إجازة

لا أريد تلك الإجازة التي كان القدماء من علمائنا يُهدونها إلى تلاميذهم؛ فتكون إذنًا لهم بأن ينقلوا عنهم هذا الكتاب أو ذاك، مما نقلوا من غيرهم أو أنشأوا من عِنْد أنفسهم، والتي ظلَّ المحافظون من علمائنا يتلقونها من أساتذتهم، ويهدونها إلى تلاميذهم، ولا سيما فيما يتصل بالحديث، يكتبونها نثرًا في أكثر الأحيان، ويتأنقون فينظمونها شعرًا بين حين وحين.

ولا أريد الإجازة التي نشأت عن هذا المعنى القديم، واستُعمِلت في العصر الحديث لتدل على شيء مُحدث لم يكن مألوفًا فيما مضى من الزمان، وهو هذا الإذن الرَّسمي الذي تمنحه الجامعات، ومعاهد العلم للذين يتخرجون فيها من التلاميذ، وتُبيح لهم به أن يُعلموا الأجيال الناشئة ما تعلموا من الأجيال الماضية.

لا أريد إجازة الأستاذ القديم لتلميذه القديم، ولا إجازة التدريس التي تمنحها الجامعات الحديثة للتلاميذ المُحدثين، متأثرة في تسميتها بالجامعات الأوروبية في القرون الوسطى، أكثر من تأثرها بسنتنا الموروثة وتقليدنا القديم.

ولا أريد الإجازة التي تصدر عن الملوك والأمراء وأشباه الملوك والأمراء إلى الشعراء والكتاب، فتمنحهم الجوائز السنية من الذهب والفضة والجوهر، ومن الإبل والشاء والطعام والثياب، وإنَّما أُريد الإجازة بمعناها الشائع الحديث بين الموظفين من جهة، وبين الطلاب والتلاميذ نقلًا عن الموظفين من جهة أخرى؛ فلم نكن أيام الشباب نُطلق لفظ الإجازة على ما يتاح للمُعلمين والمُتعلمين من أيام الفراغ، وإنما كنا نُسمي ذلك تسمية أخرى يَسيرة واضحة قريبة الدلالة، كنا نُسميها «المُسامَحة».

وكنَّا نَعرِفُ المُسامحات الطوال حين يُقبِل فصل الصيف، وحين يظل شهر رمضان أساتذة الأزْهَر وتلاميذه أثناء الشتاء، والمُسامحات القِصَار حين تعود الأعياد وتظل المواسم.

وكنا نفهم من هذه الكلمة أنَّ النظام الأزهري أو المدرسي يُسامح المعلمين والمُتعلمين، ويأذن لهم في أن يستريحوا من جهد الدرس ومَشقة الطلب وخُشونة الحياة، وفي أن يعودوا إلى أهلهم في المدن والقرى؛ ليجدوا عندهم أيامًا فارغة، تستريح فيها العقول، وتنمو فيها الأجسام، وتستمتع فيها النفوس بشيء من الرَّوح والهدوء.

وكانت كلمة المُسامحة هذه تؤدي معناها في قوة ويُسر، لا نكاد ننطق بها حتى نفهم منها الرَّاحة والدعة والحُرِّية والنَّوم إلى أن يرتفع الضُّحى، لا نستيقظ قبل أن نُدعى إلى صلاة الفجر لنشهد الصلاة ونسمع الدروس، والنَّوم إذا زالت الشمس واجتمعنا حول مائدة الغداء وتفرقنا عنها، لا نعجل عن ذلك بدرس النَّحو أو درس البلاغة، والسهر حتى يتقدم الليل فيبلغ نصفه أو يتجاوز النصف، نسْمُر أثناء ذلك بما يُسلي ويُلهي، ولا نشق على أنفسنا بتلك المُشكلات العلمية التي كانت تكلفنا ألوان العناء.

ولست أدري كيفَ أعرضنا عن كلمة المُسامحة تلك السمحة الحلوة التي يمتد بها الصوت ويُشارك في النطق بها الحلق واللسان والشفتان، إلى كلمة الإجازة هذه القصيرة التي اجتمع بعض حروفها على بعض فلا يكاد الصوت يمتد بها، ولا تكاد النفس تَجِد حين يجري بها اللسان شيئًا من راحة أو دعة أو هدوء.

وأكبر الظن أنَّ الموظفين هم الذين أدوا هذه الكلمة إلى أبنائهم، فاصطنعوها ليدلوا بها على أيام الرَّاحة والفراغ، يرون في اصطناعها شيئًا من ترف، ويُقلدون آباءهم حين يدلون بهذه الكلمة على ما تمنحهم الدولة من أيَّام الفراغ في كل عام.

ومهما يكن من شيء، فإني أُريد أن أتحدث عن الإجازة بهذا المعنى الذي يستعملها فيه الموظفون والمحدثون من الطلاب والتلاميذ، وهو هذه الأيام الطوال أو القصار التي تُمنح للموظفين والطلاب والتلاميذ، والتي نَمْنَحُها نحن لأنفسنا حين نكون أحرارًا لا من أولئك ولا من هؤلاء، نرفه فيها على أنفسنا، ونستريح فيها من عناء الأعمال، كما يُقال.

وواضح أني إنَّما أتَحَدَّثُ عن هذه الإجازة؛ لأني منحتُ نفسي إجازة أُريح فيها وأَسْتَريح مِنْ هذا العناء الطَّويل الثقيل الذي أنفقتُ فيه العام، فتَعِبْتُ وأتعبت، وشقيت وأشقيت، وأحسست الحاجة إلى أن أريح نفسي من التعب والإتعاب، ومن الشقاء والإشقاء، وأريح الناس الذين يتصلون بي من قرب أو بُعد أشهرًا أو أسابيع، فلا أفكر فيهم ولا يُفكرون فيَّ، ولا أَشقى بالكتابة لهم ولا يشقون بالقراءة لي، ولا أضني نفسي بالاتصال بهم ولا يضنون أنفسهم بالاتصال بي.

وقد يُخَيَّلُ إلى كثير جدًّا منَ النَّاس أنَّ معنى الإجازة مُختصرٌ قصيرٌ كلفظها، فهي أيامُ راحة ودعة وفراغ لا أكثر ولا أقل.

ولكنهم لو فكروا قليلًا لتبينوا أنَّ معنى الإجازة أوسع وأعمق وأطول من لفظها، وأنَّه أدقُّ وأشدُّ تعقيدًا مما يظنون، ولو لم يكن أمامنا إلا هذه الألفاظ الثلاثة نُحللها ونستقصي معانيها لنفهم معنى الإجازة، لكان هذا في نفسه عَسيرًا شاقًّا، فكيف وأمامنا أشياء أخرى أكثر وأعسر من هذه الألفاظ الثلاثة وكُلها يحتاج إلى التحليل، وكلها يحتاج إلى الاستقصاء!

فلنكتفِ الآنَ بهذه الألفاظ الثلاثة لا لنَستقصي معانيها بل لنُلِمَّ بهذه المعاني؛ فالإجازة أيام راحة، فما عسى أن تكون الرَّاحة؟ ما موضوعها وما طبيعتها؟ وما وسائلها وما غايتها؟

تُريد أن تَستريح، فممَ تُريد أن تستريح؟ وممن تُريد أن تستريح؟ ألست ترى أن الجواب عن هذين السؤالين يختلف أشد الاختلاف ويتفاوت بتفاوت الأشخاص وطبائعهم، وما يُمارسون من أعمال، وما ينعمون أو يشقون به من ألوان الحياة منذ يُسفر الصبح إلى أن يتقدم الليل؟ أمَّا أنا فإذا ذكرتُ الإجازة وذكرتُ أنَّها أيامُ رَاحة لي، وحاولتُ أنْ أعرف ممَّ أريد أن أستريح، فقد يكون أوَّل ما يَخْطُر لي أني أُريد أنْ أَسْتَريح من ثلاثة أشياء أشقى بها في مصر شقاءً لا يكاد أحد يتصوره أو يُقَدِّره؛ أولها: التليفون الذي يصلصل جرسه منذ تُشرق الشمس إلى أن تشرق الشمس، لا ينقطع عن الصلصلة إلا ليستأنفها، ولا يكف عنها إلا ليعود إليها. وصلصلة جرس التليفون هذه مختلفة متنوعة مُعقدة، فيها كثير من العُسر، وفيها كثير من الهمِّ، وفيها كثير من العناءِ، وفيها قليل جدًّا من النعيم الذي تبتهج له النفوس وتطمئن إليه القلوب.

فهذه صلصلة تَسْتَلُّك من السرير استلالًا ولما تشرق الشمس، فإذا قطعتها واستمعت إلى هذا الصوت الذي يدعوك من أقصى الخيط، كما يقول الفرنسيون، فقد تقع أذنك أو يقع على أذنك صوت لا عهد لك به ولا أرب لك فيه؛ صوت مُخطئ أراد أن يُهدي إلى غيرك خيرًا أو شرًّا، وأبى سوء الظن إلَّا أن يغلط به، فما زال يُلِح على أداة التليفون، وما زال الجرس يُصلصل حتى أزعجك عن راحتك وأخرجك من نَومك، واستلك من سريرك. ثم تسمع ثم تنكر، ثم ترد مُغضبًا أو غير مُغضب، ثم تضع أداة التليفون كما ينبغي لها أن توضع عنيفًا بها أو رَفيقًا، ثم تعود إلى نفسك، وإذا أنت تجد شيئًا مُرًّا بغيضًا يُصور الحنق على من أخرجك من نومك الهادئ المُطمئن، وأزعجك عن راحتك واستقرارك، ويصور خيبة الأمل لأنك لم تجد من وراء هذا كُلِّه إلا هباءً لا خطر له ولا غناء فيه.

وقد يُصلصل جرس التليفون فيُزعجك عن راحتك ويَصْرِفُك عن حلم لذيذ ويذود عنك نومًا هنيئًا، فإذا بلغت أداة التليفون سمعت صوتًا تَعْرِفه فأنبأك في أكثر الأحيان بما لا تُحِبُّ، وابتدأ لك يومًا مُنكرًا؛ لأنَّ الناس يبخلون عادة بما يسر من الأنباء، وتطيب أنفسهم عن الأنباء السيئة يَعجلون بها إليك في غير أناة ولا رفق ولا استحياء.

وقد يُصلصل جرس التليفون فيزعجك ويُثقل عليك، ويكلفك من المَشقة فنونًا ومن الجهد ألوانًا، حتى إذا سمعت لصوت من دعاك ضِقْتَ بالدنيا وضَاقَت الدُّنيا بك؛ لأنَّك تجد نفسك بإزاء رَجُل سخيف يسألك عن شيء سخيف أو يحمل إليك نبأً سخيفًا، وإذا ابتدأتْ هذه الصلصلة المُختلفة المتنوعة فهيهات أن تسكن أو تهدأ أو تُقطَع، وإنما هي مُتَّصلة مُلِحَّة، حتى تُصبح جلجلة لا صلصلة، وحتى تُبَغِّض إليك الحياةَ والأحياءَ وما حولك من الأشياء.

ولست أدري أحاول بعض الناس أن يُقارنوا بين اصطناع التليفون في مصر واصطناعه في غيرها من البلاد، ولكنَّ الشيء الذي أُحققه هو أنَّ أهل القاهرة خاصَّة يُسرفون على أنفسهم وعلى النَّاس في اصطناع التليفون إسرافًا شديدًا، لا يرفق أحدٌ منهم بنفسه ولا يرفق أحد منهم بغيره، لا يفرقون بين العجلة والريث ولا بين ما ينبغي أن يؤدى من الرسائل في سرعة، وما يُمكن أن ينتظر به إلى وقت يقصر أو يطول.

والمصريون أصحاب فصَاحة ولُسن وفيهم غرور وعُجب، وهم يُحِبُّون أصواتهم ويُحِبُّون ألفاظهم ويحبون ما يصدر عنهم من قول أو عمل، وهم إذا بدءوا الحديث لم يعرفوا كيف يَفْرغون منه، وهم لا يفرقون بين الحديث الذي يسوقونه إليك وجهًا لوجه، والحديث الذي يسوقونه إليك من أقصى الخيط.

وهم يُؤمنون بأنفسهم وبحقوقهم وبمنافعهم وبجدهم ولعبهم، ولا يَكادون يُؤمنون لأحد غيرهم بشيء من ذلك، وهم من أجل ذلك لا يُقدرون أنَّ التليفون أداة عامة قد أُنْشئت لينتفع بها الناس جميعًا لا لينتفع بها إنسان بعينه دون غيره من سائر الناس، وهم من أجل ذلك لا يُقَدِّرون أنَّ التليفون أداة قُصِدَ بها إلى التيسير والسرعة؛ فلا ينبغي أن تُستخدم إلا عند الضرورة المُلجئة وإلَّا أقصر وقت ممكن.

وهم من أجل هذا كله يتحدثون بغير حساب ويُطيلون في غير رِفق، لا يعنيهم أن يصدوا غيرهم عن التليفون، ولا يعنيهم أن يشقوا عليك بحديثهم الطويل المُتَّصل، حسبهم أن يقولوا وأن يحسوا أنك تسمع لما يقولون، وهم لا يرون وجهك حين يربد، ولا يرون جسمك حين يضطرب، ولا يرون ما تدفع إليه من حركات الغيظ والضيق، فهم يقولون ويقولون، وكل شيء يدعوهم إلى القول، وكل شيء يدعوهم إلى إطالة القول.

وكذلك يُصلصل التليفون منذ أن تُشرق الشمسُ إلى أن تُشرق الشمس، ولولا أنَّ النوم فرضٌ محتوم على الناس جميعًا لكان التليفون وإلحاح المصريين في اصطناعه مَصدرًا خطيرًا من مَصادر الجنون، وهو على كل حالٍ مصدر خطير من مصادر اضطراب الأعصاب.

فإذا ذكرت الرَّاحة التي أطمع فيها أو أطمح إليها، فقد يكون أول شيء أفكر فيه هو صلصلة التليفون، وشيءٌ آخر أُفَكِّر فيه إذا ذكرت الرَّاحة أو سعيتُ إليها، وهو هذه الزِّيارات المُفاجئة التي تُصَبُّ عليك صبًّا بغير حساب وفي غير تقدير وعلى غير إيذان بها وانتظار لها؛ فأنت متى عُنِيت من قريب أو بعيد بالحياة العامَّة فلست مِلكًا لنفسك ولست مِلكًا لأهلك ولست مِلكًا لعملك، وإنَّما أنت ملك الشعب كله، يُدبر أمرك كما يُريد لا كما تُريد، وعلى ما يشتهي لا على ما تحب.

وليس بالشيء المهم ولا بالشيء ذي الخطر أن تكون رجلًا مُثقلًا بالأعباء التي تتصل بمصلحتك ومصلحَةِ النَّاس، أو أنْ تكون رجلًا محبًّا لهذا اللون أو ذاك من ألوان النشاط تريد أن تفرغ له وتعكف عليه، وإنما المهم كل المهم والخطير كل الخطير هو أن تكون رَجُلًا سَمْحًا سَهْلًا مفتوح الباب مؤدب الخدام، لا ترُدُّ ملمًّا إن ألم ولا تمتنع على زائر إن زار.

وقد يكون أظرف شيء في هذه الخطوب أن يسعى إليك الرَّجل لم تعرفه قط ولم تتصل أسبابك بأسبابه، وليس بينك وبينه ما يدعو إلى اتصال الأسباب، ولكنه قرأ لك كتابًا أو جزءًا من كتاب أو فصلًا في مَجلَّة أو مقالًا في صحيفة أو استمع لبعض أحاديثك في الراديو أو سمع الناس يتحدثون عنك، فأحب أن يَراك وأن يجلس إليك ساعة من نهار أو من ليل، لم يُؤامرك في ذلك ولم يُشاورك، وليس يعنيه أن تكون الساعة مُلائمة أو غير ملائمة، وإنما يعنيه أن يَراك ويقول لك ويسمع منك، ولا عليه بعد ذلك أن يضيع وقتك أو يُفسد عملك، فذلك آخر ما يفكر فيه.

والغريب أن الناس الذين يشقُّون عليك ويُكلفونك هذه الألوان من الجهد ولا يحسبون لوقتك ولا لِعَمَلك حِسابًا همُ الذين يُلِحون عليك في أن تكتب في كل يوم مقالًا، وفي كل أسبوع فصلًا وفي كل شهر كتابًا، فإنْ لم تفعل فأنت مُسرف في الكسل بخيلٌ بالأدب غارقٌ في البُخل إلى أذنيك، وإياك أن تجمع لهم فصولًا مُتفرقة وتنشرها في سِفْرٍ مُستقل، فإنَّهم لا ينتظرون منك ذلك ولا يرضونه لك ولا يرضونه لأنفسهم، وإنما هم ينتظرون منك أن تُقَدِّم إليهم في كل يوم شيئًا جديدًا مُبتكرًا، وألا تقرئهم أثرًا من آثارك مرَّتين مرة في الصحف والمجلات ومرة أخرى في الكتب والأسفار.

هم إذن يُضيعون وقتك ويُحاسِبُونك على هذا الوقت الذي أضاعُوه، وهم على ذلك لا يُقَدِّرون أن للجهد الإنساني غاية يقف عندها، وأنَّ الوقت الضائع لا سبيل إلى استئنافه، وأنَّ الكاتب مُحتاج إلى أن يقرأ فيُكثر القراءة، وإلى أنْ يَبْحَث ويُحسن البحث، وإلى أن يُفكر ويُطيل التفكير، ليُنتج فيُجيد الإنتاج.

هم لا يقدرون ذلك ولا يفترضونه، وإنَّما ينظرون إليك كما ينظر الطفل الساذج إلى أبيه يحسبه قادرًا على كل شيء؛ فلا يتردد في أن يطلب إليه كل شيء.

فأي غَرَابَةٍ في أنْ أذكر هؤلاء الزائرين المُفاجئين إذا ذكرت الرَّاحة أو سعيت إليها؟

وشيء ثالث أذكره مُغتبطًا به وأفكر فيه مُبتهجًا له حين أمنح نفسي إجازة وألتمس شيئًا من راحة، وهو أني سأفلت وقتًا طويلًا أو قصيرًا من الكِتابة فيما لا أُحِبُّ أن أكتب فيه، ومن العناية بما لا يجب أن أعنى به.

والناس لا يقدرون ما يتعرض له الكاتِبُ مِنَ الشَّر والنكر والشقاء من هذه النَّاحية؛ فالكاتِبُ المِصري قادر بطبعه عند المِصريين على أن يكتب في كل شيء، وعلى أن يُلم بكل موضوع، وعلى أن ينتج في كل لحظة من لحظات الليل والنهار؛ النَّاسُ كلهم مُحتاجون إلى الراحة إلا هو؛ فإنَّ الرَّاحة لم تُخلق له كما أنه لم يُخلق لها، كما أن التعب لا يمكن أن يجد إليه سبيلًا.

والناس كلهم مُيَسَّرون لما خُلقوا له إلا الكاتب؛ فإنه مُيَسَّر لكل شيء لأنه خلق لكل شيء، وما ينبغي أن تقولَ لأصحاب العلم إني صاحب أدب، فلا أستبيح لنفسي أن أُقَدِّم كتابًا في العلم، ولا أنْ تقول لأصحاب السينما إني لا أعرف من أمر السينما شيئًا فلا أستطيع أن أكتب عما يتصل به اتصالًا قريبًا أو بعيدًا.

لا ينبغي أن تقولَ شيئًا من ذلك إذا كُنت كاتبًا؛ لأنك بحكم صناعتك قادر على أن تكتب في كل شيء، وينبغي أن تكتب في كل شيء، والناس لا يَعرفون حين يطلبون إليك المقال أو الفصل أو الحديث أو المُقدمة رفقًا ولا لينًا ولا مُياسرة، وأكاد أملي ولا حياء، فهم يطلبون ويطلبون ويُلحون ويُلحون، فإذا أعياهم أن يبلغوا منك ما أرادوا توسلوا إليك بمن تُحب وتشفعوا إليك بمن لا تملك لشفاعته ردًّا حتى يُبَغِّضوا إليك الكتابة ويكرِّهوا إليك الأدب ويوشكوا أن يزهدوك في الحياة.

وربما يتجاوز الأمر هذا الحد إلى حدود أخرى غير معقولة ولا منتظرة؛ فالناس يعرفون رأيك في السياسة، وأنَّ هواك مع هذا الحِزب أو ذاك، ولكنهم لا يترددون في أن يطلبوا إليك أن تكتب حيث لا تحب أن تكتب.

وهم يقولون لك في ابتسام ساذج: إنا لا نطلب إليك أن تقول غير ما ترى، وإنما نطلب إليك أن تكتب ما تشاء، اكتب في الأدب فالأدب فوق السياسة وفوق الأحزاب، ليس له وطن فأحرى ألا تكون له صحيفة ولا حزب، وكذلك تنفق نهارك معرَّضًا لهذه المطالب التي لا تنقضي والتي لا تعرف الرفق، فإذا ذكرت الصحف اليَسيرة العابثة فحَدِّث عن إلحاحها عليك وتحرشها بك ولا تخشَ مُبالغة ولا إسرافًا.

وأكاد أعتقد أن الله إنَّما خلق التليفون ليُتيح لكُتَّاب الصحف اليسيرة العابثة أن يمطروا عليك وابلًا غزيرًا من الأسئلة لا ينقضي، وليس بينك وبين مُحَدِّثك سببٌ، وليس لك أمل في أن يكون بينك وبينه سبب، ومع ذلك فيجب أن تستجيب للتليفون إذا صلصل جرسه، وأن ترد على مُحدثك بعد أن تسمع سؤاله الغريب، واعتذر ما شئت أن تعتذر، فلن تخلص من إلحاحه إلا إذا خرجت عما ينبغي لك من الأدب وحُسن المُجاملة.

وليس من المهم أن يكون لديك من العمل ما هو خليق أن يَشْغَلك عن التليفون، وعن الزيارة وعما يحمل التليفون والزيارة إليك من أسئلة لا رأس لها ولا ذيل، وإنَّما المهم أنك رجل قد اصطنع الكتابة واحترف الأدب، فنزل عن نفسه للشعب أولًا وللصحف والمجلات ثانيًا، وإذا لم يُتح له أن يرُدَّ على أصحابها ومُحرريها فلا أقلَّ من أن يسمع لهم.

ومن طرائف هذا الباب أنَّ أصحاب هذه الصحف ومُحَرِّريها قد انتهزوا فرصة حياتنا السياسية في هذه الأيام الأخيرة، فطاردوا أصحاب السياسة من الوزراء وأشباه الوزراء، ومن الرؤساء وأشباه الرؤساء، ومن الزعماء وأنصاف الزعماء، وما زالوا بهم حتى أنزلوهم على حكمهم؛ فهم يلمُّون بدورهم إذا أصبحوا، ويلمون بدورهم إذا أمسوا، ويلحقون بهم في أنديتهم حين يرتفع الضحى أو حين يقبل المساء، يُلقون عليهم الأسئلة وينتزعون منهم الأجوبة، وينشرون ذلك في صحفهم مُتنافسين فيه متهالكين عليه.

فإذا سعوا إليك أنت أو تحدثوا إليك بالتليفون وأحسوا منك إباءً وامتناعًا كبُر ذلك عليهم، وأنكروا أن يستجيب لهم الباشوات من أعضاء نادي محمد علي، وأن يمتنع عليهم كاتب لم يبلغ الوزراء وليس يطمع في الوزارة، ولم تتح له الزِّعامة وليس يطمع في أن يكون زعيمًا؛ فأي غرابة في أن أفكر في هذا اللون من العناء البغيض الثقيل إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها.

والحياة في مصر منذ أثيرت أزمتنا السياسية شقاء كلها، بالقياس إلى الرجل المُثقف إن كان له قلب أو حظ يسير من العناية بالشئون العامَّة؛ فهو يُشارك مُواطنيه قبل كل شيء فيما يجدون من شقاء وما يُداعبون من أمل وما يَحتملون من ألم، وهو بعد ذلك حريص على أن يُحسن العلم بما يقع حوله من الأحداث وما يلمُّ بالناس حوله من الخطوب، وبما يُكْتَب وما يُقال في تلك الأحداث وهذه الخطوب.

وهو إذن مضطر إلى أن يقرأ سخفًا كثيرًا، وإلى أن يسمع سخفًا كثيرًا، وإلى أن يتحمل سخفًا كثيرًا، ليس له من ذلك بُدٌّ إلا أن يكون رجلًا قد قسا قلبه وغلظت كبده وآثر نفسه بالسلامة والعافية، واعتزل مُواطنيه وازدرى ما يُصيبهم من الكوارث والنازلات.

وهو إذا أصبح مُضطرٌّ إلى أن يَتَجَرَّع صُحفًا أربعًا أو خمسًا، وإذا أمسى مُضطر إلى أن يتجرع مثل ذلك، وإذا دار الأسبوع مُضطر إلى أن يتجرع في كل يوم صحيفة أو صحيفتين من هذه الصحف التي تقصد إلى المزاح، ولكنها تُمعن بمزاحها في الجد إمعانًا خطيرًا في كثير من الأحيان.

ثم هو إذا لقي الناس مضطر إلى أن يسمع منهم ويقول لهم، وويل لعقله وقلبه مما يسمع! وويل لعقله وقلبه مما يقول! وهو بفضل هذا كله مصروف عن العمل المُنتِج والقراءة الممتعة والعناية بما يغذو العقول والقلوب، فهو يبدأ يومه بالسخف، ويقضي يومه في السخف، ويختم يومه بالسخف، وهو سعيد إذا لم ينغص عليه السخف راحة النوم ولذة الأحلام.

أليس من الطبيعي أن أُفَكِّر في هذا كله إذا ذكرت الرَّاحة أو سعيت إليها، وأن أبتسم لهذه الأيام التي يمكن أن أقضيها دون أن أقرأ الصحف مُصبحًا ومُمسيًا، ودون أن أتحدث إلى الناس أو أسمع أحاديث الناس عن مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وما يُحيط بهما وبنا من الظروف!

كل هذا ولم أذكر العمل الأساسي الذي أُقيم حياتي عليه؛ لأنَّي لا أجد في هذا العمل جهدًا ولا مَشَقَّة ولا عناءً، وإنما أجد الجهد والمشقة والعناء في أني مَصْرُوف عن هذا العمل على شدة ظمئي إليه وكلفي به، وعلى كثرة دعائه لي وإلحاحه علي؛ فأنا أشبه الناس بالمُسافر الذي يكاد قلبه يتقطع من الظمأ، والماء بين يديه عذب صفو زلال، ولكنه لا يستطيع أن يدني منه شفتيه …

فإذا ذكرت الراحة أو سعيتُ إليها فإنَّما أذكر راضي النفس مُطمئن القلب مُبتهج الضمير أنَّ هذه الراحة قد تتيح لي شيئًا من هذا التعب الحلو الذي أتحرق كلفًا به وشوقًا إليه. وقد يُصدقني القارئ أو لا يُصدقني، ولكني أعلم أني أنفقت أيام السفينة عاكفًا على قراءة كتاب في حياة عُثمان لا صلة بينه وبين الرَّاحة والدعة والفراغ، وما أعرف أنِّي استمتعت بشيء طوال هذا العام كما استمتعت بهذه القراءة التي استطعت أنْ أفرغ لها دون أن تصرفني عنها صلصلة التليفون، أو الزِّيارة المُفاجئة، أو الأسئلة التي لا غناء فيها، أو قراءة السخف السياسي والمُشاركة فيه.

أترى إلى هذا النوع من معاني الرَّاحة كما عرضته عليك في هذه السذاجة التي لا تكلف فيها أنه معنى إضافي مقصور علي أو يوشك أن يكون مقصورًا عليَّ، فغيري من الناس يذهبون في الراحة غير مذهبي، ويبتغون بها غير ما أبتغي، وينتظرون منها غير ما أنتظر، تتقارب آراؤنا وأهواؤنا في ذلك وتتباعد، ولكنها تختلف على كل حال باختلاف أمزجتنا وطبائعنا وآمالنا وما نسعد أو نشقى به من ضروب الحياة.

فإذا ذكرت الدعة فأمرها في ذلك كأمر الرَّاحة يختلف معناها باختلاف طلابها، فليست الدعة عندي ترفًا ولا شيئًا يُشبه الترف، وأكاد أقطع بأني أجد من الترف في داري بالقاهرة ما لا أجده بل ما لا أجد قريبًا منه في أي مكان آخر من الأرض، وإنَّما الدعة التي أطمع فيها وأطمح إليها حين أمنح نفسي الإجازة من عام إلى عام هي التخفف من أثقال التكاليف التي تفرضها حياتنا اليومية المُنظمة، هي التخلص من العادات المَألوفة والنظم المقررة الملحة التي تلقاك إذا خرجت من نومك مع الصبح، وأقبلت على طعامك تصيب منه على نحو لا يتغير أو لا يكاد يتغير، ثم على ثيابك تلبسها على نحو لا ينبغي أن تحيد عنه قليلًا ولا كثيرًا، ثم على مكتبك ثم على مكانك في هذا المكتب، ثم على عملك في هذا المكان، ثم على ما يلم بك من هذه الأحداث المُتشابهة التي تكاد تتنبأ بها قبل أن تنسل من سريرك، وتكاد تحدد لها أوقاتها من النهار أو من الليل لا يُفاجئك إلا ما يكون من صلصلة التليفون وزيارة الزائرين، وأنت مع ذلك قد قدرتها وحسبت لها حسابها؛ لأنها أصبحت جزءًا من حياتك وقطعة من سيرتك لا سبيل إلى أن تخلص منها أو تتخفف من أثقالها.

هذه الحياة المُنظمة المضطربة التي تطرد، ولكنها لا تخلو مع ذلك من الأمْت والاعوجاج، والنبو هنا وهناك، والتي تفرض نفسها عليك من أول العام إلى آخره، قد قدرت نفسها ودقائقها تقديرًا مُفَصَّلًا دقيقًا مُضْنيًا، هذه الحياة هي التي تضيق بك أو تضيق بها، أو تبادلك ضيقًا بضيق حين يتقدم العام، وما تزال بك حتى تعجز عن احتمالها، وما تزال أنت بها حتى تعجز هي عن احتمالك.

فإذا بلغ العام آخره أصبحت أنت مجهدًا مكدودًا لا تقدر على شيء، وأصبحت هي فارغة سخيفة لا تصلح لشيء، وأصبحت الدعة هي هذا الشعور الذي يلقي في روعك أنك فارقت هذه الحياة وأنها فارقتك، وأنَّ كليكما قد تخفف من صاحبه إلى حين.

كذلك أفهم الدعة، وعلى هذا النحو أطمع فيها وأطمح إليها، ولا عليَّ بعد ذلك أن تثقل الأعباء أو تخف، وأن يغلظ العيش أو يلين، إنما قصاراي أن أتخفف من هذا الثقل المفروض الذي لا محيد عنه في مصر، وأن أحتمل ثقلًا غيره، قد يكون أشد منه تعنية وإضناءً، ولكنه ثقل آخر يصور حياة أخرى ويُتيح للشخصية أن تُجدد نفسها على نحو ما وهذا يكفي.

فإذا أضفت إلى هذا أن من الجَائز أن تُتيح لك الأيام أثناء الإجازة مُتعة فنية هنا أو هناك فتقرأ كتابًا كان من الممكن ألا تقرأه، وتقرأ هذا الكتاب رغبة في قراءته لا أداءً لواجب ولا وفاءً بوعد ولا تأهبًا لكتابة فصل، وتشهد هذه المسرحية أو تلك، وتسمع للموسيقى هنا أو هناك، وتلقى هذا الأديب أو ذاك من الذين تسمع عنهم وتقرأ لهم ويحول بعد الشقة بينك وبين لقائهم، أقول: إذا أضفت إلى هذا أنَّ الأيام قد تتيح لك أثناء الرَّاحة شيئًا من هذا المَتاع فقد بلغت الدعة أقصاها وانتهت إلى غايتها.

وقد يفهم غيري من الناس دعتهم على غير هذا النَّحو، بل من المحقق أن لغيري من الناس صورًا من الدعة لعلها لا تخطر لي على بال، ولكن هذا كله إنما يدلُّ على ما قدمتُ آنفًا من أن ألفاظ الراحة والدعة والهدوء تدلُّ على معانٍ أكثر وأعسر وأشد تعقيدًا مما نظن.

والهدوء ما هو أو ما عسى أن يكون؟ أهو هذا الهدوء المادي الذي تنعم به حين تستقر في قرية مُطمئنة بعيدة عن المدن، وعما يكون فيها من الضجيج والعجيج؟ أهو هذا الهدوء المعنوي الذي تنعم به حين تفرغ لنفسك وتخلو إليها وحين تفرغ نفسك لك وتخلو إليك بعد أن يُتاح لكما الإفلات منَ الحَياة المنَظَّمة المُطَّردة؟ أهو مزاجٌ من الهدوء المادي والمعنوي؟ كل ذلك ممكن، بل كل ذلك واقع، ولكن الشيء المُحقق أني أجد الهدوء المادي والمعنوي في كل مكان إلا في مصر، فقد أراد الله ألا تتيح الحياة لي في وطننا العزيز الكريم راحة ولا دعة ولا هدوءًا.

والناس يذكرون الفراغ حين يذكرون الإجازة، وحين لا يذكرونها أيضًا، وقد يكون من الممكن أن نجد لكلمة الفراغ معنى في معاجم اللغة، وأنْ نجد من النصوص الأدبية في العصور المُختلفة ما يبين لنا عن هذا المعنى في وضوح وجلاء، بل قد يكون من المُمكن أن نَجِدَ بينَ أصحاب الترفِ والثَّراء العَريض مُثُلًا قوية صادقة تُبين لنا عن معنى الفراغ، أما أنا فأعترف، مع الحزن أو مع السرور لا أدري، أني لم أجد بعد للفراغ معنى أستطيع أن أحققه.

وأكبر الظن أنَّ هذا شيء لن يتاح لي إلى آخر الدهر، إنَّما يتحقق معنى الفراغ حين تستطيع النفس الإنسانية أن تخلص من الحس والشعور والتفكير والتقدير، والحكم واللذة والألم واليأس والرَّجاء، وهي إذا خلصت من هذا كله فقد اشتمل عليها الموت، أتُراها بعد الموت قادرة على أن تحقق معنى الفراغ!

في هذه المعاني كلها وفي معانٍ أخرى كثيرة من أمثالها فكرت حين منحت نفسي إجازة أقضيها خارج القطر كما يقول الموظفون، فالإجازة عندي إذن هي الخروج من حياة إلى حياة، والتخفف من أثقالها لاحتمال أثقال أخرى، والاستعفاء من بعض الواجبات لالتزام واجبات أخرى؛ فنحن إذن لا نعفي أنفسنا من بعض الالتزام إلَّا لنفرض عليها التزامًا آخر.

ونحن لا نَخْرُج من عمل إلا لنَدْخُل في عمل آخر؛ فالخيرُ إذن في أن نعود بالإجازة إلى مَعنَاها اللغوي القديم، وهو الانتقال من مكان إلى مكان، والعبور من أحد شاطئي النَّهر إلى شاطئه الآخر، وإني لأشهد لقد بدأت إجازتي هذا العام كما بدأتها فيما مضى من الأعوام؛ فلم أشعر إلا بأني انتقلت من جهد إلى جهد، ومن جِدٍّ إلى جد، ومن التزام إلى التزام.

وإني لأفكر في هذه الأسفار الضخمة التي ملأ بها صاحبي حقيبة ضخمة، والتي يجب أن تُقرأ لعل قراءتها أن تؤدي إلى شيء يستطيع الناس أن يقرءوه، إني لأفكر في هذه الكتب الضخمة، وفي صلصلة التليفون التي أيقظتني صباح اليوم في باريس كما كانت توقظني كل صباح في القاهرة، وفي المواعيد التي تُطلَب إليَّ وفي المواعيد التي أُعطيها، فأسأل نفسي حقًّا أني قد منحتها إجازة تقضيها خارج القطر؟

نعم! إنَّ الإجازات التي تُمنح للموظفين والعاملين والتي نمنحها نحنُ لأنفسنا بين حين وحين، ليست إلا إجازاتٍ صِغارًا أو قُل: إنها إجازات بالاستعارة لا بالحقيقة.

فأمَّا الإجازة الكبرى، الإجازة التي يدل لفظها على معناها دلالة لا تتعرض لشك ولا غموض، فهي تلك التي لا يمنحُها النَّاسُ للناس ولا يمْنَحها الناسُ لأنفسهم، وإنما يمنحُها اللهُ للناس حين يريح منهم الحياة وحين يريحهم من الحياة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤