الهروب إلى فنلندا!

أحكمت «إلهام» غلق معطفها الثقيل، وهي تغادر إلى مدينة «ليننجراد» مع زميلاتها الثلاث، كُنَّ يحملن حقائب ملابس صغيرة، وجوازات سفرهن تُشير إلى أنهن مراسلات صحفيات لبعض المجلات العربية، في إجازة قصيرة ﻟ «روسيا».

أشارت «زبيدة» إلى أقرب تاكسي، كان الجو باردًا في بداية فصل الشتاء، فاستقل الأربع فتيات سيارة أجرة … وقالت «إلهام» للسائق بالإنجليزية: خذنا إلى أقرب فندق للمطار. فترامقت الباقيات معها.

وقال السائق في فضول: هل أنتن من «أمريكا الجنوبية»؟

سألته «زبيدة» في حدَّة: ولماذا؟

– إن ملامحكن تدل على ذلك، ولكن القليلين من هذه القارة يأتون لزيارة «روسيا»، خاصة في مثل هذا الوقت من العام الذي لا نشاهد فيه من السياح غير تجَّار الفراء.

أجابته «إلهام» بنعم، وأخذت تثرثر باللغة العربية قليلًا مع «زبيدة»، وراحت بعدها تتأمل المدينة حولها … وبقية الطريق.

لزم الجميع الصمت، بعد قليلٍ توقف التاكسي أمام فندقٍ صغيرٍ نظيف، وتم حجز حجرتين، تأكدت «إلهام» أنهما تخلوان من أجهزة التصنت، فقالت لزميلاتها: إن الحرص واجبٌ في مثل هذه الظروف.

عقدت «ريما» حاجبَيها مندهشة وقالت: إنني لا أفهم لماذا منحنا رقم «صفر» جوازات سفر مدونًا بها أن جنسياتنا عربية؛ فهو أمرٌ كفيل بإثارة الشكوك حولنا، ولولا أن سائق التاكسي هذا لا يصادف كثيرًا من العرب، لتعرف علينا بسهولة.

قالت «إلهام» مفكرة: أظن أن هذا الأمر مقصود من جانب رقم «صفر».

زبيدة: ماذا تعنين يا «إلهام»؟

إلهام: تذكَّرن أننا جئنا نسعى لمطاردة جاسوسة قادرة على التنكر في أية صورة، وأننا نبحث عنها في وسط مدينةٍ تعدادها بالملايين، وبهذا تكون فرصة عثورنا عليها واحدًا في المليون أو أقل … ولكن إذا بدأ البحث من الناحية المضادة، فسيكون أسهل كثيرًا.

ريما: أتعنين أن رقم «صفر» كان يتعمد أن نكشف أنفسنا بعض الشيء، وأن تسعى «ناتاليا» نفسها لمطاردتنا إذا اكتشفت حقيقتنا؟

سألت «إلهام» باسمة: أليس هذا أفضل؟

قالت «ريما»: إنني أفضل أن أقوم بدور الصياد، لا الطريدة.

إلهام: لا أحد يدري على وجه العموم ما ستأتي به الساعات القادمة … وكل ما أرغب فيه الآن هو النوم، بعد هذا السفر الطويل المجهد، خاصَّة وقد بدأ الجو يتغيَّر ويميل للبرودة.

زبيدة: إن زيارة ﻟ «روسيا» في الشتاء ليست بالشيء المستحب على كل حال، إلَّا إذا كانت المطاردة التي سننطلق خلالها كفيلةً ببعث الدفء في أبداننا.

هدى: ولكننا كالمعتاد، لن نغفل جانب الحراسة والأمان؛ لذلك سنقسم أنفسنا للسهر ليلًا، لمواجهة أي احتمال.

ولكن الليل مرَّ هادئًا، وأشرقت شمس الصباح دافئة لذيذة، وبعد الإفطار تجمعت الفتيات الأربع في حجرة «إلهام» التي قالت: من الضروري وضع خطة وتنفيذها، للوصول إلى «ناتاليا» بأسرع ما يمكن.

هدى: المهم أولًا أن نعرف بأية وسيلةٍ ستسافر هذه الجاسوسة وكيف تغادر البلاد؟!

ريما: ليس هناك سوى طريقتين لذلك، وهما إما السفر بالطائرة أو السكك الحديدية.

هدى: ولكن السفر بالطائرة له مخاطر غير مأمونةٍ بالنسبة ﻟ «ناتاليا»، خاصة وهي تعرف أن هناك عيونًا تترصدها، فإجراءات الأمن والتفتيش في المطارات عادة أدق من السكك الحديدية.

إلهام: إذن يبقى أمامنا افتراض واحد أنها ستستقل القطار.

زبيدة: ولكن ليس هناك قطار دولي يغادر «ليننجراد» إلى أي من الدول المجاورة.

وإذا كنت مكان «ناتاليا» فأفضل طريق ألجأ إليه، هو استخدام الباخرة للسفر إلى «فنلندا»، ومن هناك يمكنني السفر إلى أية بلدة أوروبية أخرى.

تألقت عينا «إلهام» وقالت: إنها فكرةٌ جيدة، وأظن أن «ناتاليا» ستشرع في تنفيذها، إن لم تكن قد قامت بتنفيذها قبل وصولنا.

ريما: هذا يتوقَّف على حسن حظنا … أو سوئه.

ألقت «إلهام» نظرة إلى الخارج عبر حافة نافذة الفندق بزاوية ضيقة، بحيث لا يشاهدها من بالخارج، وقالت: أظن أن حسن الحظ في صفنا … انظرن … هناك من يراقب الفندق على مسافةٍ من داخل سيارة خاصة، لاحظت وقوفها في مكانها هذا منذ وصولنا مساء أمس، وقد تغير سائقها وبقيَت في مكانها لم تغادره.

ألقت «زبيدة» نظرة حذرة للخارج وقالت: إن هذا معناه أن «ناتاليا» لا تزال في «ليننجراد»، وإلَّا فما اهتم شخصٌ ما بمراقبتنا.

هدى: هذا مؤكد … والمؤكد أيضًا أن هذا الشخص من ضمن أفراد جهاز المخابرات الذي عقد الصفقة مع «ناتاليا» لشراء الوثائق … وقد عثروا علينا سريعًا.

إلهام: هذا لأننا ألقينا إليهم بالطعم، فعلقوا بالصنارة دون أن يدروا … ولعل لهم عيونًا في مطار «ليننجراد» دلتهم على وصولنا وهُويَّتنا … وإذا ما افترضنا أيضًا أن سائق السيارة التي استقللْنها تابع لهم أيضًا، وهو ما وضعته في حساباتي؛ ولذلك تعمدت الحديث بالعربية أمامه، لكي أنسج الشكوك حولنا، وهو ما نجحنا فيه، بدليل وجود هذا المراقِب.

زبيدة: ولكن إلى أين يؤدي بنا ذلك؟ فمراقبة هذا الشخص لنا، لن تفيدنا بشيء.

إلهام: إنها يمكن أن تفيد، لو كشفنا للفريق المضاد أننا نعرف خطوته التالية … في ميناء «ليننجراد» على خليج «فنلندا» … وإذا ما أخذنا وجهتنا إلى هناك فورًا، فلا شك أن الأمور ستتطور سريعًا، بعد أن يدركوا أننا نعرف الكثير.

هبَّت «هدى» واقفة وهي تقول: إنها خطة رائعة … هيا بنا لتنفيذها.

وغادرت الفتيات الأربع الفندق، وأشَرن إلى تاكسي قريب، طلبت «هدى» من سائقه الاتجاه إلى ميناء «ليننجراد».

وفي سهولة لاحظن جميعًا أن مراقبهن استقل سيارته، وأخذ يتبع التاكسي على مسافة قريبة. وغادرن جميعًا التاكسي أمام بوابة الميناء الكبير … كانت هناك عشرات السفن الروسية في الميناء، وبسهولةٍ استطعْنَ تمييز السفينة المتجهة إلى «فنلندا» … كان هناك عشرات الركاب يتأهبون للصعود عليها، فالتقطت «إلهام» كاميرتها، وراحت تتظاهر بأنها تلتقط صورًا تذكارية للسفينة والركاب.

وفجأة دوَّى صوت رصاصة مكتومة، أصابت الكاميرا وهشمتها، على مسافة سنتيمترات قليلة من رأس «إلهام»، التي انتفضت للخلف وقد أخذتها المفاجأة … وتلاقت عيون الفتيات الأربع غير مصدقات. قالت «هدى» في توتر: إننا نتعرض لمحاولة اغتيال.

هزت «إلهام» رأسها وقالت: لا أظن … فقد كان من السهل اغتيالي لو أراد ذلك شخصٌ مدرب على إطلاق الرصاص … ولكن الهدف كان تحطيم الكاميرا فقط.

زبيدة: وهذا معناه أن الكاميرا التقطت صورةً لشخصٍ ما … كان يجب ألَّا يلتقط أحد صورته.

تساءلت «ريما»: وما معنى ذلك؟

هتفت «هدى»: ليس لهذا غير معنًى واحد … إن الشخص الذي نبحث عنه فوق ظهر هذه السفينة التي ستبحر إلى «فنلندا» بعد قليل، وقد قادنا حسن الحظ إليها في اللحظة المناسبة.

تألَّقت عينا «إلهام» وقالت: إنها بذلك تكون ضربة حظ لا مثيل لها أن نصل إلى الميناء في اللحظة المناسبة تمامًا.

وتلفتت حولها باحثة عن الشخص الذي أطلق عليها الرصاص، فلمحت الرجل الذي تبعهن من الفندق، كان واقفًا على مسافةٍ يتظاهر بقراءة جريدته، ولم يكن هناك شكٌّ أنه صاحب الرصاصة التي هشمت الكاميرا.

ولم يكن هناك أي وقتٍ للتفكير؛ فقد اكتمل ركاب السفينة فوقها، وأوشك عمالها على رفع رصيفها، فصاحت «إلهام»: ماذا ننتظر … هيا بنا … لحسن الحظ أننا أحضرنا جوازات سفرنا معنا.

وقفزت «إلهام» إلى الرصيف، فتبعتها زميلاتها بسرعة … وقفزن إلى السفينة في اللحظة التي رفعت فيها مراسيها، وأطلقت صفارة أخيرة … ثم تحركت نحو الخليج.

وفوق الميناء كان الشخص الغامض لا يزال واقفًا مكانه، وقد أزاح الجريدة من فوق وجهه … وهو يراقب السفينة التي أبحرت في مياه خليج «فنلندا» بنظرةٍ مقطبةٍ باردة.

همسَت «ريما» تقول لزميلاتها: إن «ناتاليا» فوق هذه السفينة دون شكٍّ، وعلينا أن نعثر عليها، قبل وصولها إلى «هلسنكي».

إلهام: وهذا يمنحنا يومين فقط للبحث والتحري.

تساءلت «هدى» في قلق: ولكن هل تتذكرين امرأة أو فتاة أثارت ارتيابًا، وأنتِ تصورين ركاب السفينة بكاميرتك يا «إلهام»؟ فسوف تكون هي «ناتاليا» دون شك، وإلَّا فما أطلق علينا أصدقاؤها الرصاص.

أجابتها «إلهام»: أنتِ على حق في تساؤلك يا «هدى» … وقد لاحظت بالفعل امرأة عجوزًا لها شعر أشيب وتسير بظهر منحنٍ صاعدة السفينة، ولكني لمحت أصابعها في نفس الوقت، فقد كانت لدنة ناعمة مشدودة بلا تجاعيد، ولا يمكن أن تكون لامرأةٍ في السبعين من عمرها أبدًا … ومن الواضح أن هذه المرأة متنكرة.

زبيدة: من السهل اكتشاف ذلك الآن … ولنقم بهذا فورًا.

قاطعتها «ريما» قائلة: ليس هناك داعٍ للعجلة يا «زبيدة»، فلن نستفيد شيئًا إذا قمنا بكشف هذه المخادعة الآن … بل الأفضل أن نفعل ذلك قبل وصول السفينة بقليلٍ إلى «هلسنكي»، حتى يمكننا أن نستوليَ على الوثائق منها، ونغادر السفينة بأسرع وقت بعدها.

إلهام: إنها خطة صائبة يا «ريما»، ولكن علينا في نفس الوقت أن نقوم بمراقبة هذه المرأة؛ فقد تحاول القيام بخدعة ما، فلا شك أنها تعرف حقيقتنا، وأنها ربما تقوم بمراقبتنا في نفس الوقت، فلا تنسي أنها امرأةٌ خطرةٌ جدًّا، وهي لن تستسلم لنا بسهولة.

هدى: أنتِ على حق يا «إلهام» … فلن ندع هذه المرأة تغيب عن عيوننا أبدًا، وسنحاذر منها بشدة … وعلينا أن ننقسم إلى فريقَين لمراقبتها بالتبادل ليل نهار، حتى لا تغيب عنا لحظة واحدة.

وبدأت «هدى» و«زبيدة» المهمة … فراحتا تتبعان السيدة العجوز في كل مكانٍ تذهب إليه … وانقضى الوقت بطيئًا دون أن يجدا ما يثير شكوكهما.

وعندما حان وقت مراقبة «إلهام» و«ريما» كان الليل قد أقبل … ولكن العجوز لجأت إلى فراشها مبكرًا، غير أن «إلهام» و«ريما» بقيتا في مكان قريب، وعيونهما لا تغفلان عن باب قمرة العجوز.

وقرابة الفجر وعندما ساد السكون تمامًا، انفتح باب حجرة العجوز وظهرت في مدخلها، فتوارت «إلهام» و«ريما» بسرعة.

وأطلت العجوز في حذرٍ، وعندما اطمأنت إلى عدم وجود أحدٍ قريب، غادرت حجرتها وأغلقت بابها، وسارت وهي تتلفت حولها، وصعدت إلى سطح السفينة. كان السطح خاليًا مظلمًا، ولكن سرعان ما لحق بها شخص من قلب السفينة، فوقف الاثنان يتهامسان للحظات … فهمست «إلهام» ﻟ «ريما» في سرور: لقد تأكدت شكوكنا … إن هذه العجوز هي «ناتاليا» دون شك، وهذا الرجل الذي يحدثها هو أحد أفراد جهاز المخابرات الذي يسعى لشراء الوثائق منها.

همست «ريما» ﻟ «إلهام» بدورها: دعينا ننتهز الفرصة ونقوم بتفتيش حجرة هذه الذئبة، فقد نتمكن من العثور على أفلام الميكروفيلم بداخلها.

إلهام: إنها فكرةٌ جيدة، ولكننا لا نملك مفاتيح الحجرات؟!

قالت: لا تقلقي يا عزيزتي، ففي استطاعتي فَتْح الحجرة دون أن أترك أي أثرٍ.

إلهام: ماذا ننتظر إذن … هيا بنا.

وتحرَّكت الفتاتان بسرعةٍ … ولكنهما كانتا سيئتَي الحظ، فما كادتا تلِجان الباب المغلق بعد فتحه حتى سمعتا أصواتًا مقتربة، فأسرعتا بمغادرة الحجرة في اللحظة المناسبة، واقتربت العجوز المتنكرة من حجرتها ودخلتها وأغلقت بابها خلفها، ومن مكانهما شاهدت «ريما» و«إلهام» ما حدث، وقالت «ريما» لاهثة: لقد كدنا نسقط في الفخ.

إلهام: ولكن لا تزال أمامنا فرصةٌ في الغد … فإننا لن ندع هذه الماكرة تُغادر السفينة ومعها الوثائق أبدًا.

لكن وفي اليوم التالي لم يتح لهما، ولا ﻟ «زبيدة» و«هدى» تفتيش حجرة العجوز المتنكرة؛ لأنها لم تغادرها طوال الليل أو النهار، وعند شروق شمس اليوم التالي، كانت الفتيات الأربع جالسات في غضب يتهامسن، فقالت «هدى»: لقد تبقت ساعتان فقط على وصول السفينة إلى الشاطئ، ولن تُتاح لنا فرصة تفتيش حجرة هذه الماكرة «ناتاليا».

ريما: ربما نكون سعداء الحظ، وتذهب لتناول طعام إفطارها فوق سطح السفينة، فنتمكن من تفتيش حجرتها.

وكان حسن الحظ حليفهن هذه المرة؛ فقد ظهرت العجوز صاعدة لأعلى بعد ساعةٍ لتناول الإفطار، فاندفعت الفتيات الأربع إلى الحجرة بسرعة، وتمكنت «ريما» من فتحها بسهولة، وعبرت الحجرة مع الباقيات، وأُغْلِق بابُها عليهن. واندفعن يفتشن كل ركنٍ في الحجرة، محاولات ألَّا يتركن أي أثرٍ يكشف عن مهمتهن.

ولكن بعد بحثٍ طويل، لم يعثرن على أي شيءٍ … ومرت الدقائق سريعًا.

وفجأة صدرت تكة من الخلف، فالتفتن جميعًا وقد أخذتهن المفاجأة … وظهرت العجوز المتنكرة في مدخل حجرتها، وفوق شفتيها ابتسامة ساخرة … وقالت متهكمة: كان من الغباء دخولُكن الحجرة معًا، دون أن تتركن أحدًا للحراسة، فهذا من بديهيات العمل السري.

قالت العجوز المزيفة ذلك وأطلقت ضحكة ساخرة عالية … وإصبعها يتأهب فوق زناد مسدسها، وهي تستعد للضغط عليه نحو رءوس الشَّياطين الأربعة.

عضت إلهام على شفتيها ندمًا وغضبًا … كان خطؤهن لا يُغتفر … وترامقت مع زميلاتها في غضب مكبوت، وهن يعلمن أن أية حركة أو بادرة مقاومة منهن، سيعقبها إطلاق الرصاص عليهن.

وكان الإحساس الوحيد الذي يسيطر عليهن … هو إحساس الفريسة التي سقطت في يد صائدها بحماقة منقطعة النظير!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤