فرانز كفكا

مر بهذا العالم مرًّا سريعًا، فلم يعش فيه إلا أربعين عامًا، أنفق جزءًا غير قليل منها في الطفولة والصبا، مُتأثرًا بما حوله غير مؤثر فيه، مُتلقيًا ما ينحدر إليه من أبويه اللذين مَنحاه الحياة، وما يُقدم إليه أبواه أثناء التربية من ألوان التصور للأشياء، والتقدير لها، والحكم عليها، والوقوف أمامها، قابلًا حينًا ورافضًا حينًا آخر، مُتلقيًا كذلك ما تقدم إليه بيئته الخاصة التي تحيط به وبأسرته في مدينة براج، في أواخر القرن الماضي، من ألوان الحضارة وفنون الحياة التي كانت الطبقة الوسطى تحياها في ذلك الوقت.

ثم أنفق بعض هذا الأمد طالبًا في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، مندفعًا بميله الأول إلى العلم، ثم مُتَحَوِّلًا عن العلم التجريبي إلى الفقه والقانون، حتى إذا أتم دراسته التمس عملًا يكسب منه القوت، ليظفر بشيءٍ من الحياة المُستقلة، فوجد هذا العمل في شركة من شركات التأمين.

وهو في أثناء ذلك يَتَكَلَّفُ أسفارًا قَصيرة في وطنه وفي ألمانيا وسويسرا، وإيطاليا وفرنسا. ثم لا يكاد القرن العشرون يتقدم قليلًا، حتى يقضي عليه الموت سنة ١٩٢٤. وقد وُلِد ١٨٨٣.

فحياته العاملة الظاهرة كما ترى قصيرة جدًّا، بسيطة جدًّا، ليس فيها عوج ولا التواء، وليس فيها تكلف ولا تعقيد، ومع ذلك فلم يعرف التاريخ الأدبي كثيرًا من الأدباء تعقدت حياتهم النفسية، والتوت بهم طرق الإحساس والشعور والتفكير، كهذا الأديب، والذين يدرسون حياته النفسية هذه في آثاره الكثيرة يَرُدُّون تعقيدها إلى طائفة من المؤثرات، قريبة في نفسها، ولكنها بعيدة أشدَّ البُعْدِ فيما نشأ عنها من ضروب الشعور والتفكير.

فقد كان أديبنا من أسرة يَهودية تعمل في التجارة، مُتَأَثِّرة أشد التأثر، وأيسره في الوقت نفسه، بالتقاليد اليهودية المتوارثة، في شرق أوروبا ووسطها؛ فهي مُحافظه أشد المحافظة على هذه التقاليد السطحية التي يحافظ عليها اليهود، وهي في الوقت نفسه مُتهاونة أشد التهاون في حقائق الدين ودقائقه، ترى أنها قد أدت الواجب على وجهه إذا اختلفت إلى المعبد في أوقات معلومة، فسمعت ما يسمع الناس، وقالت ما يقولون، وأتت من الحركات والأعمال ما يأتون، دون أن يتجاوز شيء من هذا كله أطراف اللسان وأعضاء الجسم، إلى دخائل النفوس وأعماق القلوب فدينُها ظاهر من الأمر، كدين غيرها من عامة الناس، صور وأشكال لا تمس الضمير، ولا تؤثر في السيرة اليومية، ولا توجه الحياة الداخلية والخارجية إلى وجه دون وجه، وإنَّما الحياةُ الداخلية والخارجية مُوَجَّهتان دائمًا بما وجه حياة الناس، على اختلاف أديانهم وعقائدهم.

من هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تدفع النَّاس إلى العناية بمنافعهم القريبة العاجلة، أكثر من العناية بحقائق الدين ودقائقه، وبتعمق الحياة وما يكون فيها من الأحداث، وما يُمكن أنْ يكون لها من الأغراض العُليا والغايات البعيدة.

ولذلك لم يلبث أديبُنا أن ضاق بهذه الحياة الدينية الظاهرة المتكلفة، التي تقوم على النفاق أكثر مما تقوم على الإيمان؛ فجحد دينَ الأُسرة والشعب اليهودي أولًا، ثم جحد الدين نفسه بحقائقه ودقائقه بعد ذلك، وأقام حائرًا لا يستطيع أن يعود إلى دين آبائه؛ لأن عقله لا يطمئن إلى هذا الدين، ولا يستطيع أن يستغني عن حياة دينية صادقة تعمر القلب، وتملأ الضمير ثقة واطمئنانًا؛ فهو يُنكر من جهة أشد الإنكار، ويسعى من جهة أخرى أشد السعي، إلى أنْ يَجِد ما يؤمن به قلبه، وترتاح نفسه إليه.

وهذه المحنة القاسية التي امتُحن بها في إيمانه، قد نشأت عنها مِحْنة أخرى ليست أقلَّ منها قسوة وعنفًا، وليست أيسر منها تأثيرًا في حياته الدَّاخلية؛ فقد امتُحن أديبُنا في الصلة بينه وبين أبيه، أنكر سيرة أبيه في الدين؛ لأنه لم يرَ فيها صدقًا ولا إخلاصًا، ثم أنكر سيرة أبيه في الأسرة؛ لأنه رآها تقوم على التسلط والاستطالة وعلى القوة والقهر أكثر مما تقوم على الرَّحمة والحُبِّ وعلى البر والعطف والحنان، ثم أنكر سيرة أبيه في تدبير منافعه التجارية المُختلفة؛ لأنه رآها تقوم على الحرص والأثرة وانتهاز الفرص، أكثر مما تقوم على القصد والعدل والإنصاف، فنظر إلى أبيه على أنه طاغية مُخيف، ولم يستطع أن ينظر إليه إلا على هذا النحو، وأقام الصلة بينه وبين أبيه على الإشفاق والخوف، ثم على المُصَانعة والمُدَاراة، ولم يستطع أن يُقيمها على شيء آخر من هذا التعاطف الرقيق الرفيق الذي يكون بين الأبناء والآباء.

فهو إذن مُنكِر للدين وسُلطانه، وهو في الوقتِ نفسِه ضيِّق بالأبوة وسلطانها، وهو لا يلبَثُ أن يوحِّد بين هذين النوعين اللذين يُنْكِرُهما من السلطان: سلطان الدين، وسلطان الأبوة. فيقف منهما موقفًا قوامه القلق والفزع والهول، وهو يَشْقى بهذا المَوقف حياته كلها، قد حاول ما وسعته المُحاولة، أن يَخلص من الشك إلى الثقة، ومن الخوف إلى الأمن، فلم يجد إلى ذلك سبيلًا.

ثم تنشأ من مِحنته في الدِّين وفي الصلة بينه وبين أسرته، محنة أخرى ليست أقل منهما قسوة ولا تعقيدًا، وهي المِحْنَةُ التي تمس حقه في أنْ يَحيا حياة الآباء، فيتخذ الزوج ويمنح الوجود للولد، كما اتخذ أبوه الزوج وكما منحه ومنح إخوته الوجود، فهو يشعر بأنه مدين لأبيه بوجوده، لا يشك في ذلك، ولا يشك في أن الدَّيْنَ يجب أن يُؤدى، ولا يشك في أن الوسيلة الوحيدة إلى أن يُؤدي الابن ما عليه لأبيه من الدَّيْن إنما أن يمنح الوجود الذي تلقاه من أبيه لأبناء يتلقونه منه ويمنحونه بعد ذلك لأبنائهم، فإذا اتخذ الزوج ورُزق الولد، فليس عليه لأبيه دَينٌ. هو يؤمن بهذا كله، ولكنه في الوقت نفسه يقف من هذه القضية موقفًا يُشبه موقف أبي العلاء في البيت المشهور:

هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد

ذلك أنه يرى الحياة التي تلقاها من أبيه شرًّا لا خيرًا؛ لأنَّها لم تمنحه رضا القلب، ولا هدوء النفس، ولا راحة الضمير، ولا هذه الثقة البَاسمة التي تنشأ عنها كل هذه الخصال، هو مَدينٌ لأبيه بالوُجود، وما في ذلك شَكٌّ، وليس أحب إليه من أن يؤدي ما عليه من الدَّين، ولكن بشرط ألا يكون أداء الدين مصدرًا للشر، ولا سبيلًا إلى الأذى، وبِشرط ألا يجني على أبنائه، ما جنى عليه أبوه من هذا القلق المُتَّصل، والخوف المُلِح، واليأس المُقيم.

وإلى جانب هذه المِحَن الثَّلاث، في الدِّين والأبوة والزَّواج، تُضاف مِحْنَةٌ أخرى لَعَلَّها أن تكون هي التي أسبغت لونها القاتم على مِحَنِهِ الأُخْرَى كُلها، وهي مِحْنَة المرض، المرض الذي لا يظهر فجاءة ولا يثقل على المريض ثقلًا طويلًا، وإنما يداوره ويناوره، ويَسعى إليه سعيًا خفيًّا بطيئًا مُتلكئًا، يدنو منه لينأى عنه، ويُلمُّ به ليُفارقه، ويقفه من الحياة موقفًا غريبًا لا هو باليأس الخالص ولا هو بالأمل الخالص، وإنَّما هو شيء بين ذلك، يملأ القلب حسرة ولوعة، ويملأ النفس شقاءً وعناءً؛ حتى إذا استبان أنه قد نهك فريسته وكلفها من الجهد أقصاه ولم يبقَ فيها قدرة على المقاومة، أنشب فيها أظفاره، وصب عليها آلامًا ثقالًا وأهوالًا طوالًا، ثم قضى عليها الموت في ساعة من ساعات الليل أو من ساعات النهار.

فأنت ترى أن أديبنا عليلٌ قد ألحت عليه العِلَّة، وأن علته معقدة أشد التعقيد، بعضها يتصل بالدين، وقد عجز أطباء اللاهوت عن علاجه؛ فهو قد قرأ التوراة وتعمق دراسة التلمود، ودرس المسيحية ودرس فلسفة الفلاسفة المُؤمنين والمُلحِدين، فلم يَجِد لِعِلَّته الدينية هذه طبًّا ولا شفاءً.

وبعضها يتصل بالوراثة والصلة بين الابن وأبويه، فهو إلى علم النفس التحليلي أقرب منه إلى أي شيء آخر، وقد عجز علم النفس التحليلي عن علاجه، فلم يستطع أحد ولم يستطع شيء أنْ يُصلح رأيه في أبيه، أو يُصلح العِلاقة بينه وبين أبيه، وإنما ظَلَّ طول حَيَاتِهِ واقفًا من أبيه مَوقف الطفل الخائف المروع الذي يرى تفوق أبيه وتسلطه، ويُحاول أن يخلص من سلطانه فلا يستطيع، ويحاول أن يحبه وأن يظفر منه بالحب فلا يستطيع.

وبعضها يتصل برأيه في الحياة، وموقفه منها، ورغبته في أن يحياها كما تعوَّد الناسُ أن يحيوها، وخوفه مع ذلك من العجز عن احتمال أثقالها، وخوفه بنوع خاص من أن يحمِّل هذه الأثقال قومًا آخرين أبرياء، لم يجنوا ما يستحقون من أجله احتمال الأثقال، وهم الزوج والولد.

وبعضُ عِلَّتِهِ جِسمي يتصل بالفسيولوجيا، وقد عجز الأطباء عن عِلاجه؛ فما زالَ السل يداوره ويناوئه حتى قضى عليه آخر الأمر.

فإذا قدَّرنا هذه المحن كلها، وقدَّرنا أنها لم تُصَبَّ على رجل عادي، وإنما صُبَّت على رجل ممتاز له من القلوب أذكاها، ومن العقول أصفاها، ومن الأذواق أرقها، ومن المشاعر أدقها، ومن الحس أشده إرهافًا، وله بعد ذلك إرادة حازمة صارمة، وقُدرة مُدهشة على الملاحظة، وعلى مُلاحظة نفسه أكثر من ملاحظة غيره من الناس، وبراعة خارقة للعادة في أن يجعل نفسه موضوعًا للدرس والبحث والتحليل، وأن يكون هو الدارس الباحث المحلل، وأن يسجل ما ينتهي إليه درسه وبحثه وتحليله، في آثار مكتوبة طوال وقصار، أقول: إذا قدرنا هذا كله، لم نر غريبًا أن يكون أديبُنا هذا بهذه المنزلة التي شغلت الناس، ويظهر أنها ستشغلهم وقتًا طويلًا.

ورُبما كان أخص ما يمتاز به فرانز كفكا أشد الامتياز، أنه كان أصدق الناس لهجة، وأشدهم إخلاصًا، وأبغضهم للتكلف، وأبعدهم عن التصنع، وأعظمهم حظًّا من التواضع الذي يأتي من معرفة الإنسان قدر نفسه بعد الدرس المُتَّصل والاستقصاء العميق، وهو من أجل ذلك كان يكتب لنفسه أكثر مما كان يكتب للناس؛ فقد كان من أشد الناس زهدًا في نشر آثاره وأعظمهم إخفاءً لها وضنًّا، لا لأنه كان يُكْبِرُها أو يُغالي بها، بل لأنَّه كان يَزْدَرِيها كما كان يزدري نفسه.

وقد نُشِر قليل من آثاره أثناء حياته في المجلات، ولم يُنشَر في أكثر الأحيان إلا على كره منه، كان صديقه ماكس برود يختطف هذه الآثار اختطافًا، ويدفعه إلى نشرها دفعًا، فلما أدركه الموت وقرئت وصيته، تبين أنه قد اختار صديقه هذا — ماكس برود — وصيًّا، وأنَّه يطلب إليه أن يحرق آثاره كلها، وألا ينشر منها في الناس شيئًا.

وقد وقف الوصي من هذه الوصية موقِف الحيرة التي لم تتصل، فشكَّ غيرَ طويل ثم خالف عن أمر صديقه، وأخذ في نشر آثاره مُلْتَمِسًا لذلك ما شاء من العِلَل والمَعَاذير.

وقد مات فرانز كفكا سَنة ١٩٢٤، ولم تمضِ على وفاته أعوام حتى كانت آثاره بعيدة الانتشار في ألمانيا، بل في أوروبا الوسطى كلها، ثم تجاوزت حدود أوروبا الوسطى إلى أوروبا الغربية، فتلقاها الفرنسيون لقاءً غريبًا.

ورُبَّما كان من طرائف الأشياء، أن آثار فرانز كفكا، كانت تُستقبل أحسن استقبال في غرب أوروبا؛ ويُنكَّل بها أبشع تنكيل في أوروبا الوسطى؛ فكان الفرنسيون والإنجليز يترجمونها ويفسرونها، على حين كان الألمانيون الهتلريون يَحرقونها جهرة في الميادين.

وقد يكون من الخير أن نُلاحظ، قبل أن نتحدث عن آثار فرانز كفكا، أن ظروف الحياة الأوروبية كانت ملائمة كل الملاءمة لظهور هذه الآثار؛ فقد بدأ كفكا يَشْعُر ويُفَكِّر قُبيل الحرب العالمية الأولى، فكان كل شيء من حوله يؤذن بالكارثة، ويدفع إلى البؤس واليأس.

ثم مضى في تفكيره وإنتاجه أثناء الحرب العالمية الأولى، فكان في تلاحق الكوارث والفواجع من حوله ما يزيد إمعانه في البؤس واليأس، ثم نَظَر ذات يوم فإذا كل شيء من حوله ينهار؛ فإمبراطورية النمسا والمجر تتفرق أيدي سبا، والإمبراطورية الألمانية العظيمة تلقي السلاح وتركع مُتلقية شروط المنتصر، فلا يزيده هذا كله إلا إيغالًا في البؤس واليأس، ثم يمضي في تفكيره وإنتاجه وقد تم الصلح.

ولم تلبث الإنسانية بعد إمضائه أن استشعرت خيبة الأمل وكذب الظن، فلم يتحقق العدل الذي قيل إنَّ الحرب أثيرت لتحقيقه، وإنما عادت الإنسانية بعد الحرب، كما كانت قبل الحرب، بائسة يائسة، مُتَخَبِّطة لا تدري إلى أي وجه تتجه، ولا في أي طريق تسير.

حياة خاصة كُلها نُكر وشر، وحياة عامة كلها بؤس ويأس؛ فأي غرابة في أنْ يَكون الأدب الذي ينتجه فرانز كفكا في هذه الظروف كلها هو الأدب الأسود بأدق معاني هذه الكلمة وأشدها سوادًا وحلوكًا؟!

وواضح جدًّا أنَّ هذا القلب الذكي ذا الحس المرهف والشعور الدقيق، لم يصور الحياة كما رآها من حوله فحسب، وإنَّما صور هذه الحياة، وصور آثارها القريبة؛ فكان في أدبه هذا المُظلم، شيء من التنبؤ المُزعج، بما ستتعرض له الإنسانية من الكوارث والأخطار.

وكان من أجل هذا بَغيضًا إلى الذين كانوا يُريدون أن يُعيدوا الحرب جَذَعة، مُثيرًا للشوق وحب الاستطلاع عند الذين كانوا يَخافون الحرب ويُشفقون من أن يُدفَعُوا إليها كارهين.

ومن أجل هذا كانت آثار فرانز كفكا في وقت واحد تُترجَم في باريس، وتُحرَق في برلين، والآثار الأدبية التي تركها فرانز كفكا كثيرة منوعة، لم تُنشَر كلها بعد، وإنما نُشِر أكثرها، وأظهر ما تمتاز به من الخصائص أنها تُصَوِّر القلق الذي يُوشك أن يبلغ اليأس، وتصور الغموض الذي يضطرُ القارئ إلى حيرة لا تنقضي، ويدفعه إلى كثير من المذاهب في فهم هذه الآثار وتأويلها، وحل ما تشتمل عليه من الألغاز والرموز، فقد كان فرانز كفكا أشد الناس صراحة وأعظمهم إخلاصًا في حياته اليومية، وفيما كان ينشأ من الصلات بينه وبين أصدقائه وذوي معرفته، وفيما كان يُسجل لنفسه من الخواطر والمذكرات في يومياته المتصلة، ولكنه بعد هذا كله كان أبعد الناس عن الصراحة وأنآهم عن الوضوح، فيما كان ينتج من القصص الطوال والقصار.

وليس المُهِمُّ أنْ نلتمس العِلَل المُختلفة لهذا الغُموض؛ فالأدب الرَّمزي في نفسه ظاهرة سائغة طبيعية، ليست في حاجة إلى أنْ تُلتمس لها العِلل والمَعَاذير، وإنَّما هي أثرٌ من آثار بَعض الأمْزِجة، ولونٌ مِنْ ألوان الفَنِّ، في كثير منَ الآداب القديمة والحديثة، على اختلاف البيئات والعصور.

فقل بعد ذلك إن فرانز كفكا قد أمعن في درس التلمود، وتعمق ما في آداب إسرائيل من الأسرار والألغاز، وتأثر بهذا كله في فنه؛ فهذا حقٌّ من غيرِ شَكٍّ، ولكنه ليس كل شيء، فما أكثر الأدباء الرمزيين الذين يَسْتَمِدُّون رمزيتهم من مزاجهم الفني وحده، لا من دراسة التلمود، ولا من تعمق الأسرار والألغاز في أدب إسرائيل!

والغموض في أدب فرانز كفكا من نوع خاص؛ فالرجل المثقف حين يقرأ هذا الأثر أو ذاك من آثاره، لا يشعر بالغموض لأول وهلة، وإنَّما يُخَيَّل إليه أنه يقرأ شيئًا يَسيرًا سائغًا قريبَ الفهم، لا يَتَكَلَّف في تذوقه جهدًا ولا عناءً، ولكنه لا يلبث أن يحس شيئًا من الغرابة، أو قُل شيئًا من الغرابة في هذا الذي يقرأ؛ لأنَّه يرى أشياء مُسرفة في البَسَاطة مَألوفة أشَدَّ الإلف، ليس مِنْ شَأْنِها أن ترتفع إلى حيث تكون أدبًا ينتجه الفن الرَّفيع، وإِنَّما هي من هذه الأشياء التي يَراها الإنسان في كل يوم وفي كل مكان، وفي الطبقات الساذجة العادية من الناس؛ فيسأل القارئ نفسه، أو قُل يقنع القارئ نفسه، بأن الكاتب لم يُرد إلى هذه البسائط، وإنما اتخذها وسائل قريبة لغايات بعيدة.

وهنا يُدفَع القارئ إلى التماس هذه الغايات، فيذهب في التماسها كل مذهب، ويسلك إلى استكشافها كل سبيل، وقد يصل إلى شيء يحسبه الغاية التي قصد إليها الكاتب، ولكنه لا يكاد يُفَكِّر ويروِّي، حتى يشك فيما انتهى إليه، وحتى يسأل نفسه ألا يُمكن أن يكون الكاتِبُ قد أراد إلى غاية أخرى أو إلى غايات أُخَر، غير هذه التي انتهى هو إليها؟ وكذلك تستطيع أن تقول: إنَّ قارئ فرانز كفكا، مُعَلَّق دائمًا، يُخَيَّل إليه أنَّه يفهم ما يقرأ، وهو يفهم معانيه القريبة من غير شك، ولكنه يَشْعُر شعورًا قويًّا بأنَّ هذا الذي يفهمه ليس هو الذي قصد الكاتب إليه.

وإلى جانب هذا الشعور بالتعليق المتصل يجد القارئ أثناء قراءته حرجًا مُرهقًا وضِيقًا شديدًا؛ لأنه يرى نفسه في بيئة مهما تكن قريبة في ظاهر الأمر فهي غريبة في حقائق الأشياء، وهو من أجل ذلك لا يُحس يُسرًا ولا سُهولة ولا سِعة، وإنما هو يَشعر بضِيق الصدر وقلق النفس، وهذا الجهد العنيف الذي يفرض على العقل.

فقارئ فرانز كفكا في الدنيا وليس فيها، هو في عالم غريب، لا هو بالواقعي ولا هو بالوهمي، وإنَّما هو شيء بين الواقع والوهم يملأ النفس حيرة وشوقًا وسأمًا وإلحاحًا في وقت واحد.

تأخذ في قراءة القِصَّة فيفجؤك قُربها وتدهشك غرابتها، وأنت لا تكاد تطمئن إلى هذا القرب اليسير المألوف، ولو قد اطمأننت إليه لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب، ورأيت أنك لست في حاجة إلى تكلف الجهد لتفهم ما لا يحتاج إلى فهم، وأنت لا تَطمئن إلى هذه الغَرابة، ولو قد اطمأننت إليها لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب يائسًا من القدرة على الفهم، ضنينًا بوقتك وجهدك على إنفاقهما فيما ليس إلى فهمه سبيل. فأنت إذن مُعَلَّق بين الوضوح الذي يملأ نفسك سأمًا، وبين الغُموض الذي يملأ نفسك شوقًا، وما تزال في هذه الحال المُعلقة منذ تبدأ الكتاب أو القصة إلى أن تفرغ منهما.

وأغرب من ذلك أنك حين تفرغ من القراءة، لا تنتهي إلى ما يحسن الاطمئنان إليه والسكوت عليه، وإنَّما أنت مُعَلق بعد الفراغ من القراءة، كما كانت معلقًا في أولها وفي وسطها، ذلك لأنَّ الكاتب لا يُتِمُّ قصته، وإنما يقتضبها اقتضابًا، وينتهي بها إلى شيء لا يصلح أن يكون غاية لقصة أو كتاب.

ومصدر ذلك في أكبر الظن أنَّ الكاتب نفسه لا يعرف لنفسه غاية يقف عندها أو أمدًا ينتهي إليه، وإنَّما هو يمضي بقصته في طريقها ما وَسِعَه المُضِيُّ، حتى إذا أدركه الإعياء أو انتهى إلى بعض الطريق، وجد أمَامَه سدًّا مَنيعًا لا يَستَطيع أن يتجاوزه، فوقف حيث ينتهي به السعي، واستأنف السير في طريق أخرى، وانتهى من هذه الطريق الأخرى إلى مثل ما انتهى إليه في الطريق الأولى، فوقف ثم استأنف السير في طريق ثالثة. وما يزال كذلك يبدأ الطرق ولكنه لا ينتهي منها إلى غاية؛ لأنَّه هو فيما بينه وبين نفسه يائس من الغاية أو كاليائس منها.

فخُذْ مَثلًا قصصه الثلاث الكُبرى؛ وهي: القضية، والقصر، وأمريكا. فستراه يبدأ قصته الأولى بدءًا قريبًا كل القرب، غريبًا كل الغرابة، فيفرض عليك أن تصحبه في هذه الطريق التي يُريد أن يمضي فيها؛ فهذا رجل لم تتقدم به السنُّ، ولكنه قد جاوز الشباب شيئًا، يفيق من نومه ذات صباح، وينتظر أن تحمل إليه الخادم طعام الإفطار، ولكنَّ الخادم لا تحمل إليه شيئًا، بل لا تدخل عليه، وإنما يدخل عليه رجلان يزعمان له أنهما يمثلان الشرطة، وأنهما قد أقبلا للقبض عليه، وهما يدعوانه في شيء من العنف إلى أن ينهض من سريره ويدخل في ثيابه، ويلحق بهما في غرفة مجاورة ليبدآ معه التحقيق.

وهو دَهِشٌ لهذا الحَادِث مُنْكِرٌ له، ضَيِّق بهذين الشُّرطيين، ولكنه مع ذلك مُضطرٌ إلى أن يُطيع؛ فإذا لحق بالشُّرطيين في الغرفة المُجاورة وجدهما قد أكلا طَعامه غير حَافلين به ولا آبهين له.

ثم تُلقَى عليه أسئلة سخيفة لا خطر لها، ثم تُرَد إليه حريته، ويُقال له إنه يستطيع أن يذهب إلى حيث يشاء، وأن يمارس عمله في المصرف الذي يعمل فيه، ولكن عليه أنْ يعلم أنَّه مُتَّهَمٌ، وأنَّه سيُدعَى ذات يوم للمثول بين يدي القضاة ليسألوه عن التهمة الموجهة إليه.

والشرطيان ينصرفان عنه، ويثوب هو إلى نفسه، حائرًا أول الأمر، ثم ساخطًا، ثم مُنكرًا لهذا التصرف، ولكنه قلق يريد أن يتبين جلية هذه القصة، وهو يسأل نفسه فيُطيل السُّؤال دُون أن يظفر بجواب، وهو يُقبل على عَمَله كما تعود أن يفعل، ولكن قلقًا قد استقر في نفسه، إنْ أمكن أن يستقر القلق في النفوس.

والشيء الذي لا شك فيه أنَّه يَسْعى قليلًا قليلًا إلى الثقة بأنه مُتَّهَمٌ، وبأنَّ مِنَ الحَقِّ عليه ومن الحق له أن يدافع عن نفسه، وفي ذات يوم يدعى إلى التليفون، فيُقال له إن عليه أن يحضر إلى المحكمة يوم كذا، ويُدَلُّ على مكان هذه المحكمة، وهو مكانٌ غريب لا صلة بينه وبين الأماكن المعروفة للمحاكم ودور الشرطة.

فإذا كان اليوم الموعود ذهب إلى حيث طُلِب إليه أن يذهب، فرأى عجبًا أي عجب؛ رأى دارًا كبيرة قذرة مُتداعية، تكثر فيها السلالم والدهاليز، ولا يهتدي الناس فيها إلى طريقهم إلا بعد جهد شديد، وهي على ذلك دار مسكونة كغيرها من الدور التي يسكنها الفقراء وأوساط الناس، وما يزال يسأل ويبحث ويستقصي، حتى يصل إلى غرفة المحكمة، فيرى جمهورًا من الناس غريبًا، ويرى جماعة من الموظفين قد جلسوا مجلس القضاء، فيقول لهم ويسمع منهم، وهو لا يفهم عنهم، كما أنهم لا يفهمون عنه، وكما أن النظارة لا يفهمون عنه، ولا عن هؤلاء الموظفين.

ثم ينصرف وقد استقرَّ في نفسه أنه مُتَّهم وإن لم يَعرف طبيعة التهمة، وقد استقر في نفسه أنَّ من الحق أن يُبرئ نفسه أمام القضاة، ولكنه لا يعرف من هؤلاء القُضاة، ولا أين يكونون، ولا كيف يصل إليهم! لأنَّه لم يرَ في المحكمة إلا جماعة من صغار الموظفين.

وهو ينفق حياته في محاولات شاقة مُرهقة ليعرف تهمته وليدافع عن نفسه، فيتصل بكبار المُحامين وصغارهم، وبقَومٍ آخرين ليسوا من المُحاماة في شيء، وأولئك وهؤلاء يَعِدُونه بالدفاع عنه وتبرئته إن وجدوا إلى تبرئته سبيلًا، ولكنَّ أحدًا منهم لا يبين له طبيعة تهمته، ولا يدله على مكان القضاة، ولا يلمح له بطريقة الدفاع عنه، وإنما هو أمل يتبعه يأس، ويأس يتبعه أمل، وحيرة مُهلكة للنفوس.

وفي ذات مَساء يُقبل عليه رجلان في زي رسمي دقيق، يدعوانه فيستجيب لهما، وهو لا يعرف لماذا أقبلا عليه وإلامَ يدعوانه، وقد خطر له — لا أدري لماذا — أنهما مغنيان، وهو يخرج معهما على كل حال، فيأخذه كل منهما من إحدى ذراعيه ويمضيان به لا يلويان على شيء.

حتى إذا تجاوزا المدينة دفعاه إلى مقطع من مقاطع الأحجار، ثم طرحاه على الأرض، ثم أقبلا عليه فذبحاه، وهو يرى ذلك لا يقاوم ولا يُحاول المُقاومة، حتى إذا أحسَّ وقع الخنجر وعرف أنَّه الموت قال هذه الجملة التي تنتهي بها القصة: «كما يموت الكلب.»

ولم أعرض عليك شيئًا من تفصيل القصة، وإنما عرضتُ عليك خلاصتها في كثير جدًّا من الإيجاز، ولو قد عرضت عليك تفصيلها لتنقلت بك من شيء سخيف إلى شيء سخيف، ولتنقلت بك في الوقت نفسه من لغز غامض إلى لغز غامض ومن رمز خفي إلى رمز أشد منه خفاءً.

وبطل هذه القصة رجل لا نعرف من اسمه إلا حرفًا واحدًا هو «الكاف» التي هي الحرف الأول من اسم الكاتب نفسه؛ فإذا سألت عما أراد إليه الكاتب بقصته هذه الرائعة، فأكبرُ الظَّنِّ أنه إنما أراد إلى أنْ يُصَوِّر الإنسان الخاطئ الذي لا يشك في خطيئته، ولكنه لا يَعْرِف طبيعة هذه الخطيئة، ولا يعرف كيف دُفع إليها ولا كيف تورط فيها، ولا يعرف كيف يخلص منها، ولا أمام من يستطيع أن يُحاول الدفاع عن نفسه.

فهو موقن بأنَّه خاطئ، ومُوقن بأن هناك قاضيًا يستطيع أن يُعاقب على الخطيئة كما يستطيع أن يُبرئ منها، ومُوقِنٌ أنَّ هُناك قانونًا يُنَظِّم تبعة الخاطئين، وما يترتب عليها من عقاب، ولكنه يجهل طبيعة الخطيئة، ويجهل طبيعة القانون، ولا يعرف المكان الذي استقر فيه القاضي، ولا يجد الوسيلة التي توصله إليه، وبعبارة واضحة: إنَّما أراد الكاتِبُ إلى أن يُصَوِّر الإنسانَ البائس اليائس الذي أُجبر على الحياة دون أن يُريدها، وأُجبر على الموت دون أن يُريده، وخُيِّل إليه أنه حر بين ذلك.

وانقطعت الصلة الدقيقة الأمينة بينه وبين الإله الذي يُدخله في الحياة ويُخرجه منها، ويحمِّله ما يحمله من الأوزار والتبعات، لا يُؤامره في شيءٍ من ذلك ولا يُشاوره، ولا يُتيح له حَتَّى أنْ يَلقاه ليَسْتَعفيه من التبعة، ويطلب إليه الصفح والمغفرة.

فكاتبُنا إذن لا يجحد الإله، ولكنَّه لا يعرفه ولا يعرف السبيل إليه، وهو مشوق أشد الشوق إلى أن يعرفه ويعرف السبيل إليه، وهو يبذل في سبيل ذلك الجَهد كل الجهد دون أن يظفر بشيء، أترى إلى أننا لسنا بعيدين من حيرة أبي العلاء على اختلاف ما بين الرَّجلين في الزمان والمكان والبيئة والثقافة والوراثة!

فإذا تركتُ هذه القصة، وعمدتُ إلى قصة أخرى — وهي القصر — انتهيت إلى نفس النتيجة الموئسة التي انتهيت إليها في القصة الأولى. ولكن الكاتب يسلك بك إلى اليأس طريقًا أخرى؛ فبطل هذه القصة الثانية رجلٌ لا نعرف من اسمه إلا حرفًا واحدًا هو «الكاف» التي هي الحرف الأول من اسم الكاتب، وهو قد أقبل من مكان مجهول إلى قرية مجهولة، يشرف عليها قصر ضخم فخم، وهو يعتقد ويقول للناس إنه قد دُعي إلى هذه القرية بأمر من القصر ليشغل فيها منصب المساح، وهو يُريد أن يتصل بالموظف المختص في القصر ليتسلم عمله، ولكنَّه لا يَجدُ سبيلًا إلى هذا الاتصال، يُحاول أن يتصل من طريق التليفون فلا يسمع إلا أصواتًا غَامِضَة لا تدلُّ على شيء، ويُحاول أن يتصل بالعمدة، فلا يَجِدُ عِنْده علمًا بهذا المنصب ولا باختياره له.

ويُحاول أن يسعى إلى القصر فلا يجد سبيلًا إليه، ويُحاول أن يتصل بالقصر بوساطة السعاة الذين يسعون بين سادة القصر وبين القرية، فلا يظفر بشيء، وإنما هو الخِدَاعُ يتبعه الخداع، والحيرة تتبعها الحيرة، والعناء المُتَّصِل والشقاء المُقيم.

وتنتهي القِصَّة إلى غير غاية كما ترى؛ أنفق صاحبنا حياته في القرية، لا هو بالموظف فيتسلم عمله ويعيش مع أهل القرية كما يعيشون، ولا هو باليائس فيعود من حيث جاء، وإنما مُعلق بين اليأس والرجاء حتى يدركه الموت.

ولم أعرض عليك تفصيل هذه القصة، كما أني لم أعرض عليك تفصيل القصة الأولى، وإنَّما اكتفيتُ هنا كما اكتفيت هناك بهذه الخُلاصة اليَسيرة التي تُصَوِّر لك ما أراد إليه الكاتب من تصوير الإنسان إليه غريبًا مُعلقًا لا يدري من أين جاء، ولا إلى أين يمضي، وإنما يُخيَّل إليه أنه قد دُعِي وأنَّ له عملًا ينبغي أن يؤديه، ثم يُحال بينه وبين هذا العمل، وتضيع حياته في هذه الجهود المجدبة التي لا تغني عن أصحابها شيئًا.

ولو قد استطاع أن يصل إلى القصر ويتحدث إلى من فيه، لعرف جلية الأمر، ولكنَّ الأسباب مُنقطعة بينه وبين القصر، فهو لا يَستطيع أنْ يَصِل إليه، القَصْرُ مَوْجُود، ما في ذلك شك، يَسْكُنه أهله وسادته، ما في ذلك شك، وهو يُدَبِّر أمر القرية والمقيمين فيها والطارئين عليها، ما في ذلك شك، ولكنه يُدبر هذا الأمر من بعيد، ولا يتيح للمقيمين ولا للطارئين أن يتصلوا به أو يراجعوه في قليل أو كثير.

فموقف الكاتب هنا كموقفه هناك، لا ينكر وجود القوة القاهرة المُدَبِّرة، ولكنه لا يعرف كيف يتصل بها، ليتبين جلية أمره، وليَعرف لماذا يجب عليه أن يفعل، ولماذا يجب عليه أن يترك، ولماذا يحتمل ما يحتمل من التبعات.

أما القصة الثالثة «أمريكا» فلعلها أن تكونَ أقل إحراجًا وإرهاقًا من هاتين القصتين، ولكنها على ذلك لا تَخْلو من الحرج والضِّيق والألم، وهي كذلك لا تنتهي إلى غاية، ويستطيع ماكس برود — صديق الكاتب — كما يَسْتَطِيع غيره من النُّقاد أنْ يَرى في هذه القصة شيئًا من أمل، وأنْ يَظُنَّ أنها تدل على أنَّ الكاتب قد ثاب إلى الثقة قبل أن يموت.

أما أنا فلا أرى من ذلك شيئًا، وكل ما في الأمر أن بطل القصة صبي لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، فأمره رفيق بعض الشيء، ولكنه منتهٍ إلى مثل ما ينتهي إليه أمر غيره من هذا الغموض الذي لا غاية له.

واسم هذا الصبي كامل غير منقوص، وهو كارل روسمان، وأوله «الكاف» كما ترى، وقد سخط عليه أبواه؛ لأن خادمًا أغوته فنفياه من أوروبا إلى أمريكا، وفي أمريكا تختلف عليه الأحداث، فمن نعيم ويُسر إلى بؤس وعُسر، ومن استقامة ووضوح إلى التواء وغموض. ثم ينتهي الأمر به بعد كثير من الخطوب إلى أن يُقْبَلَ عاملًا في فرقة تمثيلية غامضة أشد الغموض، وقد وُضِع مع زملائه في قطار يذهب به إلى غير غاية معروفة.

فأنت ترى أنَّ المذهب هو هو، لم يتغير، هذا الصبي عبثت به خادم، وقسا عليه أبواه فنفياه، وتلقته أحداث غامضة مبهمة متناقضة مُضادة لأخلاقه وآماله، ثم يُوضع آخر الأمر في قطار يمضي به إلى مكان مجهول، ثم نحن لا نعلم من أمره بعد ذلك شيئًا، أتراه وصل إلى المدينة التي أُرسِل إليها أم لم يصل؟ وما عسى أن يكون عرض له من الأحداث أثناء السفر قَبْل أن ينتهي القطار إلى غايته إن كان قد انتهى إليها؟ أتراه قد قُبِل حقًّا في هذه الفرقة التمثيلية، فقد كان قبوله الأول مبدئيًّا، أُرِيدَ به إلى التجربة لا إلى الاستقرار.

كل هذه أمور مجهولة يُخيِّل إلينا الكاتب أن جهلها ناشئ من أنه لم يتم القصة؛ ولكن لِمَ لَمْ يُتِمَّ القصة؟ لأنَّه لم يعرف كيف يُتمها، وهو لم يعرف كيف يتمها لأنَّه لا يعرف كيف تتم قصة الإنسان مهما يكن أمره، ومهما تكن الظروف التي تُحيط به، ولأنه لا يعرف كيف تتم قصته هو؛ فهو غير مطمئن إلى أن الموت يختم قصة الإنسان، ولكنَّه لا يعرف عما يكون بعد الموت شيئًا.

وهو غير مطمئن إلى أن هذه الحياة التي نحياها لم يقصد بها إلا إلى هذه الأغراض اليومية التافهة التي نحاول تحقيقها فنحقق أقلها، ونعجز عن تحقيق أكثرها، ولكنَّه لا يعرف عن الأغراض العليا التي يُمكن أن تكون الحياة وسيلة إليها شيئًا.

محنته الكبرى ومشكلته التي لم يجد لها حلًّا، هي أنَّه لم يستطع أن يستكشف الصلة بين الإنسان وبين الإله، وما مصدر العجز عن استكشاف هذه الصلة؟ إن الإنسان يشعر شعورًا قويًّا متصلًا بوجود الإله، ويحاول محاولة مُستمرة مُلِحَّة أن يسمع كلمته ويتلقى أمره ليصدع بهذا الأمر، فيبرأ من الإثم، ويخرج من الخطيئة، ويتخفف من ثِقَل التُّهمة التي ألقيت عليه، فلا يجد إلى ذلك سبيلًا.

أمصدر ذلك أن الإنسان أعجز من أن يرقى إلى الإله؟ أم مصدر ذلك أن الإله لا يريد، عن عجز أو عن عمد، أن يهبط إلى الإنسان؟ أم مصدر ذلك قصور في الإنسان وفي الإله نفسه عن أن يلتقيا؟ وإذن ففيمَ التهمة وفيمَ التبعة وفيمَ العقاب؟

هذه هي المشكلات الكبرى التي فُرِضت على فرانز كفكا منذ امتُحن في إيمانه فجحد دين آبائه، ولم يستطع أن يهتدي إلى دين غيره يرد إليه هذا الإيمان، وهي فيما أعتقد نفس المشكلة التي فُرِضت على أبي العلاء، لا فرق بين الرجلين إلا هذه القرون العَشرة التي أتاحت للمُعاصرين ضروبًا من العلم وفنونًا من الفلسفة وألوانًا من الحرية لم تُتَح لشيخ المَعَرَّة.

ومع ذلك فقراءة اللزوميات، وقراءة الفصول والغايات في تعمق واستقصاء، تنتهي بك إلى نفس الموقف الذي تنتهي بك إليه قراءة «القضية» و«القصر» و«أمريكا»؛ فشيخ المَعَرَّة يرى كما يرى فتى مدينة براج أن للعالم خالقًا حكيمًا، لا يشكُّ أحدٌ منهما في ذلك، ولكنهما لا يفقهان حكمة هذا الخالق ولا يعرفان إلى فقهها سبيلًا.

وهما من أجل ذلك يمتنعان عن الشر أو عما يريان أنه الشر ما استطاعا، ويُقبلان على الخير أو على ما يريان أنه الخير ما استطاعا؛ يكفان أذاهما عن الناس ويتجنبان السعي إلى مُخالطتهم والاضطراب معهم فيما يضطربون فيه، ويُحَرِّمان على أنفسهم الزَّواج والنَّسل، ويَشقيان بقلبين يريدان الإيمان ويُحاولان الوصول إليه ما أطاقا المُحاولة، وبعقلين يعترفان بما فُرض عليهما من الضعف والعجز والقصور، لا يستسلمان إلى اليأس المطلق، ولكنهما لا يطمئنان إلى الأمل، وإنما يعيشان في هذه الدار عيشة مُعَلَّقة بين الرجاء والقنوط.

وهما ينظران إلى العالم من حولهما يريدان أن يفهماه ويستكشفا دقائقه وعلله، فلا يبلغان من ذلك شيئًا، لا يُرضيهما موقف العالم المُتواضع الذي يَستكشف قوانين الكون فيُسجلها، وينتفع بها وينفع بها الناس، ولكنهما يريدان أن يعرفا عِلَّة هذه القوانين، وبينهما وبين معرفة هذه العلة آماد بعيدة لا يستطيعان لها عبورًا، وهما من أجل ذلك ينكران العلة الغائية، ولا يطمئنان إلى ما تَعَوَّدَ الناسُ أن يطمئنوا إليه من أنَّ العالم لم يُخلق عبثًا، ومن أنَّ لكل ما يحدث في هذا العالم غاية بينة أو غامضة، وليس معنى ذلك أنهما يجحدان حكمة الخالق وما يُمكن أن يكون لها من غايات، ولكن معناه أنهما لا يعرفان هذه الحكمة، ولا يستطيعان أن يعرفاها، ولا يقبلان هذه العلل الغائية التي يقبلها الناس، وإنَّما يُجيزَان أشياء كثيرة لا يَرَاها الناسُ جائزة ولا مُمْكِنة؛ لأَنَّها تُخالف ما تَواضَعُوا عليه من العِلل والغايات.

فأبو العلاء يرى أنه من الممكن أن يشم الإنسان بغير أنفه، ويرى بغير عينيه، ويذوق بغير لسانه، ويمشي على غير قدميه؛ ذلك كله ممكن لأنَّ الذي خلق الإنسان على هذا النحو الذي نعرفه، وصوَّرَه في هذه الصورة التي نألفها، يستطيع أن يخلقه على نحو آخر، ويصوِّرَه في صورة أخرى، ويمنحه مزاجًا آخر، ويركِّب حسه في حيث يشاء من أعضائه.

وفرانز كفكا يُحدثنا في قصة المَسخ عن هذا الفتى الذي أفاق من نومه ذات صباح فلم ير نفسه كما رآها قبل أن ينام، وإنما رأى صورته قد مُسِخَت إلى حشرة قذرة كأبشع ما تكون الحشرات، وهو على ذلك مُحتفظ بشيء من عقله وقلبه، يُفكر ويشعُر ويُحس، ويميز بين الخير والشر، ويُقدر اللذة والألم، ويعرِف الرِّضا والسُّخط، وهو يرى مكانه بعد المَسخ من أهله ومن الناس، يُقدر قسوة أبيه، وحنان أُمِّه، وعطف أخته، ثم ما يزال يلاحظ ازدياد القسوة في نفس أبيه، وفتور الحنان في قلب أمه، وتناقص العطف في قلب أخته، وقد سعى السأم إليهم جميعًا من هذه الحياة المرة البائسة المخزية، حتى تتمنى الأخت لو تخلصت الأسرة من هذا العبء الثقيل، ويُقرها أبوها في صراحة، ولا تجرؤ الأم على أن تقول نعم أو لا.

ويبلغ منه هذا كله حتى ينتهي به إلى موتٍ سَخيفٍ حقير، وما الذي يمنع أن يمسخ الإنسان إلى حشرة قذرة، أو إلى حيوان جميل؟ فالذي رَكَّب العقل في هذه الصورة الإنسانية التي نراها، يستطيع أن يُرَكِّب العقل فيما شاء من الصور الجميلة والقبيحة، الحية وغير الحية.

ومنْ يَدري! لعلَّ الإنسان كما هو أن يكون حشرة بشعة، بغيضة بالقياس إلى كائنات أخرى في هذا العالم لا نعرفها، أو في عالم آخر لا نعرفه، بل من يدري! لعل الإنسان بالقياس إلى نفسه العاقلة التي تفكر وتقدر وتحصي وتستقصي، وتطمح إلى الحق والخير والجمال، لعل الإنسان بالقياس إلى نفسه العاقلة هذه أن يكون حشرة بشعة بغيضة، حين يُرضي حاجاته الطبيعية على اختلافها وتباينها؛ ففي الإنسان كثير من طباع الحشرات، وفيه في الوقت نفسه شيء آخر يرفعه عن هذه الطبيعة الدنيئة.

ولو قد خلص الإنسان لإحدى هاتين الطبيعتين من دون الأخرى لما أحسَّ شقاءً ولا بؤسًا، ولما ذاق طعم الخطيئة، ولما احتاج إلى أن يُبرئ نفسَه من هذه التُّهمة التي لا يَعْرفُها أمام هذا القاضي الذي لا يَصل إليه، لو خلص الإنسان لطبيعة الحشرة وحدها، لما فرَّق بين الخير والشرِّ، ولا بينَ الإساءة والإحسانِ، ولو خلص لطبيعة العقل المجرد لما احتاج إلى أن يفرق بين الخير والشر؛ لأنَّه في حاله تلك لا يعرف إلا الخير، ولا يطمح إلا إليه.

فالمِحنة كل المحنة هو هذا الازدواج بين طبيعة الحشرة القذرة، وطبيعة النفس الممتازة العاقلة، وهنا أيضًا يلتقي فتى براج فرانز كفكا، وشيخ المعرة أبو العلاء.

والنقمة الكبرى عند أبي العلاء هي الحياة، والنعمة الكبرى هي فقدان الحياة، والذي يجعل النقمة نقمة هو هذا العقل الذي رُكِّب في هذه الصورة الإنسانية فرأى الشَّرَّ من قريب ولم يَستطع أن يخلص منه، ولا أن يتخفف من أثقاله، ولا أنْ يتصور حياة إنسانية عاقلة تبرأ من التبعات.

فأنتَ ترى إلى الآن أنَّ أدب فرانز كفكا يَقُوم، أو قد يَدور حول هذه الأصول الثلاثة: وهي العجز عن الاتصال بالإله من جهة، والعجز عن فهم الخطيئة والتبرؤ منها مع الثقة بالتورط فيها من جهة ثانية، والعجز عن فهم العلل الغائية لما يكون في العالم من الخطوب والأحداث من جهة ثالثة.

وأنتَ إذا قرأت هذه الآثار الكثيرة التي نُشرت لفرانز كفكا على اختلافها في الطول والقصر، وتفاوتها في الوضوح والغموض، رأيتها كلها تدور حول هذه الأصول، وقد يُلِحُّ هذا الأثر أو ذاك في تجلية هذا الأصل أو ذاك، ولكنَّ مَجموعتها تنتهي بك دائمًا إلى هذه الخُلَاصَة القاتمة السلبية، التي تجعل حياة الإنسان كلها عجزًا وقصورًا ويأسًا أو شيئًا قريبًا جدًّا من اليأس.

ومن أجل هذا وُصِف أدب فرانز كفكا كما وُصِف أدب أبي العلاء بأنه أدب قاتم حالك، يفل العزائم ويثبط الهمم، ويصد الإنسان عن العمل ويرده عن الأمل، ويدفعه إلى نشاط عقلي عقيم، يدور حول نَفْسه أكثر مِمَّا يدور حول غيره، ولا يُحَفِّز الناس إلى طمع أو طُموح، وإنَّما يُمْسِكهم في لون من الخوف المُنكر، الذي لا أمن معه ولا اطمئنان.

ومن أجل هذا حُرِقت كتب كفكا في برلين أثناء الحكم الهتلري، ومن أجل هذا أيضًا كان اليَساريون في فرنسا يبغضون هذه الكتب أشدَّ البُغض، ويودون لو يُحال بينها وبين الشباب، ويُعبرون عن هذا كله بهذه الجملة التي كثر حولها الحديث في فرنسا أثناء الصيف الماضي: «يجب أن يُحرَق فرانز كفكا.»

وواضح جدًّا أنَّ هذه العبارة ليست إلا رمزًا؛ فتحريق الكتب لا يغني شيئًا، ويكفي أن تحرق الكتب ليزداد انتشارها، إنما المهم هو أن هذا الأدب القاتم مُثبط لهمم الشباب، فلا ينبغي أن يُخَلَّى بينه وبين الشباب.

والقارئ العربي يعرف حق المعرفة أنَّ آثار أبي العلاء تعرضت لمثل هذا الشر الذي تعرضت له آثار فرانز كفكا، ولكنَّ الشرق قد يكون أعظمُ تجربة من الغرب في بعضِ الظروف.

وقد رأى الشَّرْقُ العربي أنَّ آثار أبي العلاء على غُلُوها في التشاؤم والحلوكة لم تُثَبِّط الهمم، ولم تفل العزائم، ولم تصرف عن العمل، ولم ترد عن الأمل، وإنَّما مَنحت النفوس خصبًا وفطنة وذكاءً، وحالت بين العقل الإنساني وبين الغرور الذي يُطْغِيه ويَدْفَعه إلى كبرياء عقيمة مُهلكة فاضطرته إلى أن يَضع نفسه حيث وضعه الله، فلا يُسرف على نفسه بالبغي والطغيان، ولا يزعم لنفسه القدرة على فهم كل شيء والنفوذ إلى دقائق ما في الكون من أسرار.

وسواء رضي الناس أم سخطوا، فإنَّ التشاؤم ظاهرة طبيعية في حياة العقل والشعور تبدو في ظروف مُعينة ملائمة لها، كالظروف التي أحاطت بفرانز كفكا، وما زالت تُحيط بكثير من كُتَّاب الأدب المُظلم في أوروبا وأمريكا، وكالظروف التي أحاطت بحياة أبي العلاء منذ عشرة قرون.

ولعل القراء يُلاحظون أنَّ أدبَ أبي العلاء قد نشأ في عصر فساد وفتنة واضطراب، وأنَّه كان تنبؤًا بكوارث خطيرة لم تلبث أن صُبَّت على العالم الإسلامي حين أغار عليه الصليبيون، وأنَّ أدب فرانز كفكا قد نشأ في عصر فساد وفتنة واضطراب، وكان تنبؤًا مروعًا بكوارث خطيرة لم تلبث أن صُبَّت على العالم بإعلانِ الحرب العالمية الثانية.

وقد احتفل العرب منذ أعوام بالعيد الألفي لأبي العلاء، وأكبر الظنِّ أنَّ الأوروبيين لنْ ينتظروا ألف سنة ليحتفلوا بفرانز كفكا، ولكنهم سينتهزون أقرب الفرص للاحتفال به، وسيتبينون — إن لم يكونوا قد أخذوا يتبينون بالفعل — أنَّ أدبَ فرانز كفكا قد كان من الخصب والقوة بحيث أخذ يترك في الآداب العالمية آثارًا بعيدة عميقة، ليس إلى محوها من سبيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤