الفصل الثامن

موازين غير محكمة

هذه النوادر الستون التي تقدمت في الفصل السابق تصور لنا أقسام النوادر التي تنسب إلى جحا، وقد تنسب إلى غيره، ومنها ما ينبئ عن حكمة ظاهرة، وما ينبئ عن بلاهة ظاهرة، وما ينبئ عن بلاهة مستترة بين الحكمة والبلاهة.

وتندر بينها النادرة التي لم تنسب إلى مصادر متعددة من الحكماء والحمقى والمحمقين، وبعضها يروى عن أناس في الغرب الحديث كالنادرة التي تروى عن الشجار بين المرأتين، فإن الأولى تروى عن نابليون وطبيبه، والثانية تروى عن سن الولادة في الرجل، والنادرة التي تُروى عن جولد سميث الكاتب الإنجليزي المشهور الذي قيل فيه إنه أحمق الناس إلا حين يتناول القلم، فهو إذن من أحكم الناس.

قيل إن نابليون سأل طبيبه حين كان مشغولًا بأمر ولاية العهد: «هل يولد للرجل في الستين؟ وهل يولد له في السبعين، وهل يولد له في الثمانين؟» فكان جواب الطبيب عن ابن الستين نعم، وعن ابن السبعين نعم في الندرة، وعن ابن الثمانين أنه يولد له إذا كان له جار في العشرين.

وقيل إن امرأة جولد سميث وأخته تشاجرتا وهو غائب عن المنزل، فأدركه أحد جيرانه وأنبأه بأمر هذه المشاجرة، فسأله: هل قالت إحداهما للأخرى أنت شوهاء. قال الجار: كلا. قال: إذن هي مشاجرة مأمونة.

وقد سبقت الإشارة إلى نوادر متشابهة بين الفكاهة المصرية والفكاهة في المجر وأوروبا الوسطى، ولا يصعب تعليل ذلك بتوارد الخواطر في الجواب البسيط على سؤال واحد أو سؤالين، وقد يعلل الكثير منه باطلاع الغربيين على النوادر التي ترجمت لهم في العربية في القرون الوسطى، وقد يكون المتشابه من تلك النوادر إضافة جديدة في الكتب المطبوعة لم تتداولها ألسنة الناس قبل ذلك.

إلا أن النوادر التي لا شك في مصدرها الشرقي كثيرة بين النوادر المنسوبة إلى جحا وأمثاله، وهي على الجملة نوادر الزوجتين والقضاة الدينيين والضيافات التقليدية ونوادر الصيام والصلاة والفتاوى وما هو من قبيلها.

فهذه لا شك في مصدرها الشرقي من تخوم الصين إلى آسيا الصغرى ووادي النيل، فأين هو معيار النسبة الصحيحة بين كل هؤلاء الأقوام والأمصار والأقطار؟

في النسبة التاريخية بعض المعايير النافعة على غير حسم ويقين؛ لأن النادرة قد تقع في القرن الثاني أو الثالث وتصحف بعد ذلك لتوائم القرن الذي نقلت إليه، وما لم تكن مكتوبة في مرجع معروف التاريخ فلا سبيل إلى الجزم بنسبتها إلى زمن من الأزمنة على وجه اليقين.

والمعيار الآخر «تقريبي» كالمعيار التاريخي لا ينتهي بنا إلى الحسم ولا يسلم من اللبس والاشتباه، وذلك معيار الخصائص القومية التي نميزها بالظن ونقارب بالظن بينها وبين النوادر التي توائمها ولا توائم غيرها.

وقد أسلفنا أن طبيعة الفرس تغلب عليها الصوفية والمحاولة الدبلوماسية، وأن طبيعة الترك يغلب عليها تحصيل الحاصل مبالغة في الواقع، وأن طبيعة العرب يغلب عليها الخيال والقياس المنطقي، وتبالغ بها الفكاهة فتجنح بها إلى الوهم والقياس مع الفارق الواحد أو الفوارق الكثيرة.

أفلا يعقل أن العبقرية التي أخرجت لنا القول بتسخير الجسم والأعضاء لحالات الروح تخرج لنا مع الفكاهة — والمحاولة الدبلوماسية — قصة الإوزة التي يخلق لها الخوف رجلين، والرجل الذي يخلق له الخوف أربعًا إذا عدا وراءه من يشد عليه بالعصا؟

جائز أو راجح، وهذا غاية ما هناك، ومثلها نادرة الولد العاق الذي مسخته دعوة أمه حمارًا ثم عاد إلى الآدمية ببركة الشيخ.

وكذلك يعقل أن تحصيل الحاصل يخرج لنا في بلاد الترك قصة المرأة التي يقال لزوجها إنها تدور في البيوت، فيأخذ بالواقع — المفرط — ويقول: لو صح ذلك لدخلت إلى بيتنا.

•••

ومثل هذه القصة قصة الرجل الذي يصطنع التعمية ويعلن أنه يعطي أكبر «خوخة» في المنديل لمن يخبره بما فيه، ومثلها قصة الرجل الذي يضربونه لأنه يأكل الحلوى فيحمدهم لأنهم يكرهونه على الأكل بالسوط والعصا.

كذلك يعقل أن القياس مع الفارق يخرج لنا نادرة الرجل الذي باع نصف الدار ليشتري النصف الآخر وتخلص له الدار بنصفيها، فما كل شراء يجمع للشاري بين النصفين ولكنه قياس مع الفارق لشراء على شراء، والحماقة التي أدخلت في روع صاحبها أن السحابة علامة صالحة للحفرة التي تحفر تحتها؛ هي بعينها التي ترى على الرمح روثة فلا تفهم منها إلا أن الدابة صعدت على الرمح، لا يبقى عليها إلا البحث في طريق الصعود.

هذه معايير تقريبية لا نأخذ بها ولا نهملها؛ لأن إهمالها إهمال لدراسة واسعة من دراسات العصر قابلة للمزيد من التوسع والأحكام.

وقد تعمدنا أن نختار بين النوادر السابقة طائفة من أشهر النوادر بين العامة والخاصة في البلاد العربية؛ لأنها اشتهرت حتى أصبحت عَلَمًا على جحا دون غيره من جمهرة الناس التي تتناقل النوادر والأحاجي من فم إلى فم ولا ترجع إلى الكتب والأوراق، فليس من الجائز أن تسقطها من كتاب يدور فيه الكلام على جحا وما ينسب إليه من النوادر والحماقات، ومعظم نوادر جحا من قبيل هذه النوادر الساذجة في تأليفها وموضع الحكمة فيها، ولعلها ثلاثة أرباع المجموعة التي بلغت قرابة ستمائة، وعتها الطبعة التركية كلها إلا القليل الذي تناثر من صدر الإسلام إلى أيام الدولة العباسية بين كتب الأدب والفكاهة، وفيها من الأسلوب الأدبي والذوق الفني ما ليس في معظم النوادر الشائعة، فإن هذه النوادر الشائعة أقرب إلى النفاية التي تتناقلها العجائز لتسلية الأطفال ومن هم في مثل مداركهم من السذج والجهلاء، وموضعها بين المحفوظات الشفوية التي يسميها الغربيون بالفولكلور أوقع من موضعها بين كتب الأدب والفكاهة الفنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤