أغنيات الخريف

حسبك الشعر

هاجَ بي الشوقُ إذ ذَكَرْتُ ليالٍ
مِن جَمال الصِّبا وعِشق الجَمال
وطلبتُ القريضَ حتى يُغَنِّي
بلِساني عن الليالي الخَوالي
إنما عقدةُ اللسانِ تأبَّت
حبَسَت خاطري وأضنَتْ خَيالي
كيف تَستعصِم القوافي وتنبو
وأنا أخطُبُ اللآلِي الغَوالي
مهرُها ذِكرها ولحن جميل
خالِدُ الدربِ في السنين الطُّوال
أين ولَّيتَ يا رفيقَ شبابي
صاحِبَ السعي للهُدى والكمال

•••

فإذا بلبلٌ يعيش بقلبي
صادقًا حاسمًا يرد سؤالي:
إن طلبت القريض لا تطلُبِ الخُلـ
ـدَ فإن الدُّنا ديار زوال
إن تَعالَيتَ بالقريض تذكَّر
أنما الشعر هادِم للمَعالي
إن بنيتَ القصور بالشعر يومًا
لوجدتَ القصور فوق الرمال
أو طلبت النصير بالشِّعر يومًا
لوجدتَ الخِذلان عند الرجال
حَسْبُك الشعر للمشاعر فيه
بالبعيد الغريب بل بالمُحال
كلماتٌ هي الحياة بشَرْعي
وغناء باللفظ لا بالمال
قلتُ هبْني قَبلْت شرط افتقاري
هل تجيء الأشعار لي بالوِصال
ضَحك البلبل الصريح المعاني
قال طبعًا تنالُه في الخيال

عودة الشعر

حسناءُ كانت لي الدُّعاء المُستجاب
أنثى تُطالِعني بكلِّ كتابْ
فعلى الحروف يموج شِعرٌ مُرسَل
ومن الحروف شفاه كُل رُضابْ
ألهمتِنِي فنَّ القريض بنظرةٍ
وبعثتِ في الأعماق شَوق شبابْ
وزعمتِ أني لستُ شيخًا واهنًا
فغدوتُ أطلب ما بحِضنِكِ آبْ
وضممتُ خصرًا ناحلًا في لهفةٍ
مُترفقًا إذ خِلتُه قد ذابْ
ونسيتُ إلا أنني لكِ عاشِق
وقهرتُ خوفًا باطنًا يرتابْ
بل كنتُ أحلمُ في العناق بأنني
قد فُتِّحت لشهيَّتي الأبوابْ
لكنما روحُ القريض بلحظةٍ
خطرَتْ تُعاتبني أمرَّ عتابْ
أفمَا سمعتَ بخفق قلبٍ وَالِه
وبعودة الشِّعر الذي قد غابْ
خُذ من لحون القلب دقَّاتٍ لِشعْـ
ـرٍ سائغٍ مُتموِّج مُنسابْ
لا تخشَ دوَّامات بحرٍ هائج
لا تخشَ حوريَّات أيِّ عُبابْ
وانزل ببحر الشِّعر تلقَ الحُب حَـ
ـقًّـا لا فُتُونًا في النفوس سرابْ
جالِدْه موجًا كالجبال تَخالُه
واهجُرْ جفافًا في ذَراه يَبابْ
أوقِد سراج الشعر ينقشِع الظَّلَا
مُ بِكل ليلٍ سادرٍ وضبابْ
وانهَلْ فُرات الشعر تعرِف كلَّ مَن
عاش الغرام على مدى الأحقاب
إنْ شئتَ صاحِبْهم وإن شئتَ انسَهُم
في الشعر ما يُغني عن الأصحابْ
يَكفيك إن شئتَ العذوبة جرْسُه
نغَمٌ وإيقاع به وَتَّابْ
يكفيك عِشق الشِّعر إن رُمت الهوى
إنَّ الحبيب به بِغَير حِجابْ
عذْبُ القريض عذابُه في صِدقِه
لا كالغَواني باسِمٌ كذَّابْ

ما الإثم؟

أرجَفوا أن بريقَ الحبِّ في عينَيه قد صار ضبابَا
كاسِف اللَّحظِ كئيبُ القلب من أيَّامِه يخشى الذهابَا
سائلًا هل أقفرَ العمرُ ووَلَّى كلُّ ما كان شبابَا
ذاهلًا هل قد غَدَتْ روضتُه الخضراء دَقْعَاء يَبابَا
وغدَتْ أمواه نَبع العِشق في أرجائها قِيعًا سرابَا
أخذَتْ ألوانُه الخضراء عينانِ من الحُسن فغابَا

•••

زهرةٌ تلك تباهَتْ فوق غصنٍ ثم غشَّاها ارتيابْ
آثرَتْ إفناء صدْر العمر في صَدٍّ وفي مُرِّ احتجابْ
تطلُب الفوز بإحجامٍ وإجفالٍ ترى فيه الصوابْ
خشيةَ الإثْم الذي خالَتْه يقضي باختفاءٍ وغيابْ
وهو مأوًى لهروبٍ مثل قَصْرِ التيهِ فيه ألفُ بابْ
إنما الغرِّيد غَنَّى نبراتٍ هي كالسِّحر المُذابْ
ليس إثمًا أن يَذوق المرءُ في دُنياه من شهدٍ وصَابْ
ليتَها ترضَى وتُلقي نفسها كالحُور في وسط العبابْ
فإذا مسَّتْ شفاهَ الصبِّ كأسًا صار شُهْدًا ورُضابْ
كيف تغدو بحياةٍ وهي تسعى لاختفاءٍ وانسحابْ
إنما الإثم خمودُ الحسِّ والأشواق خوفًا من عَذابْ
إنه كالموت يأتيكِ ولو جاوَزْتِ وُديانَ الضِّرابْ

•••

ليس يمحو الإثمَ إلَّا أن تعود الروح تزهو بانسِيابْ
بِحواس شاقَها يومُ الإيابْ
للذُّرا مِن فَوق ذَيَّاك الخَرابْ
كي يعود اللمعُ للعينَين وهَّاجًا وينقشِع الضبابْ!

هوى الشيخ

قالت اليوم أُوافيك سُويعةْ
نَسمةٌ من جنةِ الريحان يَنساب شذاها
عِطرُها في النفس إرجافٌ وروعةْ
وعلى أيام عمري أسقطَتْ ظلَّ هواها

•••

تلك مِن أنسام هذا العصر بِدعةْ
كيف أحسَستُ ببردِ العمر نارًا في حِماها
كيف صار القُرُّ في جنبيَّ لوعةْ
كيف صار الثلْج جمرًا في هواها

•••

هذه أسئلةُ الشيخِ إذا رام الجَمالْ
وتعزَّى بالقوافي عن شبابِ العُنفوانْ
ورأى في الطفلةِ الحسناء فينوس الخيالْ
ولهيبًا أشعلَ القلبَ فأَودى بالزمانْ
ونداءً للتَّناجي في أسًى يرجو المُحالْ
إذ يُمنِّي النفس أن يرقى لها وسْطَ الجنانْ
نَسمة الصُّبح على الأوتار رَنَّةْ
إنها للعين والآذان فِتنةْ
جعلتْ قفر الحَشا عندي جَنةْ
وهي للفنان رُوح مُستكنَّةْ
فهي أنغام ومنها صاغَ لَحْنَهْ
وهي فنٌّ وبها يُبدِع فنَّهْ
ويرى فيها من الخلَّاق مِنَّةْ
تمسح العبراتِ تمحو كلَّ مِحنةْ
إذ غدا هذا الزمان زَمَنَهْ
وغدا هذا الجمالُ وطنَهْ

الوهم جميل

رُوحكِ البكرُ تُناديني بهمسٍ في حياءْ
وتهادَى في خبايا الرُّوح أصداء النِّداءْ
لحظةٌ مرَّت وقلبي يُرهِف السمعَ لشيءٍ في الدماءْ
طمَسَ الوقتَ وكنَّا في الظهيرةْ
لم نكُن في مَهْمَهِ الليلِ حيارَى في الظلامْ
إنما قد كان وهْجُ الصيف وهْجًا من ضِرامْ
حين أصغيتُ إلى ذاكَ الدعاءْ
إنه طُهرُ الأميرةْ
يتغنَّى بالصفاءْ
وأجابَ القلبُ إني أشهد السِّحر الوليدْ
في نداءٍ من ضياءْ
فاق ضَوء الشمسِ في قلبي الشريدْ
فتساءَلتُ وماذا يا تُرى نفسي تريدْ
لستُ أبغي غير أن أُصغي إلى الصوتِ الفريدْ
صوت طُهرٍ لم يَعُدْ يشدو به غِرِّيدْ
إنه لحن حياةٍ صادقةْ
نادَتِ الروحَ كروحٍ عاشقةْ
بعدما فات الزمنْ
فإذا بالصدْر غِرِّيدٌ جديدٌ يتغنَّى في خشوعْ
هذه الروح تُنادي في الضلوعْ
ليس يَرويها سوى فيضِ دُموعْ
أتُرى في مقلةِ النفسِ بقايا عبراتْ
سالِفات من صِبا ولَّى وفاتْ
إن تكن تَذرِفُ حبًّا فتَرَفقْ
قلبُك المهموم يخفِقْ
أتراه اليوم أحمقْ
كيف ينسى أنه وَشْكُ الغروبْ
شاقَهُ شفَق طَرُوبْ
فمضى بالوهْم يجتاز الدروبْ
طالبًا فجرًا لعُمْرٍ يتأسَّى ويذوبْ
في شعاع من سَنَا روحِكِ يا ذات اللهيبْ
إنه وهْم صباح في حناياه جديدْ
ضوءُه كالوَهْم يخطو في الأُفقْ
بعد أن زال الشفَقْ
وأتى الصُّبحُ العجيبْ
إنما الوَهْم جميلٌ وبه يحيا جمالٌ لا يغيبْ

وداع

إن خبا النورُ في عيون الرَّائي
أو هَفَتْ مُقلةٌ لنور السَّماءِ
مِثل أرواحنا بلحظةِ صفوٍ
حين تسمو على ذُرا الدَّقعاءِ
حالِماتٍ بيَوم عَودٍ كريمٍ
صاعِداتٍ كالطير وسْط الفضاءِ
سارِباتٍ كالحُلم قد تتبدَّى
كسرابٍ بِقِيعَةٍ دون ماءِ
نابذاتٍ زَيفًا يُدمدِم دَومًا
هارباتٍ من دار أهلِ الفناءِ
أو إذا رفرَفَ الجناحَ فُؤادي
صاعدًا نحوَ سُدَّةِ الجوزاءِ

•••

فاذكري شاعرًا يرُوم المَراقي
في جمالِ الأرواح عند اللقاءِ
طالبًا في السماء رزقًا جديدًا
وانتصارًا على ثَرى الغبراءِ
واعلَمي أنَّما سمُوِّي إلى الجَنَّـ
ـةِ وحيٌ من الرُّبَى الخضراءِ
في عيونٍ هي السماء انفِساحًا
وفراديس سندسٍ وبهاءِ
واعلمي أن رافعي للعَنانِ
وحيُ قلب يعيش حلمَ الرِّفاءِ
ويَضخُّ الدماءَ داخل قلبي
فيزيد الإحساسَ دفءُ الدِّماءِ
ذو جلالٍ يسمو بكلِّ مُعنًّى
واعدًا بالنعيم بعدَ العناءِ
يطلُب البُعد عن صَغارِ البَرايا
مَن نَسُوا أنه لشرُّ الداءِ
قد رأى الناسَ تَنتشي بترابٍ
مِن تراب الأجسام مثل الهباءِ
مِن ثرى الأرض قد أتَوا وإليها
يَهبطون الغداةَ من علياءِ
إنَّني شاعر يرى في القوافي
نفحاتٍ من طِيب زهرِ البقاءِ
تتهادى بكلِّ أُفْقٍ بعيدٍ
ومِن النفس ضَوْعُها والحياءِ
آيةُ الخلق في النفوس تراها
كلَّما شعشعَتْ بهذا الضياءِ
عندها يُشرِق الفؤاد بنورٍ
مثل نور السماءِ في الأرجاءِ
يكشف الحقَّ في جلاءٍ وصِدقٍ
دُون حُجبٍ ودون أدنى رِياءِ
أملًا نابضًا بقلبٍ بريءٍ
هو عندي مَحطُّ كلِّ رجاءِ
فاذكُريني إن غاب نُورٌ بعَيني
أنتِ نُوري وفيكِ ألقى نَجائِي

دموع ميلاد

جاء الحياةَ على قدَرْ
فبكى بدمعٍ منهمرْ
ما إن رأى الأضواء حتَّـ
ـى سال سيَّال الدُّرَرْ
قد كان يرجو أن يظـ
ـلَّ بجوف كهفٍ مُستقرْ
لكنَّما دفءٌ دعا
هُ فكان أمرًا ذا خطرْ
وازداد ذاك الدفءُ حتـ
ـى صار وقْدًا مُستعرْ
يدعوه فاخرُج لا تَخفْ
من أي إغراءٍ بَدَرْ
فإذا الدماء تهبُّ في
أرجائه مِثل الشرَرْ
وإذا بصوتٍ جامحٍ
فيه كلَيْثٍ قد زَأَرْ
وإذا برأسِ الغِرِّ مُلْـ
ـتهِب ويُثقله المَطرْ
لكنه حُمَمٌ كَبُرْ
كانٍ هَفا ثُم انفجرْ

•••

ما إن نَثَرْتَ القَطْر حتَّى
ضاع حُلم واندثَرْ
كيف انتفضتَ إذنْ ورُمـ
ـتَ الصحوَ من وَسَنٍ غَبَرْ
ورفعتَ رأسًا شامخًا
أو مُثقلًا بدمٍ نَفَرْ
وخرجتَ للدُّنيا فإذ
بالغَـيثِ محمومًا يَفِرْ
فيمَ البكاء وكلُّ ما
في الكون مسرورٌ يَسُرْ

•••

فالآن مال الرأس محـ
ســُورًا وقد كَلَّ البصرْ
أفلا رجعتَ إلى الدُّجَى
وسَلَوتَ جذَّاب الصُّوَرْ
وسلوتَ دفئًا خادِعًا
يُغشِي بمُقلتِك النظَرْ
هل جئتَ للدُّنيا لتبـ
كِي ما أرادَ لك القدَرْ
إنَّ البكاء بدايةُ الـ
مــيلاد في دُنيا البشرْ

عرفتُ الله

عرفتُ اللهَ في حُبِّكْ
وتقوى الله في دَربِكْ
فإنْ كان الهوى إثمًا
محوتُ الإثمَ من قلبِكْ
أُمَنِّي النفس أن تنجو
وينجو القلبُ مِن ذنبِكْ
وبُعدُ العين عن عينِك
يزيدُ الطُّهر في ثَوبِكْ
ويُعلي من عذاب النفس
أن تهفو إلى قُربِكْ
زجرتُ العين أن كُفِّي
كفاكِ الصدُّ في حُبِّكْ
حَرَمْتِ الصَّبَّ مِن حُسنِكْ
فنالَ الصبرُ مِن صَبِّكْ
وما صبرُ الفتى إلَّا
صلاةٌ في حِمى ربِّكْ

الفرح والأسى

إن كنتَ في غمرةٍ ستنساني
فاذكُر دموعًا وَشَتْ بوجداني
ترقرقتْ في الشئون جارحةً
وما درَت بالضياء يَغشاني١
رأيته في الجفون مُؤتَلِقًا
كأنه بارِق بأشجاني
أتلك عينٌ بكتْ لفرحتِها
أم أنها قد دَرَت بأحزاني
للفرْح دمع يلوح لؤلؤُه
كالعِقد زان الأسى بأجفاني
كيف التقى الفرْحُ والأسى معَهُ
في لحظة قد أتت بشيطاني
هل ذاك حُلم الغرام من زمنٍ
أو ما رواه غرامُ أزماني
قد عُدْتُ صَبًّا وفي الهوى أمَلٌ
يأباه ملَكٌ يُريد حِرماني

الرضا بالحنان

لا تكُن غافلًا فتشكو الزمانْ
واذكُر الفضل أَن أتى بالحنانْ
إنها الرُّوح شُكِّلت من خبايا
ليس يدري ألغازَها إنسانْ
غادةٌ صاغَها ملاكٌ كريمٌ
من ذَرَا روضةٍ بِعالي الجنانْ
مِن نسيمٍ بها رقيقٍ طروبٍ
مِن شذا الورد في حِمَى الرحمانْ
كيف تمشي على الثرى كالثُّريا
نفحات يزهو بها البستانْ
كيف تنساب فوق أرضٍ صَمُوت
نبرات الحنان في الألحانْ
إن بدَت بسمة على شفتَيها
غرَّد الكون واستجاب الزمانْ
إنْ لَمَسْتُ اليدَين خِلْتُ بأني
مُبحر تائه بلا شطآنْ
أو رأيتُ الخضراء في عينَيها
صاح شوق الصِّبا بغير لسانْ
ودخلتُ النعيم في الجوِّ أشدو
بالذي غردَتْ به العَينانْ
تلك ألحانٌ مِن السماء تدانَتْ
زانَها الصِّدقُ والصدى الرنَّان
وأنا عاشق رَوَتْهُ الليالي
بِجَمالٍ للروح في كل آنْ
قد بَرَى الدهرُ منطقي وكياني
كيف أرجو الهوى بغير كيانْ
كيف أرجو من الزمان مُحالًا
في ذهولٍ كأنني نشوانْ
كيف أرجو قَبول رَوحِ ربيعٍ
لِشتاءٍ قد خانه الحدَثانْ
لم يَعُد في الضلوع غير بقايا
مِن فؤادٍ قد هَدَّهُ الخفَقانْ
هل لِشعري إبلاغ ما أبتغيه
مُستعينًا بنبضِه والبيانْ؟

القوافي نبيلة

كيف أهملتِ القوافي
في لُحونٍ لي كلِيلةْ
إنها زادي من الدُّنيا ولكن
هي للروح وسيلةْ
إذ ترى في المُقلة النجلاء ساحات
مِن العلياءِ خضراء جميلةْ
من ذَرَا الفردوس فَوق الأرض
أو ظِل السماوات الجليلةْ
وتخالُ النور في العينَين رمزًا
لرياضٍ مُستحيلةْ
فالقوافي شَوق نفسي
لسماءٍ ذات أربَاضٍ نبيلةْ
إنها شوقي إلى ما ليس نَدري
من كمالٍ واكتمالٍ ومثالات الفضيلةْ
إنها سَعْي خيالي
لأَرَى دُنيا مِن الحب ظليلةْ
رُوحها النُّبل وصِدق القلب والصفو الذي
يُربِي مَثيلَه
هنَّ آيات على وَحدة رُوحَين وإن كانت
هموم البُعد نكراءَ ثقيلةْ
فاسمعي نبض القوافي
إنها ذُخري وإن كانت قَليلةْ
وأَحِسِّي نُبلها المُضمَر عِندي
إنها عندي نبيلةْ.

خلف الستار

يقول علي محمود طه:

تُسائلُني حلوةُ المبسمِ
متى أنت قبَّلتَني في فمِي

وأقول:

تُسائلُني حلوة المبسمِ
لماذا تُقاوِم دعوى الدَّمِ
فلستَ تُكلمني بالعيو
نِ ولستَ تُخاطبني بالفمِ
ولستَ تُناجي خيالي إذا
لاحَ رغم ابتسامِك للمَبسمِ
تلوذُ بصمتٍ غريب طويل
كأنك في دِرعِه تحتمي
تُراك تخاف عيونَ حَسُود
مِن الناس أو عاشقٍ مُغرمِ
تُراك تخاف نداء الدِّما
بلحنٍ من النغَم الآثمِ
فصوتُ دِمائك نبض طروب
يسوقك نحو هوًى ناعم
وصوت دمائي صداه يُنادي
بقوة شَوق الصبا العارم
يُناديك أقبِلْ ولا تخشَ بأسًا
بأمواج بحْر الهوى الظالِمِ
أجبتُ فإني أخاف شبابًا لدَيك جميلًا كمِثل الستارْ
يُزركِشه التِّبر في مشهدٍ لا يُجارَى من الزهرات الكِبارْ
على جانبَيه الجدائل صُفر وتنساب مثل مَذاب النُّضارْ
ومِن خلفِه لمحة من سماءٍ بعينَين تسلُب ضوء النهارْ
وفي الفم ياقوت جمْرٍ توقَّد في الشفتين عظيم الأُوارْ
دِثارٌ جَميل وسحر أصيل وكأس على كل لونٍ تُدارْ
ويَسعد قلبي بما قد يراه ويُنسِيه منطقَهُ الانبهارْ
ولكنه دائمًا خائف أن يُحيط بما تحت هذا الدِّثارْ
أخافُك رغم الفتون لأني جهول بما هو خلف الستار

طفلة أنت

طفلة أنتِ أَيَا بُرْعُمتِي
ما تفتحْتِ لشمسٍ أو هواءْ
تتلهَّينَ بلحنٍ من صَدى أُغنيَتي
وتُناجِين على الغصن السماء

•••

هل أردتِ اليوم قهرًا لزماني
فأنارت بسمة منك الفضاء
وسكبتِ الحب فيضًا من حنان
يغمرُ الأرضَ بروحٍ من صفاءْ

•••

أنتِ تَدْعين البَرَايا للأمانْ
بِرُواءٍ هو للقلب دواءْ
وبدفءٍ من يدَيك انطلَقَا
فسَرَى في راحتي مِنه نقاءْ

•••

إنما لهوُك لهو الأبرياء
دعوة للحُبِّ حُب الأتقياءْ
فيكِ أَنسَى الشجوَ يا بُرعُمتِي
فيكِ أَنسى كل من راح وجاءْ

•••

وأرى فيك جمالًا ووفاءً
يأسِر الروح فتمضِي في هناءْ
وأنا أُسلِس للدفء قِيادي
ساخرًا مما يقول الأدْعِياء

•••

أنتِ حق ساطع من أملٍ
قهر الحزنَ فأحياني الرجاءْ
ورَجعتُ اليوم شابًّا لا أُبالي
أطلُبُ الفرْح بذَيَّاك الضياءْ

•••

فاسكُبيه لا تخافي لوم لائم
إنما فيكِ وجودي والبقاءْ
وابسَمِي للكَون يحيا من جديدٍ
في ذَرا البسمة مِن وحي السماءْ

عينان

ماذا ترى في تلكما العينين؟
أمضيتَ يومًا هائمًا في خضرةٍ
من حولها الأهداب مِثل النجمتَين
هل كنتَ تبغي أن ترى فيها الثُّريَّا
أم تُريد الفرقدَين؟
عبثًا تُحلِّق في سماءٍ ناشدًا لُمَعَ اللُّجَين
اهبط إلى الغبراء لا تُرهق عيونك بالتطلُّع للمُحال
لن تبلُغ الأمل البعيد بأي صُقع للجِمال

•••

يا صاحبي هذي عيون الحُب أَنشُد في ذَراها
كل وَهْجٍ للشبابْ
ذي روضة خضراء في لمحاتها النور المُذابْ
هي مثل سِحر غالبِ الأهواء يفتح للأماني كلَّ بابْ
فيها أرى نفسي أرى الدُّنيا ويجتمع الذَّهاب مع الإيابْ
صاحَبْتُها زمنًا فبثَّت في فؤادي قَطْرَ عشق من رُضابْ
هي جنَّتي آوِي إليها كلَّما ضاق الزمان وكلَّما
أحسستُ قربًا للترابْ
لو أدركَ البؤساء سِحر الأعين الخضراءِ
ما عرَفَ الأنام ذَرا العذابْ

ما قالتْه العينان

هل قلتَ عندي جنتانْ
وفيهما عينانِ تجريانْ
في سُندسٍ ورونقٍ ورفرفٍ حِسانْ
وفوق كلٍّ منهما روائع الأفنانْ
كأنها الأهداب تُلقي ظلَّها على الزمانْ
إن كنتَ قُلتَه فإنما طَرِبْتَ كالنشوانْ
مِن ذلك العبير من رَوح ومِن ريحانْ
وخِلتَ أنَّ ما تراه فوق أرضنا مَفاتن الجِنانْ
أَفِقْ إذنْ من حُلمِك الوسنانْ
واعلَمْ بأنَّ ما رأيتَهُ هُنا
عينا صَبيةٍ ومِن بني الإنسانْ
قد أبدعَ الخلَّاق في صَنعتِها
كيما يُجسِّد النعيمَ للحيرانْ
فيشهَد الجلال والجمال في إبداعِه
لكلِّ نبضٍ دافق بهذه الأكوانْ
فالكَون تحيا رُوحه بكلِّ ما تُشِعُّه
وما تُشيعُه العينانِ مِن ألوانْ
إذْ تمزجان ما مضى من الزمانْ
بحاضِر السريرة القريرة الفَيْنانْ
وتَجعلانِ العمر لحظةً مَديدة
تقول إن الخُلد حاضر في كلِّ آنْ
وأَنَّما انصرامُ عُمرنا
وَهْمٌ لِمَن تقطَّعت به السُّبُلْ
فذلك البريقُ في العينَين يخدَع الأجلْ
وانظر تجِدْه ناطقًا على الدوام بالأمَلْ
وهل سوى الجَمال من حقٍّ به الجلال يكتمِلْ؟
وهل سوى الجلال من خُلدٍ به النعيم للأزلْ؟

•••

وذاك يا حيران ما تقوله العينانْ

أغنية

يَشغَلني في كلِّ مساءْ
قَبَسٌ من خضراءِ العينَين
في ظنِّي أن الوعدَ هباءْ
لكنِّي لا أنسى الجَفْنَين

•••

أسخَر مِمن يضحَك مِنِّي
ويقول لقد فاتَ أوانِي
لكني لا أعرِف للزمَن مَعاني
إلَّا في خضراء العينْ

•••

اسبَحْ في الخضراء العُليا
وتأمَّل كُلَّ كواكِبها
ثُم اهبطْ فورًا للدُّنيا
كي تَسبح في بارِق عينَيْها

•••

اسمع مُوسيقى الأفلاكْ
تَعزفها أهداب خُضْر
فهي ترانيمٌ لِمَلاكْ
تُنسيك سويعاتِ العُمر

•••

لا زمَن يمرُّ على العُشاقْ
فالزَّمن جَمال خالِق
والقلبُ تُجدِّدُه الأشواقْ
فإذا هو صبٌّ وامِقْ

أنتِ القصيدة

كنتُ أرجو بعض أبيات تُغنِّي
عن جمال الروح في أُنثى فريدةْ
كنتُ وحدي والقوافي شارداتٌ
والحروف السُّود شمَّاء عنيدةْ
أبتغي تصوير رُوحٍ هي كالنُّور
بآفاق على الدنيا مَديدةْ
تنشُر الآمالَ والأحلام أنَّى
طلَب القلبُ بِمَنْفاه خريدةْ
مثلُ ضوء البدر لا بل مثل صُبح اليو
مِ إنْ حلَّت تباشير جديدةْ
حُمرة الشَّرق على الخدَين تزهو
ليس تُخفيها سحاباتٌ بليدةْ
هل تراها وردةَ الصبح التي قد
أنشأَتْ نفسًا بلا روحٍ وحيدةْ؟
هل تُراها ما تُراها؟ لؤلؤاتٌ
بارقاتٌ زاهياتٌ ونضيدةْ
أم تراها عرشَ بلقَيسَ تهادى
بِخُطًى لا تُشبه المشيَ وئيدةْ
لم أجد في الكَون تشبيهًا بحسنٍ
بكِ يعلو … إنما أنتِ القصيدةْ

بسمة

مليحةٌ في جمالها خَفَرُ
يلوح في بسمةٍ هي القدَرُ
رهيفة كالنسيم ناعمةٌ
كأنها في ضيائها القمَرُ
بهدأة الليل إذ تُسامِرنا
بغير ما قد يقوله السَّمَرُ
أما إذا هبَّ عاصف مَرِدٌ
فسوف يغذو شفاهها الخطَرُ
فقد ترى فيهما إذا ابتَسَمتْ
جمرًا بها في الجمال يَستعِرُ
قد تكتوي باللهيبِ إن نظَرَتْ
عيناك أو إن كَبا بكَ البصَرُ
لكنها في الصَّفا وفي الغضَب
بسَّامة لا يُصيبها كدَرُ
قُل إنها بهجةٌ لأعيُنِنا
مهما يكُن في ابتسامِها شرَرُ

شاعرة

شِعرُها بالروح تغذُوه الرُّؤى
فيُحيلُ اللفظ سحرًا ناطقَا
وإليها كلُّ قلبٍ قد هوَى
ناشدًا في القلب فيها مِرفقًا

•••

لفحة الشمس على مَبسَمِها
تركَتْ ظِلًّا غريبًا مُنعَمَا
يَسرِقُ اللحظَ إذا صادَفَهُ
ويُعيد اللحظَ خاوٍ مُعدِمَا

•••

هي حسناءُ تهادَى في حياءْ
وبِعَينَيها نُهيْرٌ من صفاءْ
تسكُب الحُبَّ على الأحياءْ
ثُم تُعليهم بروحٍ من نَقاءْ

•••

صدرُها كالخُلدِ فيَّاضُ النعيمْ
فيه شِعر النفس مُهتاجٌ مُقيمْ
يتبدَّى في شفاهٍ لا تَريمْ
تُنطِقُ الأحياءَ بالحبِّ العميمْ

•••

تلك قد تُخفي عن العَين النُّضارْ
خَشيَةَ الحسَّاد إن زاد العجَبْ
إنما في الروح ما فاق الذهبْ
من جمالِ القلبِ دومًا إن أحَبْ

نسمة حارقة

نسماتٌ عابراتٌ أم تُرى لفحة نَسمَةْ
هبَّتِ اليوم مع الفجر فتَاهَت
في السما آخِر نجمةْ
لم تكن باردةً لا … لم تكن فاترةً لا
بل بدَت لي كشعاع الشمس نِعمةْ
نَشرَتْ في الجوِّ طيبًا فَرِح الزَّهر بهِ
بل غدا يختال حتى ليَشُمَّهْ

•••

كان أهل الشعر يَحكون قديمًا
عن نسيمِ الحُب أو نَسْمِ الصَّبا
قيل إن النَّسْم تُحييه الأقاحي في الرُّبى
فيه عطر من شذاها ونشيد من هواها مُطْربا
فإذا حلَّ بنفسٍ تاهت النفسُ به عجَبَا

•••

إنما نسمة هذا الصُّبح تُذكي في الوجود النارْ
إنها ومضة نُورٍ من سَنَا الشمس على كل مدارْ
تُوقِظ النُّوَّام أن هُبُّوا ففي القلبِ الأُوارْ
أقدس النيران نارُ الحُب هذا مَكمن الأبرارْ

•••

مَن يُريد البرد في الأنسام يرجو خامِد التُّرب التليدْ
إنما العاقل من يهفو إلى ما يحمِل الدفء الجديدْ
يبعث الحُب بقلبٍ مَلَّ من طول ابترادٍ كالشريدْ
لفحة النسمة قد تحرقه … خطر يختاره كلُّ عميدْ

لمَ تُخفِينَ الذهب؟

هل تخافينَ استِراق النظراتْ
شارداتٍ حائماتٍ حائراتْ
كي تفوز بأيِّ غُنْمٍ مُرتَقَبْ
فالنُّضَار الحيُّ كَنزٌ مِن لهَبْ
يحرقُ الأبصار أو يُذكِي السَّغَبْ
لِمَ تُخفينَ الذهب؟
لا تخافي
لن تَنال العينُ منه غير وَهْمِ اللمْسِ
هائمًا يُحيي مواتَ الحسِّ
يُوقِظ الأرواح يُربي كلَّ نفسِ
أظهري ذاك الذهبْ
فستُحيين قلوبًا ظامِئاتْ
وابعثي في الصدْر ما ماتَ وفاتْ
ذاك خير الصَّدقاتْ
إنه كالباقياتِ الصالحاتْ

الذهب

أبشِري يا روحُ إني قد رأيتُ الذهَبا
في كِيانٍ هو من لحمٍ ودَمْ
ساطعًا يزداد في الآماق نورًا عجبَا
ويُحيل الشوقَ نخسًا من ألَمْ

•••

هذه حُورية من جنَّة الخلدِ أتتْ
ومَضَت في البحر عندي سرَبَا
موجةٌ تغدو بها حينًا فإما أفلتتْ
سكبت في كل عينٍ نصَبَا

•••

ذيلُها قد يتلوَّى مثل أسماكِ المياه
إنما وسط الأنام اغترَبَا
أتُراه كان يرجو الشطَّ لكن تاهْ
فتهادى ثم أتبعَ سبَبَا

•••

إنه يمضي فخورًا بنُضَارٍ سَطَعَا
يخلُبُ الرائي إذ اقترَبَا
إنما أحسستُ أن الذَّيل حين التمَعَا
كان بُشرى وهوًى مُرتقَبَا

•••

إذ أضاء التِّبر في نفسي شعاعًا ومَضَا
فأحال الذَّيل برقًا خُلَّبَا
لا تقُل قد كان وهمًا سانحًا ثُم مضى
بَل هو الحُسنُ العزيزُ مَطلَبَا

•••

تاقِت النفسُ إليهِ فانبرَتْ تطلُبه
ليس تخشى في ذَرَاه الرَّهَبَا
يسلُب العين ضِياها ثُم لا يسلُبُهُ
غير ما كان الهوى قد سَلَبَا

•••

إنني أحيا بلمحٍ في الحنايا قائمٍ
فهوى الإبريزِ يمحو السَّغَبَا
هو روح من جمالٍ في جنانٍ حالمٍ
لا تزال العينُ ترجو الذهَبَا

بلقيس (١)

قال آتِيك به من قبل أن يرتدَّ طرفُكْ
من له علم الكتاب … في خفاءْ
فإذا بالعرش جاءْ
وإذا هو لألاءٌ به المَرمر كالماءْ
بارِق الصفحة يبدو في صفاءْ
كانتِ الحيرة تَغشَاها فقالت في حياءْ
إنه عرشي ولكن كيف …
كيف يبدو فيه ذاك الماء؟
كيف يَبتلُّ إزاري وأنا سيدةُ الأحياءْ؟
وخطَتْ بلقيس كالبهجةِ في وَسْط الضياءْ
كشفت عن كل ساقٍ كشُعاعٍ من ذهبْ
ذُهِل الراءُون للضوءِ العجَبْ
كان كالشمس هنا وقتَ الأصيلْ
جمراتٌ مُوقَدات وعلى الأُفق تَميلْ
وشعاع السَّاق في المرمر سيَّالْ
ساكبًا قَطْرَ الجَمَالْ
فإذا بالصخر ذابْ
وإذا البُنيان مُهتزٌ به الأركانْ
قالت المَلْكَةُ إني قد خَشِيتُ الماء في هذا المكانْ
فأصابَت بالذهول المالِك البَرِّ سليمانْ
أسكتت كلَّ لسانْ
وإذا الأعيُن تبكي من عِلَلْ
شاقَها وَهْج الأمَلْ
ساكباتٍ حَسَرَاتٍ من شفاهٍ
حالِماتٍ بِالقُبَلْ
وإذا الدمع يُغطِّي ساحةَ القصر المُنيفْ
ونسيمٌ يتهادى بحفيفٍ وزَفيفْ
من هوى قلبي فقد كنتُ هناكْ
عند إشراق العجَبْ
غارقًا في الطَّرَبِ
ناسيًا أي منالٍ لأَرَبْ
غيرَ نورِ الذَّهَبِ.

بلقيس (٢)

هذه بلقيس قد حلَّت بقصر الملِكِ
لم يكن يومًا من الأيام محسوبًا بمجرى الفَلَكِ
إنما حلَّت كضوءٍ بارق وسط أغاني المَلَكِ!
ظنَّت المرمرَ في المدخلِ مرآةً على صفحة ماءْ
وقفت … لا … كيف تمضي؟
إنْ مشت في الماء يبتلُّ الرداءْ
كشفت في الحال عن ساقَين كالغُصنَينِ من ماء الفراتِ ارْتَوَيا
فإذا القصرُ لهيبٌ من رُواءْ
أُغشيت كلُّ العيونِ الشاخِصاتْ
وإذا في كلِّ حلقٍ لُهْبَةٌ صمَّاءْ
أين منِّي رشفة من ذلك النبع الفراتْ
تلك كأسٌ في حُمَيَّاها شذا الآياتْ
وارتمى الراءونَ عند القدمَين
في ذَرَا الغُصنَين
ردَّد الباقون آمَنَّا بربِّ المَلِكِ!
وتجلَّى لِسُليمان البهاءْ
فتكلَّم
ذاك يا بلقيس عرشُك
لم تُصدِّقْ
ولقد جئتُ بهِ مِن قبلِ أن يرتدَّ طرفِي
ولقد جئتُ بشمسَين معًا
أكسبا المرمرَ رُوحًا فإذا المرمرُ ماءْ
هو في الساقَين مِلءُ البصَرِ
وإذا بالشَّوقِ يجري في عروقِ البشرِ
قال من يعلَم عِلمًا من كتابْ
إنما جئتُ بشمسٍ من شبابْ
جمَعَتْ في مَفرِق الغُصنَين سرًّا من رُضابْ
هذه أحيَتْ بأوصال البرايا قُدرة الخلَّاقْ
كيف يُحيي في فؤاد الشيخ نارًا واشتياقْ
أين مِنِّي قطرةٌ تُطفي اللهيبْ
أسقِنِيها من ذَرَا الغصنَين من قبلِ المغيبْ
وأَعيدِيني حبيبًا يطلُب الخلدَ بظلٍّ للحبيب

جنة الحب

لا تأكُلا من هذه الشجرةْ
وتلاقَتِ النظرات في حسرةْ
من ذا الذي يعصي لخالقِ رُوحنا أمرَهْ
قالت وما يُدريك إن كانت ثِمار غصونها مُرَّةْ
أصغى لها وأدار للأغصان ظهرَهْ
لكنما أضحى يحسُّ بوقدةٍ في كل بُرعُمةٍ تَفتَّح مُستقرَّةْ
مِن خلفِه نارٌ مُؤجَّجةٌ
كأنَّ بكلِّ بُرعمة من الأغصان جمرَةْ
لم يدْرِ أنَّ النار في أعماقِهِ
لا في الثمار ولا بِتلك الشجرَةْ
وبجدولٍ في الظلِّ ألقى جسمَهُ
كَيما يُبَرِّدَ في الجوانِح حَرَّهْ

•••

عند المساء أتت إليهِ بزهرةٍ فوَّاحةْ
قالت مُنِعنا من ثمار الروح لكن هذه زهرَةْ
شُمَّ الشذا تَلْقَ النعيم وتلْقَ روح الراحةْ
فإذا الأريجُ غدا دُخانًا دار بالمِسكينِ دورَةْ
مادت به الأرض الفضاء ومَالت الأشجارُ في الساحَةْ
وإذا بها مِثل الغواني راقِصات رقصةً حُرَّةْ
أوراقها سقطت ودارت حولَه في الريح مُندَاحةْ
غلبَتْه ذراتُ العبير كأنها القطرات تُخفي سِحرها في كل قطرَةْ
ورأى الغصون العاريات وقد كستْها من جدائلها
نُضارًا صار شلالًا يُروِّي هذه الواحةْ
كلَّا فإن بِلَونها ذهَب الأصيل إذا أتى بالسَّكرة
فأحال في الشفق القريب الصُّفرة الأولى
مَسابك من لَظًى لوَّاحةْ!
ما بين تلك النار والماء الذي في ذِروة الثورةْ
نسِيَ الأوامر والنواهي
ما بين ما كانت مُحرَّمة وما كانت مُباحَةْ
وإذا به الجوعان يأكُل هذه التفاحةْ

•••

حَلَّ العِقاب وأُخرِجا من جنة الرَّبِّ
لكنما الربُّ الرحيم ثوابه يُربي
فإذا هما عشِقا العقابَ بجنَّةِ الحُبِّ!

عشق الذات

بَعُدَت وكنتُ أظنُّها إلهامَا
ولقد سقَتْني ما حَسِبتُ غرامَا
فجمالُها أذكى الفؤاد صبابةً
وأعار شِعري منطقًا وسهامَا
وفرِحتُ حين رأيتُ إبداع الرُّؤى
يَنْثال صحوًا أو يطُوف منامَا
وسبحتُ في الخضراء من أجفانِها
لم أرجُ في طلَب الهوى آثامَا
فطلبتُ أن ألقى حبيبتيَ التي
تعلو على مرِّ الزمان دوامَا
هيهات قال العندليب بخاطري
أرسِل إليها في الرجاء كلامَا
ماذا أقول فقال لي أرسِل لها
قولًا يطوف بخاطري إلمامَا
ما ذاك؟ قال اكتُب وخاطِبْها وقُل:
قد شاقَني هذا الهوى أيامَا

•••

أصبحتِ مُبدعةً فأخرجتِ الدُّررْ
مِن رائع الأشكال أو عُمق الفِكَرْ
ورسمتِ بالقلَم الرهيفِ مشاهدًا
تزهو على الأيام في مجرى العُمرْ
بالصِّدق تكشف عن خوابِئَ جمَّةٍ
في باطن الأُنثى وأعماق الذَّكَرْ
وتَقبَّل الناس الكلام بنشوةٍ
ورأيتِ مَن بجمال فنِّك يَفتخرْ
وبهرتِ أصحابًا تعالَى حبُّهم
للمرأة الهيفاء من خلف الصُّوَرْ
فازداد حبُّكِ للكلام وسِحرِه
ونما غرامُك بالخيال المزدهِرْ
ما عادَتِ العينان تُبصِر غير ذِهْـ
ـنٍ قد توهَّج ليس يُخطئه النظرْ
وغدوتِ فاتنةً لنفسِكِ لا تَرَيْـ
ـنَ سوى الأنا في كلِّ شيءٍ قد بَدَرْ
ها قد وصلتُ إلى الذُّرا قالت لكِ الْـ
حوْبَاءُ لا تخشَي جبالًا من نُذرْ
فالقِمَّة العصماء موقعُك الفريـ
ـدُ يقيكِ في العلياءِ شرَّ المُنحدَرْ
فلأنتِ فوق الخلق دومًا كلهم
ما أبعد الكُتَّاب عن دُنيا البشرْ

•••

وتلفَّت الغرِّيدُ في عبقٍ يفوُحْ
وبروح عُتْبٍ ظاهر وأسًى صريحْ
يا شاعرًا شردًا وذا نفسٍ طموحْ
أضمرْتَ حبَّ الذات وهي جموحْ
حُب الفتاة به خداع ظاهرٌ
نجَّاك ربي من خداع الرُّوحْ
ما حُبك الأنثى سوى ضعفٍ يَشي
بالزَّيف فيما قد بنيتَ مِن الصُّروحْ
أسقطتَ حُبَّك ذاتك الرَّعناءَ في
حُبٍّ لوجهٍ فاتن حُرٍّ صبوحْ
أحببتَ غيرك؟ لا تقُل نفذ القضاء
فإنه حُبٌّ أنانيٌّ صريحْ
تبغي الوصول إلى السماء وتشتكي
ما خلَّف الحب المُحال من القروحْ
أنتَ ابن هذي الأرض فارْضَ ولا
تَنشُد خيالًا في السماء يلوحْ

•••

لا تَطلُب الحسناء فهي مَنيعة
واصبر على ما قد تظنُّ من الجروحْ
هي لعبةُ الشعراء أورثها لك الأسـ
ـلاف مِن عشقٍ يغني وينوحْ
أما غرامك فهو طيفٌ ساربٌ
إثم كمين لا يُباح ولا يبِيحْ

انْسَها

انْسَها والشَّمول في كأسِها
إذ غدا كأسُها هوى نفسِها
لا تكن ظالمًا لقلب هَتُوف
ينشد الشعر من لدُن قبسِها
كل لحنٍ يأتي إليك فيه
نبضُ حُبٍّ يَدِفُّ في جرسِها
كل زهرٍ في جنَّتيك تراه
زاهيًا ناشرًا شذا غرسِها
هي أُنثى لكنها ليس تعلو
عن مراقي الإغواء في جِنسِها
فيتوه الرَّشاد في كلِّ وادٍ
ويُلاقي الجنونَ في مسِّها
ليس ينجو من الغواية فردٌ
إنْ يجد ما يشوق في همسِها
فانبُذ الحُبَّ إن أردتَ نجاةً
وانْس ما قد شَرِبتَ من كأسِها
انْفِ طيفًا يطوف بالروح دومًا
بعذابٍ يزيد من بأسِها
ولدَيها ربيب حُبٍّ طموح
ليس يخشى الرُّقاد في رمسِها
تقتلُ العاشق المُعنَّى بلفظٍ
حين تُلقيه في هوى يأسِها
فانْسَ ما كان من عِناقٍ جميلٍ
في ظِلال النعيم من أُنسها
وانْسَها جاهدًا بعزمٍ متينٍ
مُستعينًا بالحبِّ في طمسِها

بسمة الدنيا

يقول صديقي نافِذَ الخطراتِ
بنبرةِ من يعلو على الكلماتِ
ملكتُ نواصي العِلم والفن والحِجَا
وأعرِف ما في الأرض من لهجاتِ
فألفَيتُ نفسي في السماء تحفُّها
ملائكُ ربِّ العرش بالبركاتِ
تبسَّمت الدنيا وحان قِطافها
ثمار نبات فائق الزهراتِ
ويا نفس إن يَبسَم زماني تَبسَّمي
فما أنا إلَّا مِن زماني آتِ
أصابَ قبيلي المجدَ في مَيعة الصِّبا
ليرفعني المجد الأصيل بِذاتي
إذا السعد جاء اليوم فامْشِ مُباهيًا
وزِد قسوةً وابعِد عن الرحماتِ
فأنت رفيق العزِّ في بسمة الدُّنا
وتَحميك أسوارٌ من النكباتِ
حَبَاك حُسامًا قاطعًا وقريحةً
وسيفُك لا ينبو ومَتْنُكَ عاتِي
فحارِب به الأقران إن نازلتَهُم
وسدِّد إليهم بارِقَ الطعناتِ
وبسمة دُنيانا تقيني من العِدا
وتُعلي بنفسي قُوَّتي وثباتِي
أنا الصوتُ مسموعٌ أنا اللبُّ عالِمٌ
وغيري لن يجِنِي سوى الحسراتِ

•••

سمعتُ صديقي زاهيًا مُتباهيًا
بضحكةِ دهرٍ خائن النظراتِ
فما ظنَّ حسبان السماء ينالُه
فيأتي على الأشجار والثمراتِ
وما ظنَّ أن الروضَ يُحرَم ماءَه
فيصفَرُّ محمومًا من السكراتِ
فطافَ بِذهني بيتُ شِعرٍ يقولُه
أمير القوافي صادِق النفثاتِ
ومَن تضحك الدنيا إليه فيَغْتَرِرْ
يَمُتْ كقتيل الغِيد بالبسماتِ

الغرور

رأيتُها في السماء تنطلِقُ
جنيةً بالبهاء تَأْتِلِقُ
وَرْقَاءُ مِثل النسيم يَحمِلها
هَديلُها باللحونِ مُنغدِقُ
حَنينُه سالبٌ لأفئدةٍ
بلهفةٍ حَرَّة بها فرَقُ
مِن العِنان انتشت بصافيةٍ
بالسعد عند الأُلَى وتَرْتَفِقُ
ريشُ الجناح الذي يَدِفُّ بها
مثل الأقاحي التي بها عَبَقُ
فناصِع ريشها وأعيُنُها
خُضر ونحو العلاء تستبقُ
هل عندها في الفؤاد أجنحةٌ
تُذكي بها جَمرة لها شبَقُ
ناجيتُها بالهوى فما سمِعَت
صوتي بذاك الهديل يختنقُ
إذ يقهرُ الحُجبَ مثل راميةٍ
يزيل أسوارها ويخترقُ
به لحون الدُّنا ومنطقُه
مِن لفظ صدقٍ جرى به ذَلِقُ
يقول لا تغتَرِرْ بما سَنَحَت
لك المعالي فأنت مُنطلقُ
واحذَرْ علًا قد تغيب في غَدِها
فإنما بالغرور تنسحِقُ
ولتَخشَهُ إن رأيت لُهبَته
طموحُه حارِق ويحترقُ
١  الشئون: مجاري الدمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤