ثورتان

كانت إحداهما في إيطاليا أثناء القرن الأول قبل المسيح، وكانت الثانية في العراق أثناء القرن الثالث للهجرة، وقد عرَّضت أولاهما الجمهورية الرومانية كلها لخطر عظيم، وعرَّضت ثانيتهما الخلافة الإسلامية كلها لخطر عظيم، وقد كانت لكل واحدة منهما أعقاب كثيرة خطيرة ظهرت آثارها فيما بعد، كما كانت لكل واحدة منهما خصائص أظهرت أبطالًا من المختصمين يستحقون الدرس والبحث، ويستوجبون العناية، ويدعون إلى كثير من التفكير.

فأما أولاهما فهي ثورة الرقيق في إيطاليا، تلك التي قادها سبرتاكوس، وأما ثانيتهما فهي ثورة الزنج في البصرة، تلك التي قادها عبد الله بن محمد المعروف بصاحب الزنج.

وقد يسأل القارئ فيمَ تعرضي لهذا الموضوع وقد ذهب الرق وانتهت أيام الأرقاء، وليس في حياة النَّاس الآن ما يدعو إلى التفكير في مثل هذا الموضوع والعناية به، وأحب أن ألاحظ قبل كل شيء أن من الجائز أن يكون الرق الفردي قد ذهب وانقضى عصره، وإن كنت لا أثق بذلك ولا أطمئن إليه، ولكن الرق الاجتماعي لم يذهب بعد ولم ينقضِ عصره، ولست أدري متى يذهب ومتى تنقضي أيامه، فهناك شعوب تسترقُّ شعوبًا، وهناك طبقات من النَّاس تسترق طبقات من الناس، ومع ذلك، فأنا لم أختر هذا الموضوع لأتحدث عن استرقاق الشعوب واستغلال طبقات النَّاس لطبقات الناس، وإنما اخترت هذا الموضوع لسبب آخر سيعرفه القارئ بعد حين، وأحب أن ألاحظ بعد ذلك أن ثورة الزنج في البصرة لم تكن في حقيقة الأمر بدعًا من حياة المسلمين؛ فقد عرف المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة سخط الساخطين على النظام السياسي والاجتماعي، وثورة الثائرين بالنظام السياسي والاجتماعي، ولقيت دولة بني أمية كما لقيت دولة بني العباس من طُلاب العدل السياسي والاجتماعي ألوانًا من العناء يعرفها الذين يدرسون تاريخ الخوارج، ويتتبعون تطور مذاهبهم منذ كانت نظرية التحكيم، فليست ثورة الزنج، في حقيقة الأمر إلا مظهرًا من مظاهر المطالبة بالعدل الاجتماعي، قد اعتمد على مذهب الخوارج أكثر مما اعتمد على أي شيء آخر، ويكفي أن نلاحظ أن صاحب الزنج قد كتب على رايته بالخضرة والحمرة الآية الكريمة: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ إلى آخر الآية، فالثورة في مظهرها خارجية، قد باع الثائرون فيها أنفسهم لله يقاتلون في سبيله فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ، كما كان الخوارج يصنعون من قبل، وكما كانوا يصنعون من بعد، وكما كان خارجي آخر يصنع في الوقت نفسه، فيكلف الدولة عناءً ثقيلًا، يقاتل ومعه أصحابه كما كان يزعم في سبيل الله فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ، وهو مساور الذي خرج على الدولة في أعماق إيران.

وأحب أن ألاحظ آخر الأمر أن ثورة الرقيق على الجمهورية الرومانية في إيطاليا قد أثارت كثيرًا من القول، فكتب فيها المؤرخون القدماء وكتب فيها المحدثون، بل تأثر بها بعض المحدثين في آرائهم الاجتماعية والسياسية، وما زالت تُلهِم الكتَّاب الأوروبيين إلى الآن، وهذا هو الذي دفعني إلى أن أعرض لهذا الموضوع في هذا الحديث.

فقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة قصة رائعة للكاتب المجري أرتور كوسلر، موضوعها «سبارتاكوس وثورة الرقيق على روما» فسألت نفسي: ما بال ثورة الزنج لم تحدث في حياتنا الأدبية مثل ما أحدثته هذه الثورة الإيطالية القديمة؟ لقد سجل المؤرخون أحداثها كما سجل المؤرخون الرومانيون أحداث الثورة الإيطالية، وقال الشعراء المعاصرون في الثورة كثيرًا من الشعر، كما تحدث الأدباء الرومانيون من قبل في اللاتينية واليونانية عن ثورة سبارتاكوس، ولكن الأوروبيين لم ينسوا تاريخ روما وأحداثه، ولم ينظروا إليه على أنه تاريخ ليس غير، وإنما جعلوه جزءًا من حياتهم ومن حياتهم الواقعة التي يحيونها بالفعل؛ فهم يستلهمونه كما يستلهمون التاريخ اليوناني وكما يستلهمون أساطير اليونان والرومان، وكما يستلهمون التوراة فيما يكتبون من نثر وما يقرضون من شعر، فأما نحن فنعرض عن التاريخ العربي إعراضًا يوشك أن يكون تامًّا، لا نكاد نحفل منه إلا بعصر البطولة الذي نجتمع كلنا على حبه والإعجاب به، فنحن نتحدث عن عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين، ونحن نذكر دمشق عاصمة بني أمية، ونذكر بغداد عاصمة بني العباس، ونذكر القاهرة عاصمة الفاطميين، نذكر هذا كله نلتمس فيه الفخر بالقديم ونلتمس فيه العبرة والعظة أيضًا، وقد نلتمس فيه ما يدفعنا إلى الجد ويثير فينا النشاط، ويعزينا عن بعض ما نلقى مما لا يلائم كرامتنا ولا يوافق مجدنا القديم، وكل هذا حسن من غير شك، ولكن من الخير أيضًا أن ننظر إلى تاريخنا على أنه مصدر من مصادر الإلهام الأدبي، وعلى أنه جزء من حياتنا الواقعة لم تنقطع بيننا وبينه الأسباب، فنحن ما نزال نشارك القدماء فيما شعروا وفيما أحسوا، لا يفرق بيننا وبينهم إلا هذا التطور الذي لا بد منه للأحياء.

وربما كان من الطريف أن نلاحظ أن كثيرًا منا يفكرون في العدل الاجتماعي، ويحسون حاجة الجماعات إليه، ولكنهم ينظرون إلى ما وراء البحر الأبيض المتوسط، ليلتمسوا في أوروبا مصادر هذا الشعور بالحاجة إلى العدل الاجتماعي، ومظاهر المطالبة به والسعي إليه، ينظرون إلى الديمقراطية المعتدلة وينظرون إلى الاشتراكية الدولية وإلى الاشتراكية الوطنية وقد ينظرون إلى الشيوعية في كثير من التردد والاستحياء، ولكنهم لا ينظرون أو لا يكادون ينظرون إلى فكرة المطالبة بالعدل الاجتماعي، كما وجدها المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة، وقليل منهم بل أقل من القليل أولئك الذين يحاولون أن يتابعوا نشأة هذه الفكرة وتطورها في البيئات الإسلامية الثائرة، وما أنتجت من ألوان الأدب، قبل أن تتأثر بالثقافات الأجنبية وبعد أن تأثرت بهذه الثقافات، وما كان لها من أثر في حياتنا العقلية المعقدة في الفلسفة والكلام وفي الفقه والأصول، فضلًا عن أن يفكروا في استلهام هذا اللون من ألوان الحياة الإسلامية حين يكتبون النثر أو ينظمون الشعر، ومع ذلك فقد كان للمطالبة بتحقيق العدل الاجتماعي أبطال من حقهم أن يُدرَّسوا، ومن حقهم أن يلهموا الكتاب والشعراء، كما جرت المطالبة بالعدل الاجتماعي على المسلمين في جميع أقطار الأرض الإسلامية خطوبًا هائلة من حقها أن تُدرَّس وتُجلَّى، ومن حقها أن تلهم الكتاب والشعراء حين يكتبون وينظمون.

وأنا بالطبع لا أريد في هذا الحديث أن أدعو إلى إحياء حركات الخوارج والزنج والقرامطة، كما أني لا أريد أن أدعو إلى أن نستعير من أوروبا هذا المذهب أو ذاك من مذاهب المطالبين بتحقيق العدل الاجتماعي، وإنما أحب أن ألفت أدباءنا إلى أن لنا في المطالبة بالعدل الاجتماعي تاريخًا حافلًا عظيم الغناء يستحق أن نرجع إليه بين حين وحين، فلعلَّنا إن فعلنا عرفنا أن المتطرفين من قدمائنا قد سبقوا إلى طائفة من الأصول في تنظيم الحياة الاجتماعية لم تُستكشَف في أوروبا إلا أثناء القرن التاسع عشر أو في عصر الثورة الفرنسية الكبرى.

فنحن إذن لسنا عيالًا ولا يمكن أن نكون عيالًا على المطالبين بتحقيق العدل والثائرين على الظلم الاجتماعي من الأوروبيين، وإنما نحن أبعد منهم عهدًا وأشد منهم ممارسة لهذا النحو من محاولة الإصلاح. مِنْ قدمائنا مَنْ طلب الإصلاح الاجتماعي في رفق ولين، ومنهم من طلبه في ثورة وعنف، ومنهم من أثارها حربًا شعواء على النظم القائمة فعرضها للخطر، وكاد يمحو سلطانها محوًا.

والثورتان اللتان أريد أن ألم بهما في هذا الحديث تصوران لونًا من ألوان السخط يستحق أن يطيل الأدباء التفكير فيه، فقد نشأت ثورة الرقيق على روما من عادة بشعة كان الرومانيون قد ألفوها، ولكنها لم تلبث أن تجاوزت مصدرها الضيق وأصبحت ثورة شاملة على النظام الاجتماعي كله في إيطاليا. هذه العادة البشعة التي أنشأت هذه الثورة هي عادة الاستمتاع بمنظر الرقيق المصطرعين، فقد ألف الرومان أن يشتروا الرقيق ويثقفوهم في فنون الصراع الذي ينتهي إلى الموت، حتى إذا برعوا في هذه الفنون عرضوهم على النظارة في الملاعب وأغروا بعضهم ببعض، وجعل النظارة يستمتعون بما يكون بينهم من كَرٍّ وفرٍّ ومن إقدام وإحجام، وبما يُسفَك بينهم من دماء، وبما يُزهَق بينهم من نفوس، وكان الرومانيون يؤثرون هذه اللذة الآثمة على كل شيء، ينعمون حين يصرع الإنسان الإنسان، وينعمون حين يصرع الحيوان الحيوان، وينعمون حين يكون الصراع بين الإنسان والحيوان، وكانوا في أعقاب الجمهورية وفي أيام الإمبراطورية يطلبون إلى سادتهم وقادتهم، كما هو معروف، شيئين اثنين: الخبز واللعب.

ففي مدينة من المدن الإيطالية كان رجل من أصحاب الملاعب قد جمع طائفة من الرقيق يثقفهم هذه الثقافة البغيضة، ويعرض صراعهم على النظارة بين حين وحين، فهربت جماعة الرقيق من مدرسة هذا الرجل في مدينة كابو، وكان عددها ينيف على السبعين، وانطلقت أمامها لا تلوي على شيء، واستعان صاحبها بالشرطة فلم تقدر على ردهم، ولكنهم لم يكادوا يتقدمون في هربهم حتى انضمت إليهم أعداد أخرى من الرقيق، لم تكن تُتخَذ للصراع وإنما كانت تُتخَذ للخدمة على اختلاف ألوانها، وما هي إلا أن ينتشر النبأ ويتسامع به النَّاس حتى ينتشر معه هرب الرقيق وانضمامهم إلى هؤلاء الآبقين، ثم لا يقف الأمر عند الرقيق وإنما يتجاوزهم إلى أشباه الرقيق من الفقراء والبائسين الذين يعملون في الأرض والذين لا يعملون، والذين يحتملون من ألوان البؤس ما يطاق وما لا يطاق، وإذا الجماعة تضخم شيئًا فشيئًا حتى تصبح خطرًا تحسب له الجمهورية حسابًا، ثم يتجاوز الأمر هؤلاء جميعًا إلى ألوان من النَّاس لم يكونوا رقيقًا ولم يكونوا أحرارًا فقراء، وإنما كانوا ساخطين على النظام الاجتماعي، يرون فيه ظلمًا يجب أن يُرفَع ويطمحون إلى مثل عليا يجب أن تتحقق. من هؤلاء من كان معنيًّا بالأدب والبيان ومنهم من كان معنيًّا بالقضاء والمحاماة، وكل هؤلاء قد نسوا مدرسة الصراع وهرب المصارعين، وأصبحوا لا يفكرون إلا في النظام الاجتماعي السيئ الذي كانوا يحاولون تغييره، ولست في حاجة إلى أن أصور سوء النظام الذي كان هؤلاء النَّاس يثورون به ويسخطون عليه، وإنما يكفي أن ألاحظ أن الثروة الرومانية الضخمة كانت قد انحصرت في أيدي طائفة قليلة من النَّاس يمكن إحصاؤهم؛ فهم الذين يملكون الأرض ويسخرون فيها الرقيق ويقصون عنها الأحرار، وهم الذين يحتكرون التجارة داخل إيطاليا من وراء البحار، وهم الذين يحتكرون الحكم في جميع أرجاء الإمبراطورية ويستغلونه لا للشعب، وهم بحكم هذه الثروة الضخمة التي صارت إليهم يستطيعون أن ينشئوا الجيوش على نفقاتهم الخاصة، ينشئونها في الأرض الإيطالية، وينشئونها في أقاليم الإمبراطورية ويستعينون بها على تحقيق ما يريدون من المآرب والآمال.

في ذلك الوقت كانت كثرة الأحرار من أهل إيطاليا متعطلة قد فقدت ما كانت تملك من الأرض وأصبحت عالة على الأغنياء، تعيش لهم وبهم، تتلقى منهم رزقها وتمنحهم أصواتها في الانتخاب، كما تمنحهم سواعدها حين يجد الجد وتثار الحرب، وفي هذا الوقت كانت الثورات في الأقاليم منتشرة عنيفة: فثورة في إسبانيا، وأمر مضطرب في آسيا، وفي هذا الوقت كان البحر ثائرًا على روما، قد استبد به جماعة من القرصان فتحكموا في المواصلات كما تحكموا في التجارة، وقضوا على سلطان أساطيل الدولة قضاءً يوشك أن يكون تامًّا، فلا غرابة أن يضطرب مجلس الشيوخ الروماني أشد الاضطراب حين يثور الرقيق وتعظم جماعة الثائرين منهم، وينضم إليهم عدد ضخم من الأحرار، ويتعرض النظام كله لهذا الخطر العظيم، وقد أرسل مجلس الشيوخ جيشًا لقهر هؤلاء الثائرين وردهم إلى مواليهم، فمضى الجيش حتى ألجأ الثائرين إلى قمة جبل لاذوا بها، وحاصرهم الجيش هناك وقطع عنهم الميرة، وأقام واثقًا بأنهم سينزلون على حكمه في يوم من الأيام، ولكن الثائرين احتالوا حتى انحدروا من الجبل إلى مكان أمين وداروا حول الجبل حتى أخذوا الجيش على غرة، فهزموه هزيمة منكرة وقتلوا منه مقتلة عظيمة، وغنموا ما كان في المعسكر من سلاح ومؤنة وأداة، فاشتد بذلك بأسهم وعظمت قوتهم، واشتد خوف مجلس الشيوخ في روما فأرسل إليهم جيشًا آخر لم يكن حظه خيرًا من حظ الجيش الأول، ثم أرسل جيشًا آخر يقوده القنصلان، فلم يصنع هذا الجيش شيئًا، وإنما انهزم كما انهزم الجيشان اللذان سبقاه، وكان انتصار الثائرين في كل مرة ينشر لهم الدعوة في إيطاليا نشرًا هائلًا، ويحرض الرقيق أن يأبقوا ليلحقوا بهم، ويحرض البؤساء على أن ينضموا إليهم، حتى كثف جمعهم، وحتى فقدت المدن الإيطالية الأمن أمام الخطر الداهم الذي يأتيها من خارج من هذا الجيش الضخم، والذي يأتيها من داخل من هؤلاء الرقيق الذين يعملون في الدور والقصور والأرض ودور التجارة؛ ولذلك اهتمت روما لهذا الأمر اهتمامًا خاصًّا، فاختارت لقتال هؤلاء الثائرين رجلًا ممتازًا من رجالها، ممتازًا بشيئين: بالثروة الضخمة التي لم تكن ثروة أخرى تعدلها في روما، والتي أتاحت له أن يتحكم في الأغنياء والفقراء جميعًا، وبالطموح الهائل الذي لم يكن يعدله إلا عجز الرجل وقصوره عن النهوض بجلائل الأعمال، وهو مع ذلك قد كان يرى أصحابه وأترابه يشغلون المناصب العليا ويدبرون شئون الدولة ويحكمون الأقاليم، وكلهم كان مدينًا له بالمال القليل أو الكثير.

هذا هو ماركوس كراسوس الذي اختارته روما لقتال الثائرين، وأرسلت معه جيشًا ضخمًا حسن العدة، فما زال يتتبع الثائرين يقهرهم حينًا ويقهرونه حينًا حتى ألجأهم إلى شبه الجزيرة، يأخذهم البحر من أكثر أقطاره ويأخذهم هو من قطره الأخير، وهناك حصر الثائرين، فاحتفر بينه وبينهم خندقًا وأقام على هذا الخندق سورًا منيعًا وانتظر أن يلقوا إليه بأيديهم، وقد تعرض الثائرون لجهد هائل، فقد انقطعت عنهم الميرة حتى ألح عليهم الجوع والظمأ والمرض، وهمَّ زعيمهم سبارتاكوس أن يستعين بالقرصان على تموينهم، فعبثوا به وأخذوا منه ماله ولم يمنحوه إلا المواعيد، وهمَّ أن يصالح القائد الروماني على أن يترك للناس حريتهم يصنعون بها ما يشاءون، ويأخذ القادة ليصنع بهم ما يشاء، ولكن كراسوس أبى إلا التسليم بلا قيد ولا شرط، كما يقول النَّاس في هذه الأيام، وقد استيأس سبارتاكوس واستيأس أصحابه وأبوا أن يلقوا بأيديهم، فاحتالوا حتى عبروا الخندق وتقدموا للموقعة اليائسة. هنالك تقدم سبارتاكوس بين الصفين فنحر فرسه وقال لأصحابه: إن أُقْتَلْ فلست في حاجة إليه وإن أنتصر فلن أعدم فرسًا مكانه، ثم كانت الموقعة وقُتِلَ سبارتاكوس وقُتِلَ أكثر أصحابه وأسر سائرهم، وعاد كراسوس وقد جعل من هؤلاء الأسارى نكالًا للذين يحاولون الثورة على النظام الاجتماعي، فأقام الصلبان على طول الطريق بين ساحل البحر وروما، وجعل كلما تقدم أميالًا صلب جماعة من الأسارى، حتى امتلأت الطريق بين البحر وروما صياحًا وعويلًا ودماءً، وكان كراسوس يظن أن هذا الفوز على الثائرين سيكفل له التسلط على روما، ولكن الشيوخ لم يقدروا هذا الفوز إلا تقديرًا متواضعًا لأنه كان فوزًا على العبيد لا على الجيوش ذات العدة، وقد استطاع كراسوس مع ذلك بفضل ثروته الضخمة وغناه العريض أن يحالف قيصر ويومبيوس، وأن يفرض الثلاثة أنفسهم على روما، وأن يقتسموا الإمبراطورية بينهم، وكانت آسيا نصيب كراسوس، فذهب إليها ومعه جيشه الضخم، ولكنه لم يعد منها كما لم يعد منها جيشه. اندفع إلى حرب البارتيين وغرته قوته ولم تسعفه مهارة ولا سياسة ولا علم بفنون الحرب ولا استماع لنصح الناصحين، فقُتِلَ ابنه أولًا وقُتِلَ هو بعد ذلك ومُحِقَ جيشه محقًا.

وقد نستطيع أن ننظر من أمر هذه الثورة إلى بطلين من أبطالها: أحدهما سبارتاكوس قائد الثورة، والآخر كراسوس ماحق الثورة، فأما أولهما فقد كان راعيًا للقطعان في تراقيا، وقد جُلِب منها فيمن كان يُجلَب من العبيد، فتنقل به الرق من مكان إلى مكان ومن يد إلى يد، حتى انتهى إلى صاحب اللعب المصارعين في تلك المدينة الإيطالية، وكان رجلًا سمح النفس، طيب القلب، ساذج الطبع، كان راعيًا من رعاة القطعان بأوضح ما لهذه الكلمة من معنًى، لا يحب قتلًا ولا قتالًا، ولا يريد شرًّا ولا خصومة، وإنما يؤثر هذه الحياة السهلة الراضية على خشونتها، يتبع قطعانه في مراعيها، كل همه أن يرد عنها الشر ويصد عنها العدوان، ولكنه لم يستطع أن يرد عنها ولا عن نفسه شرًّا، ولا أن يصد عنها ولا عن نفسه عدوانًا، فأخذ في بعض الغنائم كما أُخِذت قطعانه، وبِيع في بعض الأسواق كما بيعت قطعانه أيضًا، وهمَّ سيد من سادته أن يقدِّمه إلى الموت كما كانت قطعانه تُقدَّم إلى الموت، فهرب فيمن هرب من المصارعين، لا يريد بغيًا ولا اعتداءً، وإنما يريد أن ينجو بنفسه من أن يكون قاتلًا أو مقتولًا، وأن ينجو بنفسه كذلك من أن يكون سلعة تباع وتشترى، وأداة تسخر لغير ما تريد، مع أن لها قلبًا يشعر، وعقلًا يفكر، وإرادة تعرف ما تقصد إليه.

وكان سبارتاكوس رجلًا قوي الجسم، مرتفعًا في السماء، عريضًا في الفضاء، شجاعًا لا يعرف الخوف، مصممًا لا يحب التردد، قانعًا لا يطمع إلا في أن يعيش حرًّا، ولا يتمنى إلا أن يعود إلى وطنه في تراقيا ويستأنف حياته تلك مع قطعانه ينتقل بها في الرياض والمروج، ولو أطاعه أصحابه لكان من الممكن أن يبلغ من ذلك ما أراد، وقد كان ينصح لهم دائمًا ويلح عليهم في النصح أن يخرجوا من هذه الأرض الظالم أهلها، وأن يعبروا الألب ويفترقوا بعد ذلك فيمضي كل واحد منهم إلى وطنه، ويستأنف حياته الهادئة التي كان يحياها قبل أن يبسط الرق عليه يده الظالمة، ولكن أصحابه لم يطيعوه ولم يسمعوا له، كانوا قلة ضئيلة ثم أصبحوا كثرة عظيمة، فأعجبتهم كثرتهم ولكنها لم تغنِ عنهم من الموت شيئًا.

ولم يكن سبارتاكوس يبغض شيئًا كما كان يبغض النهب والسلب والإغارة على المدن الآمنة، ولو سمع له أصحابه بعد أن رفضوا العودة إلى أوطانهم لاستقروا في هذه الناحية أو تلك من نواحي إيطاليا وعاشوا من كسب أيديهم، ولانتشرت دعوتهم في هدوء وسلم، ولكان من الممكن أن ينعموا بحياة مطمئنة، وأن يدافعوا عن هذه الحياة إن احتاجوا إلى الدفاع عنها، ولكن أصحابه لم يسمعوا له؛ فقد كانت قلوبهم مغيظة محنقة، وكانت نفوسهم ساخطة واجدة، وكانوا مظلومين، فلم يكفهم أن يخرجوا أنفسهم من الظلم، وإنما أرادوا أن يظلموا النَّاس كما ظلمهم الناس، وأن يذيقوا سادتهم مثل ما أذاقهم سادتهم من الذل والهوان؛ ولذلك اعتدوا على المدن، فحرقوا وخربوا وقتلوا ومثلوا وملأوا أيديهم مما لا يحل لهم من أموال الوادعين الهادئين، فأحفظوا النَّاس على أنفسهم من جهة وأغروا الضعفاء وأصحاب المطامع باتباعهم من جهة أخرى، وكانوا لا يمر بهم يوم إلا ازداد إقبال النَّاس عليهم وبغض النَّاس لهم، فكانوا يستكثرون في كل يوم من الأعداء والأولياء جميعًا، وقد هم سبارتاكوس أن يأخذ أصحابه بالحزم ويحملهم على الجادة ويمنعهم من اقتراف الآثام، فأبى بعضهم أن يسمع له وفارقوه إلى حيث لقوا حتفهم، وسمع له الآخرون وقتًا ما ثم لم يلبثوا أن ضاقوا بهذه الحياة الهادئة التي يُعتدَى عليهم فيها ولا يعتدون على أحد، فعادوا إلى سيرتهم وملأوا الأرض من حولهم شرًّا حتى انتهوا إلى تلك العاقبة التي صورتها آنفًا.

وأما قامع الثورة كراسوس فقد كان — كما رأيت — رجلًا لا حدَّ لثرائه ولا حد لمطامعه ولا حد مع ذلك لعجزه وقصوره، ولم يكن ماهرًا إلا في شيء واحد هو جمع المال يأخذه بحقه قليلًا ويأخذه بغير حقه كثيرًا، كان مرابيًا مفحشًا في الربا، ولكنه يشتط على الضعفاء وييسر الأمر تيسيرًا للأغنياء وأصحاب الجاه، يأخذ من أولئك أموالهم لأنه لا ينتظر أن يأخذ منهم شيئًا آخر، أما هؤلاء فيعطيهم ماله، ولا يأخذ منهم ربحًا ماليًّا؛ لأنه ينتظر أن يأخذ منهم الجاه والسلطان، فلما ارتفع أمره واحتاج إلى جاه الأغنياء وسواعد الفقراء، طابت نفسه عن المال لأولئك وهؤلاء جميعًا، فكان يولم الولائم لأهل روما كافة، كان يقيم الوليمة التي تشتمل على ألف مائدة، وكان يتلقى النَّاس على اختلاف طبقاتهم في كثير من البشاشة والإيناس، كان كما يقول أبو نواس:

فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور

ولكنه لم يكن يشتري حسن الثناء وحده بالمال، وإنما كان يشتري معه سوء القالة وبغض البائسين، فقد كان يتتبع المحتاجين يشتري منهم ما يملكون بأبخس الأثمان، ولعله كان يدفع النَّاس إلى الحاجة ويضطرهم إلى أن يبيعوه ما يملكون، كان يتتبع الحريق هنا وهناك ويشتري الدور التي تشب فيها النار، وكان قد احتكر إطفاء الحريق، وألف لذلك فرقة منظمة قوية؛ فكان إذا شبت النار في دار من الدور فاوض المالك في بيعها، ولم يرسل فرقة المطافئ لإطفاء النار حتى يتم البيع، وكان قد احتكر مواد البناء على اختلافها وصناعة البناء على تنوعها، واتخذ من الرقيق والأحرار فرقًا تعمل في هذا كله؛ فكانت مدينة روما كلها أو أكثرها ملكًا له وكانت له أملاك واسعة في مدن كثيرة أخرى، وكانت له أرض زراعية لا يكاد يبلغها الإحصاء، وكانت غلات هذا كله تئول إلى خزائنه فينفق منها عن سعة ويشتري بها ما يشاء مما يباع وما لا يباع، وكانت هذه الثروة على ضخامتها لا ترضيه ولا تقنعه؛ فقد كان يطمع في السلطان، يريد أن يكون قنصلًا وحاكمًا من حكام الأقاليم وقائدًا للجيوش ومنتصرًا على الأعداء ومتحكمًا في الأولياء، وكان يرى أن ثروته يجب أن تبلغه من هذا كله ما يريد، ولم يكن مخطئًا؛ فقد كان النظام السياسي والاجتماعي من الفساد بحيث بلغته ثروته من هذا كله ما أراد. اشترى بومبيوس واشترى قيصر واشترى أعضاء مجلس الشيوخ واشترى أصوات الناخبين، وارتقى إلى أعلى مناصب الدولة، وسيطر على آسيا وتحكم في ملوكها، وسعى في كثير من الطغيان والجبروت حتى لقي الموت كما يلقاه غيره من الناس، كأنه لم يملك من الثروة ما ملك، ولم يبلغ من السلطان ما بلغ، ولم يتحكم في أشراف روما وملوك آسيا ما تحكم.

وكذلك قُتِل زعيم الثورة سبارتاكوس، كما قُتِل قامع الثورة كراسوس. جاهد أولهما في سبيل حريته وحرية أصحابه وفي سبيل العدل، فظفر بالحرية التي انتهت به وبأصحابه إلى الموت، ولم يظفر من العدل لنفسه ولا لغيره بشيء، بل لم يستطع أن يحقق العدل في معسكره، ولا أن يمنع أصحابه الذين كانوا يطلبون العدل من أن يملأوا الأرض جورًا وظلمًا، وجاهد ثانيهما في سبيل نفسه، فأذل نفوسًا لا تحصى وأزهق نفوسًا لا تحصى، وأهان الفضيلة في سبيل المطامع وازدرى الحق والواجب في سبيل الشهوات، وخدع الشعب واستذل سلطانه وأكرهه على ما لم يكن يريد، ثم قاد الجيوش لا إلى النصر ولا إلى الهزيمة، بل إلى الموت الساحق الماحق الذي لا يبقي ولا يذر. كل هذا كان في إيطاليا أثناء القرن الأول قبل المسيح، فأما أحداث العراق فقد كانت تشبه هذا كله من وجوه كثيرة وتخالفه من وجوه كثيرة أيضًا، ولم تكن أقل منه هولًا على كل حال.

لم يكن عبد الله بن محمد صاحب الزنج غنيًّا ولا شيئًا يشبه الغنى، وأكبر الظن أنه لم يكن شيئًا مذكورًا، ولولا هذه الثورة لجهله التاريخ كما يجهل الملايين التي لا تحصى من النَّاس في كل جيل، ولكنه كان — فيما يظهر — ذكي القلب بعيد الأمل دقيق الحس حاد المزاج، ضابطًا لأمره مالكًا لإرادته، يصبر نفسه على المكروه في غير مشقة ولا جهد. كان يعيش — فيما يقول المؤرخون — ببغداد متصلًا ببعض الخدم المعروفين في قصر الخلافة، يرى الفساد يملأ الأرض من حوله، كان يرى فساد السياسة وفساد النظام الاجتماعي وفساد الأخلاق، وعبادة اللذة هنا وعبادة المطامع هناك، كان يرى الحياة من حوله مغامرات لا تنقضي؛ رفيع يتضع ووضيع يرتفع، فقير تنهض به المغامرة إلى الثروة العريضة وغني تنحط به المغامرة إلى البؤس الضيق، وأغمار يأتون من هنا وهناك فإذا هم يرقون إلى أعلى المناصب ويستأثرون بشئون الخلافة ويتحكمون في حياة الخلفاء، كان يرى ذلك من قرب فتنكره نفسه أشد الإنكار. أكانت نفسه تنكر هذا لأنها كانت نفسًا كريمة تحب الخير وتكره الشر وتطمع في العدل وتؤثر المعروف، أم كانت نفسه تنكر هذا لأنها كانت نفسًا طموحًا تريد أن تشارك فما يشارك فيه المغامرون وأن تأخذ نصيبها من الدنيا؟ مسألة فيها نظر. يرى المؤرخون أنه لم يكن إلا مغامرًا شريرًا، آثر نفسه بالخير وطمع لها في الرياسة واقترف في سبيل ذلك آثامًا يشيب لها الولدان، والمؤرخون لا يسمونه إلا الخبيث واللعين، ولا يصفونه إلا بأنه عدو الله وعدو المسلمين، ولكن بماذا كان المؤرخون يسمونه لو أنه انتصر؟ وبماذا كان المؤرخون يصفونه لو أتيح له الفوز؟

فالناس من يلقَ خيرًا قائلون له
ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل

مهما يكن من شيء فقد كره عبد الله بن محمد ما رأى في بغداد، وكره ما كان يُحمَل إلى بغداد من أخبار الأقطار الإسلامية، فقد كان عرش الخلافة يضطرب أشد الاضطراب، يعبث الأتراك به في الحضرة ويستبدون من دون الخلافة بالأمر ويسومون الخلفاء من الذل والهون ما يريدون، وكان الأمراء والعمال والناجمون في الأطراف يستبدون بما في أيديهم وينشئون الدول المستقلة في الشرق والغرب، يصانعون السلطة المركزية حينًا ويبادونها بالعدوان والحرب في أكثر الأحيان، وكان لكل قوي ضعفاء يستذلهم، ولكل غني فقراء يستغلهم، فأي غرابة في أن ينكر عبد الله بن محمد هذا كله، وفي أن يتحدث بهذا كله أو ببعضه إلى نفر من أصحابه، وفي أن يؤامرهم على أن يغامروا كما غامر النَّاس ويحاولوا تغيير هذا الشر كما حاول النَّاس من قبل، وكما كانوا يحاولون في أيامه تغيير هذا كله؛ وقد ارتحل بنيته هذه من بغداد إلى هَجَر فحاول أن يحدث فيها حدثًا، وكاد ينجح لولا أن أُثِيرت حوله العصبية وكثر القتل بين أصحابه وخصومه، فكرهه النَّاس وضاقت به هَجَر، فانتقل منها إلى الأحساء، ثم ضاقت به الأحساء، فانتقل منها إلى البادية، وجعل يطوف بأحياء العرب يدعوهم إلى مذهبه، والعرب يستجيبون له حينًا، ويمتنعون عليه حينًا آخر حتى ضاقت به البادية أيضًا، وجعل يفكر في وجه يقصد إليه ليبدأ مغامرته ولينتهي بها إلى غايتها.

وهنا يتحدث المؤرخون عنه بالأعاجيب فيزعمون أنه أطال التفكير ذات يوم فإذا سحاب يظهر في السماء ثم يبرق ويرعد، وإذا هو يسمع في صوت الرعد، أو ينبئ أصحابه أنه سمع في صوت الرعد أن وجهته يجب أن تكون البصرة، وقد زعم المؤرخون أنه كان يتحدث إلى أصحابه ألوانًا من الحديث يزعم أنها من ألوان الغيب، فقد ظهرت له آيات فيما يقول على إمامته، فحفظ سورًا من القرآن أُلقِيت في روعه فجاءة ولم يكن يحفظها من قبل، وكُتِب له على الحائط كتاب كان يقرأ فيه، يراه هو ولا يراه أحد من أصحابه، وعُرِضت عليه النبوة فيما قال — أو فيما زعم المؤرخون أنه قال — فأباها، واكتفى بالإمامة؛ لأن أعباء النبوة أثقل من أن يستطيع النهوض بها.

ومن الجائز أن يكون عبد الله بن محمد قد زعم هذا كله أو بعضه لأصحابه؛ فقد كان هذا النحو مذهبًا من مذاهب نشر الدعوة ووسيلة إلى إثارة الجماهير، ومن الجائز كذلك أنه لم يقل من ذلك شيئًا، وإنما تكلف المؤرخون ذلك غضًّا منه وتشهيرًا به وزراية عليه؛ لأن النجاح لم يُكتَب له، والشيء الذي ليس فيه شك هو أنه قصد إلى البصرة، وهمَّ أن يثير فيها الفتنة، فنذر به السلطان، وأخذ بعض أصحابه وهرب هو، فعاد إلى بغداد وأقام فيها مع جماعة من رفاقه يحكمون أمرهم، حتى إذا عُزِل عامل البصرة قصد قصدها، وهناك بدأ مغامرته الخطيرة سنة خمس وخمسين ومائتين بعد أن أنفق في التدبير والتمهيد والتجربة ست سنين.

بدأ مغامرته الخطيرة في رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين؛ اتصل بالرقيق الذين كانوا يعملون حول البصرة في كسح السباخ وفي إصلاح الأرض، وفي استخراج الملح وفي غير ذلك من هذه الأعمال التي سخر أهل البصرة لها عشرات الألوف من الرقيق السود، والظاهر أن أصحاب رءوس الأموال كانوا قساة على هؤلاء العبيد، يسومونهم الخسف ويعنفون عليهم في السيرة ويقترون عليهم في الرزق ويكلفونهم من العمل أكثر مما يطيقون، وآية ذلك أن عبد الله بن محمد لم يكد يتصل بهم حتى استجابوا له مسرعين وحتى تكاثروا حوله، وإذا هو يعدهم ويمنِّيهم، ويمنحهم الحرية، ويحلف لهم جهد أيمانه أنه سيملكهم الأرض وسيجعلهم سادة يملكون الرقيق، بعد أن كانوا رقيقًا يملكهم السادة، وسيملِّكهم سادتهم، والرقيق يسمعون له ويحفون به، ويفنون في طاعته، وهو يبر لهم بما وعد، ويعطيهم ما منَّاهم، أليس قد حكمهم ذات يوم في بعض وكلائهم ومواليهم، فأباح لهم أن يطرحوا هؤلاء الوكلاء والموالي وأن يضربوهم بالسياط؟ ثم هو يتخذ من هؤلاء السود قادة ويؤمِّرهم على الجند ويسوِّي بينهم وبين البِيض الأحرار، يُغِير بهم على القرى ويُغِير بهم على السفن، فإذا أحرزوا ما في القرى والسفن، قسمه بينهم لم يفرق بين عبد وحر، فقد أصبحوا جميعًا أحرارًا، ولم يفرق بين أسود وأبيض، فليس لإنسان على إنسان فضل إلا بالطاعة وحسن البلاء.

وكذلك انتشرت الدعوة بين الرقيق، فتكاثفوا وضخم عددهم، وقلق السادة فأرسلوا إليه يفاوضونه ويخوفونه غدر هؤلاء السود وفرارهم، ويعرضون عليه خمسة دنانير عن كل واحد منهم، فلا يحفل بشيء من ذلك ولا يلتفت إليه، وإنما يمضي في نشر دعوته وتحرير الرقيق من السود، وتأليب الأحرار من الفقراء والبائسين، وإذا هو صاحب جيش ضخم يهتم له السلطان فيرسل إليه الحملة إثر الحملة، وهو ينتصر على ما يُرسَل إليه من الجيوش، وهو يقهر القائد إثر القائد ويهزم الوالي إثر الوالي، ويزعج أهل البصرة إزعاجًا شديدًا بعد أن ألقى في روعهم أنهم أصبحوا في متناول يده، ليس عليه إلا أن يبسطها ليأخذهم متى شاء وكيف شاء، والسلطان المركزي في بغداد يرسل الوالي إثر الوالي والجيش بعد الجيش فلا يظفر بشيء أو لا يكاد يظفر بشيء، حتى أخاف صاحب الزنج هذا القسم من العراق، فأفزع البصرة والأبلة والأهواز، ونشر الرعب حتى اضطر النَّاس إلى الهجرة والهرب، وهو متنقل بجيشه من مكان إلى مكان، مغير بهذا الجيش على مدينة بعد مدينة، يغير بنفسه حينًا، ويرسل أصحابه إلى الغارة حينًا آخر، حتى إذا استيقن القدرة على اقتحام البصرة دفع إليها أصحابه دفعًا فخربها تخريبًا وقتل أهلها تقتيلًا منكرًا، واستصفى ما كان عندهم من المال، واضطر من بقي منهم إلى الفرار، وأخذ الأسرى من أحرار العرب والعجم من خيار الرجال وكرائم النساء، فوزعهم على أصحابه رقيقًا بعد أن كانوا سادة، وعرضهم في الأسواق للبيع والشراء كما كانوا يعرضون الزنج في الأسواق للبيع والشراء، وقد جزع الخليفة المعتمد لهذا الأمر جزعًا شديدًا، فكلَّف أخاه الموفق إدارة هذه الحرب، وأعد له جيشًا لم ترَ بغداد مثله منذ عهد بعيد، وذهب الموفق فلقيت جيوشه صاحب الزنج مرة ومرة ومرة دون أن تبلغ منها شيئًا، وإنما كانت الهزيمة تدركها في أكثر الأحيان، واضطر الموفق إلى اعتزال هذه الحرب إما يأسًا من الفوز وإما لأن الخلافة كانت في حاجة إليه لحرب أخرى في الشرق لم تكن أهون من حرب الزنج شأنًا ولا أقل منها خطرًا، والمهم أن صاحب الزنج استأثر بالأمر كله في هذا القطر من أقطار الدولة الإسلامية، وملأ العراق رعبًا وفرقًا ونغَّص الحياة على أهل بغداد، وسلَّمت له كور وأقاليم جعل يجبي خراجها وينفق منه على تدبير أمره وتقوية جيشه، وكان هذا القطر من أقطار العراق قد نُظِّم الري فيه أحسن تنظيم وأكمله، فجرت فيه الأقنية والأنهار من كل وجه واتخذت فيه هذه الأقنية والأنهار وسائل للري ووسائل للمواصلات، ثم اتخذت وسائل للحرب أيضًا فكانت هذه الأقنية والأنهار دروعًا يُتقَّى بها العدو حين تتحارب الجيوش على الأرض، كما كانت هذه الأنهار والأقنية ميادين للقتال حين تتحارب الجيوش على ظهر الماء، وقد اتخذت الأساطيل النهرية من صغار السفن وكبارها، وكانت جيوش السلطان وجيوش صاحب الزنج تلتقي وتقتتل، على ظهر الأرض وعلى وجه الماء.

ولما عظم أمر صاحب الزنج وأصبح خطرًا لا على ما يليه من الكور والأقاليم فحسب، بل على عاصمة الخلافة وسلطان الدولة كله، أعاد المعتمد إلى أخيه تدبير أمر الحرب وأطلق يده في أموال الدولة يدبرها كما يشاء وينفق منها كما يشاء، وأطلق يده في جيوش الدولة أيضًا يوجهها حيث يشاء ويكلفها من الأمر ما يشاء، ونهض الموفق لهذه الحرب مصممًا هذه المرة على ألا يعود حتى يمحق الفتنة محقًا، وقد أتيح له ما أراد، ولكن بعد أن بذل أي جهد، وبعد أن احتمل أيَّ عناء، وبعد أن أنفق أي مال، وبعد أن ضحى بعشرات الألوف من الجند وبعد أن عرض نفسه وابنه وقواده لأي مخاطرة، يكفي أن تعلم أنه أنفق في هذه الحملة الأخيرة أعوامًا متصلة غير قليلة لم يرح فيها ولم يسترح، ولم ينفذ فيها أحكامه وأوامره حسب العرف المألوف، وإنما فرضها دكتاتورية عنيفة شملت أكثر أقطار الخلافة واستغرقت أكثر مرافقها، وينظر الموفق ذات يوم وإذا أخوه أمير المؤمنين قد ضاق بهذه الدكتاتورية ولم يطق صبرًا على ما تفرض عليه وعلى جنده من الضيق، وإذا هو يخرج ذات يوم من بغداد قاصدًا إلى الغرب، يريد أن يأوي إلى مصر ليعيش في ظل ابن طولون مغاضبًا لأخيه، ولكن الموفق كان أحزم من ذلك وأمضى رأيًا وأوسع حيلة، فيأمر بعض قواده في الأقاليم أن يتلقى الخليفة ووزراءه وقادته، وأن يقبض عليهم ويردهم إلى بغداد كارهين إن لم يعودوا إليها راضين، والقائد يطيع أمر مولاه، ويرد أمير المؤمنين وأصحابه إلى العاصمة، وقد ضبط الموفق الأمر وأحكمه في الأقاليم التي كانت خاضعة لسلطان الخلافة، ومضى في الحرب لا يعرف هوادة ولا رفقًا ولا لينًا، يقدم ابنه أبا العباس بين يديه وينتظر منه أن يخاطر بنفسه ليخاطر القواد بأنفسهم وليخاطر الجنود بأنفسهم أيضًا، أليس هو يخاطر بنفسه كلما سنحت الفرصة؟!

وكان أمر صاحب الزنج قد بلغ من العلو والارتفاع أن اتخذ لنفسه ولقواده المدن الجديدة، ينشئها إنشاءً، ويحصنها تحصينًا هائلًا؛ فهو يقيم في المدينة المختارة، وقائد آخر يقيم في المدينة المنيعة، وقائد ثالث يقيم في المدينة المنصورة، وقد ملئت الأرض من حول هذه المدن بالجند وأداة الحرب، وملئت الأنهار والأقنية بالسفن، فينشئ الموفق لنفسه مدينة يتخذها قاعدة للحرب يسميها الموفقية، ويجمع فيها كل ما يجتمع في العواصم الكبيرة من المرافق والصناعات التي يحتاج النَّاس إليها في السلم والحرب، ولا يزال بجيوش صاحب الزنج الأشهر والأشهر، ثم العام بعد العام، حتى يضطرها إلى أن تترك خطة الهجوم وتلتزم خطة الدفاع في مدنها وحصونها، ثم لا يزال بهذه المدن والحصون حتى يستخلصها مدينة مدينة وحصنًا حصنًا، وحتى يضطر الفلول المنهزمة إلى المدينة المختارة حيث يقيم صاحب الزنج، وإذا النَّاس يكثرون في هذه المدينة حتى تضيق بهم، وحتى تقصر مرافقها عن إرضاء حاجاتهم، ولكن الموفق يتقدم حتى يضرب حولها الحصار، ويقطع عنها الميرة، وهنا يظهر الموفق من النبوغ والامتياز ما لم يمكن أن يظهره كراسوس في حرب سبارتاكوس، فقوة الموفق هائلة لا تُقهَر، وهو قادر على أن يأخذ المدينة بالحصار، يُضَيِّق عليها حتى يلقي أهلها بأيديهم، وهو قادر على أن يقتحم المدينة وإن كلفه ذلك خسائر هائلة، ولكنه يبدأ فيعرض الأمان على صاحب الزنج، فإذا رفض التسليم مضى في حرب غريبة حقًّا، فحارب بالرهبة التي لا تعدلها رهبة، وبالرغبة التي لا تشبهها رغبة؛ فهو يبذل الأمان والعفو والخلع السنية لمن شاء من قواد صاحب الزنج وجنوده لا يبخل من ذلك بشيء، فإذا استأمن إليه بعض النَّاس تلقاه فعفا عنه وأحسن إليه وخلع عليه وكرمه أجمل تكريم، ثم عرضه في سفينة من السفن في هيئته الجديدة ليراه المشرفون من السور فيطمعوا في مثل ما أتيح له من النعيم، وما أكثر ما كان هذا المنظر يطمع ويغري! وما أكثر ما كان قواد صاحب الزنج يتأثرون بهذا الإطماع والإغراء، ويستأمنون للموفق ويصبحون له على قائدهم ورئيسهم ظهيرًا!

وإذا أخذ أصحاب الموفق بعض الأسرى وأبوا أن يستأمنوا ضرب أعناقهم، ثم يجمع رءوسهم إلى رءوس الذين يُقتَلون في الموقعة، ثم ينصب هذه الرءوس على السفن ليراها المشرفون من السور فتمتلئ قلوبهم فزعًا وروعًا، وقد يُقتَل القائد الوجيه فيُحتَز رأسه ثم يُرمَى به من وراء السور، ومع المنشور من منشورات الموفق قد ملأه الترغيب والترهيب، وكذلك أخاف الموفق كثيرًا من الناس، وأطمع كثيرًا من الناس، واجتذب إلى نفسه كثيرًا من الناس، حتى إذا آن له وقت الهجوم أمر بهدم الأسوار واقتحام المدينة وتهديم الحصون حصنًا حصنًا، والدور دارًا دارًا، وجدَّ في ذلك حتى بلغ منه ما أراد بعد مشقة شاقة وجهد عنيف.

كل ذلك وعبد الله بن محمد صاحب الزنج يقاوم كأحسن ما تكون المقاومة، ويدافع كأعنف ما يكون الدفاع، لا تفل عزمه خيانة الصديق ولا يثبط همه قتل الأنصار، وإنما هو يقاوم في مدينته ما وسعته المقاومة، ثم يقاوم في داره حتى تُقتحَم عليه، ثم يقاوم في كل شبر من الأرض حتى يتفرق عنه أنصاره، منهم من قُتِل ومنهم من أُخِذ ومنهم من لاذ بالفرار، وهو قائم يدافع لا يتزحزح عن مكان إلا ليثبت في مكان آخر، حتى إذا أُحِيط به لم يستسلم ولم يُلقِ السلاح، وإنما قاتل حتى قُتِل، وحتى احتُزَّ رأسه وحُمِل إلى الموفق، وقد ثبت معه جماعة من قواده دافعوا كما دافع، وأبلوا كما أبلى، قُتِل بعضهم في الميدان، وأُخِذ بعضهم إلى بغداد، فقُتِلوا وصُلِبوا على شاطئ النهر.

وظن النَّاس أن ثورة الزنج قد انتهت، ولكنها أعوام تمضي، وإذا ثورة أخرى تظهر في العراق فتملأ الأرض هولًا، لا في العراق وحده ولكن في جزيرة العرب وفي الشام، وقد تصل أطراف منها إلى مصر؛ كانت البصرة ضحية ثورة الزنج، ثم صارت الكوفة ضحية ثورة القرامطة. ألم يكن هناك سبب بين هاتين الثورتين؟ بلى قد كان هناك سبب أي سبب؛ طابعهما واحد، هو الخروج على النظام السياسي والاجتماعي والانتساب إلى آل علي، وغايتهما واحدة هي تحقيق العدل في الأرض بعد أن أفسدها الظلم والجور، ونتيجتهما واحدة هي هذا الروع الذي ملأ القلوب وهذا الهول الذي سفك الدماء، وأزهق النفوس ودمر الأمصار، وهذا الجهد الضائع الذي لم يزل ظلمًا إلا ليقيم مكانه ظلمًا آخر، والذي يحاول أن ينصف النَّاس فلا يبلغ من الإنصاف شيئًا. أكُتِبَ على الإنسانية إذن أن تكون الجهود التي تبذلها في سبيل الإصلاح مضيعة، وأن يصبح الذين يحاولون إزالة الظلم وإقرار العدل أنصارًا للظلم وأعداء للعدل؟ كانوا يريدون أن ينقذوا أنفسهم وينقذوا النَّاس من ظلم الظالمين، فلم يكتفوا بالإنقاذ، وإنما جزوا السادة ظلمًا بظلم، فكان هذا أول الشر، ثم تجاوزوا ظلم الظالمين من الأعداء إلى ظلم الأنصار والأتباع، فأصبحت الحرية استبدادًا، وأصبحت المساواة استئثارًا، وأصبح الإنصاف بغيًا وعدوانًا، ومضت كلمة القضاء في الناس: سعيٌ متصل إلى المُثُل العليا، وعجزٌ متصل عن تحقيق هذه المُثُل أو الوصول إليها، وظلم متصل في أثناء ذلك للظالمين وغير الظالمين.

وقد أظهرت ثورة سبارتاكوس رجلين اثنين هما قائد الثورة وقامعها، أما ثورة الزنج فقد أظهرت رجالًا كثيرين لا أستطيع بالطبع أن أتحدث عنهم، وإنما ألاحظ مسرعًا أنها أظهرت رجلين اثنين من رجال الدولة المحافظين على النظام، وأظهرت طائفة من النَّاس كلهم ممتاز خليق أن يحفظ التاريخ اسمه من ناحية الثورة، فلم ينهض بالثورة عبد الله بن محمد وحده، ولم يعتمد فيها على الزنج وحدهم، وإنما نهض معه قوم من أصحابه كانوا في مثل سنه، منهم من خرج من غمار النَّاس لم تكن له سابقة ولا لأسرته ذكر، كهذا البحراني الذي كان كيالًا في وطنه قبل أن تتصل أسبابه بصاحب الزنج، فأصبح بعد ذلك قائدًا مجربًا، وسياسيًّا لبقًا، ومدبرًا داهية، ومنهم من كان من أهل البيوتات، ومن الأسر الأرستقراطية العريقة، كعلي بن أبان المهلبي، هذا الذي ينتسب إلى قامع ثورة الخوارج أيام بني أمية والذي أصبح خارجيًّا مع صاحب الزنج، والذي أظهر براعة في الحرب ودهاءً في السياسة وصبرًا على المكروه لا يشبهه فيها إلا أبو العباس ابن الموفق، ومنهم آخرون جاء بعضهم من عرض الطريق فكشفت الأحداث منهم عن رجال أفذاذ حقًّا ليسوا أقل استعدادًا للنهوض بجلائل الأعمال وعظائم الأمور من هذه الأرستقراطية التي احتكرت شئون الحكم احتكارًا، فإذا دل هذا كله على شيء فإنما يدل أولًا على أن روح المغامرة قد كان شائعًا منتشرًا في جميع الطبقات، وعلى أن انتشار الثقافة قد فتح للناس وللمغامرين منهم خاصة أبوابًا لم تكن تُفتَح لهم من قبل، وأشعرهم بأن ما يُفرَض عليهم من نظم الحكم تلك التي اشتملها الفساد، وما يُفرَض عليهم من نظم الاجتماع تلك التي قامت على الظلم والجور، كل هذا خليق أن يُغيَّر، فحاولوا تغييره ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا. نجحوا أول الأمر هنا وهناك، ثم أدركهم الإخفاق في كل مكان؛ لأن تقدم العقل لم يكن قد بلغ طوره الذي يمكنه من أن يسيطر على الإرادة والغريزة، وأظنك توافقني على أن تقدم العقل لم يبلغ هذا الطور إلى الآن، فما أكثر الثورات التي قامت في العصر الحديث لتغير النظم السياسية والاجتماعية وترد النَّاس إلى العدل والمساواة، فلم تبلغ من ذلك إلا أقله، وما زال أكثره أملًا يُرقَب ولا يُتاح الوصول إليه!

ولنقف وقفة قصيرة جدًّا عند قائد ثورة الزنج عبد الله بن محمد، وقامع هذه الثورة أبي أحمد الموفق بن المتوكل، فأما أولهما فقد كان رجلًا من غمار النَّاس حقًّا، زعم المؤرخون أنه انتسب إلى آل علي ولم يكن منهم في شيء، وأنه تردد في سلسلة نسبه إلى زيد بن علي بن الحسين، وزعم المؤرخون أيضًا أن نسبه في عبد القيس، وجائز أن يكون نسبه في عبد القيس، وجائز أيضًا ألا يكون له نسب في قبيلة من قبائل العرب، وأكبر الظن أنه لم يكن يحفل بشيء من ذلك فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين أصحابه، وإنما كان يتكلف بعض ذلك ليستهوي قلوب العامة ويجمعهم حوله، فقد كانت العامة في العراق وبلاد العرب وأجزاء من بلاد الفرس مؤمنة بأن تغيير النظم السياسية إن قُدِّر له أن يكون فلن يقع إلا على يدٍ علوية تتصل بأهل البيت.

والشيء المحقق هو أن عبد الله بن محمد قد كان رجل حزم وجلد كما كان رجل طمع وطموح. كل شيء في سيرته يدل على صلابة الرأي ومضاء العزم والثبات على المبدأ، والشجاعة التي لا تعرف ضعفًا ولا فتورًا، والمرونة التي لا تعرف ترددًا ولا حيرة أمام المشكلات، وقد يضيف المؤرخون إليه سيئات كثيرة منكرة، وأكبر الظن أنه قد اقترف كثيرًا من هذه السيئات، فأسرف في القتل والتدمير، وأنهب أصحابه الأموال، ورد الأحرار إلى الرق كما رد الرقيق إلى الحرية، ولكن كثيرًا من سيئاته هذه لا ينبغي أن يُحمَل عليه وحده، وإنما ينبغي أن يُحمَل على عصره وعلى الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، سواء منهم من حافظ على النظام القديم ومن أراد تغييره، وكل ثورة خطيرة على النظم السياسية والاجتماعية تستتبع ألوانًا من الهول لا يسيغها الخلق ولا يقرها العقل ولا يرضاها الدين، ولكنها تقع مع ذلك لأن الغريزة هي التي تدفع إليها، ولأن الغريزة هي التي تثور، وإذا ثارت، فقلَّ أن تعرف لنفسها حدًّا تنتهي إليه. والناس يعرفون أهوال الثورة الفرنسية كما يعرفون أهوال الثورة الشيوعية، والناس لا يكرهون الثورة عبثًا، وإنما يكرهونها لما تدفع إليه من هول وما تورط فيه من إثم، وما يقترف النَّاس فيها من المنكرات، ومع ذلك فقد يخطئ المؤرخون، وينسون أنهم يكتبون عن عدو الله الخبيث اللعين صاحب الزنج، قد يخطئ المؤرخون وقد ينسون هذا كله، فيذكرون أمورًا تدل على الصدق والرفق، ولا تصدر عن خائن خبيث يتعمد الشر ويتخذ الشيطان له إمامًا، فهو يأبى مثلًا أن يأذن بالإغارة على قرية لأن رجلًا من أهلها قتل رجلًا من أصحابه، يريد قبل الإيقاع بهذه القرية أن يتبين ويتثبت لعل أهل القرية أبرياء لم يعينوا صاحبهم ولم يشاركوا في إثمه، وهو يلقى بعض أهل القرى وقد أقبلوا يعرضون عليه أموالهم لينصرف عنهم، فيجزيهم خيرًا ويترك لهم أموالهم ولا يلقاهم بكيد، وهو يحس أن الزنج يشفقون من أن يتركهم أو يسلمهم لكثرة ما كان يوجه إليه من إغراء، فيجمعهم ويؤمنهم ويطلب إليهم أن يحيطوه بجماعة منهم ترقب سيرته، فإن رأت منه انحرافًا عن العهد أو ميلًا إلى الإغراء، فتكت به، وهو يوفي عهده، ويثبت على مبدئه، فلا يستأمن حين يُعرَض عليه الأمان، ولا يستسلم حين يستيئس من الفوز، ولا يحاول أن ينجو بنفسه بعد أن فقد الأمل، وإنما يقاتل حتى يُقتَل.

أما خصمه أبو أحمد فلم يكن كما رأيت من عامة الناس، وإنما هو من سلالة الخلفاء، أبوه المتوكل بن الرشيد، وقد كانت سلالة الخلفاء من حوله قد أدركها الضعف، وانتشر فيها الخمول، وأترفت حتى تحكمت فيها اللذة، ثم تحكم فيها الرقيق من الخدم في القصور والجند خارج القصور، فظهور أبي أحمد في هذه البيئة المترفة التي أفسدها الترف حتى غلبت على أمرها، وتفوقه هذا الرائع في إدارة السياسة والاقتصاد والحرب، كل ذلك آية على أنه قد كان رجلًا نابغة كأكمل ما يكون الرجل النابغة، وقد نظلمه أقبح الظلم إذا وازنا بينه وبين كراسوس قامع الثورة الإيطالية. قد كان أبو أحمد مناقضًا لهذا الروماني المترف العاجز الذي أفسده الثراء، فلم يبقِ له شجاعة ولا خلقًا ولا دينًا كل المناقضة؛ كان أبو أحمد أشجع بني العباس في عصره، وأشجع من كان يعمل لبني العباس من قادة الترك والموالي عامة، وكان يملك الشجاعة بأروع معانيها وأرفعها، فهو قوي على نفسه، ثم هو قوي على أهله وذوي قرابته قبل أن يكون قويًّا على غيره من الناس، يخاطر بنفسه في المواقع، ويحمد من ابنه مخاطرته بنفسه في المواقع، فإذا أحس من أخيه أمير المؤمنين ترددًا أو ضعفًا أو اضطرابًا، أخذه بالحزم ورده إلى القصد، وأكرهه على الاعتدال، وإذا رأى من ابنه نفسه بعد الفوز إسرافًا في الجموح أو الطموح، قسا عليه أشد القسوة، وألقاه في غيابات السجن، لم يحفل بحبه له وعطفه عليه، والناس يثورون غضبًا للأمير الشاب، ولكن أبا أحمد يلقى الثائرين ويردهم إلى الهدوء ويسألهم: أترون أنكم أحب له وأحدب عليه من أبيه؟ وأبو أحمد لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار. كانت شئون الدولة مضطربة أشد الاضطراب، فكان مضطربًا مثلها، يدافع الشر حيث ينجم الشر، يحاول أن يقهر ابن طولون في الغرب، ويقمع الثورة في العراق كما يقمعها في شرق الدولة، وحين يعجز عن الحركة، ويضطر إلى لزوم الفراش، فهو يدبر الأمر من سريره، ثم يعاد إلى بغداد، وقد عجز عن الركوب، فيُحمَل في سرير، يتناوب نقله أربعون رجلًا، وهو يحس أن حامليه يشفقون بحمله فيقول لهم في بعض الطريق: وددت لو أني كنت واحدًا منكم، أسعى كما تسعون، وأشقى كما تشقون، ولا ألقى من الألم والعجز ما ألقى، ولكنه على ألمه وعجزه، يدبر أمور الدولة إلى آخر لحظة من لحظات حياته، ويفرضها دكتاتورية حازمة لا يعفي من سلطانها ابنه ولا أخاه.

أليس يرى كتابنا وشعراؤنا أن في أحداث التاريخ العربي القديم ما يستطيع أن يلهمهم حين يكتبون النثر أو ينظمون الشعر؟ أليس يرى كتابنا وشعراؤنا أن من حق هذه الأحداث عليهم أن ينظروا فيها بين حين وحين، كما ينظرون إلى أحداث أخرى وإلى ألوان أخرى من التاريخ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤