الأدب بين الاتصال والانفصال

أيُّ المذهبينِ أَهْدَى سبيلًا؟ مذهب الأديب الذي يُؤْثِرُ العُزلة لعقله وقلبه وفنه، وينظر إلى الحياة الإنسانية الواقعة من برجه العاجي، لا يحفل بها ولا يقف عندها، ولا يلتفت إليها إلا أن تكون مصدرًا لأثر من آثاره الفنية؛ فهو حينئذ يستوحيها ويستقصيها، ويَصدر عنها فيما يرسم من الصور، وما يحدث من الآثار، يقف منها موقفه من الطبيعة غير الواعية، يتخذها مادة لفنه دون أن يُشارِكها بعقله وقلبه وشعوره فيما يختلف عليها من الأحداث، وما يُلِمُّ بها من الخطوب.

أم مذهب الأديب الذي يأخذ بحظه من هذه الحياة الواقعة، فيسعد حين تشيع فيها السعادة، ويشقى حين يستأثر بها الشقاء، ويُجَاهِد مع المُجاهدين ليكسب لنفسه وللناس، أو قُل: ليَكسب للناس ولنفسه حظًّا جديدًا من سعادة، وليَدْفع عن الناسِ وعن نفسه طائفًا عارضًا من شقاء؟

هذه هي المَسألة التي يلهج بها الأدباء الفرنسيون في باريس منذ وضعت الحرب أوزارها، بل قبل أن تَشُبَّ الحرب نارها؛ فقد فرضت هذه المَسْأَلة نفسها على الأدباء الأوروبيين منذ كان الاصطدام العنيف بين المذاهب في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية بين الحربين حين عظم أمر الشيوعية في روسيا، وأمر الفاشية في إيطاليا وألمانيا، واجتهدت الديمقراطية التقليدية في أن تثبت بين هذين المذهبين من مذاهب السياسة والاجتماع، وفي أن تدفع عن نفسها خطر الفناء الذي يأتيها من التسلط المُطلق للجماعة، ومن التسلط المُطلق للفرد، على دقائق الحياة الاجتماعية والفردية على السواء.

فقد وجدت الشيوعية أُدَبَاء شاركوا فيها، ودافعوا عنها، وقاموا دونها يحسونها بألسنتهم وأقلامهم، ويحاولون نشرها في أقطار الأرض.

ووجدت الفاشية كذلك أُدباء أنفقوا ما يملكون من قوة وجهد في الذود عنها، والقيام دونها.

ونظرت الديمقراطية؛ فإذا الساسة وحدهم هم الذين يناضلون ويجاهدون لحمايتها أول الأمر، وإذا الأدباء لا يحفلون بها ولا يتكلفون حمايتها، وإنما يؤثرون أنفسهم بخيراتها، ويستمتعون في ظلها بما يتاح لهم من الحرية ليحيوا كما يحيون، وينعموا كما يستطيعون، ويكتبوا كما يشاءون والتي يشاءون وفيما يشاءون من الموضوعات.

وأكبر الظنِّ أَنَّهم كانوا خليقين أن يمضوا في طريقهم تلك لا يلتفتون إلى ما حولهم من الحياة الواقعة، لو لم يحسوا الخطرَ يأتيهم من انتشار الشيوعية والفاشية في بيئاتهم الخاصة التي يعيشون فيها، ولو لم يشعروا بأنَّ هذا الخطر يتغلغل في حياة أوطانهم تغلغلًا مُخيفًا، ويُوشك أن يخضعهم لأحد المذهبين اللذين كانا يتنازعان أوروبا بين الحربين.

هنالك تبينوا أنَّ حُرِّيتهم مُعَرَّضة للخَطَرِ، وأنَّ ثقافتهم مُعَرَّضة للزوال، وأنَّ فنَّهم مُعَرَّض للفناء، وأنهم مُخَيَّرون بين اثنتين: إما أن يفنوا في الشيوعية أو الفاشية؛ فيذهبوا مذهب غيرهم من الأدباء الشيوعيين والفاشيين، وإما أن يمنحوا الديمقراطية التقليدية ألسنتهم وأقلامهم، ويُشاركوا أصحاب السياسة في الدفاع عنها والقيام دونها وحمايتها من أن يجتاحها هذا الخطر أو ذاك؛ رأوا ذلك رأي العين، وأحسوه إحساسًا قويًّا مُلِحًّا، فاضطروا إلى أن يُشاركوا في الدفاع عن الديمقراطية، وذهب بعضهم مذهب الفاشية، وذهب بعضهم الآخر مذهب الشيوعية، وخرج الأدب من عزلته، وانحدر الأدباء من بروجهم العاجية إلى أسواق السياسة وميادين الصراع حول المنافع العاجلة والمصالح القريبة، ونشأت هذه الظاهرة الأدبية التي تُسَمَّى التضامن في تبعات الحياة.

ثم كانت الحرب، واضطرَّ كثيرٌ جدًّا من الأدباء إلى ما اضْطُّر إليه غيرُهم من عامَّة الناس من مُصَانَعة العَدُوِّ أو مُقاومته، ومن الانحياز إليه أو التألب عليه، ولم يبقَ أو لم يكد يبقى أديب أوروبي يستطيع أن يقول إنَّه مُحتفظ بعُزلته، مُستأثرٌ بوحدته، مُعتصم ببرجه العاجي، ينظر إلى اضطراب الناس من حوله كما ينظر إلى ضوء الشمس حين تشرق، وإلى ظلمة الليل حين تغمر الكون، وإلى الأغصان حين يُداعبها النَّسيم، أو إلى ماء الجدول حين يُداعب الحصباء، وإلى الطير حين تملأ الجوَّ غناءً وبكاءً، وإلى أمواج البحر حين تعصف بها الريح.

أُكرِه الأدباء على أن ينزلوا بأدبهم إلى الحياة الواقعة، وعلى أن يُشَارِكوا النَّاس في آلامِهم وآمَالهم، وفيما يُتاح لهم من سَعَادَة أو شقاء، حتى الذين آثروا الصمت منهم لم يؤثروا الصمت تَرفعًا عنِ المُشاركة في الحياة الواقعة، ولا تَمَنُّعًا على التضامن الاجتماعي، ولا حُبًّا في الاعتصام بالبروج العاجية، وإنما اتخذوا الصمت سلاحًا لعله كان أمضى من الكلام أحيانًا.

فقد كان العدو المنتصرون يودون بجدع الأنوف لو ظفروا من هؤلاء الأدباء الصامتين بشيء من تأييد، كما كان الصديق المتضامنون مع العدو عن رضًا أو عن كره، والذين كانوا يُسمَّون بالكويسلنج يتمنون أيضًا بجدع الأنوف لو أُتِيحَت لهم معونة هؤلاء الأُدباء الصامتين.

فقد اضطر الأدباء إذن إلى أن يُشاركوا في الحياة الواقعة، وإلى أن يَختاروا بين المذاهب السياسية والاجتماعية التي كانت تتنازع أوروبا في ذلك الوقت، وأدوا ثمن هذه المشاركة غاليًا؛ ضحوا فيها بأنفسهم أحيانًا، وبِراحَتِهم أحيانًا، وبِحُرِّيتهم دائمًا، ثُمَّ تضع الحرب أوزارها بين الجند المُقاتلين دون أن تضع أوزارها بين الساسة المختصمين.

فالنَّاسُ لا يَقْتُل بعضهم بعضًا منذ حين، وقد انهارت ألمانيا وإيطاليا واليابان، واستسلمت بلا قيد ولا شرط، ولكنَّ الخُصُومَةَ السياسية حول النظم المُختلفة ما زالت قائِمة كعَهْدِها قبل أن تشب الحرب، وكعهدها بعد أن شبت الحرب، فما عسى أن يكون موقف الأدباء من هذا الصراع المُتَّصل بين النظم السياسية والاجتماعية؟ أيُشارِكُون فيه بعد الحرب كما شاركوا فيه قبل الحرب وأثناء الحرب، أم يستأنفون حياتهم تلك القديمة؛ فينحاز إلى العزلة منهم من يحب العُزلة، ويصعد إلى البروج العاجية منهم من يُحِبُّ الاعتصام بهذه البروج؟!

وبِعِبارَةٍ مُوجَزة: أيُبَاحُ للأديب أن يحيا حياة العزلة، وأن يخلص لفنه المحض، وأن ينظر إلى الحياة الإنسانية الواقعة كما يَنْظُر إلى الطبيعة الصامتة يتخذها مادة لفنِّه ليس غير، أم يُفْرَضُ على الأديبِ أن يحيا مع الناس، فيألم حين يألمون، ويأمل حين يأملون، ويُشاركهم مُشَاركةً كَامِلَة فيما يَجِدُون من نَعيم وبؤس، ومن سعادة وشقاء؟ وبعبارة أشد وضوحًا وإيجازًا: أينبغي للأدب أن يكون لونًا من ألوان الترف، أم يجبُ على الأدبِ أن يكون أداة من أدوات الحياة؟

هذه هي المشكلة التي تُقِيم الأدباءَ في باريس وتُقْعِدهم منذ حُرِّرَت فَرَنسا، وقد يُخَيَّل إلى كَثِيرٍ مِنَ النَّاس كما يُخَيَّل إلى الأدباءِ الفرنسيين أَنْفُسِهم أنَّها مُشْكِلَةٌ جَدِيدة طَارِئة، ولكن نظرة يسيرة سريعة في التاريخ الأدبي لأي أُمة من الأمم الحية، تكفي لإقناعنا بأنَّ هذه المشكلة ليست جديدة، وبأن حظها من الطرافة ضئيل جدًّا يُوشك ألا يكون شيئًا.

فأنت تستطيع أنْ تنظر إلى أي عصر من عصور الأدب الفرنسي، مثلًا منذ أوائل القرن السادس عشر إلى الآن، فسترى أنَّ الأُدباء قد انقسموا دائمًا هذا النوع من الانقسام، فكان منهم المشاركون في الحياة الواقعة، والمُؤْثِرون للعُزلة والانفراد، وكانَ أثرُ الذين يُشارِكون في الحياة الواقعة دائمًا أعظمُ خطرًا، وأجل شأنًا من أثر الذين يحبون العُزلة، ويَعتصمون بالوحدة، ويَلزمون بروجهم العاجية يُنَزِّلون منها وحيهم الأدبي تنزيلًا.

فلست أدري إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يُقال إنَّ مونتني ورابليه في القرن السادس عشر كانا مُعتزلين يَعتَصمان بالبرج العَاجِيِّ، مع أنَّ الوَاقِع الذي ليس فيه شك هو أنَّ أدبهما يُصوِّر حياة الطَّبقة الفرنسية التي كانا يَعِيشَانِ فيها أصدق تصوير وأبدعه. وقُل مثل ذلك بالقياس إلى الشُّعراء الذين عاشوا في ذلك العصر؛ فهم قد عاشوا مع طبقتهم عيشة تضامن لا اعتزال، وهم قد صوروا طبقتهم تصويرًا صادقًا؛ منهم من اتصل بالقصر فصور حياة القصر، ومنهم من عاش من الشعب فصور حياة الشعب.

وكانت الحالُ كذلك في القرن السابع عشر فلم يكن كورني ولا راسين ولا بوالو معتزلين يلقون وحيهم من بروجهم العاجية، كما كان أبلُّون يلقي وحيه في معبد دلف، وإنما كانوا يشتقون فنهم منَ الحَياة الواقعة من حولهم، يتخذون مذهب القدماء في الأدب وسيلة إلى تصوير هذه الحياة الواقعة بما فيها من ألم وأمَل ومُثل عُليا؛ فأما موليير فأمره أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

أما القرن الثامن عشر، فهو القرن الذي عرف تضامن الأدب مع الحياة الواقعة في أوسع حدوده وأبعد آماده، فمن الخطأ كل الخطأ أنْ يُقال: إنَّ ڤولتير ومونتسكيو وديديرو وروسو كانوا معتزلين أو مترفعين عن الحياة اليومية الواقعة.

والثورة الفرنسية لم تأتِ من لا شيء، وإنما جاءت من تطور الحياة الواقعة نفسها من جهة، ومن تصوير الأدب لهذه الحياة وتطورها من جهة أخرى، ومنْ إشعار الأدب للشعب بأنَّ الحياةَ التي كان يَحْيَاها لم تكن تُلائِم حَقَّه في الحُرِّية والإِخَاء والمُسَاوَاة والعدل.

فإذا تركنا هذا القرن؛ فسنلاحظ أنَّ القرن التاسع عشر كان عصر الصراع بين الأدب، وبين الذين خاصموا الحرية أو حاولوا أن يضيعوا ما كسبه الشعب الفرنسي من ثورته الكبرى؛ وقد احتاج نابليون إلى أن يُنَظِّم حربه التي نصبها للأدباء الأحرار، كما نظم حربه التي نصبها لخصومه من الإنجليز والروس والنمسويين، وكانت له شرطته الدَّاخلية ذات النظام الدقيق العنيف، وكان له صرعاه من الأدباء، كما كان له جيشه العظيم وصرعاه من خصومه الخارجيين.

وأكبر الظنِّ أنَّ نابليون لم يُحارب الأدباء إلا لأنهم قاوموه، وأن الأدباء لم يُقَاوموه إلَّا لأنهم خالفوه في الرأي، ولم يُخالفوه في الرأي إلا لأنهم تضامنوا مع الحياة الواقعة، ولم يعتصموا بالبروج العاجية، ولم يُؤْثِروا العُزلة وما تستتبعه من العافية على الجهاد مع المجاهدين.

وقد كان للملكية الفرنسية بين الإمبراطوريتين أنصارها وخصومها من الأدباء، وكان لها صرعاها وضحاياها، كما كان لها أصدقاؤها الذين استمتعوا في ظلها بالسعادة والنَّعيم، وهذا كله لا يدل إلا على أنَّ الأُدباء، أو كثرة الأدباء، لم يستطيعوا أن يُؤْثِروا حياة العزلة.

والثورة الفرنسية الثانية سنة ١٨٤٨، لم تأتِ من لا شيء وإنما جاءت من تطور الحياة الواقعة، ومن تصوير الأدباء لهذا التطور، ومن إقناعهم للشَّعب بأنَّ سادته قد أضاعوا عليه ما جَنَى منَ الثَّورة الكُبرى، وقد كان للإمبراطورية الثانية صرعاها من الأدباء، وما نَظُنُّ أننا في حاجة إلى أن نذكر فكتور هوجو، وما أظن أحدًا يستطيع أن يقول إنَّ فكتور هوجو ولامرتين كانا من أنصار العُزلة وعُشَّاق البُرج العَاجِيِّ، حتى فلوبير الذي أبى أنْ يَحْفل بشيء غير الفن، وفرض على نفسه حياة خالصة للأدب وللأدب الخالص، حتى فلوبير لم يستطع أن يمتنع على المشاركة في الحياة الواقعة، والتضامن مع الناس فيما كانوا يجدون من أمل وألم.

ويكفي أن تقرأ قصته الرَّائعة «التربية الشعورية» L’Education sentimentale، وأن تقرأ رسائله، وأن تقرأ كتابه الخالد — Bouvard et Pécuchet — لتعلم أن بُرجه العاجي لم يكن إلا مَلجأً يأوي إليه ليستعرض ما جنى من مُشاركة النَّاس في حياتهم الواقعة، ثم يعرضه بعد ذلك عليهم في صوره الرائعة التي تدفع إلى العمل، وتملأ القلوب شوقًا إلى المُثل العُليا، وازورارًا عن هذه الحماقة التي تُعَرِّض الشعبَ لعبث العابثين.

فإذا كانت الجمهورية الثالثة؛ فالكثرةُ الضَّخْمَةُ منَ الأُدَباء مُشارِكة في السياسة إلى أبعد حدود المشاركة، وليس من شك في أنَّ جُورس، وليون بلوم، وأناتول فرانس، وموريس باريس، وبيجي لم ينتظروا ظهور الشيوعية والفاشية؛ ليشاركوا في الحياة السياسية الواقعة مشاركة تختلف عنفًا ولينًا باختلاف أمزجتهم وما كان يحيط بهم من الظروف.

وقد عرف الفرنسيون في آخر القرن المَاضي أزمة دريفوس تلك التي أكرهتهم جميعًا على أنْ يُشاركوا في السياسة مُشاركة فِعْليَّة عنيفة لم يتخلف عنها عالم ولا أديب.

فإذا لهج الأدباء الفرنسيون الآن بالتضامن الأدبي مع الحياة الواقعة، وإذا أسرفوا في ذكر الأدب المُتضامن والأدب المعتزل، فهم في حقيقة الأمر لا يأتون بشيء جديد ولا يواجهون مشكلة جَديدة، وإنَّما هي مُشكلة قديمة خالدة، إلى أي حد يستطيع الأدب أن يعتزل الحياة الواقعة دون أن يُصْبِح لغوًا من اللغو، وسخفًا لا غناء فيه؟ وإلى أيِّ حدٍّ يستطيع الأدب أن يُشارك في الحياة الواقعة دون أن يُضطَّر إلى الإسفاف الذي يُفْسِده، وإلى الابتذال الذي يُلْغِيه؟ والشيء المُحَقَّقُ فيما أعتقد هو أن الفرنسيين كغيرهم من الأوروبيين، بل كغيرهم من الناس المتحضرين، يمرون بهذه الأزمة العنيفة التي تمر بها الأمم بين حين وحين، والتي تَضطَّر المُثقفين وقادة الرأي إلى أن يتجاوزوا عن عُزْلتِهم أكثر مما تعودوا أن يفعلوا، وإلى أن يأخذوا بحظهم من الجهاد اليومي؛ لينصروا هذا المذهب أو ذاك، وليُحققوا هذا اللون أو ذاك من ألوان المُثل العليا.

وقد صورت في حديث سابق ذلك الصراع العنيف بين العدل والحُرِّية؛ فهذا الصِّراع لا يُمكن أن يتحقق ولا أن تظهر آثاره، ولا أن يُؤْتِي ثَمَرَه إلَّا إذا كان هُناك مُصَارِعون يُديرون بينهم ما يُديرون من هذا الجدال العنيف؛ فالحرية ليست شيئًا قائمًا بنفسه يُمكن أن يلتزم خطة الدفاع، أو أن يتخذ خطة الهجوم، والعدل كذلك ليس شيئًا قائمًا بنفسه يُمكن أن يتخذ هذه الخطة أو تلك، وإنَّما الحُرِّية والعدل خصلتان قائمتان في أنفس الناس: هؤلاء يؤثرون الحرية، وهؤلاء يؤثرون العدل، وهؤلاء يؤثرون شيئًا وسطًا بين ذلك. وهم جميعًا يختصمون ويصطرعون، ويُجَادِل بعضهم بعضًا، والخصومة بينهم لا تكون بالعمل وحده، وإنما تكون بالعمل والقول، ولعلها أن تكون بالقول أكثر مما تكون بالعمل.

وانتصار الحرية على حساب العدل يُعَرِّض الناس جميعًا ومنهم الأدباء لحياة قاسية قوامها الظلم. وانتصار العدل على حساب الحرية يُعَرِّض الناس جميعًا ومنهم الأدباء أيضًا، لحياة قاسية قوامها المساواة وفيها شيء كثير من الخضوع؛ فالأديب مُضطَّرٌ إلى أن يُدَافِع عَن نَفْسه؛ لأنَّه هو نفسه مُعَرَّض بحكم هذه الأزمة لفقدان الحرية أو لفقدان العدل أو لفقدانهما جميعًا.

فالعزلة الأدبية في هذا الوقت ليست إلا حُكمًا بالموت على الأديب، ولولا أنَّ هذه الأزمة العنيفة تُثِير الشهوات، وتدفع الأهواء إلى الجموح، لما اختلف الأُدباء الفرنسيون كما يختلفون اليوم حول الأدب المعتزل والأدب المتضامن.

فالحرية في حاجة إلى أن يُدافِع عنها أنصارُها، والعدلُ في حاجة إلى أن يدافع عنه أنصارُه، والأديب الذي ينحاز إلى نفسه ويَعْكُف عليها ويفرغ لها، لا يزيد على أن يُسَجِّل أنَّه زَاهِدٌ في الحُرِّيَة والعَدْلِ جميعًا، أي: إنه زاهد في الحياة. أو قُل: إنه لا يزيد على أن يُسجل أنه طُفيلي يعيش من كسب غيره، ينتظر أن ينتصر هذا الفريق أو ذاك ليَعيش في ظله، وينعَم بما يُلقَى إليه من الفتات.

وهذا الأديبُ — فيما أعلم — لا يُوجَد أو لا يكاد يُوجَد، وفي الحياةِ بعد ذلك أشياء أخرى غير الحرية والعدل، والنَّاسُ في حاجة إلى هذه الأشياء؛ فهم يختصمون حولها كما يختصمون حول الحرية والعدل، والأديبُ مثلهم يَحْتَاج إلى هذه الأشياء كما يَحْتَاج إلى الحُرية والعدل، فهو مضطر إلى أن يُخَاصِم ويُجَاهِد ليُحَقِّقَ رَأيه في كل مشكلة من المشكلات التي تمسُّ الجماعةَ وتُؤَثِّر في حياتها.

ومن هنا يُمكن أن يُوجَد الأديب الذي لا يُخاصم في العدل، ولا في الحرية، ولكنه يُخاصِم في الدين، أو يُخاصِم في الإلحاد، أو يُخاصِم في هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الدين، أو يُخاصِم فيما شئت من هذه المشكلات الإنسانية التي لا تنقضي والتي تتجدد في كل يوم.

والأدب الفرنسي ليس وحده موضوعًا لهذا الخلاف حول التضامن والاعتزال، فالمَسألة كما قلتُ آنفًا قديمة لا تتصل بعصر دون عصر، عامة لا تتصل ببيئة دون بيئة، ولا بجيل دون جيل.

أكان الأدب اليوناني مثلًا معتزلًا أم متضامنًا؟ مسألة من شأنها أن تُضْحِك الشعراء والفلاسفة، والكُتَّاب اليونانيين لو أنها أُلقِيَت عليهم؛ فقد كان الأديبُ اليوناني بطبعه مُواطنًا يونانيًّا، يأكلُ الطَّعَامَ ويَمْشِي في الأسواق، ويُؤَدِّي واجباته الوطنية، ويَشهد الاجتماعات السياسية، ويُدافِع عن هذا الحزب أو ذاك، ويَجْنِي ثمر هذا الدفاع نعيمًا أو بُؤسًا وسعادة أو شقاءً.

والذين يقرءون الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية يعلمون ذلك حقَّ العِلم ويُقَدِّرونه حقَّ قَدْره، ومن ذا الذي يَسْتَطيعُ أنْ يقول إنَّ التِّراجِيديا اليُونانية لم تكن تميل إلى المُحافظة السياسية، وإن الكُوميديا لم تكن تعبث بالديمقراطية، وإنَّ سُقراط قد شرب السُّم؛ لأنَّه آثر الاعتزال الفلسفي على التضامن مع الحياة الواقعة، وإن أفلاطون لم يغرق في السياسة إلى أذنيه، وإن أرسطاطاليس لم يضطر بحكم السياسة إلى أن يموت غريبًا.

ولم يكن الأدب عند الرومانيين أقل مُشاركة في الحياة الواقعة من الأدب اليوناني، فرُبَّما كان أظهر شيء في الأدب اللاتيني الخطابة، وقد كانت كلها أو أكثرها سياسة، والتاريخ وقد كان كله أو أكثره سياسة.

فأما الشِّعْرُ فقد حاول أن يتجنب السياسة فلم يبلغ مما أراد شيئًا؛ لأنَّ السياسة كانت تفرض نفسها على المواطن اليوناني والروماني فرضًا، لا يعنيها أن يكون هذا المواطن أديبًا أو حذاءً.

وأدبنا العربي أكان مُتَضَامِنًا مع الحياة الواقعة أم كان مُتَرفِّعًا عنها؟ أهو الآن أدبٌ مُتضامن أم أدب مُعتزل؟ مسألة لا تخلو من عبرة وعظة، فقد كان أدبنا العربي حيًّا قويًّا حين تضامن مع الحياة الواقعة، وكان فاترًا مُتَهَالكًا حين اضطرته الظروف إلى الاعتزال. وما أُرِيدُ أنْ أَذْكُر الشِّعْرَ العَرَبي في العَصْرِ الجاهلي؛ فقد كان أمره أوضح من أن يَحْتَاجَ إلى بَيانٍ، كانَ الشَّاعِرُ العربي لسان القبيلة، يُسَجِّل مَآثِرَها، ويُذِيعُ مَفَاخِرَها، ويُدافِع عنها في المواطن التي تحتاج إلى الدفاع، وما كان أكثرها! فقد كان أدبنا الجاهلي، وهو كله شعر، مُتضامنًا لا يُطيِق الاعتزال ولا يُسِيغُه؛ لأنَّ الشاعر كان فردًا من أفراد القبيلة يحيا بحياتِها ويُشارِك فيما يُصيبها من خير أو شر، فإنْ خَالف عن هذا التضامن فهو الخليع الذي يجب أن يعيش عيشة الصَّعَالِيك، وهو بهذا يَخْرُج عن التَّضامن مع القبيلة إلى تضامن آخر ليس أقل منه مُشاركة في الحياةِ الوَاقِعَة، وهو التَّضامن مع أمثالِهِ منَ الصَّعاليك.

كان أدبنا الجَاهلي مُتَضَامنًا إذن، فأمَّا أدَبُنا الإِسْلَامِيُّ فقد كان تضامنًا كله؛ كان تضامنًا حين كان الشعراء المسلمون والمشركون يتقارضون قصائدهم دفاعًا عن الإسلام أو دفاعًا عن حياة قريش قبل أن تُسْلِم قريش، وكان تضامنًا حين نشأت الأحزابُ السياسية بعد موت النبي، وحين انحاز كلُّ شاعرٍ إلى حزبٍ من الأحزابِ يُدافعُ عنه باليد واللسان.

حتى هؤلاء الفحول الذين ظنَّ الناسُ أنهم فرغوا للشعر وتجاوزوا عن السياسة، لم يستطيعوا أن يفرغوا للشعر ولا أن يتجاوزوا عن السياسة، وإنما انحاز الأخطل إلى بني أمية، وانحاز الفرزدق إلى العُثمانية، وعارض الحجاجُ وغيره من ولاة العراق، وانحاز جرير إلى الزبيريين ثم باع شعره لبني أمية.

وفرغ بعض الشعراء للفن الخالص، فأدركهم الخمول على ما أُتِيح لهم من الجودة الرائعة، ولعل ذا الرمة أن يكون مثلًا صادقًا لهؤلاء الشعراء الذين أرادوا أن يعتزلوا فلم يُصيبوا من الاعتزال إلا الإخفاق والخمول، وإنا لنبذل ما نستطيع من الجهد لنَرُدَّ إلى ذِي الرمة وأشباهه شيئًا من الإنصاف، فلا نكاد نظفر من ذلك بشيء على بُعد العهد وتباين الظروف.

وقد ظل أدبنا مُتضامنًا مُشاركًا في الحياة الواقعة حتى بعد انقضاء العصر الأموي وتغَلُّب الاستبداد الفارسي على القصر في بغداد، والناسُ يَظُنُّون أنَّ تغلب الفرس على العرب بعد الثورة العباسية قد اضطر الأدب إلى شيء من العُزلة، وليس هذا بملائم للحق؛ فإني أجدُ الشعراء في العصر العباسي يختصمون كما كانوا يختصمون في العصر الأُموي حول مَذهب الشيعة ومَذهب الجماعة ومذهب الخوارج.

وليس الكُتَّابُ والفَلاسِفَةُ والفُقَهاء بأقلَّ تضامنًا ومُشاركة في الحياة الواقعة من الشعراء، وقد كان تغلب الترك في القرن الثالث على دار الخلافة وعلى السلطان كله خليقًا أن يُبْعِد الأدب عن السياسة، ولكنه لم يصنع شيئًا؛ فقد كان الترك أقل مُشَارَكة من الفُرْسِ في الفنِّ، وأقلَّ مِنْهُم احتفالًا بهذا الذَّوق المُتْرَف والنَّحو الرفيع من الأدب، وأشد منهم غلظة في مواجهة المشكلات ومعالجة الخطوب، ولكنهم على هذا كله لم يمنعوا البحتري وأبا تمام وابن المعتز وابن الرومي من أن يُشاركوا بِشِعْرِهم في السياسة العامة من جهة وفي السياسة الخاصَّة الطارئة من جهة أخرى.

ومن ذا الذي يَسْتَطِيعُ أنْ يَقولَ إنَّ سينية البُحتري وبائية أبي تَمَّام قد صَدَرتا عن شاعرين معتزلين؟! ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إنَّ رسائل الجاحظ قد صدرت عن أديب معتزل لا يُشارك في الحياة الواقعة؟! ومن ذا الذي يُنكِر أنَّ ابن الرومي قد حرَّض على الزنج واستحث أهل بغداد لنصر الموفق؟! ومن ذا الذي لم يقرأ جدال ابن المعتز لأبناء عمومته من الطالبيين؟! والمتنبي أكان مُعتزلًا للحياة الواقعة أم كان مُشاركًا فيها؟! أليس منَ المُحَقَّق أنَّ افتتان الأجيال بشعر المتنبي إنما هو نتيجة طبيعية لما كان من تضامن المتنبي في أكثر حياته مع العرب في خصومتهم للفرس والترك، ومع القرامطة في سخطهم على النظام الاجتماعي ومحاولتهم تغيير هذا النظام؟!

وأبو العلاء الذي امتاز بالعُزلة وانفرد بهذه الوحدة التي فرضها على نفسه في محبسيه أو في محابسه، والذي ظنَّ أنه قد حقق من هذه العُزلة ما أراد مع أنه لم يُحقق منها شيئًا، أكان أدَبه مُعتزلًا أم مُتضامنًا؟ أيستطيع أحدٌ أن يُنكر أنَّ أبَا العَلاء لم يخفق في شيء كما أخفق في مُحاولته للعزلة؟ أمَّا أنه نجح في عزلته المادية فشيء جائز؛ لأنه لزم داره ولم يخرج منها إلا مضطرًّا، وأمَّا أنه أخفق في عزلته المعنوية فشيء ليس فيه شك ولا يُمكن أن يكون موضوعًا للنزاع؛ فلم تخلُ دار أبي العلاء من الطارئين عليه والملمين به يومًا من الأيام، أثناء نصف القرن الذي لزم فيه داره.

ولم ينظم أبو العلاء بيتًا من الشعر، ولم يكتب فصلًا من النثر إلا كان فيما نظم وما كتب مُتَّصلًا بالحَياة الوَاقعة أوثق الاتصال وأشده؛ فهذا الشاعِرُ الفيلسوف الذي أنفق حياته طالبًا للعُزلة، هو الذي أنتج في الأدب العربي أدبًا أقلَّ ما يُوصف به أنه أدب اجتماعي مُتضامن بأوسع معاني هذه العبارة وأدقها.

وقد أخفق أبو العلاء في كثير من الأشياء بحكم الظروف التي أحاطت به، ولكنه لم يُخفِق في شيء كما أخفق في محاولة الابتعاد عن الناس، وأبو العلاء يستطيع أن يقول إنه إنسي الولادة وحشي الغريزة؛ فغريزته هذه الوحشية هي التي ميزته من غيره ودفعت النَّاسَ دفعًا إلى أن يتهالكوا عليه، واضطرته هو إلى أن يتهالك عليهم أشدَّ التهالك ويُنْكِر ذلك على نفسه أشدَّ الإنْكار، ويُصَوِّر هذا في شعره تصويرًا بشعًا رائعًا في هذا البيت:

كلاب تعاوت أو تغاوت لجيفة
وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا

من أشنع الخطأ إذن أن يُقال إنَّ أدَبَنا العَربي في عُصورِه المُزْدَهرة قد كان أدبًا مُعتزلًا مُترفعًا عن الحياة الواقعة أو مُهمِلًا لهذه الحياة، وإنَّما الذين يقولون مثل هذا القول هم الذين غرَّتهم ظواهر الأشياء عن حقائقها، فلم يروا في شعر الشُّعراء إلا مَدحًا وهجاءً ورثاءً، ولكنهم لم يتعمقوا هذا المدح والهجاء والرثاء، ولم يفهموا هذه الفنون على وجهها، ولم يَدْرُسوا غيرها من الفنون التي طرقها هؤلاء الشعراء، ولم يروا في نثر الكُتَّاب إلا تنميقًا وتزويقًا وتأنقًا في اختيار اللفظ، وتكلفًا في تحرير المَعاني، وتَصَنُّعًا في تعقيد الأسلوب، ولكنهم لم يتجاوزوا هذا إلى ما يمكن أن يكون وراءه من مُشاركة في الحياة الواقِعَة أو ترَفُّعٍ عن هذه الحياة.

والغريبُ أنَّ الذينَ يَدْرُسون تاريخَ الأدبِ العَرَبِيِّ لا يكادون يَفْطِنُون إلى أنَّ أكثر كُتَّابنا إنَّما كانوا يعملون في المرافق العامة، ويتصلون بالسُّلطان من قُرب أو من بُعد، ويتأثرون بالخطوب التي يقتضيها الاتصال بالسلطان والاشتراك في الحياة العامة، ويُصَوِّرون هذا كله حين يكتبون، سواء أصدروا فيما يكتبون عما يقتضيه العمل أو عما يجدونه في ذوات أنفسهم.

وأنا ألتمس الكاتب العَربي أو الإسلامي الذي نفض يده من الحياة العامة نفضًا واعتزل الحقائق الواقعة اعتزالًا، فلا أكاد أظفر به أثناء هذه العصور الأدبية العربية المزدهرة.

وواضح جدًّا أنَّ اتِّصال الأدبِ بالحياة الواقعة ليس معناه أن ينقطع الأديب عن نفسه، فلا يكتب ولا ينظم إلا فيما يمس هذه الحياة الواقعة. فتصَوُّر الاتصال بين الأدب والحياة الواقعة على هذا النحو ضرب من السخف لا غناء فيه؛ لأنَّ الإنسان، ولا سيما حين يكون على ما ينبغي أن يكون عليه صاحبُ الفَنِّ من دقة الحِسِّ ورِقَّة الشعور وصفاء الطَّبع واعتدال المزاج، لا يستطيع أن ينسى نفسه ولا أن يجحد ما يختلف عليها من ألوان الشعور حين يتصل بظواهر الأشياء وحقائقها.

فإغراق الشاعر في الغناء وإلحاحه في وصف الجمال مهما يكن مظهره، ليس معناه انقطاع هذا الشاعر عن الحياة الواقعة واعتزاله في بُرجه العاجي، وإنما معناه أنه لا ينسى نفسه كما أنه لا ينسى غيره، وأنَّ ذِهنه مُهَيَّأ لتلقي الانطباعات مهما يكن مَصْدَرُها، ثم لتصوير هذه الانطباعات فيما يُنْشِئ من أثر منظومًا كان هذا الأثر أو منثورًا.

فإغراق أبي نُوَاس مثلًا في وصف الخمر وتهالكه على تصوير أهوائه الجامحة ولذاته الآثمة، ليس معناهُما أنَّ أبا نُوَاس قد اعتزل حياة الناس وارتفع أو اتضع بأدبه عن المُشاركة في هذه الحياة، بل معناه أنه قد آثر نفسه بمقدار قليل أو كثير من إنتاجه الأدبي دون أن ينسى الحياة الواقعة، وإنَّما هو يُشارك فيها حين يَمْدح الخُلفاء والوزراء والأمراء، ويُشارك فيها حين يَهجو، ويُشارك فيها حين يُصَوِّر الزهد؛ ومن يدري! لعله يُشارِك فيها أشدَّ المشاركة حين يغرق في وصف الخمر، وحين يصور الأهواء الجامحة واللذات الآثمة؛ لأنه لم يكن يعاقر الخمر ولا يقارف الإثم وحده، وإنما كان فردًا من طبقة أَلِفَت مُعاقرة الخمر ومُقارفة الإثم.

فهو إذن لا يُصوِّر نفسه وحدها، وإِنَّما يُصَوِّر طبقة من مُعَاصِريه؛ وهو في هذه النَّاحية مُشارك في الحَياة الواقعة حين تكون جدًّا وكدًّا ومُواجهة للمشكلات، وحين تكون عبثًا وهزلًا ومُجونًا ومُقارفَة للمُوبقات. وهو من هذه الناحية أيضًا مرآة للعصر الذي كان يعيشُ فيه، أو مرآة إن شئت للون من ألوان الحياة في العصر الذي كان يعيشُ فيه.

ولولا أنَّ الأُدَبَاء يشاركون في الحياة الواقعة بأدبهم لما أمكن أن يلهج مُؤَرِّخُو الآداب بهذه الجمل التي يُلِحُّون علينا بها من أنَّ الأديب صورة لعصرهِ ومرآة لبيئته ومِنْ أَنَّ الأدب مصدر من مصادر التاريخ، إلى آخر هذه العبارات التي لا تدل في حقيقة الأمر على شيء إلَّا أنَّ الأدَب مُتَّصل بالحياة الواقعة مُشَارِكٌ فيها مُصَوِّرٌ لها، حافظ بحكم هذا كله لخصائصها التي يمكن أن تُنْقَل من جيل إلى جيل، وأنْ تُصبح بعد ذلك موضوعًا لدرس التاريخ.

من السخف إذن أن يُقال إنَّ أدَبَنا العربي قد كان مُعتزلًا للحياة الواقعة، منفصلًا عنها في تلك العصور، ومع ذلك فقد يمكن أن نُلاحظ أنَّ الشِّعْرَ مثلًا قد نأى عن الحياة الواقعة في بعض عصوره حين غلبت العجمة على الحياة الأدبية، وحين تسلط المُسْتَبِدُّون من غيرِ العَرَبِ على حياةِ الشُّعوب واستأثروا لأَنْفُسهم وخاصتهم بالسلطان كُلِّه، ولم يُشركوا الشعب في قليل أو كثير من هذا السلطان، وإنَّما قدَّسُوا سُلطانهم ليقدسوا أنفسهم، واحتكروا الأمور العامَّة وحظروا على غيرهم أنْ يُشارك فيها أو يَخوض في ذكرها.

هنالك تضاءلت الصلةُ بين الأدب والحياة الواقعة العامة، وهنالك عكف الأدباء على أنفسهم وفرغوا لها، وجعلوا يبدئون ويُعيدون فيما ورِثوا من مَعاني القدماء، لا يُجَدِّدون شيئًا؛ لأنهم لم يكونوا يصنعون شيئًا، فرغوا لأدب لا حياة فيه؛ لأنَّهم أنفسَهم لم يكونوا يحيون، وإنَّما كانوا مُضطرين إلى لون منَ الحياةِ يُشبه الموت، فصوروا حياتهم كما استطاعوا أن يصوروها.

فالأدبُ العربيُّ قد اتصل بالحياة العامَّة حين أتاحت الظروف للأدباء أن يُشاركوا في هذه الحياة، وانفصل عن الحياةِ العامَّةِ حين اقتضت الظُّروف أن يتنحى الأدباء عن هذه الحياة، ورُبَّما كان هنالك مثل يُبَيِّن ذلك في غير غموض ولا لَبْسٍ، وهو هذا الذي نجده في القرن الأول حين كان الأدب العربي مُزدهرًا أشدَّ الازدهارِ، وحين كانت الحياةُ السِّياسِيَّةُ قوية أعظمَ القُوَّة، وحين اضطر فريقٌ منْ أبناء المُهاجرين والأنصارِ بحُكْمِ السياسَةِ الأُموية إلى الفَرَاغ والعُكُوف على أنفسهم ولذاتهم.

هنالك اعتزل عمر بن أبي ربيعة، والعرجي، وابن أبي عتيق، وأمثالهم الشئون العامة، ولكِنَّهم لم يعيشوا في بُروجهم العاجية، وإنَّما عَاشوا مع النَّاس في الحجاز؛ لأنَّ الحِجَاز كُلَّه قد اضطر إلى اعتزال السياسة وتجنب الشئون العامة؛ فكان هؤلاء الأدباء يُشاركون في الحياة الواقعة من حولهم؛ لأنَّ هذه الحياة الواقعة كانت ابتعادًا عن السياسة واعتزالًا للشئون العامة وفراغًا للنفس، وتهالكًا على اللذات.

وهؤلاء الأدباء مع ذلك لم يحتملوا هذه العُزلة رَاضين عَنْها مُحبين لها، وإنما احتملوها على كُرْهٍ مِنهم وتَسَلَّوا عنها بهذا الغزل الرفيع، وهل زاد العرجي على أنْ صَوَّر ألمه وألم أمثاله لهذه العُزلة التي فُرِضَت عليهم حين قال:

أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعُوا
ليومِ كريهةٍ وسِدَاد ثغرِ

على أنَّ العرجي وغيره من شعراء الحجاز في ذلك الوقت قد حاولوا الثورة على هذا الاعتزال الذي فُرِض عليهم، ولقوا في سبيل هذه الثورة ألوانًا من العناء حفظها لنا التاريخ، والأمرُ لا يَحْتَاجُ إلَّا إلى أن نفهم التاريخ على وجهه، وإلى أن نقيس حياة القُدَمَاء بحياة المحدثين.

فهناك مُشكلة خطيرة هي التي أنشأت مَسألة الاتصال بين الأدب والحياة الواقعة أو الانفصال عنها، وهي أنَّ حياة القدماء وحياة المُحدثين إلى وقت قريب، لم تكن تعتمد على الديمقراطية التي تعترف بحقِّ الشعوب في الحرية والعدل والمساواة، وإنما كانت تحتفظ بهذا الحق لطبقة ممتازة منَ الناس، إليها وحدها السلطان، وإليها وحدها الثقافة، وإليها وحدها كل ما يُكَوِّن الرجلَ الحر بالمعنى الدقيق، فأما كافة الشعب فكانت أداة مُسَخَّرة تجدُّ وتكد وتشقى لتنعم هذه الطبقة الممتازة بالحكم والسلطان وبالأدب والفن وبالفلسفة والعلم.

فما عسى أن تكون الحياة الواقعة العامَّةُ بالقياس إلى الأجيال التي جرت أمورها على هذا النحو: أهي حياة الشعب الذي كان أداة مُسَخَّرَة، أم هي حياة السادة الذين كانوا يستغلون هذه الحياة؟ هذه هي المُشكلة التي خَيَّلت إلى كثير من الناس أن الأدب كان مُعتزلًا للحياة العامَّة، ولكنَّ حقائقَ الأشياء تدل في غير لبس على أنَّ الأدبَ لم يعتزل الحياة العامَّةَ قَطُّ، وإنَّما الشُّعوبُ هي التي أُكرهت على اعتزال هذه الحياة العامَّة ونُحِّيت عنها تنحية.

فالأدب اليوناني الذي كان ينشأ في أتينا إنما كان يحفل بحياة المواطنين الأتينيين، وهؤلاء المُواطنون كانوا قلةً ضئيلة بالقياس إلى سُكَّان أتينا وما حولها من المدن والقرى.

والأدبُ الذي كان ينشأ في البصرة، والكوفة، وبغداد، إنَّما كان ينشأ للذين يستطيعون فهمه وذوقه من هذه الطبقة التي أتيح لها الامتياز، وهذه الطبقة ضئيلة جدًّا بالقياس إلى سُكَّانِ العِراق.

والأدب الذي كان ينشأ في باريس، وفرساي في القرن السابع عشر مثلًا إنما كان ينشأ لهذه الطبقة القليلة التي كانت تستأثر بالحياة العامة في القصر وخارج القصر، وهي قلَّة ضئيلة بالقياس إلى سكان فرنسا.

وما ينبغي أن تطلب إلى الأدب أن يتصل بالذين لا يستطيعون فهمه ولا ذوقه، وإنَّما ينبغي أن تطلب إلى الدولة أن تُهَيِّئ الشعبَ للمُشاركة في الحياة العامة أولًا، ولفهم الأدب وذوقه ثانيًا، ثم تلوم الأدبَ بعد ذلك إن اعتزل الحياة العامَّة، وترَفَّع عن الاتصال بالشعوب.

وقد طلب الأدب نفسه إلى أوروبا في القرن الثامن عشر تهيئة الشعب للمشاركة في الحياة العامَّة، والارتفاع به عن الغفلة والجهل والبؤس، وجاهد في ذلك حتى بلغت الشعوبُ منه ما أرادت في القرن المَاضي وفي هذا القرن، واتصل الأدبُ بالشَّعْبِ ما وجد إلى الاتصال به سبيلًا.

وبقيت هنا وهناك قلةٌ ضَئيلة جدًّا من الأُدباء لم تفطن لما حدث حولها من التطور، أو لم تُرد أن تفطن لهذا التطور، فظلت مُحافِظَة مُعتزِلة مُتجافِية عن الحياة الشعبية، ولكنها لم تستطع أن تحتفظ بعُزلتها وتجافيها، أبت أن تهبط إلى الشعب فارتقى الشعب إليها؛ لأنَّ الشعبَ إذا أخذ في الثقافة لم يقنع منها بالقليل.

وهذه المُشكلة التي عرضت لأوروبا وأثارت فيها هذا الخلاف، قد عرضت لنا نحن وأثارت عندنا هذا الخلاف في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن؛ فقد أدركتنا الحياةُ الحديثةُ ونحن على ما كان عليه الناس قبل الثورة الفرنسية: طبقة ضئيلة تستأثر بالحياة العامَّة؛ فتنعم بالسلطان والثقافة وما يُلائمها من الأدب، وشَعْبٌ مُسَخَّرٌ لِخِدْمَةِ هذه الطبقة الضئيلة، لا حظَّ له من سُلطانٍ، ولا من ثقافة، ولا من أدب، في ذلك الوقت كانت الصلة منقطعة أو كالمنقطعة بين الأدب والشعب.

ولكنَّ التطور الحديث لم يَلْبَث أن نبَّه الشعب إلى حقه، وأن يتخذ الأدباء أنفسهم وسيلة لهذا التنبيه، وإذا هم يتجاوزون الطبقة المُمْتَازة إلى الطَّبَقَات المُسَخَّرَةِ، وإذا هم يخرجون من تلك العُزْلَةِ أو قُل: يُوسِّعون المَيْدان الذي كانوا يَعِيشُون فيه؛ ليستطيع أن يتلقى أفواجًا منَ الشَّعْبِ تستمع لهذا الأدب الذي كان يُلقى من وراء ستار؛ فأصبح يُلقَى في الهواء الطلق تسمع له الجماهير وتنشره الصحف ويسعى إلى القادرين على فهمه وذوقه في الأقطار البعيدة من الأرض.

ورُبَّما كان شوقي وحافظ — رحمهما الله — آية بينة على هذا التطور؛ فقد كان شعر شوقي يُنشَد في القصورِ، وكان شعر حافظ يُنشَد في دور الأغنياء وأصحاب الجاه، ثم لم يكد القرنُ يتقدم حتى أصبح شعر شوقي وحافظ يُنشَد في الملاعب ويُنشَر في الصحف، وحتى ذاعت دواوين شوقي وحافظ، فتجاوزت طبقة السادة، ووصلت إلى أيدي قوم لم يكن لهم من أمور الحكم والسلطان شيء.

ثم كانت الحرب العالمية الأولى والثورة المصرية، وإذا الحواجز تُلغى بين الطبقات، وإذا الشعب يقتحم هذه الحواجز اقتحامًا، وإذا الأدباء الذين كانوا يترفعون عن الشعب قد أصبحوا ألسنة لهذا الشعب يُعَبِّرون عن نفسه أكثر مما يُعبرون عن أنفسهم، ويصورون حياته أكثر مما يصورون حياة أنفسهم.

وقد عرفنا حياة الأحزاب السياسية، وانقسم المصريون بين هذه الأحزاب؛ فعدنا إلى حياة العرب في القرن الأول من جهة: أحزاب سياسية لها أدباؤها وشعراؤها، ووثبنا إلى الحياة الأوروبية الحديثة من جهة أخرى: أحزاب سياسية لها أدباؤها وشعراؤها كذلك.

وحقق أدبنا العربي الحديث هذه الصلة الرَّائعة بين حياتِنا القديمة وبين الحياة الأوروبية الحديثة، واستؤنِفَ الاتصال بين الأدبِ العَربي وبين الشَّعب وحياته الواقعة العامَّة؛ فأصبح الأدباء مِرآة للشَّعب حقًّا ينطقون بلسانه ويُصورون آلامه وآماله، وقد حاول أديبٌ أو أديبان الارتفاع بالأدب عن الشعب والاعتزال في البروج العاجية، فلم تظفر هذه المحاولة إلا بالإخفاق الفاحش الشنيع.

وكذلك اتصل التاريخ وأصبحت الحياة الحديثة صورة مُتقاربة للحياة القديمة على ما بينهما من الفُروق الهائلة؛ فأدبنا الحديث مُتَّصل بحياتنا الواقعة، كما كان أدبنا القديم مُتصلًا بالحياة القديمة الواقعة، والفرق بين الأدبين عظيم؛ لأن الفرق بين الحياتين عظيم جدًّا؛ حياتنا الواقعة شعبية أو تريد أن تكون شعبية لا يستأثر بها فريق من الناس دون فريق، وأدبنا الحديث شعبي أو يريد أن يكون شعبيًّا لا يُنشئه قوم ممتازون لقوم ممتازين.

والحياة الواقعة القديمة أرستقراطية قد استتبعت أدبًا يُشبهها، ومن هنا نُلاحظ هذه الظَّاهرة الطَّرِيفَة ظاهرةُ الأدب المُزدوج في الحَياة الواقعة القديمة، والأدب الفرد في حياتنا الحديثة؛ في الحياة الواقعة القديمة أُهمِل الشعبُ فعاش عيشته الخاصة، وأنشأ أدبه الخاص، فشاع كِتاب ألف ليلة وليلة، وما يُشبِهه من الأدب الشعبي، وفي حياتنا الحديثة عظم أمر الشعب وأصبح كل شيء، فعُنِي به الأدباء، ولم يحتج إلى أدب شعبي خاص، وإنما اكتفى بهذا الأدب الرَّفيع الذي كان ينظر إليه من بعيد فأصبح الآن يذوقه، ويتخذه غذاءً للعقول والقلوب.

هذه هي قصة الاتصال والانفصال بين الأدب والحياة الواقعة، تظهر خطيرة كل الخطورة حين ننظر إليها نظرًا سطحيًّا، فإذا تعمقناها وبلونا حقائقها رأيناها يسيرة قريبة تنحَلُّ إلى شيء يَسيرٍ قريبٍ، وهو أنَّ الأَدَب مُتَّصِلٌ دائمًا بالحياة الواقعة، فإذا أصبحت هذه الحياة الواقعة شعبية، فليس للأدَبِ بُدٌّ من أن يكون شعبيًّا أيضًا، وهذا هو الذي تتجه إليه حياة الآداب؛ لأنَّ هذا هو الذي تتجه إليه حياة الشعوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤