مقدمة

صوت خارج عن نطاق الزمن يملأ الكهف: ليس انسلال وتنهُّد الأمواج؛ لأن البحر أدبر عندما أقبل البرد بلسعته وتجهَّمَت الجبال في مواجهة الدرع الثلجي. الآن تحيط جُدُر صلبة بنسمة ناعمة منحسرة، تُلاحِق نبضًا متباطئًا. عند نهاية العالم، حرفيًّا ومجازيًّا، يشهَد آخر إنسان نياندرتال في إيبيريا شمسًا متدنية ساطعة عَبْر البحر المتوسط القصِيِّ. وفي أثناء ذلك، يخفِّف فجرٌ رمادي من حدة قتامة سماءٍ حالِكة كحجر الصوان، ويتشابك هديل الحمائم الجبلية الناعم مع نعيق النوارس التائهة، الصائحة مثل أطفال جياع. ولكن لم يعُد يوجد أطفال، ولم يعُد يوجد أُناس باقون، لم يعُد يوجد أحد على الإطلاق ليُشارك في مشاهدة النجوم وهي تختفي؛ ليبقى ساهرًا يراقب حتى تنسحب آخر نسمة تاركةً الهواء معتدل البرودة.
بعد أربعين ألف سنة ونيِّف، عادت المحيطات ترتفع، والملح يترك أثره على الهواء، وترن في جدران نفس الكهف أصوات وموسيقى — صلاة جنائزية على حلم للأسلاف.
هذا هو كهف جورام، بجبل طارق، عام ٢٠١٤. يجتمع الأثريون وعلماء الأنثروبولوجيا سنويًّا على هذا الطرف الجنوبي، ذي الجو المنعش، من أوروبا لحضور واحد من مؤتمرات كثيرة عن النياندرتال. ولكن في ذلك العام، حدث شيء خاص. كان من بين الموفدين الذين يزورون الكهوف العظيمة الشبيهة بالكاتدرائيات الموسيقيُّ كيد كوما، المعروف باسم عالِم الأحياء البروفيسور دوج لارسون. بدأ في مداعبة أوتار جيتار، وغنَّى أغنية «آخر رجل صامد»؛ إذ تأتي أحدث أحفورة معروفة لإنسان نياندرتال من شبه الجزيرة الإيبيرية، ومن هذه الكهوف. لبضع دقائق تردد صوته في الغرفة الحجرية الضخمة، وخفتت أصوات الشواغل العملية المتعلِّقة بالعروض التقديمية، أو النظريات محل المجادلات الحامية الوطيس، أو تعقيدات تصنيفات الأدوات الحجرية. ببساطة استمع الزملاء، وطغَت الرغبة البشرية في التواصُل مع الماضي السحيق. يمكنك أن تختبر بنفسك هذه اللحظة الاستثنائية المؤثرة بغرابة؛ لأن شخصًا ما فكَّر في تصويرها وهي الآن موجودة على موقع يوتيوب.
تُلقي تلك القصيدة الغنائية، الموجهة إلى المقابر التي ترجع إلى آلاف السنين، بصيصًا واضحًا من الضوء على الأشخاص القائمين على العلم. فبمجرَّد انتهاء العروض التقديمية العلمية الشديدة التدقيق والموضوعية، تظهر التكهُّنات الأقل تدقيقًا — بل والانفعالية — على المقاهي والحانات بين الزملاء (الذين هم أيضًا أصدقاء). تتراوح المحادثات ما بين الحديث عن مواقع التنقيب «المثالية»، والمعلومات المعروفة في مقابل المعلومات المجهولة؛ وكلها تدور حول ما إذا كنا سننجح يومًا ما في الحصول على لمحة خاطفة على الحقيقة الخفية عمَّن كان النياندرتال.
هذا الكتاب نافذة على تلك النقاشات. إنه لأولئك الذين سمعوا عن النياندرتال أو لم يسمعوا، للأشخاص الذين يتراوحون ما بين المهتمين نوعًا ما وحتى الخبراء الهواة، وحتى للعلماء الذين حالفهم الحظ وأجروا أبحاثًا حول عالمهم القديم. مردُّ ذلك إلى أن تلك مهمة تزداد ضخامة يومًا بعد يوم؛ إذ تتقاطع المسارات الملتوية عَبْر البيانات والنظريات مع الاكتشافات الجديدة، مما يُجبر الباحثين على تحويل وجهاتهم، بل وعلى الدوران للخلف والتراجُع. من الصعب التعامل مع هذا الكم الهائل من المعلومات: فقِلَّة من المتخصصين لديهم الوقت لقراءة «كل» مقالة جديدة في مجالهم الفرعي، ناهيك عن الناتج العلمي الإجمالي المتعلِّق بالنياندرتال. فحتى أكثر الباحثين تمرُّسًا يمكن أن تصيبهم الدهشة ويقفوا مشدوهين أمام الاكتشافات الجديدة.
وترجع هذه الوفرة في الاهتمام والتحليل إلى أن موضوع النياندرتال «مهم»؛ ودائمًا ما كان مهمًّا. فهم يمتلكون طابعًا ثقافيًّا-شعبيًّا لا مثيل له بين غيرهم من الأنواع البشرية المنقرضة. فوسط أقربائنا القدماء (المعروفين باسم «أسلاف البشر»)، يأتي النياندرتال حقًّا على رأس القائمة: فتستحوذ الاكتشافات الكبيرة الخاصة بهم على أغلفة الدوريات العلمية الكبرى وعلى العناوين البارزة في وسائل الإعلام الرئيسية. ولا يُبدي افتتاننا بهم أي علامات على التراجُع، فتُظهِر مؤشرات محرِّك بحث جوجل أن عمليات البحث عن كلمة «نياندرتال» قد تجاوزت حتى عمليات البحث عن عبارة «التطور البشري». ومع ذلك فهذه الدرجة من الشهرة بمثابة سلاح ذي حدَّين. فمحرِّرو مواقع الإنترنت يعرفون أن موضوع النياندرتال طُعْم قوي يدفع القراء للنقر والدخول على الموقع ويغرونهم بتغطية مثيرة، غالبًا ما تتضمَّن عناوين على غرار «الشيء الفلاني أباد النياندرتال» أو «النياندرتال ليسوا شديدي الغباء كما نظن».
يخفت حماس الباحثين لمشاركة جهدهم البحثي مع الآخرين بسبب غضبهم من الآراء المتحيِّزة المستمرة والمتناقضة، التي غالبًا ما تُقَولِبهم في إطار كونهم علماء يتخبَّطون من فكرة إلى أخرى. مما لا شك فيه أن العلم يعتمد في عمله على مقارعة الحجة بالحجة؛ ومع ذلك، فإن البيانات والنظريات الجديدة لا تعكس تخبط الباحثين، وإنما ديناميكيتهم الهائلة. علاوةً على ذلك، فاستمرار تداول «أخبار النياندرتال» المبتذلة يعني أن الشخص العادي لا يسمع مطلقًا عن الاكتشافات الحديثة المذهلة للغاية.
ومع ذلك فثمَّة بون شاسع بين حال علم الآثار في القرن الحادي والعشرين والحال التي كان عليها في بداياته، وربما يكون اليوم أشبَه بتخيلات أحد علماء الدراسات المستقبلية من العصر الفيكتوري. لم يكن بحوزة علماء ما قبل التاريخ الأوائل إلا ما يزيد قليلًا على الحجارة والعظام التي استعانوا بها في إعادة بناء الماضي القديم، بينما يوظِّف الباحثون في وقتنا الحالي وسائل لم يكن أسلافهم من العلماء يعرفون بوجودها. فتُستخدَم أجهزة مسح ليزرية بدلًا من رسوم تخطيطية بالحبر لأخذ صورة لموقع كامل، بينما يدرس المتخصصون أغراضًا لم يكن أحد من قرن مضى يحلم بالعثور عليها. فمن حراشف أسماك وأطراف ريش إلى بقايا المواقد المنفردة، تضاهي فرصةُ أن تنبثق معارفنا الدقيقة من تحت عدسة مجهرٍ فرصةَ ظهورها بينما نستخدم مجرفة.
نكاد نستطيع أن نتلصَّص من فوق أكتاف النياندرتال، ونعيد بناء الدقائق القليلة التي استغرقها تقليص حصاة كبيرة بكفاءة لتصير رقائق حجرية حادة قبل ٤٥ ألف سنة. والسجل الأثري الجامد ذاته يصير مفعمًا بالحيوية؛ فنشاهد الأدوات وهي تتحرَّك في أرجاء مواقع التنقيب وتؤخذ إلى الطبيعة. بل إنه يمكننا أن نقتفي أثرها عكسيًّا إلى البروزات الصخرية الأصلية. وأصبح من الممكن الآن الحصول على معلومات دقيقة عن أجساد النياندرتال. فإذا ما نظرنا إلى الأسنان فحسب، يمكننا معرفة خطوط النمو اليومية، وتقييم النظام الغذائي استنتاجًا من علامات التآكُل الدقيقة، بل واستخدام طرق كيميائية ﻟ «شم» دخان المواقد الذي اخترق جير أسنانهم.
نتج عن هذه الوفرة من المعلومات نهضة في الأبحاث حول النياندرتال على مدى العقود الثلاثة الماضية. فتصدَّرَت كوكبة من الاكتشافات المذهلة عناوين الأخبار، وحدثت ثورة في فهمنا الأساسي للمكان والزمان اللذين عاش فيهما النياندرتال، وكيفية استخدامهم الأدوات، وما كانوا يأكلونه والأبعاد الرمزية لعالمهم. ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للذهول هو أن قصصًا عن الحب بين الأجناس المختلفة، كان قد جرى تجاهلها ونُظِر إليها فيما مضى على أنها هراء، تُستخلَص من شذرات عظام عادية، وأن ملء ملعقة صغيرة من تراب كهف يمكن أن ينتج جينومات كاملة.
تُتيح لنا الآلات المتقدمة أن نستخرج تيرابايتات من المعلومات من كل مادة يمكن تصورها، ولكن يحدُّ من كل هذا إدراكُ الأثريين أن «كيفية» تشكُّل المواقع أمر بالغ الأهمية لفَهم ما تحتويه. بمرور آلاف السنين، نجد أن تقلُّبات الحفظ والتآكُل والزمن تعني أن كل شيء يأتي إلينا على هيئة شظايا وفُتات. يُعَد تسجيل مواضع القطع الأثرية أمرًا حيويًّا لفهم وحدة كل طبقة، قبل أن نندفع في التحليل. يمكن تجميع الأجزاء التي كانت قد كُسرت أو انفصلت منذ وقت طويل، بينما تُسهِم بنية التربة أو الزوايا المائلة لرقائق الصوان أو التآكُلات في شظايا العظام في فك شفرة تكوين الموقع. فأحيانًا من هذا الأرشيف المهترئ والمختلِط يجب أن نستخلص التاريخ.
وهكذا لا يزال الأثريون يشعرون بالإثارة أثناء التنقيب، ولكن ينتج عن عملية الحفر المتوسطة عشرات أو مئات الآلاف من الأغراض التي تُجمَع بعناية ويجب غسلها، وتصنيفها، ووضعها في أكياس منفردة مُحكَمة الغلق. وبوجودها رقميًّا داخل قواعد البيانات الضخمة للجهة الأصلية، تشكل مصدرًا لا يُقدَّر بثمن يُتيح لنا أن نستكشف نقاط التلاقي بين الجيولوجيا، والبيئة وتصرفات أسلاف البشر. لقد أدَّى هذا الاحتياط أيضًا إلى تغيير كيفية تعاملنا مع مجموعات المتاحف المتراكمة منذ زمن طويل. وعلى نحو متزايد تميط المواقع «الكلاسيكية» — التي بعضها يزوره آلاف السياح كل عام — اللِّثامَ عن أسرار جديدة وأحيانًا غير متوقَّعة من خلال عمليات إعادة التحليل المتطورة. إن مجمل كل هذا هو ما يتيح لنا أن نجيب بدقة أكبر من أي وقت مضى عن أسئلة أساسية مثل: «ماذا كان النياندرتال يأكلون؟»
ومع ذلك فمجرَّد جولة قصيرة في علم النظام الغذائي للنياندرتال تكشف عن مدى البساطة الخادعة لذلك السؤال. ليس فقط بسبب نطاق المواد والأساليب المتاحة — بفحص نسب أبعاد عظام الحيوانات، أو التآكُل المجهري للأسنان والأدوات الحجرية، أو بقايا الطعام المحفوظة، أو التحليل الكيميائي والجيني للأحافير — وإنما أيضًا أن الشكوك المعتبرة حول شكل المواقع تؤدي بشكل طبيعي إلى فحص النظام الغذائي بوسائل الطب الشرعي. فالأمور ليست قاطعة دائمًا حتى في الأماكن المكدسة ببقايا حيوانات مغطاة بعلامات تقطيع بأدوات حجرية. على سبيل المثال، تعلم الأثريون بعد دروس قاسية أن يأخذوا بعين الاعتبار دور المفترسات الأخرى، وأن أجزاء الجسم تتحلَّل بمعدلات مختلفة.
ولكن كل تقدم يُضيف إلى الصورة العامة. فقد اتضح أن القائمة كانت تضم ما هو أكثر بكثير من وحوش كبيرة، ولكن هل كان «كل» النياندرتال يأكلون نفس الأطعمة، وفي نفس الأوقات والأمكنة؟ كل شيء في حياة النياندرتال كان مترابطًا، وتكثر التداخلات مع «الأسئلة الكبيرة» الأخرى: ما مقدار الطعام الذي كانت أجسادهم تحتاج إليه؟ هل كانوا يطهون الطعام؟ كيف كانوا يصطادون؟ إلى أيِّ مدًى كانت مساحة مناطقهم؟ كيف كانت شبكاتهم الاجتماعية؟ إن كل سؤال يكشف عن طبقة أخرى من التعقيد.
إن فرز الأنماط من أعداد وفيرة من القطع الأثرية والمواقع يعني البحث عن المعلومات وأخذ الحيطة، مع إقامة الروابط بين الأماكن والأزمنة. كانت حياة النياندرتال رباعية الأبعاد؛ لذا وبينما نُعيد بتفصيل مدهش تشكيل الكيفية التي كانوا يصطادون بها حيوانات الرَّنَّة في مكان ما، يجب أن نسأل ما الذي كانوا يفعلونه في أماكن أخرى، وأزمنة أخرى. توجد أنواع عديدة من المواقع، من حجارة متناثرة سريعة الزوال تحيط بجثة إلى كتل من العظام المكدسة في رواسب رماد هائلة: المحارق المُدَمَّرة ﻟ «مئات» من الوحوش. إن النظر في الأنواع المختلفة من السجلات يجعلنا في مواجهة صعبة مع الإيقاع الزمني المتقلب للماضي: فاعتمادًا على كيفية تشكل الطبقات، قد يحتوي عمقان متساويان على ما جرى في عصر أحد الأيام، أو في عشرة آلاف سنة. ويُعَد تأريخ الأغراض الفردية أداة فعالة، ولكن فقط إذا كنا واثقين من أنها لم تتحرَّك بين الطبقات. وتنبسط المعلومات المستخلصة من القطع الأثرية، أو الطبقات، أو المواقع، لتربط بين مستويات مختلفة من السلوك.
نادرًا ما تظهر مثل هذه التفاصيل الدقيقة في النقاشات العامة حول النياندرتال، وعند السعي إلى فهمهم. لدى معظم الناس أفكار بسيطة عنهم، ولكن التفاصيل العلمية لديهم أبسط. إلى جانب ذلك، يوضعون بكثرة في سياق خلفية تتضمَّن جليدًا وحيوانات ماموث. ومع ذلك فقد كان يوجد عالم كامل للنياندرتال بعيدًا عن الصورة النمطية المستمرة لأجساد مرتعشة تلبس أسمالًا بالية في صحاري متجمدة، كانت بالكاد تتشبث بالحياة حتى وصول الإنسان العاقل «الهوموسابيان» وبعد ذلك فنوا. وعلى الرغم من السهولة الأكبر من ذي قبل في الوصول إلى الأبحاث وهي تُجرى — من خلال الباحثين المهتمين بوسائل التواصل الاجتماعي أو المؤتمرات التي تُبَث مباشرةً — فإن المد الهائل من البيانات الجديدة والتفسير المعقَّد يعني صعوبة العثور على رؤًى متوازنة ومواكِبة لأحدث المستجدات حقًّا. إن الاكتشافات «المدهشة» الحقيقية تفاجئ بالفعل المتابعات الإخبارية المستمرة على مدار ٢٤ ساعة وحتى الباحثين، ولكن القصص «المبهرة» ليست دائمًا هي القصص الأروع. أما النظريات والمناظرات التي ظلَّت تُناقَش بعناية لعقود طويلة تشكِّل عناوين إخبارية رئيسية سيئة، ولكنها تحتوي على بعض أكثر الأفكار إثارة للدهشة حول حياة النياندرتال.
في الواقع، يوجد فارق دقيق يرتكز عليه الكثير من أهم عمليات إعادة توجيه الفهم. تتسع الرؤى تماشيًا مع البيانات المتراكمة، وتتضاءل باستمرار الفجوة «بيننا» و«بينهم». فالكثير من الأشياء التي اعتقدنا أنها تفوق إدراك النياندرتال أصبحت اليوم مقبولة على نطاق واسع من خلال التعاظم البطيء للبيانات: أدوات مصنوعة من مواد غير الحجر، واستخدام أصباغ معدنية، وجمع أشياء مثل الأصداف ومخالب النسور … وبالتبعية، الانخراط في النواحي الجمالية. علاوةً على ذلك، فقد ظهر التفاوت: فالنياندرتال اليوم أقل تشابهًا مع أسلاف البشر، الذين يصعب تمييزهم عنهم من الناحية الشكلية، عنهم مع قاطني عالم واسع وغني مثل الإمبراطورية الرومانية. إن النطاق الضخم لهذا التفاوت في المكان والزمان يعني التنوُّع الثقافي والتعقيد والتطور. لقد تمكَّن النياندرتال، المتنوعون والقادرون على التكيُّف، من العيش في عوالم اندثرت حيث كانت تلتقي الكتل الجليدية التي يبلغ ارتفاعها كيلومترًا مع التندرا، ولكنهم تمكنوا أيضًا من العيش في غابات دفيئة وصحاري وسواحل وجبال.
مضى أكثر من ١٦٠ عامًا منذ (إعادة) اكتشاف النياندرتال، وما زال هوسنا بهم مستمرًّا. هذه علاقة حب أطول من عمر كامل، ولكنها بالمقارنة مع الفترة الزمنية الطويلة لوجودهم على الأرض — تحديقهم بعيون شبه مقفلة في الشمس وهي تشرق، واستنشاق الهواء ملء رئاتهم، وآثار أقدامهم التي خلَّفوها في الوحل والرمل والثلج — تساوي بالكاد حركة ضئيلة لعقرب الثواني في ساعة الزمن العظيمة. إن تصورنا لهم وشعورنا حيالهم يتطوَّران باستمرار، من الشخص العادي الذي يبحث في جوجل عن «هل النياندرتال بشر؟» إلى أولئك الذين يعملون على بقاياهم كل يوم. يُعاد رسم تصوُّر ذهني للنياندرتال أمام أعيننا، فكل اكتشاف يثير فينا من جديد رغباتنا (ومخاوفنا) حول حقيقة هؤلاء القوم القدامى. والأغرب من ذلك كله هو الحياة الأخرى التي لم يخطر ببالهم أبدًا تصوُّرها؛ إذ تمتد الآن قصتهم، التي ظلَّت متشابكةً عبر ما يقرب من قرنين من العلم والتاريخ والثقافة الشعبية، إلى مستقبلنا البعيد.
سترسم بقية هذه الصفحات صورة من القرن الحادي والعشرين للنياندرتال؛ فهم ليسوا أشخاصًا تافهين أغبياء على فرع ذابل من شجرة العائلة، ولكنهم أقارب قدامى أمكنهم بقدر كبير أن يتكيَّفوا، بل وكانوا «ناجحين». أنت تقرأ هذا الكتاب لأنك مهتمٌّ بهم، وأعظم وأروع الأسئلة التي يطرحونها هي: مَن نحن ومن أين أتينا وإلى أين يمكن أن نمضي؟
انظر عَبْر الظلال، وتجاوَزْ بسمعك الأصداء؛ فلديهم الكثير الذي يمكن أن يقدِّموه لنا. ليس فقط طرق أخرى لأن نكون بشرًا، ولكن عيون أخرى نرى بها أنفسنا. إن أعظم شيء بشأن النياندرتال هو أنهم ينتمون إلينا جميعًا، وليسوا ظاهرة من الماضي لن تؤدي إلى أي جديد. إنهم هنا الآن، يكتبون بيديَّ، ويفهمون بعقلك كلماتي.
تابع القراءة، والتقِ بأقربائك.