صور من المرأة في قصص ڤولتير

موضوع غريب فيما ترى وفيما أرى أنا أيضًا، ولكني دُفِعْتُ إلى أن أتحدث إليك فيه، وقد تسألني: لماذا اخترته دون غيره من الموضوعات التي يمكن أن يساق فيها الحديث؟ فأجيبك في غير تكلف ولا تردد بأني لا أفكر في القارئ حين أريد التحدث إليه، أو بعبارة أدق لا أفكر فيما يحب أو لا يحب، وفيما يلائمه أو لا يلائمه لأني لا أتملق القارئ ولا أترضاه ولا أبتغي إليه الوسيلة، وإنما أعطيه ما عندي، وأتحدث إليه بما يخطر لي، وأسير معه سيرتي مع ذوي خاصتي الذين ألقاهم مصبحًا وممسيًا، والذين لا أسألهم فيما يريدون أن أتحدث إليهم ولا يسألونني فيما أريد أن يتحدثوا إليَّ، وإنما هي الحياة تجري بينهم وبيني سهلة سمحة يسيرة، تضطرنا إلى أن نحياها كما تضطرنا إلى أن نتبادل فيها الرأي وندير فيها الحديث.

وقد كان ڤولتير جزءًا من حياتي العقلية منذ شهر سبتمبر الماضي، كما كان ديديرو جزءًا من حياتي العقلية قبل الصيف، ولو أن مجلة الكاتب المصري ظهرت في يونيو أو يوليو لتحدثت إلى قرائها عن ديديرو كما أتحدث إليهم الآن عن ڤولتير، ولكنها ظهرت في أكتوبر حين كنت أغرق نفسي في الأدب العربي وجه النهار وفي أدب ڤولتير آخر النهار، ومن أجل ذلك تحدثت إلى القراء عن الأدب العربي في السِّفرين الماضيين، وأنا أتحدث إليهم عن لون من أدب ڤولتير في هذا السِّفر، والله يعلم عما أتحدث إليهم في السِّفر المقبل، فالقارئ يرى أني أجري الأمر بينه وبيني على إذلاله لا أتكلف له شيئًا ولا أحب أن يتكلف لي شيئًا.

ولست أدري لماذا اخترت هذا اللون بعينه من هذه الألوان الأدبية التي يقدمها إلينا ڤولتير، ولكني أعلم أني كنت أسأل نفسي وأنا أقرأ قصص ڤولتير عما يمكن أن يكون حظ هذا الرجل العظيم من التحليل النفسي ومن تعليل ما يحدث أشخاصه من الأحداث وما يعرض لهم من الخطوب، وكنت أحاول أن أضعه في طبقة من طبقات الكتَّاب هذه التي نعتمدها في العصر الحديث أساسًا للتقسيم والتصنيف، فمن الكتَّاب من يستغرق همه كله في تحليل دقائق النفس حين تفكر وحين تشعر وحين تعمل، ومن الكتاب من يفرغ همه في تحليل الصلات بين النَّاس فيتجه إلى الناحية الاجتماعية من الحياة الإنسانية، ومنهم من يُعنى بغير هاتين الناحيتين من نواحي الفن الذي يصدر عنه الكتَّاب ويقصدون إليه فيما يكتبون.

كنت إذن أحاول أن أضع ڤولتير القاص في طبقة من هذه الطبقات دون أن أبلغ من ذلك ما أريد، فهو لا ينحاز إلى طبقة دون طبقة ولا يضاف إلى فريق دون فريق، ولعله أن يشارك في خصائص هذه الطبقات جميعًا، والشيء المحقق هو أنه لم يفكر في شيء من ذلك، ومن يدري؟! لعل معاصريه لم يكونوا يفكرون في شيء من ذلك، وإنما كانوا يصدرون عن طبائع في غير تكلف ولا تصنع، يرسم لهم الفن نفسه مذاهبهم في القول وطرائقهم في التصوير والتعبير.

على أن هناك حقيقة واضحة معروفة، وهي أن القصص عند ڤولتير لم يكن غاية تُطلَب لنفسها وإنما كان وسيلة يبتغيها الكاتب ليصل بها إلى غرض من الأغراض الفلسفية، سواء أكان هذا الغرض متصلًا بما بعد الطبيعة أم بالنظام السياسي أم بالنظام الاجتماعي أم بالنظام الديني أم بكل هذه الأشياء جميعًا.

وإذا كان القصص نفسه وسيلة لا غاية، فمن الطبيعي أن يكون الأشخاص الذين تجري على أيديهم أحداث هذا القصص وسائل لا غايات، فإذا عرض علينا ڤولتير شخصًا من الأشخاص الذين يعملون أو يتأثرون في قصصه فطبيعة هذا الشخص لا تعنيه، ولا تعنيه الخصائص التي تأتلف منها هذه الطبيعة، وإنما الذي يعنيه هو ما يصدر عن هذا الشخص من قول أو عمل وما يلم بهذا الشخص من حدث أو خطب، وما يكون لهذه الأقوال والأعمال والأحداث والخطوب من أثر في حياة الناس.

ومن أجل هذا كانت الأشخاص في قصص ڤولتير وسائل من جهة ورموزًا من جهة أخرى؛ رموزًا لهذه الأغراض التي كان يسعى إليها ولهذه الآراء التي كان يريد أن يثبتها أو أن ينفيها، ومن أجل هذا أيضًا كان ڤولتير يتخذ لبعض قصصه عنوانين، أحدهما الشخص الذي اتخذه رمزًا، والآخر الفكرة التي أراد أن يرمز إليها، فقصة «كانديد» تسمى كانديد أو التفاؤل، وقصة «زاديج» تسمى زاديج أو القدر، وعلى هذا النحو.

أشخاص ڤولتير إذن ليسوا أفرادًا من النَّاس يعملون كما نعمل ويشعرون كما نشعر ويحسون كما نحس ويتأثرون كما نتأثر، وإنما هم أشخاص قد خلقهم خيال ڤولتير وعقله خلقًا، وقد استمدهم هذا العقل وذلك الخيال من المعاني التي قصد إليها وأراد تصويرها أكثر مما استمدهم من الحياة الواقعة التي يراها كل إنسان والتي يستطيع كل إنسان أن يلاحظها من قرب وأن يتناولها بالنقد والتحليل والتعليل، ولعل من الخصال التي تفوق فيها ڤولتير تفوقًا ظاهرًا انتهى به إلى براعة فنية لا يدانيه فيها كاتب فرنسي آخر، أنه لا يحفل كثيرًا بالحياة الواقعة ولا يقف عندها إلا بمقدار، فهو يأخذ منها ما يحتاج إليه ويضيف إليها ما يحتاج إليه أيضًا، مزدريًا هذا المنطق الطبيعي الذي نفكر به ونتخذه مقياسًا لتصورنا للأشياء وحكمنا عليها، فهو لا يحفل بالزمان ولا بالمكان، وهو من أجل ذلك لا يحفل بالتاريخ ولا بالجغرافيا، وهو لا يحفل بالطبيعة التي يمكن أن تُلاحَظ ولا بالخرافات التي ليس إلى ملاحظتها من سبيل، وهو لا يحفل بما يوجد بيننا بالفعل ولا بما ليس له وجود، وإنما يأخذ من هذا كله ما يريد، ويرتِّب هذا كله كما يريد، ويقدِّم لنا منه مزاجًا رائعًا نُعجَب به أشد الإعجاب ولا نستطيع أن ننكر منه شيئًا؛ لأن إنكارنا لا يؤثر في الفكرة الأساسية التي أراد أن يعرضها علينا، فأميرة بابل مثلًا تعيش في أقدم العصور التاريخية بل تعيش في أقدم العصور الإنسانية قبل أن يوجد التاريخ، وهي مع ذلك تطوف في أقطار الأرض وتتخذ للتنقل وسائل منها ما يلائم الأساطير، ومنها ما يلائم العصر الذي كان ڤولتير يعيش فيه، وهي تزور مدنًا لم تنشأ إلا في عصور متأخرة جدًّا وتشهد أجيالًا من النَّاس لم يوجدوا إلا بعد أن تقدمت الحضارة الإنسانية حتى انتهت إلى الطور الذي انتهت إليه في القرن الثامن عشر الفرنسي.

هذه الأميرة تعيش في مدينة بابل التي وصفتها الأساطير، وهي تعيش قبل سميراميس بقرون طويلة، وقد أراد أبوها الملك أن يبغي لها زوجًا فقرر أن يجري مسابقة بين الملوك قوامها أن يشد المتسابقون قوس نمروذ، وهي قوس لا يتاح لأوساط النَّاس ولا للمتفوقين منهم في القوة أن يشدوها، فأيهم قدر على أن يشد هذه القوس فعليه بعد ذلك أن يقهر أسدًا لم تعرف الدنيا مثله قوة وبأسًا وعنفًا، فإذا قهر هذا الأسد فعليه بعد ذلك أن يقدم إلى الأميرة هدية نادرة لم يعرف العالم مثلها قط، وقد أقبل ملوك ثلاثة للاشتراك في هذه المسابقة، أحدهم فرعون جاء يركب الثور أبيس وهو يقدم إلى الأميرة هدايا من تماسيح النيل وجرذان الدلتا، والثاني ملك الهند جاء يركب فيلًا هائلًا تتبعه فيلة كثيرة تحمل من طرف الهند ما عرف النَّاس وما لم يعرفوا، والثالث ملك السيتيين من أهل البادية في شرق أوروبا وجنوبها جاء ومعه أصحابه يمتطون أجود الخيل وأعرقها في النسب، ويحملون من طرف باديتهم الشيء الكثير، وقد احتفلت بابل بمقدم هؤلاء الملوك احتفالًا رائعًا واحتفت بهم احتفاءً عظيمًا، حتى إذا كان اليوم المشهود اجتمع النَّاس ليشهدوا هذه المسابقة، وقد اجتمع منهم في المدرج أكثر من نصف مليون، وجلس الملك في مقصورته ومن حوله وزراؤه ورجال قصره، وجلست الأميرة في مقصورتها ومن حولها وصائفها، وجلس كل ملك من الملوك الثلاثة في المقصورة التي أعدت له، ومع كل واحد منهم حاشيته، ودار على النظارة جيش ظريف قوامه عشرون ألفًا من العذارى الحسان يطوِّفن عليهم بألوان الفاكهة والنقل والشراب، ثم لم يكد مؤذن الملك يؤذن بافتتاح المسابقة حتى رأى النظارة منظرًا عجيبًا؛ رأوا فتًى يُقبل من بعيد يتبعه خادمه، وقد وقف على كتف الفتى طائر جميل رائع المنظر، وقد ركب الفتى حيوانًا غريبًا سريعًا رشيقًا خفيف الحركة يتوسط رأسه قرن وحيد، وقد انتهى الفتى إلى المدرج يلحظه الملوك والنظارة وتلحظه الأميرة ووصائفها خاصة، ومضى في تواضع حتى انتهى إلى مجلس من المدرج فجلس كغيره من النَّاس يقوم خادمه من ورائه ويقف على كتفه طائره الجميل.

وقد ابتدئت المسابقة، فتقدم فرعون ليشد القوس فلم يبلغ من شدها شيئًا ونصح له كبير كهنته بألا يمضي في هذه المسابقة التي لا تلائم الجلالة المصرية وحسْبه ما يقدم من الهدايا، وحسْبُه أنه صاحب ملك مصر، ولم يكن ملك الهند أحسن منه حظًّا، وحاول ملك السيتيين أن يشد القوس فكاد يبلغ من شدها شيئًا يسيرًا ولكن قوته لم تطاوعه، وإذا الفتى يثب من مكانه ويهبط إلى الميدان مسرعًا ويتناول القوس في أدب ويشدها في رشاقة ويرسل منها إلى مقصورة الأميرة كتابًا تقرؤه الأميرة، فإذا هو شعر جميل يتغنى بجمالها البارع، ثم يخرج الأسد وقد نكل عن لقائه فرعون وملك الهند، ولكن ملك السيتيين أقدم على هذا الصراع الهائل، وكاد يصرع الأسد ولكن الحظ خانه فهم الأسد أن يبطش به لولا أن هذا الفتى يثب مسرعًا ويهوي إلى الأسد بضربة تقد عنقه قدًّا.

وقد أخذ الفتى رأس الأسد فدفعه إلى خادمه، وغاب الخادم لحظة ثم عاد وقد غسل عن الرأس ما كان عليه من دم وانتزع نيوبه وأقر مكانها قطعًا من الجوهر لم يرَ النَّاس مثلها قط، وأخذ الفتى هذا الرأس من خادمه ودفعه إلى طائره الجميل وكلفه أن يحمله إلى الأميرة، والطائر يسعى في الجو سعيًا رفيقًا رشيقًا حتى يبلغ مقصورة الأميرة فيضع الرأس بين يديها ويقدم إليها تحية تملأ الناظرين فتنة وإعجابًا، وقد فُتِن الملوك والنظارة بهذا الفتى ووقع حبه في قلب الأميرة، وهمَّ عظيم بابل أن يحتفي به، ولكن رسولًا يقبل فيلقي في أذن الفتى كلمات، وإذا الفتى يكلف طائره الجميل أن يبقى مع الأميرة، ثم يتحول إلى حيوانه الغريب فيركبه ويعود به من حيث أتى، ويجدُّ البابليون في اللحاق به فلا يبلغونه وقد امتلأ قلب الأميرة حبًّا وحزنًا، وامتلأت قلوب الملوك غيظًا وحنقًا، واختلط الأمر على عظيم بابل، فهو لم يجد لابنته زوجًا، وهو مضطر أن يرجع إلى الآلهة يستشيرهم فيما يصنع، والمهم هو أن الأميرة قد كلفت بالفتى، وأن هذا الحب قد أرقها، فهي تحدث نفسها أثناء الليل والطائر قائم إلى جانب السرير فما يروع الفتاة إلا صوت هذا الطائر يسليها ويعزيها ويواسيها في لغة بابلية رائعة، فالطائر إذن يتكلم لغة الناس، وهو يقص عليها قصصه، فهو ما زال في أول الشباب، لم يبلغ من السن إلا سبعة وعشرين ألفًا وبضع مئات من السنين، وهو يحدثها عن هذا الفتى وعن موطنه في أقصى الهند، وقد أشار عليها أن تلحق به، وأشار الوحي على أبيها أن يكلفها الطواف في أقطار الأرض.

وما أريد أن ألخص القصة وإنما يكفي أن أقول: إن الفتاة ذهبت إلى البصرة ثم إلى جنوب البلاد العربية ثم إلى الهند ثم إلى الصين ثم إلى أوروبا على اختلاف أقطارها تطلب هواها في كل هذه البلاد، وهي لا تبلغ بلدًا إلا أنبئت بأن الفتى قد رحل منه إلى بلد آخر، ثم يلتقيان ذات يوم أو ذات ليلة في باريس كما سنرى بعد حين.

وفي إلمام الفتى بأقطار الأرض وفي إلمام الفتاة بعده بهذه الأقطار عَرْضٌ لما يريد ڤولتير أن يعرض من شئون الأمم والشعوب، يجدُّ حينًا ويهزل حينًا، يصور التاريخ مرة ويخترع الحوادث مرة أخرى، وينقد نظام السياسة والدين والاجتماع دائمًا، ويلم بالنقد الأدبي بين حين وحين.

وليس ڤولتير في قصة كانديد بأقل ازدراءً للتاريخ والجغرافيا والحقائق المادية الواقعة منه في هذه القصة التي أشرت إليها آنفًا، فالمهم عنده إذن ليس اتساق القصة طبقًا للمألوف من حقائق الحياة ولا طبقًا للمألوف من هذا الخيال الذي لا يريد أن يمعن في الغرابة ولا أن يغرق في الاختراع، وإنما يصور الوقائع للناس تصويرًا تألفه عقولهم وتطمئن إليه أذواقهم على نحو ما عودهم القصاص في العصر الحديث على أقل تقدير، فڤولتير إذن يذهب بقصصه مذهب الشرقيين في ألف ليلة وليلة وفي كليلة ودمنة، وفي هذا القصص الذي يمتلئ بالأعاجيب ويفعم بالخوارق، والذي يكثر فيه الجن وتتكلم فيه الطير، والذي يتخذ هذا كله مع ذلك وسيلة إلى النقد والإصلاح وتصوير الحياة الاجتماعية المعاصرة بما فيها من خير وشر، فلا غرابة إذن في أن تكون عناية ڤولتير بحقائق الأشخاص في قصصه ضئيلة لا تكاد تكون شيئًا ذا خطر.

ومع ذلك فهؤلاء الأشخاص يختلفون في حظهم من عناية ڤولتير اختلافًا شديدًا، فمنهم الأشخاص الأساسيون والأشخاص الإضافيون، إن صح هذا التعبير، ومنهم الرجال والنساء، ومنهم الشباب والكهول والشيوخ، ولكل أولئك خصال يتمايزون بها فيما بينهم، فأين تقع المرأة من هؤلاء الأشخاص جميعًا في قصص ڤولتير؟

هذا هو السؤال الذي كنت ألقيه على نفسي وأنا أقرأ قصصه الطوال وأقاصيصه القصار، ويُخيَّل إليَّ أن في الوقوف عند هذه النماذج التي يقدمها لنا ڤولتير من النساء والفتيات في قصصه شيئًا لا أقول من الفائدة العلمية الخطيرة، ولا أقول من المتعة الأدبية الرائعة، ولكن أقول من الفكاهة والغناء اللذين قد يرغبان بعض الباحثين المتعمقين في البحث في أن يحصوا ويستقصوا، وفي أن يحللوا ويعللوا، وفي أن يوافقوا ويفارقوا، لعلهم أن يخرجوا لنا من هذا كله كتابًا قيمًا يشتمل على صور رائعة في الفن والأدب.

فقصة واحدة مثلًا من قصص ڤولتير وهي قصة «زاديج» تعرض علينا صورًا من المرأة مختلفة أشد الاختلاف، متفقة مع ذلك أشد الاتفاق، فقد هم زاديج وهو فتى حازم حصيف قد مُنِحَ طبيعة خصبة وبصيرة نافذة، وذكاءً بعيدًا وثقافة واسعة، هم زاديج أن يتزوج، فخطب فتاة أحبها كل الحب، وفُتِنت به كل الفتون، وهي سمير، وقد خرج ذات يوم معها يتروضان في ظاهر المدينة، وكان لها عاشق من الأمراء همَّ أن يخطفها فأبلى زاديج في الدفاع عنها بلاءً حسنًا حتى استنقذها، ولكن سهمًا أصابه قريبًا من إحدى عينيه، فلما أيأس الأطباء سمير من شفائه صدت عنه، وقالت: إنها لا تحب العور، ثم تسلى عنها زاديج وتزوج من فتاة أخرى فُتِنت به أشد الفتنة وكونت لنفسها في الحب رأيًا صارمًا حازمًا، وأقبلت ذات يوم على زوجها ساخطة أشد السخط، فلما سألها عن ذلك أنبأته بأنها ذهبت تعزي إحدى صديقاتها عن موت زوجها، وكانت هذه الصديقة مشغوفة بزوجها قد نذرت الوفاء لحبه ما دام الجدول المجاور لقبره يمضي في مجراه، وقد أقامت على قبره لا تريد أن تفارقه، ولكن صاحبتنا رأتها تصنع شيئًا عجيبًا، رأتها تحوِّل الجدول عن مجراه لتخلص من هذا النذر الثقيل.

وقد ارتاب زاديج بقدرة المرأة على الوفاء وبسخط امرأته على صديقتها، فاحتال مع صاحب له وفيٍّ ليعلم علم امرأته، فأظهر المرض وتكلف الموت ودُفِن في حديقة الدار، وأقبل صاحبه على الأرملة يواسيها فكان الحديث حزينًا أول الأمر ثم جعل يرق شيئًا فشيئًا ويعذب قليلًا قليلًا، حتى انتهى إلى ما يشبه الحب، ثم أظهر الصديق أن نوبة شديدة من المرض قد نابته، فتعطف عليه الأرملة وتريد أن تطبَّ له، ولكنه ينبئها بأن الطب له مستحيل، فليس إلى علاجه من سبيل إلا أن يوضع على موضع الطحال منه أنف مجدوع، فتشكُّ غير قليل ثم تقول لنفسها: وأي بأس على زوجي الفقيد إن لقي الآلهة بأنفه كاملًا أو منقوصًا! ثم تهبط إلى القبر وفي يدها حديدة تريد أن تجدع بها أنف زوجها الفقيد لتشفي به طحال عاشقها الجديد، فيهب زاديج وقد تبين أن زوجه التي همت أن تجدع أنفه أشد غدرًا من تلك التي لم تستطع صبرًا على ما نذرت من الوفاء.

فهؤلاء نساء ثلاث يعرضهن علينا ڤولتير في الفصلين الأولين من هذه القصة: إحداهن ضحت بالحب لأنها لا تطيق عشرة العور، والأخرى همت أن تحول الجدول عن مجراه لأنها لم تستطع صبرًا عن الرجال، والثالثة همت أن تجدع أنف فقيدها ولما يمضِ على موته إلا أقصر وقت لأنها وجدت عشيقًا جديدًا.

وقد استيأس زاديج من حب النساء وذهب في حياته مذاهب مختلفة لم يجنِ منها كلها إلا شرًّا. همَّ أن يعيش عيشة الأغنياء فوُشِي به في القصر، وهمَّ أن يعيش عيشة العلماء فوُشِي به عند رجال الدين وتعرض للمحنة المنكرة، ثم استبانت براءته بعد خطوب، فاختاره الملك لنفسه وزيرًا، ولم تكن وزارته أقل شرًّا من غيرها من ألوان الحياة التي بلاها؛ فقد كثر الطالبون، وكثر الحاسدون، وكثر الماكرون، وثاب النساء إليه من كل وجه يلححن عليه بالإغراء حينًا والإطماع حينًا آخر، وهو يمتنع ويرتفع ولكنه وقع في شَرَك الملكة ووقعت الملكة في شَرَكه، ونبه الملك إلى الأمر فهم أن يقتل العاشقين، وإن لم يصارح أحدهما صاحبه بعشق أو غرام، وقد أتيح للعاشقين من ينجيهما من هذا الكيد، فأما زاديج فمضى نحو مصر، وأما الملكة إستارتيه فأخفيت في بابل نفسها، وقد طوَّف زاديج بالآفاق وخضع لمحن كثيرة، ولكنه لقي في هذه المحن امرأتين أخريين، فأما إحداهما فجرَّت عليه شرًّا كثيرًا، وأما الأخرى فجرت له خيرًا كثيرًا. أولاهما لقيها عند الحدود المصرية تصيح وتستغيث لأن رفيقها كان يلح عليها بالضرب والعذاب، فأسرع زاديج لمعونتها وكان الشر بينه وبين ذلك الرفيق فقتله زاديج، وإذا المرأة التي كانت تستعينه وتستغيث به قد أصبحت له عدوًّا تلعنه وتستعدي عليه، وقد أقبل المصريون فأخذوه وحاكموه، فلما تبينوا أنه لم يقتل إلا دفاعًا عن نفسه أبقوا على حياته، ولكنهم باعوه من تاجر عربي كان يقيم بينهم، وهذه المرأة التي استعانت واستغاثت أول الأمر، ثم لعنت واستعدت آخر الأمر لم تلبث أن ترى قومًا من أهل بابل قد أقبلوا يجدون، فلما رأوها لم يشكوا في أنها الملكة الهاربة فاقتادوها إلى بابل، وهناك جعلت تمكر وتكيد حتى استأثرت بعقل الملك، وما زالت به حتى انتهى إلى الجنون.

أما المرأة الثانية فعربية جميلة مات عنها زوجها، وكان العرب قد ورثوا عن الهند أن تحرق المرأة نفسها لتلحق بزوجها الفقيد، ولكن زاديج ما زال بالمرأة حتى صرفها عن هذا الإثم وحبب إليها الحياة دون أن يحب هو الحياة ودون أن يحب هذه المرأة لأنه لم يكن يحب إلا الملكة إستارتيه، ومع ذلك فقد غضب الكهان على زاديج وقضوا عليه بالموت، ولكن المرأة العربية عرفت له الصنيعة وأزمعت إنقاذه، فما زالت تمكر بالكهان واحدًا واحدًا، تطمعهم في نفسها ولا تتقاضاهم على ذلك إلا براءة هذا العبد، فلما ظفرت بهذه البراءة منهم منفردين ضربت لهم جميعًا موعدًا واحدًا، فذهبوا إليها وكلهم مستيقن أنها ستخلص له، ولكنهم التقوا جميعًا عندها، فعادوا بالخزي ونجا العبد زاديج بنفسه وما كاد ينجو.

وما زال يطوِّف في الأرض في الهند وفي سيلان وفي البصرة وفي الشام، وتعرض له الخطوب الكثيرة حتى لقي فيما لقي من النَّاس جماعة من النساء يبحثن في مرج من المروج عن حيوان غريب، وهن رائعات الحسن بارعات الجمال، فلما سألهن عن أمرهن علم أنهن إماء لصاحب هذا القصر العظيم، وأن سيدهن مريض، وقد وصف الطبيب له هذا الحيوان الخرافي الغريب على أن تجده امرأة، وعلى أن يطبخ له في ماء الورد، فأرسل إماءه للبحث عنه ووعد أيتهن ظفرت به أن تكون له زوجًا، فهن مغرقات في البحث متهالكات في إرضاء سيدهن، إلا واحدة قد انتحت ناحية وجلست على شاطئ النهر حزينة كئيبة تخط بعود في الأرض، وينظر زاديج فيما تخط فإذا هي تكتب اسمه، فيأخذه الدهش ثم يسألها، ولا يكاد يسمع صوتها حتى يعرف فيها إستارتيه ملكته وصاحبة قلبه، وقد تبين منها أن زوجها الملك قد قُتِل في بعض الحروب وأنها وقعت أسيرة في يد المنتصر مع تلك المرأة المصرية وأنها احتالت حتى نجت من أسرها ذاك ولكنها وقعت في أسر جديد، وكلفت مع الجواري أن تبحث عن هذا الحيوان الغريب، فلم تبحث ولم تحفل لأنها لا تريد أن تكون زوجًا لأحد، فقد امتلأ قلبها وعقلها بحب زاديج، فهذه هي المرأة الوحيدة التي عرفت الحب الصادق ووفت له واحتملت في سبيله ألوان الهول فصبرت وجاهدت واجتهدت، كما صبر زاديج وجاهد واجتهد، وأعانتهما المصادفات والخطوب التي لا تعنينا الآن حتى اجتمع شملهما، فأصبح زاديج ملك بابل وعادت إستارتيه إلى عرشها ولكن مع من تحب.

هذه نماذج للمرأة في قصة واحدة من قصص ڤولتير، وفي هذه النماذج شيء من الشرق؛ لأن القصة نفسها شرقية قد تُرجِمت، فيما يقول ڤولتير، لمدام دي بومبادور إلى العربية مع ألف ليلة وليلة ونقلها هو إلى الفرنسية، ولكن هذه النماذج ليس لها من الشرق إلا أيسر المظاهر، فالنساء اللاتي يعرضهن ڤولتير في هذه القصة سواء منهن من ذكرنا ومن لم نذكر غربيات السيرة والتفكير يعشن جميعًا في القرن الثامن عشر الفرنسي، وأكبر الظن أن كل واحدة منهن ترمز من بعيد أو من قريب لامرأة عرفها ڤولتير أو عرف من أمرها القليل أو الكثير.

على أننا نجد في «كانديد» نماذج أخرى للمرأة كلها غربي، اثنان منهما ألمانيان والثالث إيطالي، فأما النموذج الأول لهؤلاء النساء فكونيجوند عشيقة كانديد تلك التي نشأت في إقليم ألماني في بيت متهدم كان النَّاس يرونه قصرًا عظيمًا، بين أب سخيف كان النَّاس يرونه ذكيًّا، وأم بدينة كان النَّاس يرونها رشيقة، ومربٍّ أحمق كان النَّاس يرونه فيلسوفًا، وقد نشأ كانديد في نفس القصر الذي نشأت فيه كونيجوند، وقد أحبها وأحبته، والتقيا ذات يوم فأسقطت كونيجوند منديلها والتقطه كانديد فرده إليها، ثم التقت الشفاه واضطرمت الأعين واصطكت الركب وضلت الأيدي، ومر البارون في أثناء ذلك فوكز كانديد وطرده من القصر وخرت كونيجوند مغمًى عليها.

ومنذ ذلك الوقت بدأت محنة كانديد، ووُضِعت أمامه المسألة الهائلة التي وُضِعت أمام الإنسانية كلها فلم تستطع لها — ولن تستطيع لها — حلًّا: أقام أمر العالم على الخير أم قام أمر العالم على الشر؟ فأما المربي الفيلسوف فقد كان يرى رأي ليبنتز وهو أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأما ڤولتير فقد كان يشك في هذا كل الشك، وقد اتخذ كانديد وكونيجوند والمربي بونجلوس وغيرهم موضوعًا للمحن المتتابعة، يثبت بذلك أن العالم لم يقم على الخير المحض، وأن الذين يقولون: ليس في الإمكان أبدع مما كان، إنما يقولون باطلًا من القول وزورًا، وإذا كانت كونيجوند تمتاز بشيء فإنما تمتاز بأن شخصيتها سلبية بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها؛ فهي تحب كانديد لأنها رأت المربي يحب خادمًا من خادمات الدار، ويُغمى عليها حين ترى أباها يطرد كانديد، وتتلقى اللطمة من أمها حين تفيق من إغمائها، وتخضع لاستحياء البلغار حين يغيرون على المدينة، وتخدم ضابطًا بلغاريًّا، ثم تباع فيشتريها يهودي يحملها إلى لشبونة، وهناك تصبح شركة بين هذا اليهودي وبين رجل من رجال الدين يرأس محكمة التفتيش، وقد مرت محن أخرى بكانديد انتهت به هو أيضًا إلى لشبونة، ولكنه في أثناء هذه المحن الهائلة لم يكن يفكر إلا في شيئين اثنين: حبه لكونيجوند، وإعجابه بأستاذه بونجلوس. وقد لقي كونيجوند وسعد بهذا اللقاء وسعدت هي أيضًا بهذا اللقاء، واستنقذها من اليهودي والمسيحي وفر بها إلى أمريكا، وأراد أن يتزوجها هناك ولكنها راقت الحاكم الإسباني فاغتصبها واضطر كانديد إلى الفرار.

وقد طوَّف كانديد في أمريكا ما طوف، وطوف في أوروبا كذلك ما طوف، لا يفكر إلا في كونيجوند ولا يحيا إلا لكونيجوند، ثم يلقاها آخر الأمر بعد خطوب كثيرة، وإذا هي قد فقدت جمالها وأصبحت امرأة متهدمة قبيحة المنظر سيئة الخلق، ولكنها على ذلك تعتقد أنها ما زالت نضرة الشباب، ولو استطاع كانديد لانصرف عنها، ولكنه رجل شريف فيجب أن يبر بالوعد، وأن يتخذها لنفسه زوجًا، فكونيجوند هي صورة المرأة الغافلة التي لا توجد لنفسها ولا تحس وجودها إلا بمقدار.

أما النموذج الآخر فهي هذه العجوز التي لقيها كانديد في لشبونة خادمًا لكونيجوند، وهي امرأة شيخة ضئيلة ضعيفة، ولكنها ذكية ماهرة ماكرة نفاذة من المشكلات، مذعنة لأحداث الزمان، قد اكتسبت ذكاءها وإذعانها من المحن التي اختلفت عليها؛ فهي إيطالية قد نشأت نشأة عز وكرامة، ثم اختلفت عليها الخطوب، فأسرها لصوص البحر وحُمِلت إلى مراكش ثم إلى الجزائر ثم إلى تركيا ثم وقعت لهذا اليهودي فاتخذها خادمًا لكونيجوند، وأقامت معها تدبر أمرها وتنصح لها حين تبهظها الحوادث وتسليها حين تضيق عليها الحياة.

وأما النموذج الثالث فهي هذه الخادم باكيت تلك الألمانية التي ألقت أول درس في الحب على كونيجوند، والتي لعبت بها الأحداث هذا اللعب الشائع المعروف فباعت جسمها لتعيش، وما زالت هذه التجارة المنكرة تحملها من بلد إلى بلد ومن بيئة إلى بيئة، حتى ضمها كانديد إلى كونيجوند حين انتهى به وبأصحابه المطاف إلى حديقته تلك التي فرغ للعناية بها على ساحل البحر الأسود.

على أن قصة كانديد لم تخلُ من نموذج فرنسي باريسي ولكنه بالطبع نموذج سيئ رديء، فليس في هذه القصة أو لا يكاد يكون فيها إلا ما هو سيئ رديء، وهذا النموذج الفرنسي الباريسي هو هذه المرأة التي اتخذت لنفسها لقبًا أرستقراطيًّا، وأقامت في الحي الأرستقراطي، ولكنها في حقيقة الأمر مضطربة بين طبقة الأشراف وطبقة السوقة، فهي تستقبل أخلاطًا من النَّاس فيهم النقي الممتاز، وفيهم الدنس المريب، فيهم الجاهل المغرور، وفيهم العالم المتواضع، وهم يجتمعون إلى مائدتها، فيطعمون ويشربون ويلعبون، ويقيمون حياتهم على ما يفيدون من هذا اللعب كما تقيم هي حياتها على ما تفيد من هذا الاستقبال، وآية ذلك أن كانديد لم يكد يدخل دارها حتى أُجلِس إلى مائدة اللعب فخسر مبلغًا ضخمًا، ثم استمع لألوان من الأدب والنقد، ثم دعي إلى الغرفة الخاصة، وهناك مكرت به هذه السيدة مكرًا يكاد يخلو حتى من الرفق، ولم يخرج كانديد من هذه الدار حتى فقد وفاءه لكونيجوند، وفقد مع هذا الوفاء خاتمًا ثمينًا، وكره باريس وفكر في الفرار منها إلى البندقية.

وقصة أخرى من قصص ڤولتير تعرض علينا من المرأة نماذج أخرى تخالف هذه النماذج التي رأيناها، وهذه القصة هي قصة «البريء» — I’ingénu — ونماذجها كلها فرنسية لأن القصة تبدأ في بريتانيا السفلى وتنتهي في باريس، وهي هجاء لرجال الدين ولليسوعيين منهم خاصة، فالبيئة إذن بيئة قسس، ونحن نجد في أول القصة قسيسين، يعيش كل منهما مع أخته، فأما أحدهما كركابون فأخته قد تقدمت بها السن حتى استيأست من الزواج على كره منها لذلك شديد، وأما الآخر فأخته سانت إيف في نضرة الشباب، تبسم لها الحياة وتبسم هي للحياة، وفي ذات يوم أقبلت سفينة إنجليزية، فألقت مراسيها ونزل أصحابها فباعوا واشتروا، ونزل معهم فتى غريب الأطوار، ساذج إلى أقصى حدود السذاجة، ظريف إلى أبعد غايات الظرف، جميل الطلعة، رائع المنظر، حسن الموقع من القلوب، ولم يكد يتصل بالقس كركابون وأخته حتى أحبهما وأحباه، ثم استكشفا بعد خطوب كثيرة أنه ابن أخ لهما كان قد ذهب محاربًا إلى كندا ثم انقطعت أخباره وأخبار امرأته، وأكبر الظن أنهما قُتِلا وتركا هذا الصبي فنُشِّئ في بيئة غير متحضرة، وأقبل وقد بلغ الرشد، ولكنه ما زال على فطرته الأولى، وقد أقام إذن مع عمه وعمته، وأحبه أهل القرية حبًّا شديدًا، وجعل عمه يثقفه الثقافة المسيحية حتى استطاع أن يعمده في حفل عظيم، وقد فُتِن بالآنسة سانت إيف كما فُتِنت هي به، وعاقت عوائق دون زواجهما، فهو يكلف عميه عناءً عظيمًا ليحقق هذا الزواج، وإنه لفي ذلك وإذا الأسطول الإنجليزي يقبل مغيرًا على الإقليم، ويبلي الفتى في رد هذا الأسطول بلاءً حسنًا، يزيد إعجاب النَّاس به وإكبارهم له، فيرسله عمه إلى فرسايل ومعه الشهادة بحسن بلائه ليقدم هناك إلى وزير الحرب، ويظفر من الملك بالمكافأة على ما أبلى في الدفاع عن الوطن، ولعله أن يضم إلى الجيش، ولكنه يصل إلى فرسايل ولا يكاد يتصل بوزارة الحرب حتى يكون الكيد قد سبقه إلى القصر فيُقبَض عليه ويُرسَل إلى سجن الباستيل، ويُلْقَى في حجرة من حجراته مع رجل تقي عالم من رجال الدين، فلندعه في سجنه يتعلم على هذا القس، ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ من الكتب في فنون العلم والأدب والفلسفة، ولنعد إلى الآنسة سانت إيف.

فقد طالت غيبة البريء على أهل القرية وانقطعت عنهم أخباره فصبروا وأجملوا الصبر، وانتظروا وأطالوا الانتظار، فلما كاد اليأس يبلغ منهم، سافر عمه وعمته إلى باريس ليتحسسا من هذا الفتى الضائع أو المضاع، وكذلك فعلت الآنسة فخرجت مستخفية من القرية وسلكت طرقًا ملتوية حتى انتهت إلى فرسايل، وأخوها وآخرون من أهل القرية في أثرها، يريدون أن يردوها إلى القرية، ولكنها سبقتهم وانتهت إلى القصر، وابتغت وسائلها من رجال الدين وغير رجال الدين حتى علمت أن حبيبها في السجن، فجدت في إنقاذه مفتنة في الجد حتى انتهت إلى رجل خطير من رجال وزارة الحرب، ولم تكد تقص عليه أمرها حتى رق لها وعطف عليها، ولكنه فُتِن بها فتنة شديدة، وإذا هو يساومها في إطلاق حبيبها من السجن مساومة منكرة، وإذا الفتاة بين أمرين أحلاهما مر؛ فإما أن تحرص على الشرف فتفقد حبيبها إلى آخر الدهر وتعرضه للعذاب المقيم في أعماق السجن، وإما أن تبذل هذا الشرف فتخسر نفسها أولًا، وتخون حبيبها ثانيًا، ولكن الموظف الخطير يساوم ويغلو في المساومة ويطمع ويسرف في الإطماع، والفتاة مضطربة أشد الاضطراب، مترددة بين الشرف والهوان، وبين الوفاء والخيانة، وقد عادت إلى الدار التي أوت إليها وعرضت قصتها على صاحبة الدار وهي سيدة وجيهة، فرفقت بها السيدة وعطفت عليها، ولم ترد أن تشير عليها أول الأمر، وإنما نصحت لها بأن تستشير قسيسًا يسوعيًّا، وقد عرضت أمرها على القسيس، فسخط على الموظف الكبير أشد السخط، ولكنه لم يكد يعرف اسمه حتى أظهر حزنًا ثم ترددًا، ثم جعل يُغْرِي ولا يُغْرِي، ويرغِّب ولا يرغِّب، ولكنه أطمع الفتاة في المغفرة آخر الأمر، وضرب لها المثل بما امتُحِن به بعض القديسات في الزمان القديم، وعادت الفتاة إلى مثواها بائسة، ولكن هذه السيدة الوجيهة اجترأت آخر الأمر وشجعت الفتاة تصريحًا على ما شجعها عليه القس تلميحًا، وبينت لها أن الأمور لا تُقضى في فرسايل إلا بمثل هذا الثمن البشع الشنيع، وقد زلت الفتاة آخر الأمر وظفرت بحرية حبيبها وبحرية رفيقه في السجن، بل ظفرت لحبيبها بالمكافأة والمنصب والمستقبل السعيد، واجتمع المتفرقون كلهم، ورضي بعضهم عن بعض إلا هذه الفتاة فلم تكن راضية عن نفسها، ولم تكن ترى نفسها خليقة بهذا الفتى البريء الكريم، ولكنها أنجته من السجن آخر الأمر، وكان من الممكن أن تجتهد في كتمان خطيئتها وأن تستأنف حياة نقية سعيدة لولا أن الدهر لم يرد لها حتى هذه الحياة النادمة؛ فقد أحبها الموظف الخطير، ولم يقنع منها بما أعطته وإنما أراد أن يستزيد، فأرسل إليها الرسل والهدايا، وكاد القوم أن يفطنوا، وأحست هي أن أمرها قد افتضح، فأخذتها العلة، ولم تكد تأوي إلى سريرها حتى أخذتها الحمى، ثم اشتد عليها المرض واستيقنت الموت فاعترفت لحبيبها وأخيها بخطيئتها، وماتت ضحية للحب إن شئت، وللوفاء إن أحببت، وللندم على فقدان الشرف إن أردت، ولهذا كله ولفساد الحياة الاجتماعية كما أراد ڤولتير، فهذا النموذج الرائع يكاد ينفرد بين نماذج المرأة في قصص فولتير كلها، فالفتاة هنا عاملة لا مستسلمة، وجريئة نشيطة لا تعرف ضعفًا ولا فتورًا، ومصممة لا تعرف ترددًا ولا نكولًا، ومغامرة لا تخاف الحوادث ولا تهاب الخطوب، ثم هي بعد ذلك شريفة وفية، سقطت بين الشرف والوفاء، وأدت حياتها ثمنًا لهذه السقطة، وأنقذت بعد ذلك رجلين كريمين من عذاب متصل مقيم.

وفي هذه القصة نموذجان آخران من نماذج المرأة الفرنسية كما صورها ڤولتير؛ أحدهما هذه الآنسة كركابون شقيقة القس وعمة البريء، تلك التي تقدمت بها السن وأُكرِهت على حياة فيها كثير جدًّا من الخشونة والضيق، وحُرِمت لذة الزواج ولذة الأمومة فقبلت هذا الحرمان راضية كارهة، إن صح هذا التعبير. راضية لأنها لم تثر ولم تصطنع الحيلة، لتظفر بما حرم عليها، ولم تتورط في الخطيئة لا عن عمد ولا عن غفلة، وإنما احتفظت بالطهر والنقاء، وكارهة لأنها لم ترَ الشباب إلا ذكرت شبابها الضائع، ولم تسمع ذكر الحب والزواج إلا أسفت في تجمل؛ لأنها لم تأخذ بحظها منهما، ولم تكد ترى الفتى البريء حتى غمرته بما كان مكظومًا في قلبها من عواطف الأمومة، والنموذج الآخر هو هذه السيدة الباريسية الوجيهة التي آوت الآنسة سانت إيف، والتي لم تجرؤ على أن تشير عليها إلا بعد أن أشار القسيس، ثم تشجعت فنصحت للفتاة بأن تقبل الحياة كما هي، وبأن تسير سيرة غيرها من النساء حين يحتجن إلى الاتصال بأصحاب الجاه. هذه السيدة تصور المرأة العملية في الحياة الفرنسية العامة أثناء القرن الثامن عشر، فهي لا تتهالك على الإثم راغبة فيه، ولكنها مع ذلك لا تتحرج من الإثم حين تدعو إليه المنفعة، وهي على ذلك تحتفظ بما ينبغي للمرأة الكريمة من مظاهر الوقار والارتفاع عن الدنيات.

وكذلك نرى ڤولتير في هذه القصة يعطينا صورًا ثلاثًا من المرأة؛ فأما إحداها فهي هذه الفتاة التي تصلح موضوعًا لمأساة رائعة، وأما الأخريان فهما هاتان المرأتان اللتان يلقاهما النَّاس في الحياة الواقعة؛ إحداهما كريمة لأنها قنعت بما قُسِم لها من الحياة، والأخرى متكرمة لأنها خضعت لما في الحياة من ضرورات.

وما دمنا نتحدث عن هذه النماذج الفرنسية فلنمضِ في الحديث عن نماذج فرنسية أخرى التمسها ڤولتير في أعماق إيران وفي أعماق التاريخ القديم، فقد ارتفعت الشكوى إلى السماء من هذا الفساد العظيم الذي ملأ مدينة برسيبوليس، وأمر ملك من الملائكة عونًا من أعوانه أن يذهب إلى هذه المدينة ليستقصي أمرها، ويرفع إليه تقريرًا عنها، فإن كان الفساد أغلب عليها من الصلاح دمرها تدميرًا، وإن كان الصلاح أدنى إليها من الفساد خلى بينها وبين البقاء.

وقد ذهب هذا العون إلى المدينة فاختبر أمرها كله، فكان يسخط أحيانًا حتى يرى فيما بينه وبين نفسه أن هذه المدينة يجب أن تُمحَق محقًا، وكان يرضى أحيانًا أخرى فيرى أن هذه المدينة يجب أن تستمتع بالبقاء، وواضح جدًّا أن مدينة برسيبوليس هي في أكبر الظن باريس، فأكثر محاسنها هي الخصال التي كانت باريس تمتاز بها، بل التي كانت فرنسا كلها تمتاز بها في عصر ڤولتير، وقد عرض علينا ڤولتير فيما عرض من شئون هذه المدينة، شئون السيدات الحسان اللاتي كن يستقبلن في دورهن، ويذهبن إلى الملاهي والمسارح، ويختلفن إلى المعابد والحدائق والمتنزهات، ويجمعن إلى جمال الخلق وحسن الشارة والبراعة في الزينة، رقة القلب وعذوبة الحديث، ودقة الإحساس، والتسامح فيما يتصل بالسيرة والأخلاق، ويظفرن مع ذلك بسماحة الأزواج وتلطفهم وإغضائهم حين يحسن الإغضاء، وربما كان أصدق تصوير لهؤلاء النساء قول إحداهن لهذا العون، وقد أظهر الخوف والجزع حين رآها تسرف في خيانة زوجها: إني لا أحب أحدًا كما أحب زوجي، وإنه لا يحب أحدًا كما يحبني، وإني أضحي في سبيله بكل شيء إلا بخليلي، وإنه يضحي في سبيلي بكل شيء إلا بخليلته، وأظنك قد عرفت أني أشير إلى تلك القصة الرائعة التي سماها ڤولتير «الدنيا على علاتها» — Le monde comme il va — على أن هذه النماذج من المرأة الباريسية لم تُصوَّر في هذه القصة وحدها، وإنما صُوِّرت في قصة زاديج، فالبابليات اللاتي يختلفن على القصر ويحاصرن مكتب الوزير، ويتناجين ويتناغين ويتساعين بالكيد والنميمة فيما يتبادلن من زيارات، لسن في حقيقة الأمر إلا نساء الطبقة الممتازة في باريس وفي عواصم الأقاليم.

وأريد الآن أن أعود إلى أميرة بابل تلك التي تركها تجوب أقطار الأرض ساعية في أثر عاشقها ذاك الجميل، فقد صورت بعض شخصيتها ولم أصور بعضها الآخر؛ لأني كنت أتحدث عن هذه القصة أثناء العرض العام لمذهب ڤولتير في القصص، وأحب الآن أن أصور لك هذه الفتاة كما عرضها علينا ڤولتير، فهي محبة صادقة الحب، جريئة بعيدة الجراءة، مغامرة شديدة المغامرة، تشبه في ذلك الآنسة سانت إيف في قصة البريء، ولكنها أميرة سيئول إليها ملك عظيم هو ملك بابل، فقد نُشِّئَتْ إذن كما يُنشَّأ الأميرات، فيها إترافهن وما يستتبعه الإتراف من الرقة واللين، ومن الضعف والفتور، ولكن فيها مع ذلك طموح ساذج إلى إرضاء هذا الحب الذي ألقاه الفتى في قلبها، وهي تريد أن ترضي هذا الحب لأنها تعودت أن ترضي كل حاجاتها، وأن تبلغ كل ما تريد، ولكنها على ذلك مترددة ما دامت في ظل أبيها الملك، وما دامت خاضعة لنظم القصر وتقاليده، فكل خصالها كامنة في قلبها كما تكمن النار في العود أو كما يكمن الرحيق في العنقود، فيما يقول ابن الرومي، فإذا أذن لها الملك في الحج إلى معبد البصرة، وإذا خرجت من المدينة ومعها طائرها ظهرت هذه الخصال كلها، وإذا الفتاة محبة لا تعرف إلا الحب، عاشقة لا تعرف إلا العشق، مفتونة لا تفكر إلا في صاحبها، وفي أن من حقها ومن الحق عليها أن تراه، ولكن الظروف لا تواتيها، وإنما تخلق لها مشكلة يسيرة غريبة في وقت واحد، وهذه المشكلة هي التي ستدور عليها القصة كلها.

فقد انصرف الملوك من بابل مغضبين، فأما فرعون وملك الهند فقد تحالفا، وتم الاتفاق بينهما على أن يعودا إلى بابل غازيين كلاهما يقود جيشًا قوامه ثلاثمائة ألف من الجند، حتى إذا تم لهما النصر اقترعا أيهما يظفر بالأميرة، وأما ملك السيتيين فقد اختطف ابنة عم الأميرة ومضى بها تحت الليل إلى مملكته فاتخذها لنفسه زوجًا، وأزمع أن يعود إلى بابل غازيًا ليرد إلى زوجه عرش بابل الذي غُصِبَ منها غصبًا، وكذلك أراد ملك بابل أن يزوج ابنته الأميرة فورموزنت، فجر على نفسه وعلى ملكه شرًّا مستطيرًا، وقد مضت الأميرة فورموزنت مع طائرها، ونزلت في طريقها إلى البصرة بفندق من الفنادق، وإذا فرعون قد نزل في هذا الفندق نفسه، وإذا هو يتعجل الفوز وينتهز الفرصة ويدخل على الأميرة في غرفتها، فيعلن إليها في صلف وغلظة أنها قد أهانته في قصر أبيها، وأنه قد ظفر بها الآن فسينزلها على حكمه وسيكرهها على أن تشهد معه مائدة الغداء، وهنا تظهر مهارة الأمير وسعة حيلتها، فتظهر لفرعون أنها لم تحب أحدًا غيره، وأن الحياء والخوف هما اللذان منعاها من إظهار حبها، وأنها حين تقبل دعوة الملك إلى الغداء لا تنزل على حكمه وإنما تنزل على حكم الحب الذي ملأ قلبها فتونًا، وهي بهذا الحديث قد فتنت فرعون وأنزلته هو على حكمها، وقد اتفقت معه على الغداء ورغبت إليه في أن يمنحها ساعة أو ساعتين لتصلح من شأنها استعدادًا لهذه السعادة، ولم تكد تخلو إلى نفسها حتى دعت وصيفتها وطبيبها وتقدمت إليهما في أن يسقيا الملك وأعوانه وجنده إذا كان الغداء من نبيذ شيراز على أن يدسا في هذا النبيذ مخدرًا يدعو إلى النوم فلا يرد النومُ له دعاءً، ولم يكد القوم يمضون في غدائهم وفرعون يداعب الأميرة حتى كانوا قد شربوا فأسرفوا في الشراب، وحتى كان نبيذ شيراز قد أغرقهم وأغرق الجند معهم في نوم عميق، هنالك انسلت الفتاة وحاشيتها، ولكنها لم تمضِ إلى البصرة لتنفذ أمر أبيها، فقد نسيت أباها وأمره والبصرة، وإنما مضت إلى أقصى الهند لتلتمس عشيقها أمازان، وقد بلغت أقصى الهند، ولكنها لم تلقَ الفتى وإنما لقيت أمه محزونة بائسة، وعرفت منها أن طائرًا ماكرًا قد شهد غداءها مع فرعون وأنبأ به الأمير فرآه خيانة بغضت إليه الحياة، فأزمع أن يطوف في أقطار الأرض، يلتمس العزاء عن حب هذه الخائنة، وشرط على نفسه أن يكون وفيًّا لهذه الخائنة إلى آخر الدهر، وكذلك نشأت العقدة، فالفتاة بريئة أمام نفسها وأمام الحق، ولكنها خائنة في رأي حبيبها، وهي تريد أن تطلبه حيثما كان لتظهره على براءتها من هذه الخيانة، ولتستأنف معه هذا الحب السعيد، وقد تبعته إلى الصين فعرفت أنه أقام في قصر الملك أيامًا، وكاد يطيل الإقامة لولا أن أميرة من أهل القصر فُتِنت به وراودته عن نفسه، فأبى عليها وفر منها وترك لها كتابًا رقيقًا يعتذر فيه من هذه الغلظة؛ لأنه يحب أميرة بابل، وقد أقسم أن يظل وفيًّا لها إلى آخر الدهر، فلا تكاد الأميرة تقرأ هذا الكتاب حتى يجن جنونها، وحتى تلاحق حبيبها في كل مكان، وهي لا تصل إلى مدينة إلا عرفت أن الفتى قد تركها رافضًا حبًّا يُعرَض عليه، حتى طوفت في أثره أوروبا كلها وكادت تلحقه في إنجلترا، ولكنه عاد في الوقت الذي كانت تعبر فيه البحر من هولندا إلى بلاد الإنجليز.

على أنها أدركته آخر الأمر في باريس، ولكنها أدركته على شر حال، فهذا الفتى المتيم الذي قاوم الأميرات في جميع قصور الأرض لم يستطع أن يقاوم باريسية، وأي باريسية؟ ممثلة من ممثلات الأوبرا. رأى تمثيلها وسمع غناءها وأحب أن يقدم إليها، فلما عرفها وقع في الشَّرَك، وتأتي أميرة بابل فترى هذا الفتى وهذه الممثلة على شر حال، وقد ضاعت الآمال، وانهارت قصور الأماني، واشتعلت الغيرة حتى حرقت قلب الفتاة وعقلها تحريقًا، فهي تهجر باريس مصممة ألا ترى هذا الخائن، وهي تذكر أباها الآن وتذكر أنها خالفت عن أمره، وتريد أن تعود إليه وتعتذر وتتوب وتثوب إلى الطاعة والخضوع، وتتعزى عن هذا الحب الذي جابت من أجله الدنيا كلها ثم آبت منه بالخيبة والحرمان، والفتى في أثرها يطلبها بعد أن كانت تطلبه، ويلاحقها بعد أن كانت تلاحقه، وقد أدركها آخر الأمر في إسبانيا وأنقذها من محكمة التفتيش، فكفر بذلك عن خطيئته وعادا معًا إلى بابل، وكان الزواج وارتقى إلى العرش في خطوب لست في حاجة إلى تفصيلها، وبمقدار ما ترى عند هذه الفتاة من الإقدام والعزم ومن الجراءة والمغامرة ترى عند أميرة أخرى مصرية ما يناقض كل هذه الخصال، بحيث لا تشبه إحدى الأميرتين صاحبتها إلا في شيء واحد هو هذا الحب الملحُّ الذي يضطر صاحبته إلى الصبر والوفاء واحتمال الخطوب، ولكن الأميرة المصرية صابرة وفية، لا تصنع شيئًا وإنما تتلقى ما يُصَبُّ عليها من المحن في سبيل هذا الحب، وأنت تستطيع أن ترى صبر هذه الأميرة وشجاعتها السلبية وتعرضها للموت في قصة الثور الأبيض.

وأعتقد أني قد عرضت عليك من نماذج المرأة عند ڤولتير ألوانًا تعطيك منها صورًا واضحة دقيقة، وأنا لم أعرض عليك مع ذلك نماذج أخرى أهملتها عن عمد لأنها تشبه هذه النماذج التي عرضتها من قريب أو بعيد.

وهناك أسئلة يمكن أن تخطر للذين يقرءون قصص ڤولتير وللذين يقرءون هذا الحديث؛ فهل بين هذه النماذج كلها وبين السيدات اللاتي اتصل بهن ڤولتير اتصال حب أو اتصال مجون من علاقة بحيث يمكن أن نستدل بهذا النموذج أو ذاك على هذه السيدة أو تلك من صواحبات ڤولتير؟ وهل هناك صلة بين هذه النماذج وبين السيدات الكثيرات اللاتي عرفهن ڤولتير في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا بحيث يستطيع الباحث أن يقول: إن ڤولتير قد صور هذه السيدة أو تلك من السيدات الممتازات اللاتي عرفهن في حياته المضطربة الطويلة؟ وهل بين ألوان الحب التي عرضها ڤولتير في قصصه هذه ما يشبه من قريب أو بعيد حب ڤولتير حين كان يحب، وهيام ڤولتير حين كان يهيم، واضطراب ڤولتير بين اليأس والرجاء حين كان يضطرب في الحب بين اليأس والرجاء؟

أسئلة لا أستطيع أن أجيب عنها، ولا أريد أن أجيب عنها؛ لأني لست إخصائيًّا في أدب ڤولتير، بل لست إخصائيًّا في الأدب الفرنسي، ولأني لم أرد أن أقدم إليك بحثًا في التاريخ الأدبي وإنما أردت أن أقدم إليك حديثًا من هذه الأحاديث التي تدعو إلى التفكير وترغب في القراءة، وإذا كنت قد وُفِّقت في هذا الحديث إلى أن أرغبك في قراءة هذا القصص الرائع الذي تركه لنا ڤولتير، وفي تعمق البحث عن صور المرأة في هذا القصص فأنا راضٍ كل الرضا إلا عن شيئين اثنين؛ أحدهما أني لم أحسن البحث والاستقصاء، والثاني أني كنت أريد الإيجاز فاضطررت إلى الإطالة فأثقلت بذلك على القارئ وعلى المجلة، وشجعت بذلك الكتاب على أن يرسلوا إلينا فصولًا طوالًا كهذا الفصل الطويل، وأي بأس على الكتاب إذا ذهبوا في الثرثرة مذهب رئيس التحرير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤