خاتمة

هذا هو عقد النياندرتال. حدقت أجيال في الآثار العظمية العظيمة الدالة على وجودهم، وهي تحاول إعادة تجسيدها في مخيلتهم. نريد أن نرى تلك الأقدام والأرجل العريضة التي امتدت وتسلقت التلال الوعرة أو جثمت خلف أوراق الشجر؛ تلك الأذرع والأيدي التي رفعت الجلاميد المليئة بأدوات مستقبلية، أو أفخاذ الخيول التي لا تزال دافئة والمرصعة بالدهن اللذيذ. وبعد كل هذا الوقت الذي قضيناه نلتقط فيه صلاتٍ خاطفة معهم، لا يزال التشويق القوي والمهيب لمعرفة أنهم ما زالوا معنا يُهيمن علينا، في دقات المليارات من القلوب، وفي صرخات الأطفال وهم يولدون للنور. لكن جماجمهم هي التي ظلَّت دائمًا تُطاردنا. وجوه ضخمة مألوفة وغريبة في الوقت ذاته، كانت تستقر وراءها ذات يوم أدمغة بارعة، تفكر في عالَم غائب يحدِّق فيه تجويفا عينين فارغان.

ومع ذلك ينتهي كل شيء. فكل الأشياء إلى زوال.

مثل ذئب جائع في جوف شجرة … إنهم مثل النهر والشلال … لا شيء يقف في وجههم.١

هذه هي رؤية ويليام جولدينج للبشرية المنتشرة في جميع أنحاء العالم، والتي يمكن رؤيتها من خلال عينَي بطل الرواية إنسان نياندرتال اللطيف لوك. نُشرت الرؤية المرعبة للرواية بعد ٩٩ سنة من اكتشاف فيلدهوفر، وبعد ٤٠ ألف سنة — أقل بنحو ١٠ مرات من فترة وجود النياندرتال — منذ تقلص العالم إلى نوع واحد فقط من البشر: نحن.

اليوم يواجه النياندرتال، الذين نحملهم داخل أجسادنا، أزمة أخرى. عانت الأرض، التي نعيش عليها في غلاف جوي رقيق بشكل مخيف، مثل عسل مدهون على تفاحة، معاناة طويلة من الحمل المتزايد الذي نضعه عليها. تحوَّل شغفنا المشترك بالخصائص المادية إلى ورم خبيث من الإنتاج والاستهلاك، بينما تصنع أصابعنا الماهرة المزيد والمزيد من الأشياء من الحجر والحديد والبلاستيك.

بينما أنهي هذا الكتاب وأنا بالمنزل خاضعة لقيود الإغلاق بسبب فيروس كورونا في عام ٢٠٢٠، تكثر الأسئلة الوجودية. لقد اجتاحت كورونا العالم في غضون شهر واحد تقريبًا، وتسارعت وتيرة انتشارها بشكل كبير بفضل ملايين الرحلات الجوية التي تربط كل ركن من أركان العالم. إن أزمة المناخ أبطأ ومنسية مؤقتًا، ولكنها أكثر خطورة.

منذ أن بدأ العصر بين الجليدي الحالي منذ حوالي ١٢ ألف سنة، استمتعنا إلى حدٍّ كبير بالمناخات اللطيفة لعالمٍ القمم الجليدية فيه خاملة.

لولا الثورة الصناعية، ربما كان من الممكن أن تتمتَّع البشرية بضعة آلاف أخرى من السنين برخاء واستقرار بيئي قبل أن يبدأ الزئبق في مؤشر الحرارة في الانخفاض الحاد. ولكن بدلًا من ذلك، أدى إطلاق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون — وهي كميات تفوق أي انبعاثات حدثت طوال العصر الجليدي المتأخر وما بعده — إلى تأخير العصر الجليدي المقبل إلى أجل غير مسمى.

ما يحدث الآن لم يسبق له مثيل. خلال الألفية المقبلة — أي ما يعادل ٣٠ جيلًا تقريبًا — نتجه نحو عالم أكثر سخونة وخطورة مما عاش فيه أيٌّ من أسلاف البشر السابقين. كانت فترة الإيميان قبل ١٢٠ ألف سنة أدفأ بدرجة أو درجتين فقط عن وقتنا الحاضر، ومع ذلك، بالإضافة إلى وجود أفراس النهر في نهر التيمز، كانت مستويات سطح البحر أعلى بمقدار ٥ إلى ٧ أمتار (١٥ إلى ٢٢ قدمًا). وكانت السواحل التي تنتشر عليها الآن المنازل الريفية الخلابة والمدن المكتظة مغمورة بالمياه. وهذا مع مستويات أقل بكثير من ثاني أكسيد الكربون مما وصلنا إليه بالفعل.

في غياب إجراءات فورية وجذرية، تضعنا أحدث النماذج المناخية على مسار يؤدي إلى مستقبل مرعب. تتعرض القمم الجليدية القطبية لخطر حقيقي متمثل في اختفائها، وإذا حدث ذلك، فسترتفع المحيطات بمقدار ٢٠ مترًا (٦٥ قدمًا) أو أكثر. في العام الماضي، ذبل الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا، واشتعلت النيران في القطب الشمالي والأمازون وأستراليا، وتحطمت الأرقام القياسية للحرارة الواحد تلو الآخر.

فوق طريق السهوب الأوراسي القديم الممتد حيث سار النياندرتال ذات يوم تذوب جثث من العصر الجليدي من تربة الخث الجليدية الشاسعة المعروفة باسم يِدوما٢ — أقدام ماموث، ورءوس ذئاب، وحتى أشبال كاملة من أسود الكهوف — كنذير شؤم مروع. قد يكون الذوبان العظيم هو الطريقة التي نلتقي بها مع النياندرتال في لقاء ثالث؛ في مكان ما، لا بد أن جسدًا لا يزال مدفونًا، محاطًا بالوحل والأرض الدائمة التجمد التي عمرها ٥٠ ألف سنة.

قد نعزِّي أنفسنا بمعرفة أن النياندرتال نجوا من ظروف مناخية متطرفة مماثلة. ومع انحسار العصور الجليدية، لا بد أن الأرض نفسها بدت وكأنها تتحلل، حيث تحولت التربة الصقيعية القديمة إلى مستنقعات مليئة بالبحيرات تمتد حتى الأفق. وظهرت تلال واختفت مثل فطر موسمي عملاق، وترنحت غابات وغرقت، وانفتحت حفر ضخمة. سالت جوانب جبال بأكملها مثل الآيس كريم حيث انزلقت التربة والنباتات وكل شيء آخر، مما أدى إلى إتلاف النظم البيئية المحلية، والأنهار التي كانت واضحة في السابق — البنية التحتية للحياة — أصبحت مليئة بالرواسب بينما كانت الأرض تتقشر. وصمدوا رغم كل هذا.

لكن أوراسيا التي ربما كانت تضم بضع مئات الآلاف من الأرواح تختلف تمامًا عن الملايين التي تعج بها اليوم. كان يمكن للنياندرتال أن يتحركوا لمحاولة الهروب من الأوقات الصعبة. ليس لدينا دليل إرشادي للوجهة التي تتجه إليها حضارتنا المترامية الأطراف والصناعية والمعقدة بشكل لا يمكن تصوره. ما أثبته فيروس كورونا بشكل صادم هو أنه حتى مع وجود التكنولوجيا باعتبارها حائلًا واقيًا، فإننا نسير على مسار من عدم اليقين وعدم الاستقرار المتزايد باستمرار.

إن هذا المستقبل الذي تزداد فيه حدة الاحتباس الحراري، والمدن الخانقة، والفيضانات، والعواصف، وربما المزيد من الأوبئة، يشبه ثور بيسون يندفع نحونا. إذا لم نتحرك بسرعة، فسوف تتعرَّض الأجيال القادمة للمعاناة والمصاعب وربما لخطر الانقراض. وبينما تسيل دماؤهم سوف تضيع آخر بقايا أسلافنا، النياندرتال.

١  مقتبس من رواية «الورثة» للكاتب ويليام جولدينج.
٢  كلمة يِدوما مستمدة من لغة شعب نينيتس السيبيري وتعني «مكان بدون رنة»، حيث كانت أماكن يضطرون فيها إلى المشي على الأقدام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥