الحياة الأدبية في جزيرة العرب

تستطيع أن ترسم لبلاد العرب في هذه الأيام صورتين مختلفتين أشدَّ الاختلاف، وكلتاهما مع ذلك صادقة صحيحة، فهي قسم من آسيا يسمى باسم واحد منذ عصور بعيدة جدًّا ولكنه يتألف من أقطار وأقاليم تختلف في طبيعتها وتتباين أحوالها الجغرافية والاجتماعية والسياسية والدينية أيضًا، فمنها السهل ومنها الوعر، ومنها المرتفع ومنها المنخفض، ومنها الخصب الغني ومنها الجدب القاحل، ومنها ما يسكنه الحضر ومنها ما يسكنه البدو، ثم منها ما يحتفظ باستقلال سياسي قوي أو ضعيف، ومنها ما خضع للأجنبي خضوعًا تامًّا، ومنها بعد هذا كله من يذهبون في الدين مذهب أهل السنة ويتشددون في المحافظة على عقائد السلف الصالح من المسلمين، ومن يذهبون مذهب الشيعة معتدلًا أو متشددًا، ومن يقيم حياته الدينية على التصوف، ومن يعيش عيشة المسلمين العاديين في البلاد الإسلامية الأخرى، ومن جهل الإسلام جهلًا تامًّا وانغمس في نوع من البداوة هو أشبه شيء بما يصوره الشعر العربي القديم من حياة العرب الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأوثان والأشجار قبل ظهور الإسلام.

تجد هذا كله في بلاد العرب، فلا تكاد تصدق أن لهذه البلاد وحدة ما، أو أن من اليسير أن تتحدث عنها وعن آدابها كما تتحدث عن أي بلد آخر من بلاد الشرق العربي، فأنت تستطيع أن تتحدث عن مصر وعن سوريا وعن تونس أو الجزائر، فتصف حياتها الاجتماعية والسياسية والأدبية والدينية في غير مشقة ولا صعوبة؛ لأن لكل بلد من هذه البلاد وحدته الجغرافية والسياسية واللغوية، وهذه الوحدة تمكنك من أن تصف كل بلد من هذه البلاد وصفًا مقاربًا إن لم يكن دقيقًا كل الدقة، أما بلاد العرب أو جزيرة العرب كما يسميها الجغرافيون فليس لها من هذه الوحدة حظ، فما تقوله عن الحجاز لا يصدق على اليمن وما تقوله في أمر نجد لا يصح بالقياس إلى تهامة، فليس هناك قطر واحد وإنما هناك أقطار وأقاليم.

•••

وهذه الصورة التي أصورها لك الآن من بلاد العرب قريبة كل القرب من الصورة التي تجدها لهذه البلاد في الشعر الجاهلي حين لم تكن هذه الأقاليم كلها تتفق إلا في الاسم، وحين كانت تختلف في اللغات واللهجات وفي النظم السياسية والاجتماعية والدينية باختلاف الأقاليم والأقطار، وحين لم يكن الجمل — وهو أداة المواصلات الوحيدة — يستطيع أن يلغي ما بين هذه الأقاليم من الفروق، فهذه الأقاليم لا تزال اليوم كما كانت قبل الإسلام، لم تُلغَ فيها المسافات ولم تقرب بينها السكك الحديدية، ولم يؤثر فيها تأثيرًا قويًّا استعمال التلغراف على قلة استعماله، ولا مرور السفن البخارية على سواحلها في البحر الأحمر أو بحر الهند أو الخليج الفارسي، فهي إذن على حالها القديم تكاد تكون معزولة عن العالم الخارجي، وهي إذن على حالها القديم لا يكاد يوجد اتصال وطيد بين أقاليمها الداخلية، ومن الغريب أن وضعها السياسي بعد الحرب الكبرى يشبه جدًّا وضعها السياسي في القرنين الخامس والسادس للميلاد قبل أن يظهر الإسلام فيوثق الصلة بينها وبين بلاد الشرق الأدنى والأوسط.

كانت أطراف الجزيرة العربية في القرنين الخامس والسادس للميلاد متصلة بالدول الأجنبية المجاورة لها، فكانت أطرافها من جهة الشام متصلة بدولة البيزنطيين، ونشأ عن هذا الاتصال أن نُظِّمت علاقات سياسية بين أمراء الغسانيين وقياصرة قسطنطينية، أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث، وأي شيء الآن إمارة شرقي الأردن؟ هي إمارة الغسانيين القدماء، فيها مدن لها حظ ضئيل من الحضارة، وفيها بادية قوية غنية، وعلى رأسها أمير كان غسانيًّا قبل الإسلام وهو هاشمي الآن، وهذه الإمارة كانت خاضعة لحماية قسطنطينية قبل الإسلام وهي الآن خاضعة لحماية لندرة، وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس تقوم فيها إمارة عربية يحميها أكاسرة الفرس وتحافظ هي على حدود الدولة الساسانية من غارة البدو، وهي الآن تقوم فيها مملكة عربية ليس على رأسها لخمي كما كانت الحال من قبل بل هاشمي، وليس يحميها الفرس وإنما يحميها الإنجليز، وبلاد اليمن وما يتصل بها من الأقاليم الجنوبية في الجزيرة كانت في القرنين الخامس والسادس موضع النزاع بين الفرس والروم، وكانت تخضع للروم بواسطة الحبشة أو تخضع للفرس مباشرة أو تظفر باستقلال ضئيل يظل موضع النزاع بين أولئك وهؤلاء، وهي الآن كما كانت من قبل، بعضها خاضع لسلطان الإنجليز مباشرة على الساحل، وبعضها مستقل ولكنه موضع النزاع والتنافس بين القوة الإنجليزية والقوة الإيطالية.

تغيرت أسماء الدول الحامية لأطراف الجزيرة أو الطامعة فيها وتغيرت بعض الشيء أشكال الحماية والطمع، ولكن طبيعة الأشياء لم تتغير وأسباب الحماية والطمع لم تتغير؛ فالدول الأجنبية تحمي أطراف جزيرة العرب، إما خوفًا من البدو وإما رغبة في بسط النفوذ التجاري وإما للأمرين جميعًا، وطريقة العرب أنفسهم في فهم العلاقة بينهم وبين الأجانب لم تتغير، هي في القرن العشرين كما كانت في القرنين الخامس والسادس تقوم على الحاجة إلى المال والخوف من القوة، فأي الأجانب المجاورين للجزيرة كان أشد قوة وأكثر مالًا فهو صاحب النفوذ عند هؤلاء الناس.

أما قلب الجزيرة وداخليتها فلم يتغير كذلك إلا قليلًا، بادية مستقلة استقلالًا تامًّا تظهر الخضوع والطاعة لأمراء الحضر، رغبة أو رهبة أو خوفًا وطمعًا، فليس هناك فرق بين إمام صنعاء في اليمن وبين ملك من ملوك حمير في العصر القديم له سلطته المركزية في الحضر، ولكن أصحاب البادية مستقلون لا يخضعون له إلا بمقدار ما يخافونه أو يطمعون في عطائه، ومثل هذا في نجد وتهامة والحجاز.

•••

هذه إحدى الصورتين اللتين أشرت إليهما في أول هذا الفصل، أما الصورة الثانية فتمثل بلاد العرب من حيث إنها وحدة متشابهة من بعض الوجوه، فالدين الرسمي لهذه البلاد هو الإسلام، واللغة الرسمية لهذه البلاد هي لغة القرآن، والحضارة الرسمية في هذه البلاد هي الحضارة الإسلامية القديمة، وإذن فمهما يختلف سكان الجزيرة العربية في موطنهم الجغرافي وفي نظامهم السياسي وفي مذهبهم الديني وفي علاقتهم بالأجانب وفي لهجاتهم الخاصة فهم جميعًا مسلمون وهم جميعًا يكتبون لغة القرآن إذا كتبوا، ويفكرون ويعيشون على نحو ما كان يفكر ويعيش المسلم قبل أن تتوثق الصلة بينه وبين الأوروبيين والأمريكيين.

ومن هذه الناحية يستطيع الباحث عن الآداب في البلاد العربية أن يتحدث عنها في مقال واحد كأنه يتحدث عن شعب واحد، على أن من الحق عليه أن يلاحظ الظروف الخاصة التي تحيط ببعض الأقاليم فتجعل في آدابه صفات ليست في غيرها من آداب الأقاليم الأخرى، ولكن الكلام عن الأدب في جزيرة العرب يحتاج إلى أن تحل مسألة عزلته قبل الشروع فيه؛ ذلك أن بلاد العرب هي مهد الأدب القديم، وفي شماليها ووسطها ظهر الشعر الجاهلي، وفي الحجاز ظهر القرآن ومن الحجاز ونجد وتهامة انتشرت اللغة العربية وما كانت تحمل من أدب ودين إلى بلاد الشرق الأدنى، فغمرت أكثره وظلت موطنًا للأدب الخالص طول القرن الأول للهجرة، فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعًا من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد.

ومع أن العراق قد عظم شأنه جدًّا في العصر العباسي ونبغ فيه جماعة من الشعراء — منهم من أصله فارسي ومنهم من أصله من هذه الأخلاط السامية التي كانت تنتشر في العراق والجزيرة والشام — فقد ظل في البادية شعراء ممتازون كانوا يفدون على الخلفاء والوزراء في بغداد إلى أواخر القرن الثالث للهجرة، ثم انقطعت الصلة الأدبية، أو كادت تنقطع بين جزيرة العرب وبلاد الشرق العربي، وعادت الجزيرة العربية إلى ما كانت فيه قبل الإسلام من عزلة تامة في الأدب، وشديدة في السياسة وغيرها من مظاهر الحياة.

فما سبب هذه العزلة التي نشأ عنها أن أصبحت هذه البلاد — التي كانت مصدر النور للشرق الإسلامي كله — موطن الجهل والظلمة؟ وأصبحت هذه البلاد — التي كانت مهد اللغة العربية والأدب العربي — أقلَّ البلاد حظًّا من الامتياز في الأدب واللغة والدين فضلًا عن العلوم الأخرى؟

ليس الجواب على هذا السؤال عسيرًا، فقد كانت الدولة الأموية عربية خالصة، وكان خلفاء بني أمية ينظرون إلى جزيرة العرب نظرًا خاصًّا؛ لأنها موطن الأرستقراطية الحاكمة من جهة، ولأنها موطن الأمة التي يستمد منها الجند من جهة أخرى، فليس غريبًا إذن أن تكون الجزيرة العربية أشد بلاد الإسلام امتيازًا في ذلك الوقت. كانت موطن الرءوس المفكرة وموطن الأيدي العاملة في إقامة الدولة، كانت حاكمة وكان غيرها من البلاد محكومًا، فلما قامت الدولة العباسية تغير كل شيء لأن هذه الدولة قامت على أكتاف الفرس وتدبيرهم، فقامت خراسان مقام جزيرة العرب وأصبحت هي التي تمد الدولة بالرءوس المفكرة، بالوزراء ورجال القصر وبالأيدي العاملة بالجيش وعمال الدواوين، وقد أُقْصِيَ العرب شيئًا فشيئًا عن الجيش والدواوين.

ولم تكن بلاد العرب تشبه في الخصب والغنى بقية البلاد الإسلامية فأهملتها الدولة ويئست هي من الخلافة، ولم تكن المواصلات بينها وبين عاصمة الخلافة منظمة ولا سهلة، فليس عجيبًا أن تضعف العلاقة بينها وبين مركز الحكومة الإسلامية في بغداد شيئًا فشيئًا حتى انقطعت انقطاعًا تامًّا. أضف إلى ذلك أن تغلب الفرس والترك على بغداد لم يكن من شأنه أن يحتفظ بالعلاقة بين جزيرة العرب نفسها ومواطن الحضارة الإسلامية، وأن جزيرة العرب نفسها لم تكن من الغنى والثروة بحيث تستطيع أن تعيش لحسابها وتحتفظ بحظها من الحياة الأدبية الراقية، ومن الحضارة التي جُلِبت إليها جلبًا أيام الأمويين؛ لهذا كله انسحبت الجزيرة — إن صح هذا التعبير — من الحياة الإسلامية العامة، فأما باديتها فعادت إلى جاهليتها قليلًا قليلًا، وأما حواضرها فاحتفظت بشيء ضئيل تقليدي من الحضارة والأدب والعلم، ولولا أن البلاد المقدسة في الجزيرة العربية، وأن المسلمين يحجون إلى مكة والمدينة في كل عام، وأن لليمن أهمية خاصة في التجارة أثناء القرون الوسطى، لأُهمِلت هذه البلاد إهمالًا تامًّا ولنسيها تاريخ المسلمين.

نشأت عن هذه العزلة آثار سيئة جدًّا في حياة الآداب واللغة العربية عامة، وفي حياة اللغة والآداب في جزيرة العرب نفسها بنوع خاص؛ فقد كان اتصال العالم الإسلامي بجزيرة العرب في القرون الأولى للتاريخ الإسلامي يبعث في الآداب العربية في العراق والشام ومصر روحًا من البداوة وحياة الصحراء يمنحها شيئًا من القوة والجزالة في الألفاظ والأساليب والمعاني أحيانًا، فلما انقطعت هذه الصلة أمعن هذا الأدب العربي في الحضارة والترف وفقد روحه العربيَّ الخالص شيئًا فشيئًا حتى استحال آخر الأمر إلى جسم لا تكاد تمشي فيه الحياة؛ فسدت ألفاظه فكثرت فيها العجمة، وفسدت معانيه لإسراف الشعراء والكتاب في التدقيق، وفسدت أساليبه فظهرت فيها الركاكة والغموض.

وكانت جزيرة العرب في تلك القرون الأولى تستفيد من هذا الاتصال، فكان وفود الأعراب إلى حواضر العراق والشام ووفود أهل الحضر إلى مدن الحجاز ونجد، يثير في نفوس الأعراب معاني ما كانت لتثور في نفوسهم لو ظلوا في عزلتهم الأولى، ويكفي أن يلاحظ أن الغزل الحجازي — وهو أجمل ما قيل في الإسلام من غزل — إنما هو نتيجة لتبادل الصلات بين جزيرة العرب وحواضر العراق والشام ومصر، على أن العلم نفسه قد خسر بهذه العزلة خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الإنتاج الأدبي بمجرد أن انقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية، بل كان فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة، ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تُنقَل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتُدرَّس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى، ولم تكن تدوَّن في البادية وإنما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين ثم يذهب بها صوت الرواة والحفاظ وتنتثر في الصحراء كما تنتثر الرمال بتأثير الرياح.

وعلى هذا أخذت اللغة العربية وآدابها في الجزيرة تتغير وينالها التطور من حين إلى حين دون أن يُدوَّن هذا التطور أو يُسجَّل، وأصبح من المستحيل الآن أن نعرف الصلة الحقيقية بين اللهجات العربية في الجزيرة الآن وبين اللهجات التي كانت فيها أثناء القرون الثلاثة الأولى.

على أن العلاقات لم تنقطع بين بلاد العرب وبين البلاد الإسلامية الأخرى من كل وجه، فقد كان المسلمون يحجون في كل سنة كما قدمت، وكان مركز اليمن التجاري يهم بلاد البحر الأبيض المتوسط دائمًا؛ ولذلك لم تكد تفسد العلاقة بين الجزيرة وبغداد حتى قامت مقامها علاقات أخرى بين الجزيرة والقاهرة وحرصت القاهرة منذ أيام الفاطميين على أن يكون نفوذها عظيمًا جدًّا في الحجاز واليمن بنوع خاص، ولكن هذه العلاقات كانت سياسية دينية أكثر مما كانت أدبية علمية، والذين يريدون أن يتتبعوا تاريخ الأدب العربي داخل الجزيرة يستطيعون أن يظفروا بشيء من ذلك في مدن الحجاز واليمن، وذلك بفضل هذه العلاقة بين القطرين وبين مصر، وبفضل المكانة الدينية لمكة والمدينة.

أما نجد فإن حياته الأدبية قد ضاعت ضياعًا تامًّا إلى أواخر القرن الثامن عشر تقريبًا.

•••

وعلى كل حال فإن في الجزيرة العربية أدبين مختلفين: أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدها بل في البوادي العربية كلها؛ في الشام ومصر وإفريقيا الشمالية، وهذا الأدب — وإن فسدت لغته — حي قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب.

باديتهم، وهو في موضوعاته ومعانيه وأساليبه مشبه كل الشبه للأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى للتاريخ الإسلامي؛ ذلك لأن حياة العرب في البادية لم تتغير بحال من الأحوال، فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسية والمادية الآن كما كانت منذ ثلاثة عشر قرنًا، فطبيعي إذن أن يكون الشعر المصور لهذه الحياة كالشعر الذي يصور الحياة القديمة وأن يكون موضوعه ما يقع بين القبائل من حروب ومخاصمات تدعو إلى الفخر والمدح والهجاء والرثاء، وما يثور في نفس الأفراد من أنواع الآلام واللذات التي تدعو إلى الغناء بالشكوى حينًا والحب حينًا آخر والعتاب مرة ثالثة. والقصيدة العربية الشعبية الآن كالقصيدة العربية القديمة تبدأ بالغزل القليل البسيط المؤثر، ثم تنتقل إلى وصف الإبل والصحراء فتطيل في ذلك ثم تصل إلى غرضها من مدح أو فخر أو غيرهما من فنون الشعر، ومثل ذلك يقال في الخطابة، فالبدوي الآن فصيح كالبدوي القديم، حلو الحديث محب للسمر والقصص إذا اطمأن واستراح، خطيب بليغ إذا كان بينه وبين غيره خصومة أو جدال، وهذا الأدب العربي الشعبي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن آبائهم ويورثونه لأبنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحيانًا، ولسوء الحظ لا يُعنى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما؛ لأن لغته بعيدة عن لغة القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين.

أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادة، وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير، وإذا كان الأدب الشعبي مصورًا للحياة العربية البدوية تصويرًا صادقًا ممتازًا فإن الأدب التقليدي بعيد كل البعد عن هذا التصوير؛ ذلك لأنه متكلف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة، فهو لا يعكس ما يحسه الشعراء والكتاب، وإنما يمثل ما يريد الشعراء والكتاب أن يضعوه فيه. حظ النفاق فيه أكثر من حظ الصراحة، ثم هو تقليدي لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما يقلدون فيه أهل الحواضر من المصريين والسوريين والعراقيين، كذلك كان أدباء المدن في جزيرة العرب طول القرون الوسطى وكذلك هم الآن، ونستطيع أن نؤكد أن أهل الحجاز يستمدون أدبهم التقليدي من مصر والشام بنوع خاص، وقد يتأثرون بغير المصريين والسوريين من الذين يفدون عليهم للحج ولكن كتبهم التي يدرسونها في مكة والمدينة من الكتب التي يدرسها المصريون في الأزهر، وشعرهم الذي يقرءونه أو يحفظونه هو الشعر الذي يُقرَأ ويُدرَّس في مصر والشام، فهم إن أرادوا أن يكتبوا في العلوم الدينية قلدوا المصريين كما أنهم يقلدونهم في الدرس، وهم إن أرادوا أن ينظموا الشعر قلدوا المصريين والسوريين.

•••

أما أهل اليمن فليس تأثرهم بمصر أقل من تأثر الحجازيين، وإن كان لهم مذهبهم الديني الخاص، فهم على كل حال يذهبون مذهب المصريين في درس العلوم الدينية واللغوية. هم تلاميذ الأزهر يفدون عليه فيتعلمون ثم يعودون إلى بلادهم فيعلمون، والغريب أنهم لا يزالون يدرسون العلوم الرياضية والطبيعية على نحو ما كانت تُدرَّس في الأزهر قبل أن يمسه التجديد في أوائل هذا القرن، فالفلك والحساب والمساحة والهندسة والطبيعة؛ كل ذلك يُدرَّس في الأزهر وغيره من المعاهد الإسلامية قبل أن تتأثر بالحضارة الأوروبية الحديثة، ولليمن شعر ولكنه تقليدي كشعر الحجاز يذهب فيه أصحابه مذهب المصريين قبل أن يرتقي الشعر المصري، وأنت تكلف نفسك مشقة شديدة إن أردت أن تلتمس في اليمن أو الحجاز الآن شعرًا له قيمة فنية حقيقية، إنما هي ألفاظ مرصوفة يكثر فيها البديع وتدور حول معانٍ تافهة، وما رأيك في أربعة أو خمسة من الشعراء يضيعون وقتهم في صنعاء في نظم القصائد الطويلة الركيكة حول هذا المعنى وهو: «أي الأمرين خير: قرب الروح من الروح أم قرب الجسم من الجسم؟»

وقل مثل هذا في مدح الحجازيين واليمانيين ورثائهم وهجائهم وغزلهم؛ كلام لا طائل تحته ولا غناء فيه، صورة صحيحة لما كان يقال في مصر والشام قبل خمسين سنة.

أما شرقي البلاد العربية فتأثره بالعراق أشد من تأثره بمصر والشام، ففي بعض القرى في أطراف الجزيرة مما يلي العراق شعراء، وفيها أيضًا علماء في اللغة والدين، وهم تلاميذ العلماء والشعراء الذين يظهرون في بغداد والبصرة، ولم يكن أهل العراق أحسن حالًا من السوريين والمصريين أيام السلطان التركي فليس غريبًا أن يكون تلاميذهم في أطراف الجزيرة العربية وفي نجد مقلدين متكلفين، وإنه لمما يضحك أن تقرأ طائفة من الشعر رواها الألوسي لجماعة من شعراء نجد يصفون بها عينًا ينبع منها الماء الحار هناك ويختلف النَّاس إليها للاستشفاء. لا تجد في ذلك الكلام المنظوم فنًّا ولا شعورًا بالجمال ولا تصويرًا له ولا شيئًا يبعث في نفسك اللذة الفنية وإنما هي ألفاظ سقيمة ثقيلة قد زادها النظم السيئ فسادًا ورداءة.

هذه كانت حال الأدب في بلاد العرب إلى وقت قريب جدًّا إلى ما بعد الحرب الكبرى؛ تقليد شديد عقيم للمصريين والسوريين والعراقيين في علوم الدين واللغة وفي الأدب.

ولكن حركة التجديد العلمي والأدبي ظهرت في مصر والشام والعراق منذ القرن الماضي واشتدت جدًّا في هذا القرن ولا سيما بعد الحرب بفضل هذا الاختلاط العنيف الذي يزداد كل يوم بين الشرق والغرب، فتأثر كل شيء بحركة التجديد هذه في الشرق حتى الأزهر نفسه، ولم يكن بد من أن يصل أثر هذه الحركة إلى بلاد العرب لأن الحرب الكبرى هزتها كما هزت غيرها من البلاد، ولأنها اتصلت بالأوروبيين اتصالًا مباشرًا شديدًا بعد الحرب ولأن العلاقات كثرت جدًّا بينها وبين الشرق العربي، وكما أنها كانت تقلد هذه البلاد فيما كان عندها من أدب القرون الوسطى فلا بد لها من تقليدها في أدبها الحديث.

•••

على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارًا خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقاتها بالأمم الأوروبية أيضًا؛ هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد.

نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاء، تثقف على أبيه ثم رحل إلى العراق فسمع من علماء البصرة وفقهائها وأظهر فيها آراءه الجديدة القديمة معًا، فسخط عليه النَّاس وأُخرِج من البصرة، وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحال الفقر بينه وبين ذلك؛ فعاد إلى نجد وأقام مع أبيه حينًا يناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه.

وانقسم النَّاس فيه قسمين: فكان له الأنصار وكان له الخصوم، وتعرضت حياته آخر الأمر للخطر، فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه ويحموا دعوته حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية، وهناك عرض نفسه على أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنصرة، ومن ذلك اليوم أصبح المذهب الجديد مذهبًا رسميًّا يعتمد على قوة سياسية تؤيده وتحميه، بل تنشره في أقطار نجد بالدعوة اللينة حينًا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان، وعن هذا التحالف بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتد خطرها حتى أشفق منها الترك أشد الإشفاق، فقاوموها ما وسعتهم المقاومة، فلما لم يفلحوا استعانوا بالمصريين وكان أمرهم إذ ذاك إلى محمد علي الكبير، فنجح المصريون في إضعاف هذه الحركة وإزالة هذه الدولة الجديدة ورد أمرائها إلى ما كانوا عليه قبل ذلك من التواضع، فلا بد من وقفة قصيرة عند هذا المذهب الجديد لتعرف ما هو، وما مبلغ تأثيره في الحياة العقلية العربية في هذا العصر الحديث.

قلت: إن هذا المذهب جديد قديم معًا، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين ولكنه قديم في حقيقة الأمر لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصًا لله وحده ملغيًا لكل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، كانوا يعظمون القبور ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله ويعظمون الأشجار والأحجار ويرون أن لها من القوة ما ينفع وما يضر، وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا الزكاة والصلاة وأصبح الدين اسمًا لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قومًا مسلمين حقًّا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنًا.

ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز، فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر، ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هاجر إلى الدرعية وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة، ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود واشتغل هو بالعلم والدين واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته، فلما تم له هذا أخذ يدعو النَّاس إلى مذهبه، فمن أجاب منهم قبل منه، ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشغب عليه الحرب، وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب وأخلصوا له الطاعة وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه.

ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جدًّا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول، ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب، وقد كان هذا الأثر عظيمًا خطيرًا من نواحٍ مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلًا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم واللسان، وهو قد لفت المسلمين جميعًا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب.

فبينما كان الترك والمصريون يحاربون الوهابيين كان أنصار القديم من علماء العراق، سواء منهم أهل السنة والشيعة يردون على هذا المذهب ويكفرون أصحابه، وكان الوهابيون يناضلون عن مذهبهم، وكان أولئك وهؤلاء يقرءون كتب السلف في التفسير والحديث والتوحيد والفقه يلتمسون الأدلة على آرائهم، وكان أولئك وهؤلاء ينشرون الرسائل والكتب التي يجمعونها، كما أخذوا ينشرون الكتب القديمة التي يرجع إليها في التماس الأدلة والبراهين، وكذلك عادت الحياة القوية إلى مذهب أحمد بن حنبل الذي تبعه النجديون، ونُشِرت كتب ورسائل كثيرة لابن تيمية وابن القيم، واستفاد العالم العربي كله من هذه الحركة العقلية الجديدة، وليس من شك عندي في أن هذه الحركة نفسها قد أيقظت أهل اليمن أيضًا، فنهضوا يدفعون عن مذهبهم الزيدي؛ ينشرون كتبهم القديمة ويؤلفون كتبًا جديدة في الفقه والتوحيد والحديث، وما زالت مطابع القاهرة إلى الآن تطبع الكتب المختلفة لحساب الوهابيين من أهل نجد والزيديين من أهل اليمن.

•••

وفي أثناء هذه الحركة العنيفة ظهر حول الأمراء المجاهدين من أهل نجد جماعة من الشعراء أخذوا يفتخرون بانتصارهم في المواقع ويعتذرون عما يصيبهم من الهزيمة، وليس من الممكن أن يُقال إنهم جددوا في الشعر وأحدثوا فيه ما لم يكن، ولكنهم على كل حال عادوا به إلى الأسلوب القديم وأسمعونا في القرن الثاني عشر والثالث عشر في لغة عربية فصيحة هذه النغمة العربية الحلوة التي لم تكن تُسمَع من قبل. هذه النغمة التي لا يقلد صاحبها فيها أهل الحضر ولا يتكلف فيها البديع وإنما يبعثها حرة ويحملها كل ما تجيش به نفسه من عزة وطموح إلى المثل الأعلى ورغبة قوية في إحياء المجد القديم.

نجح المصريون في إخماد هذه الثورة الوهابية، أو قد نجحوا في إفساد هذه النهضة ولكنهم لم يقتلوها؛ أضعفوا سلطانها السياسي ولكن سلطانهم هم السياسي قد أضعفته أوروبا بمعاهدة سنة ١٨٤٠، وعجز الترك عن أن يحكموا قلب الجزيرة العربية؛ فاستراح الوهابيون وأسوا جراحهم واستأنفوا قوتهم ونشاطهم ومضت نهضتهم الدينية في سبيلها، ثم تبعتها في هذه الأيام نهضة سياسية بسطت سلطانهم على نجد كله وعلى الحجاز كله وأعادت لهم المثل الأعلى وهو توحيد الكلمة العربية، ولكن بلوغ هذه الغاية الآن ليس من السهولة واليسر بحيث كان أوائل القرن التاسع عشر، فقد استيقظ الشعور القومي في البلاد العربية كلها وأحاطت بجزيرة العرب من جميع أطرافها قوة ليس فيها ما كان في القوة التركية من الضعف والفساد والاضطراب والفقر وهي قوة الإنجليز، وليس الذي يعنينا هو المستقبل السياسي لهذه البلاد وإنما الذي يعنينا هو المستقبل الأدبي، ومن المحقق أن هذا المستقبل الأدبي سيكون باهرًا في يوم من الأيام، قريب أو بعيد.

جمع ملك الوهابيين الآن جزءًا عظيمًا جدًّا من الجزيرة العربية ولم يبقَ سبيل إلى أن يظل الوهابيون وغيرهم من ملوك العرب وأمرائهم بمعزل عن الحياة العالمية العامة كما كانوا من قبل، بل هم مضطرون إلى أن يتصلوا بالممالك الإسلامية والأوروبية اتصالًا سياسيًّا واقتصاديًّا منظمًا، وقد بدأوا ينظمون هذا الاتصال بالفعل؛ فللوهابيين وزير مفوض في لوندرة، وملك الوهابيين على اتصال مستمر بممثلي الإنجليز في عدن، وقد بدأ الإيطاليون يدورون حولهم، وهناك صلات أخرى ربما كانت أشد وأسرع تأثيرًا من هذه الصلات السياسية والاقتصادية وهي الصلة العقلية التي تحدثها الصحف والمجلات، والكتب تُطبَع الآن بكثرة في مصر وفلسطين والشام والعراق وأمريكا، وكلها أو كثير منها يصل إلى كثيرين من أهل الجزيرة العربية، وهم يقرءون فيفهمون أحيانًا ويعجزهم الفهم أحيانًا أخرى، ولكنهم يعجبون على كل حال، والإعجاب أول التقليد، والتقليد أول الإنتاج الفني.

وقد بدأت بشائر الحياة الجديدة ظاهرة جلية، ففي مكة صحيفة تنطق بلسان الحكومة وتنشر أدبًا وسياسة على نحو ما كانت تفعل الجريدة الرسمية أول الأمر، كانت القبلة أيام ملك الهاشميين وهي الآن تسمى أم القرى، وكانت في مكة مجلة الإصلاح، وفي مكة مطابع، وفي مكة أيضًا وغيرها من مدن الحجاز مدارس مدنية على نحو المدارس المصرية الابتدائية تدرس فيها أوليات العلم درسًا حديثًا وتعلم فيها بعض اللغات الأوروبية، كل هذا إلى جانب التعليم الديني القديم، وأغرب من هذا أن دعوة إلى التجديد الفكري والأدبي قد ظهرت في الحجاز منذ أعوام بتأثير ما يكتبه المصريون والسوريون، وهذه الدعوة عنيفة جدًّا فهي ساخطة أشد السخط على كل قديم في الحجاز؛ على التعليم الديني والأدبي وعلى نظام الحكم وعلى الحياة الاجتماعية، وقوام هذه الدعوة أن الحجاز يجب أن يحيا حياة الأوطان الحرة المستقلة وأن يحتفظ من قديمه بالدين واللغة ويأخذ عن الأوروبيين بعد ذلك ما استطاع، وأن يستفيد من إقبال المسلمين عليه للحج فلا يفنى هو في المسلمين، وأن يُعنى أهله أشد العناية بالتعليم المدني وباللغتين الإنجليزية والفرنسية لأن إحداهما لغة الاقتصاد والتجارة والأخرى لغة العلم والأدب.

وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه إلى مصر ليدرسوا فيها العلم على نحو ما يدرسه المصريون، وأصحاب الدعوة إلى التجديد لا يكتفون بهذا بل يريدون أن يبعثوا أبناء الحجاز إلى باريس ولندرة، وقد بدأ الحجازيون المجددون ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد ولكنهم لم يُوفَّقوا بعد إلى أن يكوِّنوا للحجاز شخصية أدبية، إنما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين إلى أمريكا بنوع خاص، فمثلهم العليا في الأدب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما.

•••

ومع إسراف النجديين في المحافظة، بحكم مذهبهم الوهابي، فلن يستطيعوا مقاومة الحركة التجديدية التي تأتيهم من العراق ومصر، وبين يدي الآن طائفة من القصائد غير قليلة أنشأها جماعة من الشعراء النجديين في مدح الملك عبد العزيز بن سعود، والذي يقرأ هذه القصائد يجد فيها تأثيرًا ظاهرًا جدًّا للروح العراقي الذي يتجلى في شعر جميل الزهاوي ومعروف الرصافي وعبد المحسن الكاظمي، والروح المصري الذي يتجلى في شعر حافظ وشوقي، ولكن للشعر النجدي الجديد شخصية تميزه من شعر العراق ومصر، فهو على تأثره بالشعراء المحدثين محافظ في لغته محافظة غريبة، يتخير القوافي الصعبة ويطيل فيها ويكثر منها ويسرف في الألفاظ الغريبة البدوية كأنه يلتمسها من المعاجم، وكأنه يأخذها من لغة البادية النجدية التي هي في مادتها على كل حال لغة الشعر العربي القديم، وقلما يستطيع الشعراء النجديون أن يتتبعوا شعراء العراق في تأثرهم بفلسفة المعري والخيام، أو بالنزعات الأوروبية الحديثة، أو يتتبعوا المصريين في تجديدهم العنيف لألفاظ الشعر وأساليبه ومعانيه، وإنما هم معتدلون، وهم إلى إحياء الشعر القديم أقرب منهم إلى إيجاد شعر جديد، وهم بدويون على كل حال، وهم ينشدون الملك في شعرهم كما كان يفعل القدماء، ويجيزهم الملك على هذا الشعر بالإبل أحيانًا وبالثياب أحيانًا أخرى وقلما يجيزهم بالذهب والفضة، وأهل نجد يختلفون إلى العراق كثيرًا، والعراقيون يصعدون إلى نجد، ولا بد من أن يعود الحال بين القطرين إلى ما كان عليه أيام بني أمية من التعاون الأدبي القوي.

وفي تهامة وعسير حياة عقلية ولكنها ضئيلة جدًّا، وهي ممعنة في التصوف متأثرة في ذلك بإفريقيا الشمالية، فقد نقل إليها الإدريسيون طريقة مغربية انتشرت فيها وظفرت بالسلطان السياسي، ولكنها لم تحدث نهضة أدبية ولم تغير من حال الأدب شيئًا.

أما اليمن فهي أشد البلاد العربية محافظة على قديم القرون الوسطى، يُعنى أهلها بعلوم الدين على طريقة الزيدية من الشيعة وينشرون الكتب الكثيرة في هذه العلوم يطبعونها في مصر، ولهم شعر كثير ولكنه ما زال قديمًا متأثرًا بالروح المصري الشامي الذي كان منبعثًا في الشعر قبل النهضة الحديثة، والشعر عندهم مختلط بعلوم الدين، فقلما تجد منهم عالمًا دينيًّا إلا وله مشاركة في الشعر، وأكثر أئمتهم شعراء، وإمامهم يحيى الآن يجيد الشعر على النحو القديم، ومن غريب أمر اليمن أنها ظلت طوال القرون الوسطى أكثر البلاد العربية حظًّا من العلم والأدب في حواضرها، وكان يرجى أن تكون أسرع البلاد العربية إلى الأخذ بأسباب الحياة الجديدة، ولكنها الآن ربما كانت أشد البلاد الإسلامية كلها تمثيلًا للحضارة القديمة والأدب القديم، وأهل اليمن يفدون على مصر ولكنهم يفدون للتجارة أو لدرس العلم في الأزهر، وليس منهم من يفكر في الاتصال بالمدارس الحديثة، وليس في صنعاء مدرسة وليس فيها مطبعة، ومصدر ذلك — فيما يظهر — إشفاق أهل اليمن من الأجانب وإغلاقهم أبواب بلادهم في وجوه الأجانب من المسلمين والأوروبيين جميعًا، ولكن الحضارة الحديثة المادية قد استقرت على سواحل اليمن ولا بد من أن تقتحم الأبواب المغلقة ولن تستطيع اليمن منذ الآن أن تقاوم هذه الحضارة.

•••

وجملة القول أن جزيرة العرب الآن تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة العقلية: إحداهما محافظة قديمة لا تزال قوية بحكم الجهل وانتشار الأمية، والأخرى مجددة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية، وسيشتد الصراع بين هذين النوعين من الحياة، ولكن النصر محقق للحياة الجديدة لأن جزيرة العرب قد فُتِحت للحضارة الأوروبية، ولن تستطيع أن تغلق أبوابها بعد اليوم في وجه هذه الحضارة، وقد يقال إن جزيرة العرب قد فُتِحت للحضارة الإسلامية في القرون الأولى ثم أغلقت من دونها فما الذي يمنع أن تفتح للحضارة الحديثة الآن ثم تغلق من دونها بعد حين؟ والجواب على ذلك يسير سهل: فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهور الإبل وفي الكتب المخطوطة، أما الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات والبخار والتلغراف والتلفون والكتب المطبوعة والصحف والمجلات، وأنى للبادية أن تقاوم هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إذن للحياة الجديدة لجزيرة العرب، وسيكون هذا المستقبل قريبًا في بعض البلاد وبعيدًا في بعضها الآخر، ولكنه سيكون على كل حال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤