مُلاحظات

ما زال الأدباء الفرنسيون يجادل بعضهم بعضًا، حول موضوع يراه بعضهم خطيرًا، ويراه أكثرهم لا خطر له، وهو التزام الأديب حين ينشئ أدبه، واحتماله تبعة ما يكتب بأوسع معاني هذه الكلمة، كلمة التبعة، واتصاله حين يكتب بحقائق الحياة الواقعة التي تُحيط به.

وقد عرضت هذا الموضوع عرضًا مُفَصَّلًا في هذا المكان نفسه من «الكاتب المصري» في أول شهر أغسطس الماضي، وكنت أظنُّ أنها خصومة قد انقضت أو تُوشك أن تنقضي، ولكنها فيما يظهر ما تزال قائمة، وما يزال الكُتَّاب الفرنسيون يُبْدِئون فيها ويُعيدون.

وصاحب هذا الرأي هو جان بول سارتر أديب «الوجوديين» الفرنسيين في هذه الأيام؛ فهو الذي يكتب في هذا الموضوع فيُطيل، وهو الذي لا يسأم التكرار في هذه القضية، حتى كأنه يتحدى خصومه ويريدهم على أن يجادلوه أو يعطوه أيديهم وينزلوا عند رأيه.

وقد استأنف الحديث في هذه القضية في مجلته «العصر الحديث» منذ أشهر، فبدأ في نَشر دراسة مُفَصَّلة، عُنوانها «ما الأدب؟» وموضوعها الدقيق هو التزام الأديب حين يكتب، واحتماله تبعة ما يكتب، ووجوب أن يكون مُتَّصلًا حين يكتب بما يُحيط به من واقع الحياة.

وقد وصل إليَّ أكثر ما كتب في هذه الدراسة الأخيرة، وقد نُشر في عددي فبراير ومارس من هذا العام، وما زالت لهذه الدِّراسة بَقية نُشرت في عدد أبريل الذي لم يصل إلى الآن، ولعلها تجاوزت هذا العدد إلى عدد مايو أيضًا، وما كان بي أن أعود إلى هذا الحديث لولا أنَّ الدِّراسة التي ينشرها جان بول سارتر، قيِّمة حقًّا، فمن النافع أن يُلِمَّ بها قُرَّاءُ اللغة العربية، ولولا أنَّ في هذه الدراسة القيمة مُلاحظات مختلفة يتصل بعضها بالفن الخالص ويتصل بعضها بالأدب ويتصل بعضها بالفلسفة، ويمس بعضها ما يكون بين الكاتب وقارئه من صلة، ومنَ النافع كذلك أن يظهر قراء العربية على مثل هذه الملاحظات، ولولا أنَّ في هذه الدراسة القيمة أيضًا أحكامًا يُخيَّل إليَّ أنَّها أُرسِلت إرسالًا، أو أنَّها نشأت عن التكلف والتحذق والحرص على تحدي الخصوم، ومنَ النَّافع لقُرَّاء العَرَبية أنْ يظهروا على بعض هذه الأحكام، وأن يحذروا منها ومن أمثالها.

وقد قسَّم الكاتب دراسته ثلاثة أقسام، الأول عنوانه: ماذا نكتب؟ والثاني عنوانه: لماذا نكتب؟ والثالث عنوانه: لمن نكتب؟

وقد يكون من الطريف أن يرى القارئ كيف يبدأ جان بول سارتر دراسته عنيفًا مُتحديًا لخصومه ساخرًا منهم غير حافل بهم وغير مُتَرَدِّدٍ في أن يتهمهم بالعِناد أو بالغباء؛ فهو يقول في أول بحثه: «كتب إليَّ مغفل يقول: «إذا أردت أن تلتزم فما يمنعك أن تنضم إلى الحزب الشيوعي؟» وقال لي كاتب كبير التزم كثيرًا، وتحرر أكثر مما التزم، ولكنه نسي التزامه وتحرره: «إنَّ أسخف الفنانين أشدهم التزامًا، وانظر إلى المصورين السوفييتيين.»

وشكا ناقدٌ شيخ في هدوء قائلًا: «إنك تريد أن تقتل الأدب؛ فإنَّ ازدراء الأدب الرَّفيع يشيع وقحًا بَغيضًا في مجلتك.» ويصفني صاحب عقل صغير بأني قوي العقل، وهو وصف يُرادف عنده الإهانة كل الإهانة، وكاتب آخر يزحف متثاقلًا من حرب إلى حرب ويُثير اسمه ذكريات مُتَهالكة عند الشيوخ يلومني لأنِّي لا أحفل بالخلود، وهو يعرف والحمد لله كثيرًا من كرام النَّاس يعقدون به أعظم آمالهم.

ويرى صُحَفِيٌّ أمريكي ضَئيل أنَّ خطيئتي هي أنَّي لم أقرأ برجسون ولا فرويد، أما فلوبير الذي لم يلتزم فيظهر أنه يُساورني كأنَّه النَّدم، وبعض المَاكرين يغمضون عيونهم قائلين: «والشعر؟ والموسيقى؟ والتصوير؟ أتريد أن تلزمها هي أيضًا؟» وبعض أصحاب العقول المتهيئة للحرب يقولون: ما القصة؟ أتريد الأدب المُلتزم؟ فهي إذن طريقة الاشتراكيين المُحققين القدماء إلا أنْ يكون تجديدًا عنيفًا للشعبية القديمة.

«ما أكثر الحماقات! وما أسرع ما يقرأ الناس وما أقل ما يفهمون! وما أكثر ما يَحكمون قبل أن يفهموا! فلنستأنف الحديث إذنْ، وهو حديثٌ لا يُسَلِّي أحدًا، ولكن يجب أن نثبت المسمار».»

على هذا النحو العنيف السَّاخر، يبدأ جان بول سارتر دراسته، وهو يُهاجم النقاد؛ لأنهم يتحدثون دائمًا عن الأدب دون أن يبينوا ما يُريدون بهذه الكلمة، وهو يُريد أن يُعيد تحديد الأدب من جديد على طريقة ديكارت الذي يتخفف قبل كل شيء من أثقال الأوهام والتقاليد، وما اتفق الناس على تسميته بالحقائق المقررة.

وأول هذه الأوهام التي يريد الكاتب أن يتخفف منها قبل أن يعرف الأدب هو هذا الوهم الذي يدفع كثيرًا من الناس إلى إيجاد صلة دقيقة لازمة بين الأدب والفنون الرفيعة؛ فبعض الأدباء يتحدثون عن الموسيقى والتصوير حين يذكرون أدبهم، وبعض الموسيقيين والمصورين يذكرون الأدب حين يتحدثون عن موسيقاهم وتصويرهم.

وما من شك في أنَّ هذه الفنون الرفيعة تتشابه من حيث إنها وسائل للتَّعبير عن إحساس الجمال والشعور به، ووسائل أيضًا لإشراك غيرك معك فيما تحس من جمال بواسطة تعبيرك عن هذا الإحساس.

ولكنَّ هذا شيء والاتصال الدقيق بين هذه الفنون بحيث تصدق عليها كلها أحكام دقيقة مُشتركة شيء آخر؛ فإذا قيل إنَّ الأدب يجبُ أن يلتزم ويحتمل التبعات ويتصل بحقائق الحياة، فليس معنى هذا أنَّ الفُنون الرَّفِيعة الأُخرى يجب أن تخضع لهذا الحُكم؛ لأنَّ هذه الفنون الرَّفيعة الأخرى تُغايرُ الأدب مُغايرة جوهرية.

فالموسيقى قوامها الأصوات الخالصة، والتصوير قوامه الألوان، والأدبُ قوامه الألفاظ، وهذه المواد مُتغايرة في جوهرها، فيجب أن تتغاير في آثارها وفيما تخضع له من الأحكام؛ فالأصواتُ التي تتألف منها المُوسيقى، والألوان التي تأتلف منها الصورة، ليست علامات يُراد بها شيء آخر غيرها، وإنَّما هي أشياء قائمة بنفسها مُستغنية بنفسها، تأتلف فتدل على شيء، أو بعبارة أصح: تأتلف فتنشئ شيئًا هو القطعة الموسيقية أو الصورة.

على حين أن الألفاظ في نفسها ليست أشياء مُستقلة، وإنما هي علامات يدل بها على أشياء أخرى غيرها، والمُصَوِّرُ حين ينشئ صُورة بيتٍ حَقِير لا يَدُلُّ بصورته هذه على شيء أكثر من البيت الحقير الذي عرضه، وهو لا يُوحي إليك بما قد يكون في هذا البيت الحقير من بؤس وضنك وحرمان وعذاب؛ لأنَّه لم يُرد إلى ذلك، وإنَّما أراد إلى أن يُنشئ بيتًا حقيرًا فأنشأه، على حين يدل الكاتب حين يصف هذا البيت الحقير على أكثر من البيت، يدل على ما يحتويه هذا البيت من آلام وأحزان وحسرات ويأس، وقد يبلغ بك إلى أبعد من هذا، فيُثير في نفسك عواطف الإشفاق والرحمة، أو عواطف الغيظ والغضب، ويثير في نفسك بعد ذلك الرَّغبة في الإصلاح الاجتماعي، وقد يَدْفَعُك إلى محاولة الإصلاح دفعًا.

فالألفاظ إذن وسائل غايتها المعاني التي هي عواطف وأحكام وحقائق خارجية، وليس هُناك أَمَلٌ في أن تُطْلَب الألفاظ لنفسها أو يُعنَى بها الإنسان من حيث هي ألفاظ، إلَّا أنْ يكون مَريضًا أو مجنونًا، وإذنْ فلا غرابة في أنْ يطلب إلى الكاتب أشياء لا تطلب إلى المُصور ولا إلى المُوسِيقي؛ لأنَّ فن الكاتب مُغاير في مادته وجوهره لفن المصور والموسيقي.

إلى أي حد تستقيم هذه المُلاحظة أو يستقيم هذا الحكم المُطلق الذي يُقَرِّره جان بول سارتر واثقًا به مُطْمئنًّا إليه، مُستعليًا به على خُصُومه؟ أمَّا أنْ يُبين الألفاظ التي يأتلف منها الأدب، والأصوات والألوان التي يأتلف منها التصوير والموسيقى تغايرًا في المادة، فشيء ليس فيه شكٌّ ولا معنى للمراء فيه.

وإنما الذي أشك فيه شكًّا كثيرًا، هو أن المُصور حين يرسم البيت الحقير لا يزيد على أنْ يرسم بيتًا حقيرًا، ولا يزيدُ على أنْ يُشعرك بأنَّه قد أتقن التَّصويرَ أو لم يتقنه.

وأكبرُ الظَّنِّ أنَّ كثيرًا من آيات المُصورين لا تُثير الإعجابَ بالجمال وحده، ولكنها تُثير وراء هذا الإعجاب عواطف أخرى قد تُغيِّر من اتجاه الإنسان في حياته، وقد تُحوله عن طريق إلى طريق، وقد تدفعه إلى محاولات عملية تُغيِّر من حياته ومن حياة الناس مِنْ حوله، وأمر الموسيقى كأمر التصوير وغيره من الفنون الرفيعة المُختلفة.

وكل ما يُمكن أن يسلم للكاتب، هو أنَّ الأدب أصْرَحُ وأَفْصَحُ وأَوْضَحُ دِلالة من الفنون الأخرى التي تعتمد على الرمز والإيماء أكثر مما تعتمد على التعمق والاستقصاء الدقيق؛ فإذا استباح جان بول سارتر لنفسه أن يُلزِم الأدب ويُحَمِّله التَّبعات لأنَّه يعيش في بيئة، فيجب أن يُصور هذه البيئة ويُصلحها ويحتمل معها تبعاتها، فقد يجوز أن نُطالب المصورين والموسيقيين والمثَّالين بمثل ما نُطالب به الأدباء من الالتزام واحتمال التبعات، ويُخيَّل إليَّ أنهم لم ينتظروا أن نطالبهم بهذا الالتزام! فالذين صوروا مشاهد الدين وأقاموا المساجد والكنائس والتماثيل التي تُصور هذا الشخص أو ذاك وهذه الفكرة أو تلك، مهما تكن شخصيتهم وعبقريتهم واستقلالهم، قد تأثروا بالبيئة التي عاشوا فيها وأثَّروا في هذه البيئة وفي البيئات الأخرى التي عاصرتها أو تبعتها؛ فهم إذن ملتزمون مشاركون في احتمال التبعات.

وقد يكون الفرق عظيمًا هائلًا بين تصريح الأدب وتلميح التصوير، ولكنَّ الشيء المُحقق أنَّ تأثير الفن في إذكاء العواطف الدينية مثلًا، ليس أقل من تأثير الكلام.

ومُلاحظة أُخرى: يُخيَّل إليَّ أنَّ جان بول سارتر لم يُوَفَّق فيها للصواب كلِّه، وهي التي تتصل بالشعر؛ فهو يُريد أن يُلزم الشعر كما يُلزم النثر، وهو يتوسل إلى ذلك بنفس المَنهج الذي أعفى به الفنون الرَّفيعة الأخرى من الالتزام، وهو يَعْتَرِف بأنَّ الشِّعر يأتلف من الألفاظ التي يأتلف منها النثر، ولكنه يرى مُصيبًا أن نظر الشاعر إلى الألفاظ مُخالف أشد المخالفة لنظر الناثر إليها؛ فالألفاظ عند الناثر وسائل لا أكثر، وهي عند الشاعر غايات يُريد الكاتب بألفاظه أن يؤدي المعاني، ويُريد الشاعر أن يجد في الألفاظ نفسها جمالًا خاصًّا يستكشفه ويُحققه بما يحدث بين هذه الألفاظ من الائتلاف.

ولا يستطيع جان بول سارتر أن يَقصر عناية الشاعر على الألفاظ وما يكون من ائتلافها واختلافها؛ فهناك معانٍ وحقائق يُحاول الشاعر أن يدل عليها بشعره، ولكنَّ هذه المعاني والحقائق ليست هي الأشياء التي يقصد إليها الشاعر مُباشرة حين ينظم الشعر، وإنَّما هو يَجِدُ هذه المعاني في نفسه ويجد هذه الحقائق في الخارج، ويُحاول أن يتَّخِذَ من الألفاظ رموزًا لها وصورًا تدل عليها من بعيد.

وإذن فلا حرج على الشاعر إذا لم يلتزم، ولم يحتمل التبعات، ولم يتصل بحقائق الحياة الواقعة الإنسانية مُتأثرًا بها مُؤَثرًا فيها دافعًا إلى تغييرها إن احتاجت إلى التغيير، وإلى صيانتها إن احتاجت إلى الصيانة والبقاء، وهذا حقٌّ في جملته، ولكن جان بول سارتر إنَّما يتَحَدَّث عن الشعر المُعاصر عند بعض الأوروبيين، أو عن بعض المَذاهب لبعض الشُّعراء المُعاصرين.

وأمامه مُشكلة خطيرة لم يحلها، بل لم يُحاول أن يحلها، بل لم يُشر إليها من قريب أو بعيد، وهي أنَّ الإنسانية المُثقفة تكلمت شعرًا قبل أن تتكلم نثرًا، وأدت بالشعر أغراض الحضارة كلها في وقت من الأوقات؛ فقد كان الشُّعراء إذن يلتزمون ويحتملون التبعات، يتأثرون بالحياة الواقعة، ويُؤَثِّرون فيها إلى حد أن كان الشعر بالقياس إلى الإنسانية القديمة مصدرًا خطيرًا من مصادر التاريخ.

ومن أسخف السخف أن يُقال إنَّ شُعراء الإلياذة والأودسة والشُّعراء الغنائيين والمُمثلين عند اليونان والرومان وفي العصر الحديث، لم يكونوا يلتزمون ولم يكونوا يقصدون إلى المعاني في أنفسها، ولم يكونوا يتخذون الألفاظ وسائل إلى هذه المعاني.

وهناك حقيقة أدبية أخرى لم يلتفت إليها جان بول سارتر مُريدًا أو غير مُريد ألَّا يلتفت إليها، وهي أنَّ الكُتَّاب النَّاثرين قد يذهبون مذهب الشعراء، فيُعنَون بالألفاظ في أنفسها ويتخذونها غاية فنية، ومَظهرًا من مَظَاهر الجمال، ووسيلة إلى إثارة الإعجاب والبهجة اللذين يُثِيرُهما الشِّعْرُ.

وسواء أكان هذا الفَنُّ النثري مشروعًا كما يقول أصحاب القانون، أم غير مشروع، فإنه موجود وموجود في الآداب الكبرى كلها قديمها وحديثها.

والباحث المُنصف يجبُ عليه أن يأخذ الظواهر كما يُريد أن تكون، ومن الظواهر الأدبية الواقعة المُحققة أنَّ الشُّعراء قد يَقْصِدُون إلى المعاني ويتخذون الألفاظ وسائل إليها، وأن الكُتَّاب قد يُعنَون بالألفاظ ويتخذونها في أنفسها مادة للفن.

فإذا كان الالتزام واحتمال التبعات منوطًا باعتبار الألفاظ وسائل والمعاني غايات، فأصحاب المعاني من الشعراء والكتاب سواء في الالتزام، وأصحاب الألفاظ من الشعراء والكتاب سواء في التحرر من هذا الالتزام.

والنتيجة البَسيطة الواضحة التي ننتهي إليها، هو: أنَّ كاتبَنا الوجودي العظيم قد يكون موفقًا في الفلسفة، وإن كان الفلاسفة لا يعترفون له بهذا التوفيق، ولكن المُحقق أنَّه ليس مُوفقًا في الأدب، وأنَّ أحكامه على الشعر والنثر والفنون الرَّفيعة حين تتصل بقضية الالتزام هذه تقومُ على التحكم أكثر مما تقوم على أي شيء آخر.

وقد رأيت أنَّ المصورين والمثالين والبنائين والمُوسيقيين يُمكن أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، وقد التزموا بالفعل واحتملوا التبعات، وأنَّ الشُّعراء يُمكن أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، وقد التزموا بالفعل واحتملوا التبعات قبل أن يُوجد النثر، وبعد أن وُجِد النثر، وفي العصر الذي نعيش فيه، وفي البيئة التي يعيش فيها جان بول سارتر نفسه.

فشعراء المقاومة الفرنسية قد التزموا بشعرهم، وعَرَّضوا أنفسهم بهذا الشعر لأخطار هائلة، فاحتملوا من التَّبعات المَعنوية والمادية ما يعرفه جان بول سارتر حق المعرفة، ولستُ أدْري أيكون هؤلاء الشعراء مُنْتَمين إلى أحزابهم السياسية اليسارية لأنهم التزموا بشعرهم ففرض عليهم هذا الشعر أن يكونوا يساريين، أم يكون هؤلاء الشعراء شعراء مُلتزمين محتملين للتَّبعات لأنَّهم يساريون دفعتهم تبعات أحزابهم إلى أن يقولوا ما قالوا من الشعر.

ولكني حسن الظن بالإنسانية، وبالإنسانية المثقفة الممتازة، وأنا أرى من أجل ذلك أنَّ أراجون مثلًا شيوعي؛ لأنَّ شعره دفعه إلى الشيوعية، لا أنه شاعر لأن شيوعيته دفعته إلى الشعر أو فرضت عليه الشعر فرضًا.

فالفن الرفيع سواء أكان أدبًا منثورًا أم منظومًا أم شيئًا آخر غير الأدب أوسع جوًّا من هذه الأغراض الضئيلة التي يختصم حولها الناس؛ فأراجون مثلًا له شعره السياسي، ولكن له أيضًا شعره الخالص الذي لا يَتَّصل بالسياسة من قريب أو بعيد، ولا يمس الإصلاح الاجتماعي أو النظام السياسي، وهو مُلتزم دائمًا، مُلتزم حين يَمَسُّ السياسة والاجتماع أمامَ الفَنِّ أولًا وأمام الجماعة ثانيًا، ومُلتزم حين لا يمس السياسة ولا الاجتماع أمام الفن نفسه، وحسبك بالفن مُحاسبًا عسيرًا يعرف كيف يأخذ الفنانين بما يجب أن يحتملوا من التبعات.

ومُلاحظة أخرى لجان بول سارتر لم يُوفَّق فيها للصواب كله، وإنَّما وُفِّق فيها لسُخرية ظريفة طريفة لعَلَّها أن تعفيه من تبعات الخطأ الذي تَوَرَّط فيه؛ فهو قد عرض للنَّقد والنُّقاد عرضًا رائعًا حقًّا، ولكِنَّه بعيدٌ عن الإنصاف أيضًا.

وأكبرُ الظنِّ أنَّ مصدَر جَوره على النقاد أنهم لا يرفقون به ولا يرقون له ولا يعطفون عليه؛ فهو يَزْعُم أنَّ النُّقاد إنَّما يُعنَون بالموت أكثر مما يُعنَون بالحياة، وبالأموات أكثر مِمَّا يُعنَون بالأحياء.

وهو يُصَوِّر لنا النَّاقد ضيقًا بامرأته التي تعنف به، وبأبنائه الذين يثقلون عليه، هاربًا منهم إلى خزانة كُتبه حيث يُعاشر الموتى من الكُتَّاب، يفزع إلى مُعاشرتهم، ويأنس بهذه المُعاشرة ويستعين بها على كسب القوت حين ينقضي الشهر.

وهذا في نفسه كلام ظريف قد تكون له روعتُه وجماله، ولكنَّه في حقيقة الأمر كلام فارغ لا يدل على شيء، فسواء أراد جان بول سارتر أم لم يُرِد، فقدماء الكُتَّاب والشعراء والفلاسفة قد ماتت أجسامهم، ولكنَّ نثرهم وفلسفتهم لم تمت، والنقاد يعيشون على هذه الآثار الخالدة الحية كما يعيش عليها جان بول سارتر نفسه.

وهو في هذه الدراسة نفسها يذكر كانت وهيجل، وقد ماتا منذ زمن طويل، ولكن فلسفتهما ما زالت حية تغذوه هو وتغذو غيره من الوجوديين، كما تغذو النقاد الذين لا يُحبهم جان بول سارتر؛ لأنهم لا يُحبونه ولا يُهدُون إليه الثناء.

ومن أسخف السخف أن يقول قائل: إنَّ مُعاشرة أفلاطون وسيسيرون والجاحظ وڤولتير إنما هي حياة مع الموتى وإقامة بين القبور؛ فإنَّ هذا الكلامَ إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدل على الحنق والغيظ والغرور، وأكبرُ الظنِّ أنَّ جان بول سارتر لم يُرد به إلا إلى أن يغيظ النُّقاد ويحفظهم ويسخر منهم شفاءً لبعض ما في صدره من مَوْجَدَة.

على أنَّ من الحق أن جان بول سارتر قد أُتِيح له التوفيق حين عرض للقسم الثاني من دراسته، وهو «لماذا نكتب»، وإن كان يغلو فيما يُقرر في هذا القسم من الأحكام كما يغلو في أكثر أحكامه؛ فهو مثلًا لا يُؤمن بأنَّ الكاتب قد يكتب لنفسه لا للناس، ومن المُحَقَّق أنَّ الكاتب يكتب للناس، ولكن من المحقق أيضًا أن كثيرًا من الكتاب والشعراء يخدعون أنفسهم أو يخدعون عن أنفسهم فيعتقدون مخلصين أنهم لا يكتبون لأحد غير أنفسهم، وأنهم لم يريدوا أن يُذيعوا ما كتبوا، وإنما أُكْرِهوا على ذلك إكراهًا؛ أكرههم على ذلك أصدقاؤهم والمعجبون بهم، واختُلِسَت منهم آثارهم اختلاسًا، فنُشِرت على غير رضًا منهم، وأُذِيعت على غير رغبة منهم في أن تُذَاع.

ولستُ أدري أين قرأت أنَّ بول فاليري أنشأ مقبرته البحرية، وجعل يُعيد النظر فيها وقتًا طويلًا مُغَيِّرًا ومُبدلًا، يحذف من هنا ويُضيف إلى هناك، حتى زاره جاك ريفيير، فاختطف القصيدة منه اختطافًا، وكان هذا أول إذاعتها.

وما أشُكُّ في أنَّ الكُتَّاب والشُّعراء والفنانين يخدعون أنفسهم، ولكني لا أشك في أنهم كثيرًا ما يُخلصون في هذا الخداع أو الانخداع، ومن الناس من لا يكره إطالة النظر في المرآة، ومنهم من لا يكره إطالة العكوف على نفسه والانحناء على أعماقها، فليس ما يمنع أن يكتب بعض الكُتَّاب ليتخفف مما يثقله من الخواطر والآراء، ثم يَجِدُ اللذة في أن ينظر فيما كتب مُصلحًا له يلتمس الكمال، أو مُحدِقًا فيه كما يُحْدِق في المرآة.

ولكنَّ أكثرَ الكُتَّاب والشُّعراء والفنانين ينتجون للناس قبل أن ينتجوا لأنفسهم، أو قُل مع جان بول سارتر؛ إنَّهم يُنتجون لأنفسهم وللناس. فالإنتاج الأدبي عندهم مشاركة مُتصلة بين الكاتب والقارئ، أو بين المُنتج والمُستهلك، كما يقول أصحاب الاقتصاد.

ولكن لماذا يكتب الكاتب؟ ولماذا يقرأ القارئ؟ وما عسى أن تكون القوانين التي تُنظم الصِّلة بين القارئ والكاتب، أو التي تصف هذه الصلة وصفًا دقيقًا وتصورها تصويرًا صادقًا كما تصف قوانين العلم ظواهر الحياة؟ يُلاحظ جان بول سارتر أمرين يدفعان الكاتب إلى أن يكتب، بل يدفعان الفنان إلى أن ينتج على اختلاف الفنون؛ أحدُهما: أنَّ الفنان يُريد أن يُشْعِر نفسه بأنَّه كائنٌ أَسَاسي في هذا العالم الذي يَعيش فيه؛ فحقائق الحياة وحقائق الطبيعة موجودة سواء أعرفها الإنسان أم لم يَعرفها، ولكنَّ وجودها إغراقٌ في النوم، وإغراق في النوم العميق السخيف، إلى أن يظهر عليها الإنسان فيعطيها معنى ويرسم لها أغراضًا وغايات.

فالزهرة الجميلة زهرة ما، لا قيمة لها ولا لجمالها إلَّا أن تُعرف وتُقَوَّم ويُصَوَّر جمالها، والإنسان هو الذي يستطيع أن يَعرفها وأن يُقَوِّمها وأن يخلع عليها هذا الجمال، وهو لا يخلع عليها جمالها الموضوعي الذي لا قيمة له في نفسه، وإنما يخلع عليها جمالًا ذاتيًّا ينشئه هو في نفسه إنشاءً ويضفيه على الزهرة إضفاءً.

فلونُ الزَّهْرَة وتكوينها وائتلاف أوراقها على نحو ما من الائتلاف، كل هذه أشياء يُعَلِّلها علم النبات تعليله الموضوعي الخالِص الذي لا يُثير إعجابًا ولا شعورًا بالجَمال، وإنَّما يُحَقِّق معرفة، والفنان هو الذي يجد في هذا اللون، وفي هذا التكوين، وفي هذا النوع من ائتلاف الأوراق، شيئًا آخر غير التعليل الموضوعي العلمي يخلعه عليها من جهة، ثم يَسْتَرِده منها من جهة أخرى فينشئ بينها وبينه صلة هي الحركة الأولى من حركات الفن.

وقُل مثل ذلك في الشجرة القائمة على شاطئ النهر، ومن حولها الشُّجيرات والأزهار، والعُشب قد انبسط على الأرض، والطير قد استقرت على الغصون متأرجحة متغنية، على ما في هذا المنظر أو المناظر كلها من اختلاف وائتلاف؛ فهي في نفسها ليست شيئًا إذا لم يعرفها الإنسان، وهي في نفسها إذا عرفها الإنسان ليست شيئًا جميلًا إذا لم ينظر إليها إلَّا هذه النَّظرة الموضوعية التي تَرُدُّ الظواهر إلى أصولها وأسبابها، ولكنها تصبح شيئًا ذا خطر، تصبح شيئًا يعني الفن حين ينظر إليها الإنسان نظرته الذاتية، فيجد فيها ما يثير عواطفه المُختلفة وأهواءه المتباينة.

فالإنسانُ إذنْ حريصٌ على أن يُزيل عن الكائنات ما يحجبها عن نفسه وقلبه وعقله وضميره؛ فحركته الفنِّية الأولى هي التجريد أو التَّعرية أو إزالة الحُجب ورفع الأستار، وهو إنَّما يَصْنَع هذا لأنه يُريد أو لأنه يشعر بالحاجة المُلِحَّة إلى أن يَرى نفسه كائنًا أساسيًّا لا يستغني عنه العالم لتظهر دقائقه وتتجلى أسراره.

الأمر الثاني: حاجة الإنسان بطبعه إلى أن يُشرك نظراءه فيما يجد من حس وشعور، وما يستكشف من فكرة ورأي؛ فهو لا يجرد الكائنات لنفسه وحدها، وإنَّما يُرِيد أنْ يحس غيره مثل ما يحس، وأن يرى غيره مثل ما يرى، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الفن؛ فالإنسان يكتُب لأنَّه يُريد أن يُجرد العالم، ولأنه يُريد أن يشرك غيره في النظر إلى هذا العالم المجرد العريان.

وتجريد الإنسان للعالم عمل حرٌّ يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد، وإشراك النظراء في النظر إلى هذا العالم المُجرد عمل حرٌّ أيضًا يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد؛ فالإنتاج الأدبي — في رأي جان بول سارتر — مَظْهرٌ من مظاهر الحرية، أما القارئ فهو يستجيب لدعاء الكاتب؛ لأن كتابة الكاتب ليست إلا ادعاءً أنَّه يُحِسُّ ويشعر، ويدعو غيره إلى أن يشاركه في الحس والشعور.

وهُنا يُلح جان بول سارتر فيما قدمت الاعتراض من أن الكاتب لا يكتب لنفسه؛ ذلك أنَّه حين يكتب لا يَرى ما يكتبه إلا شيئًا فشيئًا بِمقدار ما تتصور كَلِمَاته في الصُّحف؛ فهو لا يتنبأ بآخر ما يكتب، وإنَّما يسعى إليه سعيًا قد تَصَوَّره جملة قبل أن يكتب أو لم يتصوره، ولكنَّه على كل حال يجد لذة هي لذة الكتابة لا لذة القراءة.

وهو من أجل هذا يشعر بأنَّ عمله ناقصٌ لا يتم ولا ينتهي إلى غايته إلا إذا أعانه القارئ على إتمامه والوصول به إلى غايته؛ فإذا استجاب القارئ للكاتب تم عمله، وإذا لم يستجب له ظلَّ هذا العمل ناقصًا مبتورًا.

والقارئ لا يَستجيب للكاتب مُكرهًا، وإنَّما يستجيب له حُرًّا مُريدًا عامدًا إلى هذه الاستجابة، والقارئُ لا يُنشئ عَملًا مُستقلًّا عنِ الكاتب، فلولا الكاتِبُ ما قرأ القارئ؛ فهو إذنْ يُعاون الكاتب ويُتممه بأدقِّ معاني كلمة المُعاونة والإتمام؛ ذلك أنَّ الكاتب لا يُودع الصحف كل ما في نفسه لأنَّه لا يستطيع ذلك ولا يريده، وإنما هو يرسم ما في نَفْسِه رَسمًا تخطيطيًّا يُرشد به القارئ إلى أن يملأ ما بين الخطوط.

فالقارئُ إذن ليس قابلًا فحسب، ولكنَّه قابل من جهة وفاعل من جهة أخرى، أمره في ذلك كأمر الكاتب بالضبط؛ لأنَّ الكَاتِب قابل حين يتأثر بالعالم الخارجي، وفاعِلٌ حين يُعيد إنشاء هذا العالم الخارجي.

والقارئ مُتأثر حين يتلقى الرَّسم التخطيطي الذي دعاه الكاتب إلى النَّظر فيه، وهو مُنشئ حين يملأ ما بين الخطوط، ويتمم ما بدأ الكاتب من الرسم والإنشاء.

وإذن فالأدب حُرِّية كله، حُرِّية حين ينشئه الكاتب، وحرية حين يُتِمُّ القارئُ إنشاءه، وهذه الحُرِّية الفاعلة تتخذ الانفعال وسيلة إلى الفعل، وتتخذ التأثر والخضوع وسيلة إلى الإنشاء والتأثير؛ فالكاتبُ مُتأثر، وتأثره هذا وسيلة إلى تأثيره، والقارئُ مُتأثر وتأثره هذا وسيلة إلى تأثيره أيضًا.

وأنا مُعتذر إلى القارئ العربي مما قد يكون في هذا الكلام من الغُموض، ومن ترديد ألفاظ بعينها أكثر مما ينبغي، ولكني أُحِبُّ أن يُلاحظ القارئُ أني أُلَخِّص له دراسة لجان بول سارتر أديب الوجوديين الفرنسيين، وصاحب كتاب «الكون والعدم».

وهناك شيء لم يقف عنده جان بول سَارتر، مع أنَّه خليق بالعِناية، وهو أنَّ الكاتِبَ واحدٌ، وأنَّ قُرَّاءَه كثيرون يَختلفون فيما بينهم اختلافًا شديدًا في الأمزجة والطِّباع والاستعداد والذوق والثقافة، ويُنشأ من ذلك اختلافهم في تقدير الأشياء والحكم عليها.

وهؤلاء القُرَّاء يُعاصرون الكَاتب دائمًا، وقد يعيشون بعده أزمانًا تقصر وتطول بمقدار ما يُقدَّر لأثره من البقاء، وهم يختلفون حين يُعاصرونه، ويختلفون بعد أن يموت، وكلما أُتيحَ للأثر الفني الخلود عَظُمَ حَظُّه من اختلاف القراء بالتأثر والحكم والتقدير.

وإذن فالكاتب لا يُنشئ أثرًا واحدًا حين يؤلف كتابًا واحدًا، وإنَّما يُنشئ آثارًا لا تُحصى، أو قُل: آثارًا بمقدار ما يُتاح له من القراء.

وواضح جدًّا أنَّ قصة من قصص شكسبير تترك في نفوس القراء آثارًا تتفق في جملتها، ولكنها تختلف في تفصيلها اختلافًا لا سبيل إلى ضبطه، وواضح جدًّا أن هذا التمثال اليوناني قد ترك في نفوس اليونان أنفسهم آثارًا مُتباينة، وترك في نفوس المُحدثين آثارًا تختلف باختلاف القرون.

فالكاتب إذن يُنشئ ولكنه يدعو الأجيال المختلفة إلى الإنشاء، ومن هنا تظهر قيمة الالتزام الذي يدعو إليه جان بول سارتر؛ فيجب على الكاتِبِ أن يُقَدِّر عمله ونتائجه، وأن يحتمل تبعات هذا العمل وهذه النتائج، والكاتب مدفوع إلى الكتابة بحُرِّيته التي تدفعه إلى شيء من الكرم والجود والتنزه عن الأثرة والبُخل.

والقارئُ مَدفوعٌ إلى القراءة لحَاجَته إلى أن يتلقى أولًا وإلى أن يُعطي ثانيًا، وإذن فالتبعة الأدبية ليست مَقصورة على الكاتب وحده، ولكنها شَرِكَة بينه وبين قُرَّائه.

وهنا يصل جان بول سارتر إلى نتيجة لا تخلو من روعة، وهي أن الأدب ما دام مصدره الحرية والإيثار واحتمال التبعات، فلا يمكن أن يكون شرًّا ولا أن يدعو إلى الشر مهما تكن مادته وموضوعه؛ ذلك أنَّ الحرية خير والإيثار خير، وما يصدر عن الخير يجب أن يكون خيرًا آخر الأمر.

فما يُسميه الغربيون أدبًا أسود لا حظَّ له في حقيقة الأمر من السواد؛ لأنَّ مُنتِج هذا الأدب إنَّما رأى شرًّا فأراد إصلاحه، وقارئ هذا الأدب إنما رأى ابتداء الإصلاح فأراد إتمامه.

ونتيجة أخرى لا تخلو من روعة يصل إليها جان بول سارتر، وهو أنَّ الأدبَ حُرٌّ فلا يمكن أن يتجه إلى العبيد، وآية ذلك أن القارئ لا يقرأ إلا عن حرية، وإذا ذكرنا القارئ الحر فإنما نريد القارئ بأدق معاني هذه الكلمة، القارئ الذي يتعمد القراءة ويتعمد الفهم، ويتعمد إذاعة ما قرأ وما فهم، ومِنْ هُنا يقول جان بول سارتر: إنَّ الديمقراطية هي أشدُّ النُّظم مُلاءمة للأدب.

وهذا الكلام قد يكون صحيحًا، ولكن بشرط أن نتوسع في معنى الديمقراطية شيئًا ما، وأنْ نتجاوز بها حدودها السياسية التي تُرسَم لها في كتب السياسة والقانون؛ فقد كان عصر بيركليس دِيمقراطيًّا، ولكنَّ عصر أغسطس والرشيد ولويس الرابع عشر لم تكن عصورًا ديمقراطية وقد ازدهر فيها الأدب ازدهارًا عظيمًا.

ورُبَّما كانت كلمة الحرية هنا أشد ملاءمة من كلمة الديمقراطية، فهؤلاء الملوك المُتسلطون المستبدون كانوا يتسلطون ويستبدون في حدود لا يكادون يتجاوزونها، وكانوا يتركون للعقول والقلوب والألسنة حُرية لعلها لا تقل عما تستمتع به الآن.

والفكرة التي يرمي إليها جان بول سارتر هي أنَّ الأدب والدكتاتورية لا يتفقان؛ لأنَّ الدكتاتورية لا تعرف حدودًا للتسلط والاستبداد، وإنَّما تَتَدخل في كل شيء، وتفرض نفسها على كل شيء، وتُريد أنْ تنظم كل شيء، فتهدر بذلك حرية الأفراد والجماعات إهدارًا.

وبعد فكل هذه الخصائص التي صورها جان بول سارتر للإنتاج الأدبي، والتي يُبين لنا بها لماذا نكتب، ليست مقصورة على النثر من دون الشعر، وليست مقصورة على الأدب من دون الفنون الرفيعة كلها، وإنما هي شائعة بين هذه الفنون جميعًا؛ فإذا كان من شأنها أن تفرض على الكتاب أنْ يلتزموا ويَحْتَملوا التبعات، فمن شأنها أنْ تفرض على الشعراء والمُوسيقيين والمصورين والمثالين وغيرهم من أصحاب الفن الرَّفيع كائنًا ما يكون الفن، أن يلتزموا ويحتملوا التبعات.

ورُبما كان وجه الحق في هذه القضية هو أنَّ لكل شيء مَوضِعَه، وأنَّ كل صاحب فن مُلتزمٌ مُحتَمِل تبعاته أمام الفن أولًا، وأمام الذوق العام ثانيًا، ثم أمام طوائف بعينها من الناس إذا كان من شأن موضوعه أن يُلزمه ويُحمله التبعات أمام هذه الطوائف من الناس.

فالأديبُ الذي يعرض للسياسة مُلتزم أمام فنه الأدبي وأمام مذهبه السياسي، وقل مثل ذلك في الأديب الذي يعرض لشئون الاجتماع، ولم يحظر أحد على أديب ولا على صاحب فنٍّ أن يُعالج من الموضوعات ما لا يلزمه إلَّا أمام الفن والذوق وحدهما.

وقد أعود إلى هذا الموضوع بعد أن أُتِمَّ قراءة ما كَتَبَ جان بول سارتر عن القسم الثالث من دراسته، وهو: «لمن نكتب؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤