  • البنت من الدقة القديمة تحمر إذا خجلت، وبنتها العصرية تخجل إذا احمرت!

  • والبنت من الدقة القديمة كانت تذهب إلى المدينة وتقف عند جماعة الشابات المسيحيات، أما بنتها العصرية فإنها تذهب إلى المدينة ولا تقف عند شيء!

  • والبنت من الدقة القديمة كانت تشعر بالإهانة إذا عرض عليها الشراب، وأما بنتها العصرية فتبلع الإهانة.

  • والبنت من الدقة القديمة كانت لا تجسر على تناول يد فتاها، ولكن بنتها العصرية لا تجسر على تركها.

  • والرجل من الدقة القديمة له رأس يصلح للحسابات، ولكن ابنه العصري له عين تنظر إليها!

وهم يصطلحون على تسمية إنسان مشهور ينسبون إليه الحكمة التي يخترعونها لساعتها من قبيل قول الشرقيين «قال الراوي» عند إسناد الكلام الذي يعلم السامعون أنهم مخترعوه.

وأشهر هؤلاء الحكماء المختارين للإسناد الصادق والمدَّعى حكيم الصين كونفشيوس.

فمن كلامه المزعوم، قال كونفشيوس: «الرجل الذي يسوق بيد واحدة يصطدم بالكنيسة.»

وهم يعنون بذلك خطر الزواج؛ لأن الرجل الذي يسوق بيد واحدة يخاصر امرأة معه في سيارة باليد الأخرى.

ومن كلامه المزعوم، قال كونفشيوس: «الفتاة التي لها مستقبل تحذر الرجل الذي له ماضٍ.»

ومن كلامه: «الرجل الذي يغازل المرأة على المصعد ليس في مستواها!»

ومن الأضاحيك ضرب المزاح الفارغ الذي يشبه ما يسمى في الزجل العربي الحديث بالدور المجنون.

يسأل السائل محدثه: «ألم أرك في بلدة بفالو؟»

فيجيبه محدثه: «لم أذهب قط إلى تلك البلدة.»

ويعود السائل فيقول: «ولا أنا!»

ويجري الحوار بين اثنين على هذا المنوال:

– ماذا تصنع؟

– أبحث عن ورقة ضائعة.

– أين سقطت منك؟

– في الشارع الثامن والثلاثين.

– لكننا في الشارع الأربعين!

– نعم، أعلم ذلك، ولكن هنا نور!

والحكمة التي «يفلت» منها درسها محسوبة في هذه الأضاحيك:

تقص المدرسة على الأطفال قصة الحَمَل الذي لم يسمع كلام أمه فأكله الذئب، فيقول أحد الأطفال في براءة أو في خبث: «والحَمَل الذي سمع كلامها أكلناه نحن!»

أو يقول المدرس لتلاميذه الصغار: «إن العصفور المبكر يلتقط الدودة.»

فيقول أحدهم: «والدودة المبكرة يلتقطها العصفور!»

ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن هذه «التقسيمات» لا تبدو غريبة للقارئ العربي الذي ألَمَّ بعلوم البيان والمعاني والبديع؛ لأن الكثير منها مقرر بتعريفاته وأمثلته وشواهده في تلك العلوم، وما من قارئ عربي ألَمَّ بعلوم البلاغة بعض الإلمام إلا وهو يعرف التورية والمقابلة والمشاكلة والهزل الذي يراد به الجد، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتجاهل العارف، والإضمار في مقام الإظهار، وإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، والتشبيه الملفوف والمفروق، والفصل والوصل، والقلب والالتفات والتغليب، والكناية والتحريف والتصحيف.

كل هذا مألوف للقارئ العربي من بلاغة لغته، كما يألف من كتب الصناعة اللغوية جميعًا محكم القول في جوامع الكلم والفرائد والأوابد والمثل السائر واللحن الذي يحسب من الألغاز، والألغاز التي تحسب من ضروب الرمز أو الإيهام والتعمية.

إلا أننا لم نشأ أن نطلق هذه التقسيمات والتعريفات على ضروب الفكاهة المصطلح عليها بين المشتغلين بالكتابة الصحفية وما إليها؛ لأن مصطلحات الصناعة اللغوية وضعت في لغة العرب لتمييز درجات البلاغة ومعانيها، ولم توضع هذه المصطلحات الحديثة عند الغربيين لشيء من ذلك وإنما وضعت للتفرقة بين موضوع وموضوع من مادة الصحافة الفكاهية.

وأمر آخر يباعد بين هذه المصطلحات الحديثة وبين مصطلحات علوم البلاغة العربية، وذاك أن المصطلحات الحديثة لفنون الأضاحيك لم تزل على فجاجتها الأولى، ولم تبلغ بعد من الدقة في الأسماء والتعريفات والشواهد مبلغ نظائرها في علوم البديع والمعاني والبيان، وقد يختلط بعضها لاتفاقه في مصدر الشعور وأثره، فلا يتم التعريف بينها إلا بحكم العادة بين المشتغلين بعمل واحد يعرفون مواده وأجزاءه بالإشارة والنظرة العابرة، ولا يلزم أن يقيموا الحدود بينها بالفواصل المنطقية أو النفسانية.

على أن الاختلاف بين عناوين الفكاهات — ولو بحكم العادة — جدير أن نتوقف عنده وننظر ما يليه من التعريفات والتقسيمات التي ترجع إلى اختلاف في أصول الموضوعات أو اختلاف في طبيعة الشعور، وسوف يأتي الوقت الذي نميز فيه بين ضحكة وضحكة كما نميز بين كلمة وكلمة، ونعني بذلك تمييز الفهم والتفسير ولا نقصر الأمر على الشعور والتلبية النفسانية، فإننا الآن نميز بشعورنا بين ضحكات مختلفات كما كان آباؤنا وأجدادنا يميزون بينها بتبادل الشعور والتلبية بين نفس ونفس، وليس هذا ما يعنيه طلاب التمييز بين أفانين الفكاهات والمضحكات في الدراسات العصرية، سواء قصدوا من هذا التمييز تيسير العمل بين المشتركين فيه كما يتيسر للعاملين في حانوت واحد أن يميزوا أنواعه بحرف مرقوم على الرف أو علامة منقوشة على الصندوق، أو قصدوا من هذا التمييز أن ينفذوا إلى ينابيع الشعور المتعمقة في النفس البشرية، حيث تصدر المضحكات والمبكيات وتكمن أسباب الغرائب والمألوفات، وما ينبغي لنا أن نزعم أننا نفهم نفوسنا حق فهمها ونحن نجهل الفرق بين ما يضحكها وما يبكيها وما يقع منها موقع الألفة أو موقع الغرابة في أعمق الأعماق.

وربما كان اسم «الضحك» مغريًا بالاستخفاف منافيًا للجد في بواعثه ومعانيه.

ولكن البحث عن أسباب الضحك جدٌّ كأصدق الجد الذي يعرفنا بنفوسنا كما يعرفنا بها أعظم العظائم وأفدح المحزنات، بل ربما كان الأمر «المحزن» يسيرَ التعليل؛ لأننا لا نحار فيه ولا يخفى علينا أنه يرجع إلى حب السلامة وكراهة الضرر والإصابة، وربما كان لنا — نحن الآدميين — شركاء في الشعور بالمحزنات بين الحيوانات العليا وبعض الحيوانات الدنيا؛ لأن الحزن عندها بمثابة رد الفعل الجسداني لكل ألم وكل مكروه. أما الضحك فليس من سهولة التفسير بهذه المنزلة، ولا سيما الضحك الذي يتشعب ويتفرع وتتباعد مصادره من النفس أو تتقارب — مع التفرقة بينها في الأسماء — حتى يلتبس موضوع منها بموضوع وعنوان بعنوان.

هذه عوارض نفسية يختص بها الإنسان ولا يشاركه فيها حيوان من الحيوانات السفلى أو العليا، بل يعتقد الكثيرون من علماء الأجناس البشرية أن القبائل البدائية من الناس لا تضحك ولا تدرك الضحك، وأن هذه الظاهرة المترقية في سلم الإنسانية لا تشاهد بين الهمج إلا بعوارض العصبية التي لا تدخل في حيز الإرادة، كأنها ضحكة المقرور أو ضحكة المتشنج، وحتى هذه الضحكات التي تشبه العوارض المرضية لا تُشاهد بين الهمج على كثرة تجعلهم يلتفتون إليها ويسمونها بكلمة من كلماتهم القليلة، فهي والتخبط من الصرع عندهم سواء.

لا جرم يجِدُّ الفلاسفة غاية الجد في النظر إلى الضحك وأسبابه منذ عهد بعيد، ولا يجدُّون اليوم وغدًا في هذه الدراسة بين نفسانيين واجتماعيين ونقاد للفنون والآداب.

ونحن في هذه الرسالة نريد أن نعرف «جحا» ونريد أن نعرِّف الإنسانية كلها بهذه المعرفة.

•••

وربما كان بعض ما تقدم من التعريفات مفيدًا لنا في وضع جحا بموضعه من الحياة الإنسانية؛ حيث كانت في كل مجتمع وكل حقبة وكل عنصر وكل قبيل، فإن بعض هذه التعريفات يرينا أن «جحا» ليس بالغريب المجهول في بيئة من البيئات التي تضحك كما نضحك، وتستغرب من نوادر جحا وبوادره ما نستغرب، وبعض الأمثلة التي تقدمت نستطيع أن ننسبها إلى جحا، فلا تخالف في معدنها ما ينسب إليه، وهذه إحدى العلامات على سريان الضحك مسرى اللغة بين بني الإنسان، فهو كاللغة يؤدي لجميع الناس معاني مشتركة يتقاربون بها على تباعد المنازل والأجناس، وهو كاللغة يختلف بين وطن ووطن وبين جنس وجنس، كما يختلف بين قائل وقائل في مناهج التعبير بين المتكلمين بلسان واحد في أسرة واحدة.

وسنعرف «جحا» حقًّا حين نعرف لماذا يضحك الناس عامة بغير اختلاف، ونعرف لماذا يضحكون خاصة من شيء دون شيء، ومن إنسان دون إنسان.

وسنجد «جحا» واحدًا، ولكنه «جحا» الناس أجمعين؛ لأن الناس أجمعين يضحكون منه وإن لم يظهر في غير موطن واحد أو مواطن متشابهة تحسب كالوطن الواحد؛ لأن الإنسان حيوان ضاحك حيث كان، ولعله ضحك آلاف السنين ولم يفهم بعد أسباب الضحك على جليتها، وسنرى — بعد — مقدار ما فهمه ويفهمه.

وسنضحك من بعضها وهي صحيحة أو باطلة، فنتعلم من الضحك كيف نتلقى تلكم الأسباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤