المفاجأة المذهلة!

ولكن ذلك الشعور ما كان يستمر طويلًا، خاصة مع «إلهام»، وبحركة مفاجئة تدحرجت على الأرض، مقتربة من عدوها، وصوبت بقدمها من أسفل ضربةً أطاحت بالمسدس من يد العجوز وطارت لتصيب غريمتها.

وترنحت العجوز المتنكرة، ولكن وقبل أن تفكر في المقاومة، قفزت «زبيدة» وطوقتها من الخلف بذراعها، وجذبتها «إلهام» هاتفةً في سخرية: إن ما سمعناه عنكِ لا يتناسب مع غبائِك الذي أظهرتِه الآن!

وتجمَّدت الكلمات فوق شفتي «إلهام»، عندما خلعت الشعر المستعار من رأس العجوز … لم تكن العجوز المزيفة امرأةً … بل رجلًا!

اتسعت عينا «إلهام» في ذهولٍ مطبق … وحتى زميلاتها بدَت عليهن معالم الصدمة القاسية، وأطلق الرجل المزيف ضحكةً عريضةً ساخرةً بدوره، ثم قال: هل أعجبتكن هذه المفاجأة؟

ضغطت «ريما» على أسنانها، وصرخت في الرجل: لقد خدعتنا.

فأجابها متهكمًا: في عملنا كل شيء يجوز … تمامًا كما في الحرب.

ضاقت عينا «هدى» وقالت للرجل: ولكنك طوال الوقت رحت تحاول زيادة شكوكنا فيك … وكنت تسعى لخداعنا.

إلهام: لقد تكشف لي كل شيء الآن … فلم يكن ما حدَثَ إلَّا خدعة … خدعة شيطانية، ابتكرها عقل «ناتاليا»؛ لكي تدفعنا لمطاردتها فوق السفينة، ونحن نظنها متجهة إلى «فنلندا»، وأنها متنكرة في شكل امرأة عجوز، لكي تتخلص منا ومن مطاردتنا، ويتسع لها الوقت لتغادر البلاد في هدوء بوسيلة أخرى، إلى بلد آخر.

قال الرجل ساخرًا: ها قد توصل عقلك أخيرًا إلى نصف الحقيقة.

تأملت «إلهام» غريمها بغضب مكبوت، وأكملت: ولم تكن الرصاصة التي أصابت كاميرتي، غير جزءٍ من الخدعة لنشك في أن الكاميرا التقطت صورة «ناتاليا» في تنكرها، فنتبعها على السفينة دون أن ندريَ أننا نُنساق خلف خدعةٍ شيطانيةٍ … وأنت تعمدت أن تعمق فينا هذا الشك بتصرفاتك المريبة على السفينة في فجر الليلة الأولى؛ لكيلا نشك في الأمر أو نفطن للحقيقة، إلَّا بعد أن يكون الطير قد أفلت من القفص.

أطلق الرجل ضحكة ساخرة مرة أخرى وقال: ها قد توصلتِ إلى بقية الحقيقة، ولكنها لن تفيدكن بشيء للأسف؛ لأن الطير أفلت من القفص مساء أمس، وهو الآن يرفرف بحرية في مكانٍ آخر دون مضايقة من أحد.

صرخت «زبيدة» في غضبٍ نادر: أيها الخبيث، لقد اخترت نهايتك بنفسك وهي أسوأ نهاية، فلن يسعدني أكثر من أن أفرغَ رصاص مسدسك في رأسك، أو أن ألقي بك في مياه هذا الخليج لتموت غريقًا مجمدًا فيه … ولكن لا تزال أمامك فرصة أخيرة للنجاة، وهي أن تخبرنا، إلى الوجهة التي اتخذتها هذه الذئبة الماكرة «ناتاليا».

أجابها الرجل ساخرًا: إن عرضكِ لا قيمة له بالنسبة لي لعدة أسباب، أهمها أن بعض زملائي يحتلون أماكنهم الآن فوق السفينة وقريبًا من باب حجرتي، وهم مستعدون للتدخل في أية لحظة، وإن لم أغادر حجرتي سالمًا خلال دقائق، فستجدن أنفسكن وقد أحاط بكن قبطان السفينة وضباطه، وتهمة قتل تنتظركن لتذهب بكن إلى حبل المشنقة.

طارت قبضة «زبيدة» إلى الرجل، فانحنى متألمًا بشدة، فعاجلته «هدى» بضربةٍ أخرى وهي تقول له: إننا نستطيع على أي حال تسليمك لهم، وليس بك عظمة واحدة سليمة.

طارت «ريما» وضربته ضربة قوية، فصُدم بالحائط في عنف، فشهق من الألم.

زبيدة: والآن ماذا تقول في عرضنا السخيِّ، إننا نمنحك حياتك، مقابل أن تخبرنا إلى أي بلد اتجهت «ناتاليا»؟

أجابها الرجل متألمًا بشدة من إصابته: إنني لا أدري … فهذا الأمر سر لا يعرفه غير «ديفيد يعقوب».

أوشكت «هدى» أن تهوي بضربةٍ على غريمها وهي تصرخ فيه: لا تحاول المراوغة أيها الوغد.

ولكن «إلهام» أمسكت بيدها، وقالت لها في صوت هادئ: لا أظن أن القسوة ستفيد بشيء، فإن رؤساء مثل هذا الشخص، لا يمكنهم أن يغامروا بإطلاعه على الوجهة التي سافرت إليها «ناتاليا»، ونحن أيضًا لا نستطيع المغامرة بتحطيم ضلوعه وعظامه، وإلَّا واجهتنا مشاكل مع قبطان السفينة، ربما تعطلنا بعض الوقت.

وزفرت في ضيق وهي تضيف: والأفضل لنا أن نغادر هذه السفينة في أسرع وقت.

وعندما غادرن الحجرة، كانت هناك عيون حادة ترمقهن في حذر، لم يكن هناك شك في حقيقة أصحابها، فقالت «هدى» في غيظ شديد: لقد صار اللعب على المكشوف، بعد أن أفلت الطير.

لزمت «إلهام» الصمت ولم ترد، وبعد قليلٍ ألقت السفينة مراسيها في ميناء «هلسنكي»، فغادرت الفتيات الأربع الميناء، وسِرن قليلًا خارجه في صمت، وقالت «زبيدة» بوجه محتقنٍ: الآن إلى أين سنذهب؟!

أجابتها «ريما» بوجه شاحب: إن أول ما يجب علينا فعله، إبلاغ رقم «صفر» بما حدث.

ضاقت عينا «إلهام» وقالت: هذا إلَّا إذا بادر رقم «صفر» بالاتصال بنا أولًا.

قالت «هدى»: ولكنه لا يعرف أننا وصلنا «هلسنكي»، فنحن لم نخبره بوجهتنا قبل سفرنا.

إلهام: ولكن من يدري، فإن رقم «صفر» له وسائله في الوصول بسرعة إلى الحقائق.

وبعد أن غادرن الميناء، وسِرن في طريق هادئ، فجأة اقتربت منهن سيارة خاصة، وتوقفت على مسافة قريبة منهن، وأطل منها وجهٌ مألوف، قال باللغة العربية باسمًا: هل تحتجن إلى توصيلة؟

تبادلت الفتيات الأربع النظرات في دهشة … وأكمل صاحب السيارة بنفس الابتسامة: إن لديَّ رسالةً هامة من رقم «صفر» لأجلكن … وأقدِّم لكنَّ نفسي … «عدلي رامز» … ورقمي ١١٣.

في الحال اكتست ملامح الفتيات الأربع بالشك في حقيقة صاحب السيارة، واعتقدن أنها خدعة أخرى من «ناتاليا» أو المتعاونين معها، ولكن «إلهام» تحركت نحو السيارة، وأخذت مكانها في المقعد الأمامي، فتبعتها الباقيات واحتللن المقاعد الخلفية، وتحركت السيارة مبتعدة، وامتدت أصابع صاحب السيارة إلى جيبه، وفي الحال قبضت «إلهام» على ذراعه وهتفت به: ماذا ستفعل؟

فأجابها في هدوء: يمكنكِ أن تحصلي بنفسك على ما في جيبي.

وفي حذرٍ دسَّت «إلهام» يدها في جيب رقم «١١٣» وأخرجت رسالة كانت مدونة باسمها ففتحتها بلهفة، وجرت عيناها على السطور، قبل أن تدفع وجهها إلى الباقيات، وعلى ملامحها ابتسامة شاحبة … وهمست تقول: إنها رسالة من رقم «صفر» وهي مذيَّلة بتوقيعه الصحيح.

هتفت «ريما» بلهفة: وماذا تقول الرسالة؟

أجابتها «إلهام»: إن رقم «صفر» يخبرنا أنه تابع ركوبنا السفينة من «ليننجراد»، وأنه كان يعرف بأن هناك خدعة من العجوز المزيفة، بواسطة عميل خاص، كان فوق السفينة.

تساءلت «ريما» في دهشة بالغة: ولماذا لم يحذرنا في الوقت المناسب؟

أجابتها «إلهام»: لقد كان جزء من خطته أن يجعلنا ننطلق خلف العجوز المزيفة، ونبتلع الطعم، حتى تأمن «ناتاليا» مطاردتنا لها، وتتحرك في حرية، دون أن تدريَ أن هناك عيونًا أخرى لرقم «صفر» كانت تراقب أصدقاءها، ومن خلالهم أمكنه الوصول إلى مكانها، وتحديد البلد الذي اتجهت إليه وهو «باريس»!

ظهر الغضب على وجه «هدى» وقالت: كم كنَّا أغبياء، كيف لم نفهم ذلك؟!

إلهام: لا داعي للغضب يا «هدى» … إن خطة رقم «صفر» أدت المطلوب منها على أي حال … ولا زالت للمهمة بقية … فهناك ثلاث تذاكر سفر إلى «باريس» تنتظرنا في مطار «هلسنكي» بعد ساعة من الآن … وأظن أن الوقت سيتسع لنا لكي نلحق بأول طائرةٍ مغادرة إلى «باريس».

ريما: إن هذه المهمة أشبه بمتاهة بيت جحا … كل شيء فيها مخادع.

زبيدة: ربما لأننا نطارد جاسوسة محترفة.

قال رقم «١١٣»: إن رقم «صفر» لم يشأ تعريضكن لخطر مباشر، بالاصطدام مباشرة مع «ناتاليا» في «ليننجراد»؛ لأنها كانت ممتلئة بضباط المخابرات المعادين، وكانت الأوامر لديهم بقتل من يحاول عرقلة سفر «ناتاليا» دون رحمة … ولكن في «باريس» سيختلف الوضع كثيرًا.

تألَّقت عينا «إلهام» ببريقٍ حادٍّ وقالَت: نعم … سيختلف الوضع كثيرًا في «باريس» … فقد نلنا من الخدع حتى الآن ما يكفينا … وتحولنا إلى شراك خادعة بما فيه الكفاية، وآن الأوان أن يتبدل الحال وننصب الشباك بأنفسنا هذه المرة، لنمسك بالصيد الثمين، ونلقنه درسًا قاسيًا.

قالت «ريما» في قلق: المهم أن نصل قبل أن تبادل «ناتاليا» بالوثائق الملايين العشرة في بنوك «سويسرا».

اكتسى وجه «إلهام» بغضبٍ حادٍّ وقالت: وحتى لو كانت هذه المبادلة قد تمت، فسنقلب «باريس» إلى جحيم فوق رأس هذه الذئبة وكل أصدقائها، ولن نطفئ نيران هذا الجحيم، قبل أن نسترد هذه الوثائق وأفلام الميكروفيلم.

وأضافت في صوت عميق: والموت أهون عندي من الفشل في هذا الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤