بول ڤاليري

يسميه الفرنسيون شاعر العقل، ونستطيع أن نسميه عقل الشعر؛ فهذا الوصفان يصورانه أصدق تصوير، وكلا الوصفين يطابق صاحبه مطابقة دقيقة صادقة، والواقع أن حياة بول ڤاليري قد كانت سباقًا بينه وبين الأدب، يفر هو من الأدب ما وجد إلى الفرار سبيلًا، ويجدُّ الأدب في طلبه ما وجد إلى الجد في طلبه سبيلًا، وقد يضطر هذان المتسابقان إلى أن يلتقيا، فإذا كان بينهما اللقاء بدأ بينهما حب عنيف ووصال شديد القسوة قوامه الصراع المتصل، ثم ينكشف هذا الجهاد عن أثر من الآثار لا يستطيع الإنسان أن يقول أي المصطرعين قد غلب صاحبه عليه، أهو الأدب الذي قهر بول ڤاليري فأكرهه على أن يخرج للفرنسيين أروع ما عرفوا من الشعر وأبرع ما قرءوا من النثر، أم هو بول ڤاليري الذي قهر الأدب واضطره إلى أن يذعن لسلطان العقل ويخضع لأصوله الدقيقة ومناهجه الصارمة، ويخرج للفرنسيين حكمة مشرقة وفلسفة مضيئة قوامها الخير في أبدع صوره، والحق في أكرم مظاهره، والجمال كأروع ما يكون الجمال.

وقد يظن القارئ أني أذهب بهذا الحديث مذهب التمثيل والمجاز المقارب أو المباعد والافتنان في التعبير، ولكن الواقع في حياة بول ڤاليري ومن جهده العقلي والأدبي يطابق هذه الصورة التي عرضتها عليك أدق المطابقة وأصدقها، فقد وُلد بول ڤاليري سنة ١٨٧١ في مدينة ست ونشأ فيها وبدأ فيها درسه، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة انتقل إلى مونبلييه ليتم فيها درسه الثانوي، وكان أثناء هذا الدرس مزدريًا لنظام الدراسة، معرضًا عن درس المعلمين، ناقدًا لأساتذته، ساخرًا مما يقولون، مؤثرًا الاعتماد على نفسه في تحصيل ما يحتاج إليه أو ما يميل إليه من العلم، وكان طموحًا إلى العمل في الأسطول ضابطًا بحريًّا، ولكنه لم يظفر من العلوم الرياضية بما كان في حاجة إليه ليدخل المدرسة البحرية؛ ولذلك أعرض عن البحر وعن الأسطول وعن الرياضة واكتفى بدراسة الحقوق، ثم كانت الخدمة العسكرية حين أتم التاسعة عشرة من عمره في مدينة مونبلييه أيضًا، وفي هذا الوقت عرف شابين فرنسيين كان لهما حظ من البحر عظيم؛ أحدهما بيير لويس، والآخر أندريه جيد. ولما فرغ من الخدمة العسكرية — وكان قد قرض شيئًا من الشعر — لم تعجبه الحياة الأدبية؛ فقرر الانصراف عنها والفراغ للحياة العقلية الخالصة، وأنفق في هذه الحياة العقلية الخالصة أعوامًا، وأكبر الظن أنه أخذ يقرأ آثار الفلاسفة القدماء والمحدثين، ويفكر فيما يقرأ ناقدًا محللًا مستنبطًا، وأكبر الظن أن السباق بينه وبين الأدب قد بدأ في ذلك الوقت؛ فهو كان قرض شيئًا من الشعر ونشره في بعض المجلات وظفر بشيء من الإعجاب، ولكنه أعرض عن الشعر وفرغ للفلسفة، وإذا حياته العقلية التي فر إليها من الأدب تثير في نفسه خواطر لا يجد بدًّا من تسجيلها، ولو استطاع لما سجلها ولا حفل بها، ولكن هذه الخواطر تلح عليه وتلح، وتضطره إلى أن يقف عندها ويطيل الوقوف، ثم إلى أن يسجلها فيحسن التسجيل، وهو يكتب آيته الرائعة «مسيو تست»، ومسيو تست هذا ليس إلا بول ڤاليري في هذا الطور من حياته، حين شُغِف بالعقل وآثر أن ينحاز إليه ويقف نفسه على التفكير فيه، وحين بهره ما رأى من حياة العقل فيما بينه وبين نفسه أولًا وفيما بينه وبين الحقائق الخارجية ثانيًا، وقد اضطره هذا المشهد الرائع الذي استكشفه حين عكف على نفسه إلى حياة داخلية قوية أشد القوة، إن صح هذا التعبير، فهو قد استكشف في ضميره عالمًا أشد جمالًا وأعظم روعة وأكثر دقة وتنوعًا من العالم الخارجي الذي يعيش فيه، فمنح عنايته كلها أو أكثرها لهذا العالم الداخلي، وعاش مع نفسه أكثر وقته، ولم يصبح العالم الخارجي بالقياس إليه إلا وسيلة للعالم الداخلي يمنحها من العناية أيسرها وأهونها شأنًا، فهو يحيا بين النَّاس وكأنه لا يراهم، ويتحدث إليهم وكأنه لا يسمعهم لأنه مشغول بهذا العالم الرائع البديع الذي يملأ نفسه من جميع أقطارها، فحياته في العالم الخارجي آلية غافلة ذاهلة، ولكنه يمنح هذا العالم الخارجي في بعض الأوقات النادرة لفتة من لفتاته، وإذا هو يلتهمه التهامًا وينقض عليه كما ينقض الوحش على فريسته، ثم لا يلبث أن ينصرف عنه إلى عالمه الخاص وكأنه لم يره ولم يلمم به.

والمهم هو أن بول ڤاليري الذي فر من الأدب إلى الفلسفة لم يستطع أن يفلت من الأدب، وإنما أدركه الأدب، وكان بينهما هذا الجهاد الذي انتهى بإنشاء هذا الكتاب الذي سيظل شابًّا دائمًا وخصبًا دائمًا وحافلًا بما يملأ النفس إعجابًا وبما يدفع العقل إلى التفكير المتصل الذي لا يضيع في غير نفع ولا يذهب في غير غناء.

وفي هذا الكتاب الصغير القصير الحجم الكبير الطويل بقيمة ما فيه من فن وفلسفة، ظهرت هذه الشخصية القوية التي عرفها المثقفون والمتأدبون لبول ڤاليري أثناء حياته كلها، فإذا كان شخص بول ڤاليري يمتاز بشيء في حياته، وفيما أنتج من شعر ونثر، فإنما يمتاز بهذا الصراع المتصل العنيف المتغلغل في كل شيء، المتناول لكل شيء، بين عقله العظيم الرزين ذي المزاج المعتدل والبصيرة النافذة والقدرة على التجريد والنظر إلى الأشياء من علٍ، وبين حسه الدقيق المرهف وشعوره الرقيق الحاد وذوقه المصفى المهذب، ثم يمتاز بأن هذا الصراع ينتهي دائمًا إلى نوع من السلام الممتاز الرائع بين العقل والحس والشعور والذوق، فأنت حين تشهد نتائج هذا الصراع إنما تشهد انسجامًا غريبًا بديعًا بين هذه العناصر كلها، قد أخذ من كل واحد منها بمقدار، ولاءم بين هذه المقادير ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة، بحيث لا تستطيع أن تجد فيها عوجًا ولا أمتًا ولا انحرافًا، ومصدر هذا كله أن هذه الملكات التي يأتلف منها شخص بول ڤاليري قد كانت قوية إلى أبعد غايات القوة، معتدلة مع ذلك إلى أقصى حدود الاعتدال، وكانت إرادة بول ڤاليري متسلطة على هذه الكلمات تسلطًا قوامه الحزم والعدل؛ فهي تلائم بينها في صرامة وتقيم الأمر بينها بالقسطاس وتمنع بعضها أن يبغي على بعض، وما أعرف أني قرأت لكاتب أو شاعر في لغة من اللغات التي استطعت أن أقرأ فيها، فوجدت هذا الاعتدال والاستواء والتناسق كما أجدها فيما أقرأ لهذا الكاتب الشاعر العظيم، لا أستثني من ذلك إلا حوار سقراط، وما أظن أن شيئًا قد أثر في التكوين العقلي لڤاليري كما أثر فيه حوار سقراط.

وفي أواخر القرن الماضي في سنة ١٨٩٨ كان بول ڤاليري الذي قارب الثلاثين يعيش في باريس، وقد اشتغل موظفًا في وزارة الحرب معرضًا عن الأدب والأدب يطلبه، متصلًا مع ذلك بالشاعر الفرنسي العظيم «ستيفان مالرميه» محبًّا له مفتونًا بفنه الغامض الذي يروع باستوائه والتوائه، إن أمكن أن يجتمع الاستواء والالتواء، والذي يفتن بدقته وارتفاعه إلا عن العقول والملكات التي امتازت حتى كادت تصبح هي والامتياز شيئًا واحدًا. وفي سنة ١٩٠٠ فقد بول ڤاليري أستاذه مالرميه وترك وزارة الحرب والتحق بشركة هافاس البرقية واتخذ له زوجًا، وأمعن في الانصراف عن الأدب، وخُيِّل إلى نفسه وإلى النَّاس أن قد قُطِعت الصلة بينه وبين خصمه هذا العنيد إلى آخر الدهر، ويقول الذين يعرفونه، والذين تتبعوا حياته في الأعوام الأولى من هذا القرن، إنه مضى في حياته العقلية الفلسفية، وإنه تعمق الرياضة التي استعصت عليه في أيام الشباب الأولى، ولكنه قد نشر في بعض المجلات وأرسل إلى بعض الأصدقاء مقطوعات من الشعر أحبوها ورضوا عنها، وقد أقبل أندريه جيد ذات يوم على صديقه بول ڤاليري سنة ١٩١١ حين بلغ الأربعين من عمره يطلب إليه الإذن في أن يجمع ما تفرق من شعره لينشره في المجموعة التي كانت تنشرها المجلة الفرنسية الجديدة، وقد امتنع بول ڤاليري على صديقه امتناعًا شديدًا، ولكن أندريه جيد ألح إلحاحًا شديدًا أيضًا، وانتهى الأمر إلى أن قبل ڤاليري إعادة النظر في شعره ذاك.

وقد استأنف النظر في هذا الشعر، فلم ينفق في ذلك أيامًا ولا أسابيع ولا أشهرًا، وإنما أنفق فيه خمسة أعوام أو أكثر من ذلك قليلًا، ففي سنة ١٩١٧ فوجئ النَّاس بظهور الديوان الأول لهذا الشاعر الممتنع على الشعر ولهذا الأديب المتأبي على الأدب، وكان بول ڤاليري قد قارب الخمسين من عمره، وليس من شك في أن ديوانه الأول ثم ما تبعه من الشعر والنثر بعد ذلك قد فجأ المتأدبين فجأة قوية رائعة، وإذا بول ڤاليري يحتل مكانه بين الأدباء والشعراء والممتازين، كأنما كان هذا المكان الممتاز قد هيئ له من قبل فهو ينتظره منذ وقت طويل، ومنذ ذلك الوقت شُغِلت البيئات والمجلات الأدبية والصحف السيارة بأدب بول ڤاليري أكثر مما شُغِلت بأي إنتاج أدبي آخر، ثم أخذ نجمه يتألق في الأفق حتى ملأه نورًا، وإذا هو يتجاوز حدود فرنسا إلى أقطار الأرض كلها، وإذا هو أديب عالمي في أقل من عشر سنين منذ نشر ديوانه الأول، وإذا هو عضو في المجمع اللغوي الفرنسي في سنة ١٩٢٧ يشغل كرسي أناتول فرانس ويلقي خطبته الرائعة التي لم يفرغ النَّاس من الحديث عنها بعد والتي لم يدافع أحد عن أناتول فرانس كما دافع عنه فيها، وقد أنشأت عصبة الأمم مجلس التعاون الفكري، وأنشأ هذا المجلس لجنة الفنون والآداب، وأصبح بول ڤاليري رئيسًا لهذه اللجنة بل أصبح عقلها المفكر وقلبها النابض، ثم أنشئ معهد البحر الأبيض المتوسط في نيس وأصبح بول ڤاليري رئيسًا له، ثم أنشئ في الكوليج دي ڤرانس كرسي للشعر وأصبح بول ڤاليري صاحب هذا الكرسي، وهو قد عين أستاذًا بعد أن نيف على الستين.

وكذلك أصبح بول ڤاليري حامل لواء الأدب والشعر في فرنسا وعَلَمًا من أعلام الثقافة العليا في أقطار الأرض كلها، واتصل بكل شيء وشارك في كل شيء، حتى كان يقول إنه أصبح رئيسًا لهيئات ومؤسسات لا يكاد يحصيها، وإنه كثيرًا ما يدعو نفسه بكتاب منه إليه ليشهد هذا الاجتماع أو ذاك لهذه الهيئة أو تلك.

فإذا امتازت الحياة الأدبية لبول ڤاليري بشيء من ظاهر الأمر فإنما تمتاز بامتناع صاحبها على الأدب أشد الامتناع وإيثاره للعزلة حتى جاوز الأربعين، ثم استجابته بعد ذلك للأدب كارهًا، واندفاعه في هذه الاستجابة حتى عوض ما فات واسترد ما كان خليقًا أن يكسبه من المجد والشهرة في عزلته الطويلة، وكسب في وقت قليل ما ينفق فيه غيره الأعوام الطوال، والأعوام الطوال ليكسب بعضه، فقد ظهر بول ڤاليري فجاءة في السابعة أو الثامنة والأربعين من عمره، ولم يبلغ الستين حتى كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس — كما كان يقال في المتنبي منذ ألف عام، فلما توفي وقد نيف على السبعين كانت الفاجعة بموته خطبًا شاملًا للعالم المثقف كله لا محنة مقصورة على فرنسا وطنه.

وما زالت هناك مسألة غامضة سيكشفها التاريخ الأدبي في وقت قريب أو بعيد، وهي مسألة عظيمة الخطر، فهل كان بول ڤاليري أثناء عزلته الطويلة يتهيأ عن عمد لهذا المجد الأدبي الذي فاجأ به الناس، أم هل كان صادقًا كل الصدق مخلصًا كل الإخلاص في إعراضه عن الأدب وامتناعه عليه حتى فاجأه المجد كما فاجأ الناس؟ ومهما يكن من شيء فإن الحقيقة الواقعة التي نستطيع أن نسجلها مطمئنين هي أن بول ڤاليري قد آثر الأناة والاحتياط والحذر، وأبغض الشهرة والمجد والمتهالكين عليها، وقدر الفن على أنه غاية لا وسيلة، بل على أنه الغاية العليا التي يطمح إليها الإنسان حين يبلغ أقصى ما يستطيع أن يبلغ من الامتياز من الثقافة والمعرفة، فهو لم يبغض شيئًا كما أبغض السهولة، ولم يزدرِ شيئًا كما ازدرى الإسراع إلى الإنتاج، والإسراع في الإنتاج والاستجابة لهذه الدواعي الكثيرة التي تدعو إلى الإنتاج وتدفع إليه دفعًا في كثير من الأحيان، وليس بالشيء القليل أن يمتنع الفرد على عصره، ويلتزم عزلته، ويزدري هذه المغريات الهائلة التي كان النَّاس يستجيبون لها من حوله، بل يسعون إليها سعيًا ويلحون في التماسها إلحاحًا، ويبتغون إليها من الوسائل ما يُعقَل وما لا يُعقَل، وهنا تظهر الخصلة التي يمتاز بها بول ڤاليري في حياته الخلقية، وهي خصلة الكرامة التي تمنح صاحبها مزاجًا من التواضع والكبرياء، وتمنحه التواضع بالقياس إلى المثل العليا وما يحتاج إليه من تكلف الجهد العنيف واحتمال العناء الشاق والإلحاح في السعي المتصل وتمنحه الكبرياء التي ترفعه عن الصغائر وتنزهه عن الدنيات وترغبه عن الأشياء التي يقرب تناولها، وتنحرف به عن الغايات التي يسهل الوصول إليها، ثم تؤلف له في هاتين الخصلتين هذا المزاج المعتدل الرفيع الذي يجعله من هذه الأرستقراطية العقلية، وإذا هو يسعى إلى مثله العليا — على بعدها — ملحًّا في السعي، غير راضٍ بما يبلغ منها مهما يكن ما يبلغه، متخذًا في سعيه إليها أبعد الطرق وأشدها عسرًا وأكثرها عقابًا، واجدًا لذته في إساغة هذا العسر وقهر هذه العقاب والتغلب على هذه المصاعب، مبتكرًا هذه العقاب والمصاعب إن أحس أن الطريق قد سهلت له واستقامت أمامه وأصبحت خليقة أن تبلغ به غايته في جهد معتدل وسعي يسير.

وهذه الخصلة لم تؤثر في حياته الأدبية وحدها، وإنما أثرت في حياته المادية أيضًا؛ فهو لم يلتمس قط ثروة ولم يسعَ قط ليبلغ هذا المأرب أو ذاك من مآرب الحياة، ولما أدركته الشهرة لم يستغلها ولم يستثمرها ولم يتخذ أدبه وسيلة إلى فتنة القراء ورضا الجمهور وتحقيق الثراء العريض، وإنما ظل مزدريًا للشهرة معرضًا عن المجد، يشتهر عن رغمه ويرقى على كره منه ولا يبلغ من ذلك ثراءً ولا رخاءً، وقد كان عضوًا في المجمع اللغوي منذ عشر سنين حين أنشئ له كرسيه في الكوليج دي فرانس، فهو لم يسعَ إلى الكوليج دي فرانس وإنما هي التي سعت إليه، ولم يطلب المجمع اللغوي وإنما هو الذي طلبه، ولقد شهدته في بعض المجامع الأدبية وقد نهض بعض الحاضرين يذكر الأدباء الذين بلغوا من المجد ما بلغوا ويسرت لهم الحياة فاطمأنوا إلى شيء من الدعة، ولاءموا بين ذلك وبين حرصهم على إرضاء الفن والنهوض بحقه، وكأن بول ڤاليري أحس في حديث هذا المتحدث تلميحًا إليه أو تعريضًا به، فقال هذه الجملة التي لن أنساها، في ذلك الصوت الذي لن أنساه: «نعم؛ بعد أن كادوا يموتون جوعًا.»

وقد عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ النَّاس بأدبه الرفيع في أعقاب الحرب الماضية، فأُعجِبت به كما كان يعجب به النَّاس إعجابًا يقوم على التقليد أكثر مما يقوم على الدراية الصحيحة، ثم أقبلت على آثاره أقرؤها المرة والمرة والمرات وإذا أنا أحبه عن فهم له، ولكن أي فهم! فهم ليس بالقريب ولا بالمقارب ولا باليسير، وإنما هو نتيجة الجهد المكرر والقراءة المرددة والتفكير المتصل، ثم هو بعد ذلك ليس راضيًا عن نفسه ولا مطمئنًّا إلى ما وصل إليه، والذين يقرءون آثار بول ڤاليري سواء أكانت شعرًا أم نثرًا يتفقون على أن اللذة التي يحصلونها من هذه القراءة لا تأتي من فهمه واستيعابه، وإنما تأتي من محاولة فهمه سواء أنجحت المحاولة أم أخفقت، ثم تأتي مع ذلك من هذه اللغة الصافية العذبة السائغة التي تجمع بين الرقة والرصانة وبين النعومة والجزالة، والتي تُخيِّل إليك أنها واضحة كل الوضوح، وهي كذلك واضحة كل الوضوح ولكنها على ذلك مليئة بالأسرار. لا تقرؤها مرة إلا حصلت من قراءتها علمًا ولذة لعقلك وذوقك وشعورك جميعًا، وقد أتيحت لبول ڤاليري أشياء لم تتح لكثير غيره من الكتاب والشعراء، فقد كان كشاعرنا القديم المتنبي يستطيع أن ينشد:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم

وقد تحدثت في غير هذا الموضع عن اختلاف العلماء والأدباء من الفرنسيين في فهم شعره وتأويله وتفسيره، وعن قصيدة المقبرة السحرية التي خصَّص أستاذ من أساتذة السوربون بعضَ دروسه لتفسيرها للطلاب، وقد شهد بول ڤاليري بعض هذه الدروس، وجمع الأستاذ بعد ذلك دروسه في كتاب قدمه له بول ڤاليري بمقدمة فيها ظرف وثناء كثير، ولكن الذين يقرءون هذه المقدمة يخرجون من قراءتها غير واثقين بأن الشاعر قد رضي عن شارحه الأستاذ كل الرضا.

وليس نثر بول ڤاليري أقل حاجة إلى التدبر والروية ومراجعة القراءة من شعره، وليس هو أقل إمتاعًا للنفس وإرضاءً للعقل والقلب من شعره أيضًا، ومع ذلك فقد كان بول ڤاليري نفسه يرى أن النثر أقصر حياة من الشعر؛ لأن النثر أيسر على الأفهام من الشعر، وإذا فهمت نصًّا فقد قتلته، ولست أدري أصحيح هذا أم غير صحيح، ولكني واثق بأن الجيل المعاصر لبول ڤاليري لم يقبل نثره كما أنه لم يقبل شعره، ولكني أشارك النقاد المعاصرين من أهل فرنسا في أن الأجيال المقبلة لن تستطيع أن تتقبل شعره أو نثره، ولكني مطمئن كما اطمأن النقاد المعاصرون في فرنسا إلى أن بول ڤاليري لم يمت وإنما ذهب شخصه المادي، فأما شخصه المعنوي فخالد فيما ترك من شعر ونثر.

وقد تحدث بول ڤاليري نفسه عن «ديكارت» فأنبأ الذين كانوا يسمعون له في السوربون أن عظماء الرجال من أهل الثقافة خاصة إنما تنمو شخصياتهم وتقوى بعد أن يموتوا وبعد أن يمضي على موتهم وقت طويل أو قصير، وكأنما كان يتحدث عن نفسه؛ فشعره ونثره وأدبه كله سيقدم إلى الأجيال هذا الغذاء الرفيع وسيحيا في هذه الأجيال حياة متصلة، وستكون هذه الحياة مؤتلفة ومختلفة معًا، مؤتلفة في هذه الكتب والدواوين التي تركها للإنسانية تراثًا، ومختلفة في نفوس الذين سيقرءونها ويسيغونها ويتمثلونها ويكوِّنون لأنفسهم صورة ما لصاحبها تلائم ما يستطيعون من التصور والتصوير جميعًا.

ولم يكن بول ڤاليري كغيره من الأدباء ينظم الشعر ويكتب النثر في هذه الموضوعات التي يتكلفها الكتاب والشعراء قصصًا وتمثيلًا ودراسات، ولكنه كان صاحب تعمق لأشياء مختلفة، لا تكاد تتفق إلا في أنها كلها تتصل بالفن المترف الجميل من جهة، وبالعقل الناقد المستقيم من جهة أخرى.

فهو يكتب في العمارة، ويكتب في الرقص، ويكتب في النفس، ويكتب في العقل، ويكتب في التصوير والنحت والرسم والموسيقى والغناء، ثم هو يكتب في نقد الأدباء والفلاسفة والمثالين والمصورين، وما أعرف أن أحدًا قرب إلى القراء ديكارت أو ليونارد دي ڤنسي أو ستندال أو مونتسكيو أو لافونتين كما يقربهم بول ڤاليري، وما أعرف أن أحدًا حلل الفنون الرفيعة كما يحللها بول ڤاليري، وما أعرف أن أديبًا أو فيلسوفًا حلل عمل العقل الإنساني وهو يفكر ويلاحظ ويتأمل ويستمتع ويعكف على نفسه كما حلله بول ڤاليري.

وقد قلت في أول هذا الحديث إن بول ڤاليري قد تأثر أشد التأثر بحوار سقراط كما نقله أفلاطون، وما أشك في أن بول ڤاليري كان من أشد النَّاس إتقانًا للغتين القديمتين، وعلمًا بأسرارهما وتذوقًا لخصائصهما، وقد كان يقول في شيء من السخرية: إن الذين يزعمون أنهم يحسنون اللاتينية أو اليونانية في هذه الأيام يخدعون أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستعينوا على قطع الوقت في القطار بقراءة توسيديد أو تاسيت، ولن يحسن الإنسان لغة إلا إذا قرأها في غير مشقة وفهمها في غير جهد، وذاقها في غير عناء، ولكن بول ڤاليري لم يتأثر بقديم اليونان والرومان كما يتأثر به غيره من المثقفين الممتازين فحسب، وإنما تمثل الأدب اليوناني الرفيع والفلسفة اليونانية العليا تمثلًا غريبًا رائعًا حقًّا حتى استطاع أن يحدث ألوانًا من الحوار ينطق فيها سقراط وبعض تلاميذه بملاحظات في الفن وفي الجمال، منها ما يتصل بالعمارة، ومنها ما يتصل بالنفس، ومنها ما يتصل بالرقص، ما كانت لتخطر لسقراط وأصحابه على بال، وأحسب أنها لو نُقِلت إلى اليونانية الأتيكية التي كان يصطنعها سقراط وتلاميذه، لما كانت أقل روعة وجمالًا من يونانية أفلاطون، ولما كانت أقل روعة وجمالًا في تلك اليونانية منها في هذه اللغة الفرنسية الرصينة المتينة الرقيقة العذبة التي اصطنعها بول ڤاليري في القرن العشرين، ثم هي تزيد على ذلك أن فيها معاني وخواطر وآراء لم يكن سقراط وتلاميذه ليسيغوها؛ لأن بينهم وبينها خمسة وعشرين قرنًا تطور فيها العقل الإنساني وزاد محصوله من العلم والمعرفة، وأتاح ذلك كله لبول ڤاليري ليرى ما لم تتحه الحضارة اليونانية لسقراط وأفلاطون.

ومهما تقرأ من شعر بول ڤاليري ونثره، ومهما يكن الموضوع الذي يمارسه الأديب شعرًا أو نثرًا، فسترى دائمًا أدب اليونان الرفيع وثقافتهم العليا شائعين فيما تقرأ يغذوانه بخير ما فيهما؛ لأن بول ڤاليري قد خالط اليونان القدماء مخالطة نادرة شديدة التنوع، خالطهم في أدبهم وفي فلسفتهم وفي فنهم وفي سياستهم، وخالطهم في دينهم بنوع خاص، ثم خالطهم بعد ذلك في حياتهم العاملة التي كانوا يحيونها في ساعات النهار والليل.

ثم هو قد أضاف إلى هذه الثقافة القديمة خير ما أنتجت ثقافة العصر الحديث فتمثل عصر النهضة في إيطاليا وفرنسا على اختلاف مظاهر النهضة فيه، ثم تمثل القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا كلها، لم يترك ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية إلا أتقنها علمًا وفهمًا وتأويلًا وتحليلًا، وعُني بالعلم عناية خاصة، فتعمق العلوم التجريبية، وتعمق الرياضة حتى استطاع أن يتحدث عن هذه العلوم كأحسن ما يتحدث عنها أصحابها، وأن يجادل الأطباء والعلماء ويصحح لهم آراءهم حين كانوا يشاركون في وضع المصطلحات العلمية للمعجم الفرنسي الذي يصدره المجمع اللغوي.

ثم هو قد تعمق مذاهب الفلسفة منذ فلسف اليونان قبل سقراط إلى أن فرغ برجسون من إقامة مذهبه الفلسفي الأخير، وهو من أجل ذلك يحاور في الفلسفة كأحسن ما يحاور فيها الفلاسفة، ولعله يتمثلها خيرًا مما تمثلها الفلاسفة؛ لأنه جمع إلى عقله الناقد الممتاز قلبًا ذكيًّا وإحساسًا مرهفًا وشعورًا رقيقًا حادًّا وذوقًا دقيقًا لا يفوته شيء.

وقد انتهى إلى رأي في الفلسفة والشعر، أو قل: إنه ابتدأ برأي في الفلسفة والشعر لم يتحول عنه منذ الشباب حين كتب عن ليونارد دي فنسي في أواخر القرن الماضي إلى الشيخوخة حين تحدث عن ديكارت في السوربون سنة ١٩٣٧.

وهذا الرأي يمكن اختصاره في هذه الجملة اليسيرة التي لا تؤديه إلا تأدية مقاربة، وهو أن الفلسفة والشعر إنما يصدران في حقيقة الأمر عن ملكة واحدة في أصلها، وهي هذه الملكة التي ترفع الإنسان عن الحقائق التفصيلية الواقعة إلى عالم آخر أرقى منها، يفسرها ويعرضها في شيء غير قليل من الروعة يسمو بها إلى هذا الكمال الذي يطمح إليه الإنسان الممتاز، فالفيلسوف شاعر يعرض شعره نثرًا في أكثر الأحيان، والشاعر فيلسوف يعرض فلسفته شعرًا دائمًا.

وقد كان بول ڤاليري نفسه هو الصورة الكاملة للفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف، ومن أجل ذلك لم يخطئ معاصروه حين سموه شاعر العقل، ولم أبعد أنا حين سميته عقل الشعر في أول هذا الحديث.

قلت إني عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ مجده النَّاس في أعقاب الحرب الماضية، وظلت معرفتي له تتقدم شيئًا فشيئًا حتى أصبح أحب المعاصرين من أدباء فرنسا إليَّ وآثرهم عندي، وحتى أصبح الوقت الذي أنفقه مع كتبه ودواوينه حين يسمح لي العمل بالفراغ لنفسي وإمتاعها باللذة الفنية العليا أعز الأوقات إليَّ وأكرمها عليَّ، وحتى اتخذت لنفسي منه صورة غريبة رائعة فيها كثير جدًّا من التواضع وكثير جدًّا من الكبرياء، وفيها كثير جدًّا من السماحة وكثير جدًّا من الامتياز، وقد هممت أن أعرفه لقراء العربية فتحدثت عنه في الرسالة غير مرة، وتحدثت عنه إلى جمهور المثقفين في غير محاضرة، وترجمت في الرسالة شيئًا من كتابه عن النفس والرقص، ولكني لم أجد لهذا كله في نفوس المثقفين الشرقيين إلا صدى ضئيلًا فآثرت نفسي به، ثم أتيح لي أن ألقاه سنة ١٩٣٧ فإذا الصورة التي رسمتها لنفسي منه صادقة كل الصدق لولا أنه في تلك السنة لم يكن من الصحة واعتدال المزاج بحيث كان يجب، وقد كان في فصل الصيف من تلك السنة يعالج أسنانه فيما يظهر فكان حديثه عسيرًا أشد العسر، وكان الاستماع له شاقًّا والفهم عنه أشد مشقة، وأذكر أني ذهبت أستمع له حين تحدث عن ديكارت في السوربون، وبذلت جهدًا غير قليل لأظفر بمكان في المدرج الذي كان يتحدث فيه، فظفرت بمكان واقف واستمعت لحديثه من أوله إلى آخره فلم أكد أفهم منه شيئًا، وسألت بعض الذين استمعوا له معي من الأساتذة فإذا هم مثلي لم يكادوا يفهمون عنه شيئًا، ولكنا جميعًا كنا معجبين بهذا الصوت الهادئ القوي الحار الذي كان يملأ المدرج حنانًا وحبًّا وإيمانًا، ثم قرأنا الحديث بعد ذلك فإذا هو آية من آيات البيان.

على أني لقيت بول ڤاليري بعد ذلك لقاءً منتظمًا في مجلس التعاون الفكري وفيما كان هذا المجلس يعقد من مؤتمرات، وفيما كانت هذه المؤتمرات تستتبع من اجتماعات خاصة، فإذا أرق النَّاس حاشية وأحلاهم شمائل وأعذبهم حديثًا، وأشدهم سخرية، ولكنها السخرية التي تروق وتروع ولا تؤذي ولا تسوء، ولم يكن يكره الدعابة الحلوة التي لا تخلو من مكر ودهاء، وأذكر أنه كان يرأس مؤتمرًا من المؤتمرات يوم افتتاحه، فلما أذن للخطباء جميعًا في الكلام وفرغ الخطباء من كلامهم وجاء الوقت الذي كان يجب أن يتكلم هو فيه وصغت إليه الآذان وأصغت إليه القلوب واشرأبت إليه الأعناق، قال في صوت هادئ باسم: الكلمة الآن للرئيس إدوار هريو.

ولم يكن إدوار هريو بين المتكلمين في هذا الحفل، ولكن بول ڤاليري أراد أن يسر المستمعين وأن يداعب هريو ويورطه في حديث مرتجل من هذه الأحاديث التي يتقنها هريو أشد الإتقان.

وكان آخر لقائي لبول ڤاليري في مدينة جنيف حين اجتمع مجلس التعاون الفكري في يوليو سنة ١٩٣٩ قبيل إعلان الحرب، وكان جو جنيف في تلك السنة قاتمًا كئيبًا، وكان أعضاء المجلس جميعًا مشفقين من الحرب وأهوالها، وكان بول ڤاليري أشدهم إشفاقًا وأعظمهم اكتئابًا وأكثرهم تشاؤمًا، فلم يحب الحضارة أحد كما أحبها بول ڤاليري، ولم يكبر الحياة أحد كما أكبرها بول ڤاليري ولم يستيئس أحد من حماقة الإنسان وضعفه وجنونه كما استيأس بول ڤاليري، ومن أجل ذلك كان في تلك الاجتماعات لا يتحدث عن شيء يُنتظَر في المستقبل إلا تحفظ واحتاط كما نتحفظ نحن ونحتاط، فنقول: إن شاء الله. ولكنه هو كان يتحفظ ويحتاط فيقول: إن أتيح للحضارة أن تبقى، أو إن كتب للحرية أن تسلم، أو إن عصم الإنسان من الجنون، أو ما يشبه هذه العبارات.

وقد كُتِبَ على بول ڤاليري أن يرى تحقيق كل ما تنبأ به؛ فقد تنبأ بالحرب وأهوالها، وتنبأ بما ستلقاه أوروبا من ذل، وتنبأ بما ستتعرض له المثل العليا من ضعة وانحطاط، وقد رأى هذا كله وذاق مرارته صابرًا جلدًا شجاعًا، واحتفظ بكرامته أثناء الهزيمة، وابتهج بالنصر مع المبتهجين، وقال لأحد أصدقائه وهو يسمع الأناشيد الوطنية للأمم المنتصرة: كل شيء ممكن، ويظهر أن ما أنفق من جهد وما أخذ نفسه به من صبر وجلد وما حمل نفسه عليه من درس وإنتاج وما تعرض له من بؤس وحرمان أثناء أعوام الهول، كل ذلك قد حطم صحته تحطيمًا، فذاق حلاوة النصر واستمتع بلذة الحرية، ولكنه لم يستطع أن يثبت للنعمة بمقدار ما ثبت للنقمة، فانهار بعد طول المقاومة، وفارق هذه الحياة أشد ما يكون الأحياء حاجة إليه. من أجل ذلك لم تحزن عليه فرنسا وحدها، وإنما حزنت عليه الإنسانية المتحضرة كلها، وقد كنت كلما فكرت في زيارة فرنسا بعد النصر أستحضر ساعة حلوة كنت أعلل نفسي بأني سأقضيها مستمعًا لبول ڤاليري، فقد ضيعت الخطوب هذه الأمنية، وما أكثر ما تضيع الخطوب من الأماني!

فحسبي أن أعلل النفس بأني إن زرت فرنسا فسأسعى إلى قبر بول ڤاليري في تلك المقبرة البحرية التي رآها صبيًّا، وغناها رجلًا، واطمأن فيها الآن إلى آخر الدهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤