الفصل الثالث

ثلاثة آراء في الضحك

كتب سبنسر رأيه بعنوان فزيولوجية الضحك The Physiology of Laughter.

وهو عنوان يدل على مدار البحث كله، ويؤخذ منه أن الباحث أراد أن يفسر عوارض الضحك الجسدية وارتباطه بالأفكار والأحاسيس التي تستدعيها.

وفكرته تشابه فكرة داروين في أساسها، ولكنه يخالف القائلين بأن الضحك محاولة عضلية للتخلص من شعور مُكرِب أو غير محتمل، ويخالف القائلين بأن الضحك يتولد من الشعور المفاجئ بالغبطة والرضا عن النفس بما يوحي إليها من السلامة أو الرجحان.

ويقول سبنسر: إن هذا كله قد يحدث ولا يحدث معه الضحك، وإنه لا بد لتمام العوارض جميعًا من التحول المفاجئ من سياق إلى سياق في وجهة الشعور.

يشتغل الموسيقي بتوقيع قطعة من ألحان موسيقى بيتهوفن مثلًا فيعطس أحد الحاضرين عطسة قوية يسمعها الحاضرون خلال التوقيع فيضحكون، ليس في الاستماع إلى الموسيقى شعور مكرب تتخلص منه النفس بالضحك، ولكن الذي حدث أن العطسة غيرت مجرى الشعور أو حبسته عن المضي في طريقه المألوف، فتنقله هذه المفاجأة من أعصاب الحس إلى العضلات، ويحدث الضحك من جراء هذا الانتقال.

ويقف العاشقان على المسرح يتناجيان ويتغاضبان أو يتراضيان، وإذا بجدي يضل طريقه ويذهب إلى العاشقين فيقطع عليهما وعلى النظارة هذه المناجاة، فيحدث من هذه المفاجأة ما أحدثته العطسة القوية أثناء سماع الموسيقى، ويضحك النظارة الذين كانوا يرقبون منظر المناجاة ولم يكن فيه ما يكربهم أو يحبون التخلص منه بالضحك، وإنما يغلبهم الضحك لانتقال الشعور من وجهته المطردة، ولا بد له إذن أن ينتقل من أعصاب الحس إلى العضلات.

يقول سبنسر: ولا يحدث هذا لجميع السامعين إذا كان فيهم من يستغرقه الشعور بالموقف ولا يدع فيه بقية للانتقال منه والالتفات إلى غيره، فإن هؤلاء قد يغفلون عنه أو يغضبون لتنبيههم من الشعور الذي هم مستغرقون فيه.

ويقول سبنسر: إن المؤثرات لها في الإنسان ثلاثة منافذ: منفذ الحس، ومنفذ الفكر، ومنفذ الحركة العضلية، وإنها كلها قابلة للتحول من منفذ إلى منفذ سواء بدأت بالتفكير أو بدأت بالحس أو بدأت بحركة من العضلات.

فالرجل الذي يهرب من الخطر الداهم يجري وتشتغل عضلاته بهذه الحركة، ولكن هذه الحركة العضلية لا تستغرقه ولا تمنعه أن يفكر في الخطر والحيلة التي يحتالها أو العمل الذي يعمله للنجاة منه.

فإذا كان الخوف أهون من الخوف على الحياة فربما انصرف بالحركة وأصبحت الحركة ضربًا من الرياضة التي يتشاغل بها الإنسان عن حالته النفسية.

والطفل يصفق إذا فرح؛ لأن شعوره ينتقل من الأعصاب إلى العضلات، وربما فرك الرجل الكبير كفَّيه في مثل هذه الحالة؛ لأنه تعوَّد هذا الشعور أو تعوَّد أن يتحول عنده إلى الفكر كما يتحول إلى العضلات.

ومما يدل في رأي سبنسر على أن الضحك من حركات رد الفعل أو من الحركات الانعكاسية أنها حركات لغير قصد أو حركات غير مقصودة بإرادة صاحبها، كأنها غمضة العين للوقاية أو رعشة البرد التي لا يريدها المقرور.

ويتبسط سبنسر في وصف تأثير هذه الانفعالات غير الإرادية، فيرى أن تأثير الشعور قد يعطل تفكير الخطيب على الرغم منه وهو واقف أمام الجماهير يحس وجودها ويخشى أن يتلعثم أمامها أو لا ينال موافقتها وإعجابها، ولو أنه وقف ليلقي خطابه أمام الكراسي الخالية لانطلق تفكيره بغير عائق من الحس والشعور، وهاهنا ثلاثة عوامل مشتركة في التأثير على الخطيب: عامل الحس إذ يرى الجماهير، وعامل الشعور إذ يخشى التقصير والخيبة، وعامل الفكر الذي يشغل الحس والشعور جانبًا منه فلا ينطلق مع اشتراكها كما ينطلق على انفراد.

فالسريان بين منافذ الحس والتفكير والحركة طبيعي في المؤثرات النفسية، وكلها تجري في مجراها الطبيعي من الفكرة إلى الحس والحركة، أو من الحس إلى الحركة والفكر، أو من الحركة إلى الأحاسيس والأفكار.

غير أن الحس أو الفكر لا ينتقل إلى العضل إلا في غياب الحس والفكرة التي من قبيله، فإذا كان الألم شديدًا جدًّا يستوعب الشعور كله فهو لا ينتقل إلى العضلات عند المفاجأة؛ لأنه يجد طريقه في اتجاه الشعور بغير عائق يصده عن مجراه.

ويستطيع من شاء أن يحقق ذلك بمنظر يذكره أو يتخيله على وفاق المألوف من تجاربه ومشاهداته: إذا جلس الناس في مأتم وحدثت على مشهدٍ منهم مفاجأة مضحكة فقد يضحك الغرباء عن المأتم، وقد يضحك الصِّغار الحاضرون وإن كانوا من أهل الميت، ولكن الكبار المفجوعين لا يضحكون؛ لأن شعورهم يفيض في مجراه ولا تشغله المفاجأة المضحكة حتى تنتقل من الحس إلى حركة العضلات، وربما أثارهم وأغضبهم أن يروا أمامهم أحدًا يضحك وهم مغلوبون بالأسى والفجيعة.

وملاحظة سبنسر هذه مهمةٌ جدًّا في تصحيح التعريفات الأخرى، ومنها تعريف أفلاطون وأرسطو وغيرهم للضحك؛ إذ يقولون: إنه نتيجة الشعور بالسخف أو التشويه الذي لم يبلغ مبلغ الإيلام والإيذاء.

فالألم مانع للضحك؛ لأنه يشغل الشعور بغير المضحكات، ومتى اشتغل الشعور بشيء آخر لم يشعر الإنسان بالجمال ولا باللذة ولا بالسرور، وليس الأمر هنا خاصًّا بالمضحكات دون المحاسن واللذات والمسرَّات.

إن المفاجأة التي تعوق الإحساس عن مجراه وتحوله إلى العضلات كافية وحدها للضحك ولا حاجة معها إلى استثناء الألم؛ لأن الألم استثناء لكل شعور وليس بالاستثناء للمضحكات دون سواها.

أما إذا كان الإحساس من القوة بحيث لا تعوقه المفاجأة فإنه يجترفها في طريقه ولا يتحول إلى العضلات، ولا يحدث الضحك من ثم على الرغم من جميع المفاجآت.

وإذا قال قائل عن جدول الماء: إنه يجري ما لم يعقه عائق؛ فهو لا يقول لنا شيئًا عن طبيعة الماء دون غيره، فهكذا يحدث لكل متحرك أنه لا يتحرك مع وجود العائق في طريقه، سواء في ذلك حركة الماء وحركة البخار وحركة السهم وحركة القذيفة من أقوى المدافع والراميات.

وكذلك يكون من قبيل تحصيل الحاصل أن يقال: «إن الضحك يحدث ما لم يمنعه الألم»؛ فإن الألم يحجب الشعور بالمضحكات وغير المضحكات، يحجب المتعة بالنكتة كما يحجب المتعة بالجمال والجلال واللذة وبدائع الفنون على الإجمال.

ويؤكد هذا ما لاحظناه آنفًا على تعريف أرسطو الذي يشترط في الدَّمامة المضحكة ألَّا تبلغ حد الإيلام؛ فإن الإنسان البليد لا يتألم ولا يفطن للضحك في وقت واحد، وإذا جمعنا اثنين أحدهما مرهف الإحساس والذهن والآخر ثقيل الإحساس والذهن فلا يلزم أن يكون هذا أكثر فطنة للضحك من ذاك لأنه بطيء الألم، بل يبطئ شعوره بالألم وشعوره بالضحك في وقت واحد، ويغفل عن التشويه كله بجميع درجاته فلا يلمحه ولا يحسه في درجة من الدرجات.

ومن ثم ننتهي بعد ما تقدم إلى الثقة من شرط واحد في المضحكات وهو شرط المفاجأة التي تتحول بالشعور عن مجراه، فإذا كان الشعور جاريًا في مجراه — كشعور الحزن العميق — فالمفاجأة لا تدفعه إلى الضحك، وإذا كان في المجلس نفسه أحد لا يبلغ منه الحزن ذلك المبلغ من العمق والاستغراق فإنه يضحك من المفاجأة؛ لأنها تستطيع أن تتحول بالمنظر أو المسمع من حس الأعصاب إلى حركة العضلات.

رأي برجسون

والرأي الثاني بين الآراء النموذجية هو رأي هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي صاحب مذهب دفعة الحياة.

ورأيه في الضحك أنه في وقت واحد تطور منطقي وحاسة اجتماعية.

فنحن نضحك إذا رأينا إنسانًا يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياسًا آليًّا لا محل فيه للتمييز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العُرف المتبع في المجلس، أو في المحفل، أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها.

والضحك عند برجسون إنساني بمعانى الكلمة جميعًا؛ فلا يشاهد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا الضحك في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان.

فنحن لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائنًا ما كان إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهًا بإنسان نعرفه، أو منسوبًا إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها فلا يكون الضحك من القبعة، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف أن يكون عملًا إنسانيًّا بغير معنى، أو يكون المعنى فيه مطَّردًا على طريقة آلية كأنه من أعمال الأدوات المجردة من التفكير.

ومن شروط الأمر المضحك عنده أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف في الجماعة؛ فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه، وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامَرَنا الشك في عقله ما لم يكن له عذر نعلمه، فلا يزال الضحك على انفراد محتاجًا إلى اعتذار وتوضيح.

لهذا يقرر برجسون أن الضحك مرتبط بالتصرف المنطقي وبالحاسة الاجتماعية في وقت واحد؛ فهو وسيلة من وسائل المجتمع لحمل أبنائه على التصرف فيه تصرف الراشدين الذين يفقهون معنى ما يصنعون.

ويفسر الفيلسوف أنواعًا كثيرة من الضحك على ضوء هذه الشروط، فيقول مثلًا: إن مرونة الحركة تهم الأطفال كثيرًا، فهم يضحكون من كل حركة تصطدم بغير وعي ويفقد فيها المرء قدرته على المرونة، ويقول: إن كل خلل في الحركة يضحكنا إذا قارنَّا بين الخلل الواقع، وبين اللباقة التي يستدعيها تمام الخلقة والتكوين والتصرف المعهود. وكثيرًا ما يضحكنا شرود الذهن؛ لأن الإنسان الذاهل ينسى عقله وحاسته الاجتماعية ويتكلم أو يعمل على غير ما تقتضيه الحالة التي هو فيها.

ويومئ الفيلسوف إلى مناظر المحاكاة فيقول: إن المحاكاة تضحكنا لأنها عمل يشبه عمل الآلات، وتضحكنا لأنها تلفت النظر إلى الغفلة أو التناقض في الإنسان المحكي لأنه شبيه بالآلات، وإذا رأينا وجهين يتشابهان تشابهًا تامًّا ضحكنا؛ لأننا نتصور أنهما مصنوعان في قالب واحد كما تصنع الوجوه التمثيلية.

ويضحكنا أن يتحكم الجسد في العقل والإرادة تحكمًا غير مناسب للموقف الحاضر، فنضحك من الخطيب الذي تغلبه الحماسة والعطاس في وقت واحد، ويضحكنا أن نرى أمامنا أحدًا يطبق على الأحياء أحكام الآلات، وهذا هو سر ضحكنا من الطبيب الذي يقول للمريض: إن موته باطل. لأنه لم يجر على وفاق الأصول المتبعة.

ويضحكنا الرجل الذي تتكرر في كلامه لازمة محفوظة نتوقعها فنضحك حين نسمعها.

وهذا المثل من أمثلة برجسون جدير بالانتباه إليه؛ لأنه يرجح رأيه على آراء القائلين بشرط المفاجأة في الضحك.

فالرجل الذي يكرر لازمة واحدة يضحكنا حين نسمع ما ننتظره منه، فلا يقال إذن إنَّه يضحكنا بالمفاجأة، بل يصح فيه رأي برجسون وهو الرأي الذي خلاصته أن المضحك من أعمال الإنسان هو الذي ينساق فيه انسياق الآلات.

•••

ونحن نستدرك ما يستدرك من هذه الآراء في أثناء تلخيصه، وقبل الانتقال إلى التعقيب الأخير عليه؛ لأننا نحب أن ننتهي إلى النتيجة خالصة من الاعتراض والاستدراك خالية من اللبس ودواعي الإطالة في المناقشة والتمحيص.

والمثل الذي يجب الانتباه إليه من أمثلة برجسون يرجح رأيه على رأي القائلين بالمفاجأة لأول وهلة، ولكنه لا يلبث أن يعود بنا إلى القول بالمفاجأة من جانب آخر.

فمشابهة الآلات هي في ذاتها مفاجأة مستغربة من الآدميين العقلاء؛ ولهذا يتفق القولان ولا يتناقضان. ويجوز أن يُقال إن المفاجأة ومشابهة الآلة شيء واحد، وإن مشابهة الآلة باب من أبواب المفاجأة لا يستوعبها ولا يمنع الضحك من غيرها.

وأما الضحك من تكرار اللازمة التي ننتظرها فهو لا يدل قطعًا على نفي المفاجأة أو على الضحك من الشيء لأنه منتظر … بل هو نوع من استعادة الضحك السابق كما نبتسم عندما يمر بخاطرنا تمثيل دور مضحك شهدناه من قبل ونود أن نعيده ونتملاه من جديد.

وهذا المثل — بالذات — أصلح الأمثلة لتوضيح الحقيقة في هذا الخلاف.

فاللازمة المتكررة لا بد أن تتكرر حتى تصبح لازمة ملحوظة، وحين نبدأ بالاستماع إليها لا نلاحظ أنها لازمة تعاد في مناسبة وفي غير مناسبة إلا إذا سمعنا صاحبها يتكلم في مسائل شتى ويعيد لازمته على اختلاف هذه المسائل وتناقضها، ومتى ثبت لدينا أنها لازمة وانتظرناها فإنما نحن نستعيد ضحكًا سابقًا ولا ننشئ الضحك لأول مرة، ويصدق على هذا النوع من الضحك أنه من قبيل استعادة المناظر التي سبق لنا أن ضحكنا منها وأحببنا أن نتملاها ونرجع إليها حينًا بعد حين.

•••

ونستطرد بعد هذا في سرد الأمثلة المتعددة التي ينطبق عليها رأي برجسون، ومنها غير ما تقدم مثل الشاطر الذي يُغلَب بالشطارة، أو مثل الفخ الذي يقع فيه واضعه، فإن هذا الشاطر — على شطارته — يتصرف كالآلة حين ينعكس عليه عمله وهو أحق من سواه بالاحتراس منه.

وهذا المثل — كالمثل السابق — يمكن تفسيره برأي برجسون ورأي القائلين بالمفاجأة معًا؛ لأننا نتوقع من الشاطر أن يغلب غيره بالحيلة ونشعر بالمفاجأة حين يقع غير المتوقع وهو انخداعه بما يخدع به الناس.

ويعلل برجسون ضحك الكثيرين من النكتة الجناسية بأنها تحول الذهن من المعنويات إلى الحسيات؛ لأن الكلمتين المتجانستين تتشابهان في اللفظ وتختلطان في المعنى، فيتصور السامع الحركات الجسدية وهو يفكر في المعاني الأخلاقية أو الذهنية، وهذا الضحك يشابه الضحك من الخطيب الذي تأخذه الحماسة لفكرة من الأفكار ثم يغلبه العطاس؛ فإنه في هذا الموقف مغلوب لضرورات جسده الآلية ويتصرف على الرغم منه كما تتصرف الآلات.

وعلى هذا النحو مواجهة الذهن بكلمتين متجانستين إحداهما مادية والأخرى معنوية، وتلحق بالجناس كلمات الكناية والاستعارة والمجاز وسائر الكلمات التي تواجه الذهن بصورتين إحداهما لائقة بالإنسانية والأخرى غير لائقة، كأن يقال عن أحد: إنه من أهل اليسار، أو إنه فنان، أو إنه جبل، أو إنه طويل الباع.

والحاسة الاجتماعية عند برجسون أعم من جميع الأسباب؛ فالضحك إذن مَلَكة اجتماعية يراد بها تصحيح الخطأ في معاملة الجماعة، وهو يتناول الأخطاء التي لا تبلغ حد الإجرام؛ لأن المجتمع يعالج هذه بالجزاء القانوني أو بالانتقام، ويتناول الأخطاء التي يَنْبو عنها الذوق كل النبو مع سوء النية؛ لأن المجتمع يداوي هذه بالنفور والاشمئزاز، وإنما يكتفي بالضحك من الأخطاء التي يسهو فيها الإنسان عن التقاليد الاجتماعية على غير قصد وبغير نيةٍ سيئة، فهذه الأخطاء يكفي في التحذير منها أن يتعرض صاحبها للضحك وأن يكون هذا الضحك عقوبة على قدر الإساءة العارضة، فيحسب في هذه الحالة كأنه قانون خفيف، حيث لا حاجة لتطبيق القانون الذي يحمي المجتمع من الجرائم والأضرار الجسام.

بل يكاد يكون الضحك عقابًا اجتماعيًّا خفيفًا لمن يدينون بالأحكام الحرفية ويطبقون القواعد في دقة وصرامة توحي إلى الذهن أن الذي يطبقها آلة لا تفكر ولا تحس بما تصنعه ولا تفرق بين جزاء وجزاء وتقدير وتقدير.

ففي هذه الحالة يكون الضحك تصحيحًا للأحكام المبالغ في «دقتها الحرفية»؛ لأنها صفة آلية لا تليق بالقياس المنطقي والتقدير السليم.

وزبدة الأمثلة جميعًا في رأي برجسون تلخص أسباب الضحك في حماية المنطق الإنساني وحماية الحاسة الاجتماعية على الخصوص، فكلما هبط الإنسان من مرتبة التصرف المنطقي الذي يناسب علاقاته الاجتماعية كان ذلك مثيرًا للضحك منه لتنبيهه إلى تقصيره، على شريطة الوقوف بهذه الأخطاء عند حد لا يبلغ الإجرام ولا يدخله سوء النية، بل يخلو من كل قصد يقصده الكائن العاقل المتصرف، فيرتد إلى الحركة الآلية التي تتجرد من المقصد في جميع الحركات.

رأي فرويد

بقي من الآراء النموذجية رأي سيجموند فرويد Freud الطبيب النفساني صاحب المذهب المشهور الذي شاع وشاعت مصطلحاته على الألسنة حتى أصبح حديث الوعي الباطن والعقد النفسية ومركب النقص وما إليها من أحاديث الخاصة والعامة، وكاد هذا المذهب أن يستأثر بتفسير خفايا النفس البشرية في مسائل الأخلاق والعادات والبواعث الفردية والاجتماعية.

وقد أفرد الطبيب النفساني رسالة مسهبة للكلام على النكتة ومدلولاتها الاجتماعية والفنية ومواطن الشبه بينها وبين الأحلام والرؤى في الوظيفة التي تؤديها للفرد والجماعة.

وزبدة رأي فرويد أن النكتة ضرب من القصد الشعوري والعملي يلجأ إليه الإنسان في المجتمع ليعفي نفسه من أعباء الواجبات الثقيلة ويتحلل من الحرج الذي يوقعه فيه الجد ولوازم العمل، وأن النكتة تشبه الحلم في أساليبه وهي التورية والتأويل والاختزال والمسخ والتلفيق؛ أي جمع الصورة الواحدة من أجزاء صور متفرقة لا تجتمع في الواقع.

والناس يقولون عن الرجل: «إنه يمزح»، أو يقولون عنه: «إنه يحلم» على السواء حين يريدون إعفاءه من المؤاخذة ولا يريدون الجد معه في المحاسبة والتحقيق، وكأنما يحتال المرء بالفكاهة على بلوغ أمر لا يبلغه بالحجة والدليل، وكذلك يحتال في أحلامه على تحقيق الأماني التي تفوته في اليقظة وتشغل باله على غير جدوى، فهو يستعين بالنكتة أو بالحلم على صعوبة واحدة وهي تيسير الواقع والإعفاء من الكلفة والمشقة.

وقد أورد في رسالته أمثلة كثيرة سنشير إلى بعضها، ونكتفي هنا بنادرة واحدة من النوادر الفكاهية التي تساوي الأحلام في رفع الكلفة والسماح لقائلها أو سامعها بما هو محظور عليه إذا جدَّ في القول وعبَّر عن غرضه بالكلام الصريح:

رجلان من أصحاب الملايين صنعا صورة لهما عند رسام مشهور، وعُرضت الصورتان في معرض عام وبينهما فجوة تتسع لصورة ثالثة، فقال أحد الناظرين وهو يتأمل الصورتين وينظر إلى الفجوة التي بينهما: هاهنا مُتَّسع لصورة السيد المسيح.

وسمع الواقفون كلمته وعلموا أنه يقول عن صاحبي الملايين إنهما لصان؛ لأن القصة المسيحية تقول إن السيد المسيح وُضع على الصليب بين لصَّين، وعلموا أيضًا أنه يعني أنهما يستحقان الصلب كما استحقه أولئك اللصان، ولكنهم ضحكوا. وسمع صاحبا الصورة ما قيل فلم يجدا سبيلًا إلى مؤاخذته أو رفع أمره إلى القضاء، ولعلهما لو فعلا لاتهمهما الناس بالجلافة وجرَّا على نفسيهما من السخرية ما كانا في غنًى عنه.

ويريد فرويد منا في هذه النادرة وأشباهها أن نتخيل قائل النكتة وهو يحلم ويعزي نفسه عن الحرمان من الثراء، فإنه سيخلق في منامه قصة يتمثل فيها صاحبي الملايين مشهرين بين الناس بالسرقة أو مسوقين إلى ساحة القضاء أو مغلقين وراء جدران السجون، فيعمل الحلم عمل النكتة في ترضية الرجل بأسلوبين مختلفين يصدران عن باعث واحد لغاية واحدة.

ويسرد فرويد أنماطًا من النكتة تشترك بين الجناس والمغالطة ورد الحيلة بحيلة من قبيلها والتفاهم على الكذب والأجوبة المسكتة وكشف السر على غير قصد وغيرها من المضحكات مما ينطبق عليه تعليله بسهولة، أو ينطبق في صعوبة وتعسف.

وهذه أنماط منها ننقلها بغير ترتيب، ونبدأ منها بنادرة تشبه النوادر التي تُروى عن «قره قوش» وتصلح للدلالة على وحدة المنطق الفكاهي بين الناس على تباعد الأقطار والأجناس.

يروى في بعض قرى المجر أن حدَّادًا اقترف جريمة يعاقب عليها بالموت، فحار قاضي القرية في أمره؛ لأنه الحداد الوحيد في القرية ولا تستغني عنه بغيره إذا نفذ فيه الحكم، ثم اهتدى بعد التفكير إلى حل المشكلة بإعدام الطرزي بدلًا منه لأن القرية فيها طرزيان!

ومن الأقوال المضحكة التي استشهد بها فرويد قول الشاعر هايني في امرأة يعيبها في قالب الثناء فيقول إنها تشبه تمثال الزهرة «فينوس»؛ لأنها مثلها عتيقة جدًّا، ومثلها بغير أسنان، ومثلها في البقع البيضاء على بشرتها الصفراء.

وشبيه بهذا الثناء المعكوس قول القائل عن رجل يهجوه إنه يشبه جميع العظماء، فهو كالإسكندر ينحرف رأسه إلى جانبه، وكيوليوس قيصر يكمن شيء في شعره على الدوام، وهو يفرط في شرب القهوة إفراط ليبنتز، وينسى الأكل والشراب إذا جلس على المائدة كأنه إسحاق نيوتن، ويحتاج كما يحتاج إسحاق نيوتن إلى من يوقظه، وهو يلبس الشعر المستعار كالدكتور جونسون، ويترك سراويله مفتوحة كمؤلف دون كيشوت.

ومن نوادر فرويد عن اليهود — وهو يهودي — أن يهوديًّا رأى على لحية زميله بقايا طعام فقال له: «إنني أستطيع أن أذكر لك الصنف الذي أكلته بالأمس»، قال زميله: «حسن، قل ودعنا نسمع»، فقال له صاحبه المتعالم: «إنك أكلت فولًا»، فسخر منه آكل الفول وقال: «كلا، إنك غلطان يا هذا، فإنني أكلته أول من أمس!»

وتلاقى يهوديان في القطار فسأل أحدهما الآخر: «إلى أين تذهب؟» فأجابه الآخر: «إلى كراكاو»، فغضب السائل وعاد يقول: «لماذا تكذب عليَّ؟! إنك تعلم أنك إذا قلت لي إنك ذاهب إلى كراكاو فهمت أنا أنك ذاهب إلى لمبرج، ولكني أعلم في هذه المرة أنك ذاهب حقًّا إلى كراكاو … فلماذا هذا الكذب؟»

ويذكر فرويد من فن النكتة أسلوبًا يعتمد على اللعب بلفظة واحدة تجعل من هدفها أضحوكة سهلة، ومن قبيل هذه النكات قول مزَّاح مشهور: «إن فلانًا له مستقبل عظيم وراءه!» وقوله عن وزير زراعة أخفق في عمله فعاد إلى حقله: «إنه عاد إلى مكانه أمام المحراث!»

ويذكر أسلوبًا يعتمد على اللعب بصفة واحدة تختلف مراميها، كما قيل عن فتاة كانت على اتصال بجميع رجال الجيش: «إنها تذكرنا بدريفوس؛ لأن الجيش لا يصدق ببراءتها.»

ويذكر المغالطة في الجواب، ومن قبيلها أن رجلًا قصد إلى أحد المحسنين وأفهمه أنه في عسرة شديدة وأنه يحتاج إلى قرض يسير للنجاة من كارثة محققة. وبعد إعطائه القرض بساعة رآه المحسن اتفاقًا في مطعم من مطاعم الطبقة العليا وأمامه صَحْفة من السمك الفاخر فقال له مؤنِّبًا: «أهكذا تنفق المال الذي تستعيره للضرورات لتأكل به الصحاف الفاخرة؟» فأجابه المحتال وكأنه دهش من سؤاله: «عجبًا لك يا سيدي! متى تظنني آكلها إن كنت لا آكلها مفلسًا، ولا آكلها وفي يدي ثمنها؟»

وعلى هذا النمط قصة مدرس في إحدى القرى مولع بالشراب لم يزل يدمن السكر حتى اعتزلته جميع الأسر ونفر منه تلاميذه، فنصح له صديق قائلًا: «إنك تستطيع أن تجمع عندك تلاميذ القرية جميعًا لو تركت الشراب، فلماذا لا تحاول وتجرب؟» فأجابه المدرس السِّكِّير: «على رسلك يا هذا، إنما أعطي الدروس لأجد الشراب، فهل تراني أترك الشراب لأعطي الدروس؟»

وقريب من هذا اللعب بالمقابلة قول القائل في تفاهة الحياة: «إنها نصفان نقضي نصفها الأول متطلعين إلى الثاني، ونقضي نصفها الثاني متأسفين على الأول!»

وسمع فولتير قصيدة روسو الشاعر الفرنسي الذي كتبها يوجِّه فيها الخطاب إلى الأجيال المقبلة، فعقَّب عليها قائلًا: «هذا خطاب لا يصل إلى المرسل إليه.»

وللأجوبة المسكتة نصيب وافر من أساليب الضحك عند فرويد، وهذه أمثلة منها:

كان القيصر أغسطس يسيح في أرجاء ملكه فلمح شخصًا يشبهه كل الشبه، فسأله: أكانت أمك تعمل في بيتنا؟

فأجابه الشبيه الجريء: كلا، بل كان أبي!

وكان بعض الوعاظ الأمريكيين ينادي بحقوق السود في بلد ليس فيه كثير من السود، فقال له رئيسه: لمَ لا تذهب إلى كنتكي حيث يقيم أصحابك؟ فسأله الواعظ المسئول: ألست يا مولاي تعمل لإنقاذ الأرواح من النار، فلماذا لا تذهب إلى جهنم؟!

ويتخلل الأمثلة كلها نوادر متفرقة تعتمد على الجناس اللفظي الذي لا ينقل من لغة إلى لغة ولا حاجة إلى نقله لكثرة هذه الفكاهات الجناسية في اللغات جميعًا ولا سيما العربية، ثم يختم الرسالة بتلخيص لتقسيم المضحكات إلى ثلاثة أقسام: النكتة Wit، والهزل Comic، والدعابة humour.

وكلها مما يفسر عنده بالقصد في القوى النفسية، ولكن النكتة قصد في العاطفة التي يكلفنا كبتها الكثير من مجهود النفس، والهزل قصد في الفكر والمنطق، وأما الدعابة فهي قصد في الإحساس، وإننا نتطلب هذه الأفانين جميعًا بعد سن الطفولة التي لا تعرف المفارقات المضحكة ولا تقدر على تفكير النكتة ولا تحتاج إلى الدعابة لتشعر بالسعادة.

وإلى هنا يبدو لنا أن الأمثلة التي استشهد بها رائد المدرسة النفسية الحديثة لا ينطبق عليها تفسيره في جميع الأحوال، وأن القصد في الشعور أو التفكير قد يتحقق بالنكتة أحيانًا ولكنه لا ينشئها ولا هي متوقفة عليه.

ولنرجع إلى نادرته عن اليهودي الذي قابل زميله في القطار وسأله عن وجهته فصرح له بذهابه إلى كراكاو وعتب عليه زميله لهذا الكذب؛ لأنه كان سيذهب فعلًا إلى كراكاو ولم تجر العادة بذكر الوجهة الحقيقية في إجابة أمثال هذا السؤال.

فلا قصد في هذه النادرة ولا ادخار، وليس فيها موضع لزيادة في المقال أو الاتهام، ولكنها تضحك السامع؛ لأنها تفاجئه بغرابة اللوم لهذه المناسبة، فإن السامع يسمع اللوم على الكذب فلا يخطر بباله أن الكذب في عرف المتحدثين هو الجهر بالصدق الصراح، ثم يفاجأ بسبب اللوم فتكون المفاجأة عماد الفكاهة هنا كما كانت عماد الفكاهة في جميع النوادر التي استشهد بها فرويد من المغالطات أو التحريفات أو الأجوبة المسكتة، وليس في الجواب المسكت قصد في الشعور أو القول، ولكنه مثل واضح للمفاجأة على الخصوص حين يكون السائل على ثقة من إحراج المسئول فلا يلبث أن يأتيه الجواب السريع فيرتد الحرج إليه.

ويجوز لنا بعد هذه التعليقات الموجزة أن نفهم أن رأي برجسون ورأي فرويد لا يناقضان تفسير الضحك من الوجهة الجسدية كما أجمله داروين في كتاب «التعبيرات»، وفصَّله سبنسر في مقاله عن الضحك من الوجهة الفزيولوجية، وأنهما لا يغنيان عن ذلك التفسير في النهاية، سواء كان سبب الضحك فكرة أو مشاهدة حسية؛ لأن نتيجته هي أن يتأثر الجسد به على النحو الذي ذهب إليه سبنسر وداروين من قبل.

مفاجأة تحبس الفكر أو الشعور عن مجراه فيتحول عنه إلى العضلات، ويبدأ الأثر في أسهل هذه العضلات حركة، ثم يسري إلى غيرها من عضلات الجسم كله إذا اشتد الباعث على الضحك.

ولا تناقض بين هذا وبين قول برجسون: إننا نضحك من الإنسان إذا تصرف في حركاته وأقواله تصرف الآلة الصماء. فإن هذا التصرف يفاجئنا بشيء لم ننتظره من إنسان عاقل تجري أعماله على حكم المنطق الفطري الذي طبع عليه الإنسان المسمى بالحيوان الناطق أو الحيوان المنطقي بعبارة أخرى، فنحن ننتظر عملًا منطقيًّا فنرى أمامنا عملًا آليًّا على غير انتظار أو على خلاف المنتظر، وهذه هي المفاجأة التي ترجع بنا إلى تفسير داروين وسبنسر، وقد ضحك الإنسان من النقائض المفاجئة قبل شيوع الآلات وخلق له جهاز الضحك قبل احتقاره التشبه بالآلة.

وقول برجسون: «إن الضحك تنبيه اجتماعي لمن يذهلون عن آداب البيئة.» لا ينقض هذا السبب؛ لأنه فائدة من فوائد الضحك لا تفسر أسبابه ولكنها تدل على غاية من غاياته، والفرق ظاهر بين الأسباب والغايات.

ويرجع بنا رأي فرويد إلى المفاجأة كما يرجع بنا رأي برجسون إليها، فإن استخدام الضحك أحيانًا في «الاقتصاد الشعوري» هو أيضًا من قبيل الفوائد التي نستفيدها منه، وليست الفوائد كما تقدم مُبطلةً للأسباب.

وليس في النوادر التي تمثل بها فرويد نادرة واحدة تخلو من المفاجأة وتغنينا عن تفسير سبنسر أو تفسير داروين، فالجواب المسكت مفاجأة، والحيلة التي ترتد على صاحبها مفاجأة، والتخلص السريع بالمغالطة التي تخالف المنطق المألوف مفاجأة، وتكذيب الجواب الصادق لأن الصدق غير مألوف من صاحبه مفاجأة، وسائر النوادر التي نقلناها أو لم ننقلها ترجع بنا إلى عِلَّة المفاجأة من أقرب طريق.

وقد فرق الباحثون في الضحك بين كثير من المضحكات لاختلاف أسمائها كما تختلف كلمات السخرية أو الاستهزاء أو الدعابة أو الفكاهة.

فإذا استرسل الناظر في تتبع هذه الفروق وجد في النهاية أنها تئول إلى فروق بين أنواع الضاحكين وليست فروقًا بين أنواع الضحك في أصوله، فالضحك كله مفاجأة تتحول بالفكرة أو الشعور عن مجراه.

ولكن السخرية التي تؤلم الناس أو تكشف عيوبهم ومثالبهم هي ضحك الشرير الخبيث.

والاستهزاء الذي يتعالى صاحبه على الناس هو ضحك المتكبر الذي غلظت نفسه فلا يبادلهم الشعور، أو هو ضحك العابث الذي يستخف بكل شيء ويجدُّ الناس وهو ناظر إلى جدهم بغير اكتراث.

والدعابة التي يشترك فيها الضاحك والمضحوك منه هي ضحك القلب الطيب الذي يسر نفسه ويسر غيره بما يكشفه من هفواتهم أو يعرضه من نقائضهم، فلا يحسون أنه يُفردهم بتلك النقائض أو يأخذ تلك الهفوات مأخذ الشماتة والخيلاء.

والفكاهة التي تمثل لنا المضحكات هي ضحك الفنان أو الناقد الذي يصور لنا دواعي الضحك ويبدع في تصويرها وتمثيلها، فهو مضحك وليس بأضحوكة، أو هو واضع الضحك وليس بموضوع للضاحكين.

وهذه كلها فوراق بين الضاحكين وليست فوارق بين أنواع الضحك في الصميم.

ومن الشائع جدًّا أن يقترن بالضحك شعور الغبطة بتفوقنا على الآخرين، ولكن لا يندر أن نضحك من أنفسنا إذا فوجئنا بالهزيمة التي لا نتوقعها في موقف نظن فيه أننا نُحْكِم الشِّباك لغيرنا فإذا هو قد أفلت من تلك الشباك وأوقعنا فيها.

ومن هذه الهزيمة المفاجئة ضحك الساسة والأمراء حين بلغهم إفلات نابليون من جزيرة ألبا وعودته إلى فرنسا، وهم يحسبون أنهم وضعوه في القفص وجلسوا بعده يقررون مصير القارة الأوروبية من بعده.

ولو أنهم فوجئوا بنابليون يحاصرهم في مؤتمرهم ويهددهم لساعته في أرواحهم أو عروشهم لما ضحكوا كما ضحكوا وهم آمنون في تلك الساعة.

إلا أن هذا لا ينفي أن المفاجأة مضحكة، وأن السامع البعيد يضحك منها وإن لم يضحك منها الساسة والأمراء المحاصرون لاشتغال شعورهم بالخطر القريب؛ ولهذا يبقى عنصر المفاجأة قائمًا في تفسير أسباب الضحك. ويختلف الأمر بحسب الضاحكين في الشعور بالخطر ساعة المفاجأة، فمن كان قريبًا شغله الخوف عن الضحك، ومن كان بعيدًا لم يشغله عنه خوف عاجل يغطي على شعوره في تلك الساعة.

ويتساوى في هذا الشعور بالضحك والشعور بالجمال والشعور باللذة، فلو كان المعروض على مؤتمر الساسة فتنة من فتن الزهرة ربة الجمال وحاصرهم العدو المهدد لحياتهم؛ لشغلهم الخطر عن الشعور بذلك الجمال الفَتَّان، ولو كانت مائدة طعام جمعت ما لَذَّ وطاب بين أيديهم ثم حوصروا ذلك الحصار لشغلهم الخطر كذلك عن طلب الطعام اللذيذ وعن طلب القوت.

فلا يلزم إذن أن نقول إن الشيء المضحك هو الشيء المشوه الذي لم يبلغ درجة الإيلام؛ لأن بلوغ درجة الإيلام يعطل كل شعور ولا يعطل الشعور بالمضحكات دون سواها.

وصحيح — بعد هذا — أن نجمل التفسيرات جميعًا فنقول إن الضحك ينجم عن مفاجأة تتحول بالفكر وبالشعور عن مجراه، وإن الاختلاف بين السخرية والاستهزاء والدعابة والفكاهة لا يلجئنا إلى البحث عن اختلاف في أنواع الضحك؛ لأنه هو في لبابه اختلاف بين الضاحكين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤