بتروكلوس

إن يكن قد أصاب الطرواديين قَرحٌ فقد أصاب الهيلانيين قَرحٌ مثله.

ذلك أنه ما كاد يغادر نبتيوما حومة الوغى، صادعًا بأمر الإله الأكبر، حتى أفاق الطرواديون وأحلافهم، كما أفاق الهيلانيون من قبل حين غادر الحومة مارس وزبانيتُه.

أفاق الطرواديون إذن، وصحا زيوس من رُقْية حيرا، فأقسم إلا أن تدور الدائرة على جنودها من شانئي أخيل؛ وإلا أن يحيق بهم مكرُ هذا السحر الذي ملأ جفنَيه، وغلَّق سمعيه، وأطلق أيديَهم في أبناء طروادة يضربون منهم كلَّ عنق كريم وكلَّ بنان!

وما هي إلا أن لَمَّ الطرواديون شعثَهم، ورتقوا فَتْقَهم حتى استطاعوا أن يُعيدوا الزحف، ويأخذوا أعداءهم المزهوين بنشوة النصر على غِرَّة منهم، ويطلع سيد الأولمب من ذروة جبل إيدا فيمكن لهم من أبناء هيلاس، ثم يسلط عليهم صواعقه ويفتح عليهم السماء فتمطرهم بعذاب واقع ليس له من دونه دافع، إلا أن يُثأر لابن ذيتيس، حبيبة القلب، ومنية النفس!

وفزع أوليسيز إلى رمحه،

وأجاممنون إلى سيفه،

وديوميد إلى صَعْدته،

وأجاكس إلى جُرازه.

وفزع الجنود إلى أسلحتهم يشحذونها، وإلى دروعهم يلبسونها، وإلى الجياد الصافنات يمتطون صهواتها، وإلى الواقعة فيخوضون خَبارها ويثيرون غُبارها.

ولكن … لا جدوى …!

فلقد طُورِدوا حتى بلغوا سيف البحر؛ وضُيِّق عليهم حتى نظروا إلى الهزيمة تأخذهم من هنا وهنا، ورأوا إلى هكتور كالأسد الهصور يزلزل الساحة بزئيره، ويثير في قلوب جنوده الحَميَّة بإقدامه، وأينما توجَّه كشَّر الموت في ركابه، وقطرت المنيَّة من سنان سيفه، وانقدح الشررُ من حوافر خيله، وتناثر الزبد من أشداقها، فيكون سُمًّا في قلوب الهيلانيين.

وطرِب الطرواديون لهذا النصر المفاجئ، وشاعت الخُيلاء في أعطافهم حين أبصروا فرأوا أوليسيز يغادر الميدان متأثرًا بجراحه، وأجاممنون يفرُّ بنفسه كأحقر الأجناد، وديوميد محمولًا إلى سفينته كمن يجود بروحه، وأجاكس العظيم يولِّي دُبُرَه غير متحرِّف لقتال، فأوقدوا مشاعلهم، وأجَّجوا نيرانهم، واعتزموا إضرامها في أساطيل الأعداء، ليكفوا طروادة شرورَهم، وليأمنوا آخر الدهر مكرَهم، وليتمَّ نصرُهم.

وهنا …؟!

انتفض بتروكلوس الكبير، صديق أخيل، وأعز الناس عليه، وجذوة الحماسة المتأججة في ضلوع الميرميدون!

لقد نظر بتروكلوس فرأى جموع الهيلانيين تنهزم إلى البحر فتُلقي بعتادها فيه، ثم يسبح منهم من يسبح إلى الأسطول الحزين الذي بدا عليه كأنه يرثي لرجاله، ويبكي على أبطاله، ثم يغرق منهم خلقٌ كثير، فيبتلعهم اليمُّ، إلى غير عود، ونظر فرأى الطرواديين وأحلافهم — وعلى رأسهم هكتور الهائل كأنه زوبعة — يأخذون أبناء هيلاس غير راحمين، ثم نظر أخيرًا فرأى إلى حملَة المشاعل والنيران يزحفون إلْبًا فيكونون غير بعيد من السفائن اليونانية، لو أعملوا منجنيقهم في قذْفها لأصبح الأمر غير الأمر، ولأتوا على آخر قوة لبني قومه، ولباءَ بنو قومه بالفشل العظيم! ولعاد الميرميدون كاسفي البال يحملون إلى هيلاس أنباءَ مصارع إخوانهم الذين تخلَّى عنهم أخيل وجنوده وهم أشد ما يكونون حاجةً إليهم، ولكن أخيل لا يرضى أن ينسى الضغينة التي بينه وبين أجاممنون حتى في هذه الساعة العصيبة، فينهض لنصرة إخوانه اليونانيين، وليدفع عنهم هذا البلاء الذي حاق بهم، وليردَّ عنهم عادية هذه الكلاب التي تنوشهم وتُمزِّق صفوفهم.

ورأى بتروكلوس أنه لا سبيل لعودة الميرميدون إلى وطنهم بفرض نجاتهم من نيران الطرواديين، يجرون أذيال الخيبة، ويُلملمون أكفان الفشل، فثارت في قلبه نخوة الجندي الباسل، واشتعلت في أضالعه نيران الغيرة من مفاخرات هكتور ومنابذاته التي يملأ بها السهل والجبل، ثم تفطَّر قلبُه أسًى وحسرةً على هذه الجموع الهيلانية التي تتدافع إلى البحر، فكأنها تفرُّ من موت إلى موت، وتنجو من حِمام إلى حِمام، فذهب من فَوره إلى أخيل، واقتحم بابه غير مستأذن، ثم قال: «أخيل!»

«فتى هيلاس وغَوْثَها في كل رَوْع!»

«يا سليل الآلهة، المترفع عن الدنايا!»

«أرأيت …؟!»

«ماذا تتحدث القرون إذا قيل إن الهيلانيين باءوا بالهزيمة فلمَ ينهض أخيل لنصرتهم؟ وماذا تحمل إلى هيلاس إذا أُبْنا غدًا غير أنباء السوء ووقائع تلك النهاية المحزنة؟ وكيف نلقى الأمهات المعولات على أبنائهن؟ وماذا نقول للوطن إذا طالبنا بصحيفة الحساب عن هذا اليوم الأسود الذي بدت بوادره، وأخيل العظيم لا يُحرك ساكنًا؟ وكيف نتقي نقمة الشعب الذي ندبنا لهذا الأمر إذا خُنَّا أمانته، وبدَّدنا ثقتَه، وحطَّمنا آماله؟ وأين تذهب الشهرة الطويلة التي أحسبنا خُدِعنا بطراوة العيش فيها والأحاديث المعسولة عنها؟»

«أخيل!»

«بل فكِّر معي إذا تمَّ النصر لهذه الذئاب الوالغة في دمائنا، هل يكون بحسبها أن تستأصل شأفة هذا الجيش المنهزم، وتحرق سفنه، ثم لا تعتزم غزو هيلاس العزيزة لتثأر لهذه السنين السود التي أذقناهم طوالها رهق الحياة وخباثة العيش؟!»

«ثم أين لوطننا قوة بعد هذه القوى المبعثرة، وأنَّى له جيش بعد هذا الجيش المُراع، ومَن لنا بأسطول يعنو له الموج، وتذل لعزته البحار؟»

«أخيل!»

«انظر إلى الميرميدون تكاد تقتلهم الحُنْقة على هذه البلادة التي أخمدت سَورة الحرب في نفوسهم، وأطفأت جذوةَ البطولة في قلوبهم، انظر إليهم يكادون يقذفون بجموعهم من سفائنك لنصرة إخوانهم، وليلقوا على هكتور درسًا في النِّزال لا ينساه آخر الحياة!»

«ما لك لا يحركك هذا اللظى يا أخيل؟! إن هذا يوم ينسى فيه أمثالك أحقادهم، ويدفنون سخائمهم، ولا يبالون ألف متعسِّف أفَّاكٍ مثل أجاممنون! إن هذا يوم هو كله للوطن من دون أيام الدهر جميعًا، فإذا أفلتت فرصتُه من أيدينا، أفلتت عزة الحياة وكرامة العيش من أيدي الهيلانيين جميعًا؛ ولن يُقال في سبب ذلك إلا أن أخيل العظيم قد تقاعس بجنوده عن نصرة الوطن، وفي سبيل إشباع شهوة الخصومة قامر بالوطن وأبناء الوطن ومستقبل الوطن!»

«إيه يا فتى هيلاس، وحامي ذمارها إذا اشتدَّ بها الكرب!»

«ما لك تصمت هكذا كأنك لا تسمع إلى ألف قرن تناديك، وتضع ثقتها فيك؟!»

«أنا زعيمٌ لك يا فتى هيلاس، إن هذه الجحافل الطروادية سترتدُّ على أعقابها فتكون للهيلانيين الكَرَّة عليهم إذا رأَوا خوذتك التي تكسف بلألائها شمسَ الضحى، وشاهدوا هذه الشعرات البيض تُزيِّن ذؤابتَها!»

«أخيل!»

«رُدَّ على أعز الناس عليك؛ فالظرف أحرج من المطل، وأقصر من هذا الصمت، والساعة مفزعة مروعة، وإخواننا في الوطن والآلهة يصرخون ويموتون!»

«أخيل!»

«إن كان يعزُّ عليك أن تحنث في عزمتك التي عزمت، فأْذَن لي ألبس خوذتك وأمتشق سيفك، وأحلُّ في دروعك السوابغ، ثم أقود الميرميدون باسمك، فأرِد عادية القوم، وأحير إخواننا الهيلانيين.»

وكان بتروكلوس يكلم أخيل وكأنما كان وحي السماء يتنزَّل على قلب البطل بلاغةً وحرارةً، وقوةَ إيمان وثباتَ يقين، ونفسًا تجيش بالحب وأقدس المنى لوطنٍ مصابٍ في أبطاله، منقوص في عزائم بنيه، يتلفَّت من خلف البحار، يرى ماذا يصنع أخيل في هذا الروع هو وجنوده الميرميدون!

وهب أخيل من جلسته الخاملة، وأخذ يدَي بتروكلوس في كلتا يديه، وطبع على جبينه المرتجف قُبلةً مهر بها صكَّ التضحية في سبيل الوطن الشقي، وقال لصديقه: «بتروكلوس! أخي! يا أعز جنودي عليَّ!

أمَّا أن أذهب أنا فأردُّ هذه الذئاب، فلا، ولكني آذن لك بكل ما أردت من قوة وعتاد ما دمت تؤثر صالح الوطن، وتحرص على حقن دماء الهيلانيين.»

بتروكلوس! لا يَدُرْ بخلدك يا صديقي الكريم أنني انتويتُ أن أغضب غضبةً لا انتهاء لها؛ ولكنني أُمِرت أن أنتظر حكم السماء بيني وبين خصمي الذي لم يتورَّع أن يهتك أمرَ السماء، فيسلبني ثمرة خلعها رمحي عليَّ، وقدمها لي جيشٌ بأسْره، هلمَّ يا بتروكلوس فالْبس دروعي، وأسبغ عليك لأْمتي وشرف خوذتي بجبينك، ولأذهب أنا فأعدُّ لك الميرميدون، وتبرهنوا لناكر الجميل أننا سبب مجده وخير جنده، وذخيرته كلما حزبه كربٌ أو ألمَّ به خَطْب.

«هلم … هلم …»

•••

وانطلق أخيل فصاح بجنوده، فهرعوا إليه في سفنه الخمسين، الراسية بمعزل من سائر الأسطول الهيلاني، وكم كان رائعًا أن يتحرك أسطول أخيل في أحرج ساعة مرَّت بهذا الجيش المغير الذي وقع فريسةً كله في قبضة الطرواديين! لقد كان أجاممنون وجنوده ينظرون إلى سفن أخيل؛ وكأنها الخلاص من الموت الذي يُلاحقهم، والمنايا التي ترقص فوق هاماتهم، وهي مع ذاك فيما خُيِّل لهم تزورُّ عنهم، وتشيح عن نجدتهم؛ لأنهم لَؤُموا مع زعيمها، وأنكروا عليه ما اعترفت به السماء أنه حقُّه خالصًا له!

أقلع أسطول أخيل! ولكنه لم يُقلع ليفرَّ من واجبه، بل أقلع نحو الشمال ليكون جنده بمأمن حين يهبطون إلى الشاطئ من كبسة الصفوف الظافرة المشغولة باستئصال شأفة الهيلانيين.

وما هي إلا ساعة حتى رسا شمال طروادة، وحتى أخذ سيل الميرميدون ينهمر على شاطئها الشاحب فيملؤه، وكأنهم كِسفٌ من العذاب أرسله نبتيون رب البحار من أعماق اليم ليقذف بها في قلوب الطرواديين!

وطفق أخيل يُجيِّشهم فجعل منهم خمسة جحافل كقطع الليل البهيم، فكان على رأس الجحفل الأول البطل الحُلاحل، والقائد المناضل، منستيوس بن سبرخيوس، ابن السماء وصاحب العزة القعساء، وعقد لواء الجحفل الثاني لابن هرمز المقدام، الفتى يودوروس الذي طالما كان جزعًا في فؤاد الردَى، ووجلًا في قلوب المنايا! ووضع على رأس الجيش الثالث القائد بيزاندر، ابن ميمالوس، صفي الآلهة وهبة الأولمب، وأقام على الجيش الرابع صديقه فونيكس الذي آثر البقاء إلى جانب أخيل حين أقبل مع أوليسيز وأجاكس يفاوضون في الصلح من قبل أجاممنون، أما الجيش الخامس فقد عُقدت رايته لابن ليرسيز، ألكميدون العظيم، أخي الغمرات وصاحب الثارات.

أما بتروكلوس! فقد أقدم يتخايل فوق عربة أخيل، يجرُّها جواداه الأشهبان: إكسانثوس وبليوس؛ أعز خيل زفيروس، وأحب دوابه إليه، ولقد كان مظهره الوقور يبعث الروع في النفوس، فهذي خوذة أخيل تتألق فوق هامته، والريح العاصف تداعب شعراتها فتجعل منها بركانًا يقذف الحُمَم، وهذي دروع أخيل سابغة فوق الصدر والفخذين والذراعين، كأنها لبدٌ نبتت فوق حيد جبل شامخ ينطح السماء برَوقيه.

وتقدَّم أخيل فصافحه، ومنحه شرف القيادة العامة، وخطَب الجنود، فقال: «إيه أيها الميرميدون، هذا يومكم!

لقد كنتم تنظرون إلى الساحة وبكم من الظمأ إلى اقتحامها ما لو أن بعضه بكم الآن لزلزلتم الجبال وخرقتم الأرض؛ ولقد كنتم تعذلونني فتقسون عليَّ في أني احتجزتكم هنا، ووقفت في سبيلكم دون نصرة إخوانكم، فها هو الميدان أمامكم فاشفوا صدروكم، وأنقذوا أجاممنون مما حاق به، ولا يجرمنكم شنآنه ألا تغيثوه، أغيثوه فنصرُه عزٌّ لكم؛ شَدَّ الإله أزرَكم، وباركت الأرباب أسيافكم، وأحيت مجد الوطن بما أنتم قادمون عليه؛ سيروا على بركة زيوس، وفي حمى حيرا، وعين مينرفا تكلؤكم.»

وانطلق الميرميدون فانطوت الأرض من تحتهم، ورجف الوادي رجفةً أجفل منها السهل والجبل؛ إذ كانوا ينسابون فلا يربعون على شيء، ويتدفَّقون فما تحجزهم لابة،١ ولا يعوقهم جُرف، وتسجد من دونهم حُزون الأرض وآكامها.
وانتظم خميسهم؛٢ فبرز القلب تتبعه الميمنة، تلقاءها الميسرة، وهرول الجناحان فأخذا السبيل على جحافل الطرواديين.

ونُفخ في البوق فانقضَّ الميرميدون على مؤخرة الأعداء الظافرين، فبدَّلوا نشوة ظفرهم بأنكر سكرة الموت، وانطفأ في أبصارهم بريقُ النصر فكان أغطشَ من ظلام الهزيمة؛ ونظروا فرأوا تلك الخوذة المذهَّبة التي طال عهدُهم بها، وحسِبوا أنهم أصبحوا بنجوة منها، خوذة أخيل التي كانت تكفي وحدها لإلقاء الرعب في قلوب الطرواديين، وقذف الوجل في نفس كل مُنازل أو مُناجز.

وتصايح بعضُهم ببعض: «يا للهول يا صاح! لقد أقبل أخيل! النجاء والنجاء! أين كان الطاغية …؟» ثم تنادوا يُحذِّر بعضهم بعضًا: «أيها الطرواديون! خذوا حِذركم! الفرار الفرار من الداهية الجبار! لقد قطع الميرميدون رجعتنا! دعوا الهيلانيين وانشدوا خلاصكم، إلى البوابة العظمى! أيها المقاتلون! لا تزحموا الجسر! القهقرى القهقرى …!» إلى آخر هذه النداءات المنزعجة الواجفة …

ولكن أين يهرب الطرواديون من بتروكلوس؟!

لقد كان إكسانثوس وبليوس — الجوادان الكريمان — زوبعتَين مُغْضبتين، تثيران الرَّهَج وتعقدان العجاجة، في جميع أنحاء الميدان؛ في القلب، في الميسرة، في الميمنة، في الجناح الأيسر، في الجناح الأيمن … بل … في السماء!

وكانت الشمس — شمس طروادة الملتهبة — تعكس أضواءها على خوذة أخيل، فتُذيب أفئدة الطرواديين!

واختلط نظام القوم، وتدافعت جموعُهم مذعورةً مولِّيَة نحو الجسر الكبير الذي نصبوه فوق الخندق حول إليوم، ولم يحتملْهم، فهوى بالألوف المؤلَّفة في جوف الخندق؛ ولكن المؤخرة، وكانت غالبيةَ الجيش، لم تنتبه لما حلَّ بأكثر المقدمة، وكذلك تدافعت لا تَلوي على شيء، فجعلت من جثث الموتى قنطرةً تَعبُر فوقها إلى طروادة!

وأخذ الميرميدون السبيلَ على كتائب كثيفة فأبادوها، ثم جال بتروكلوس جولةً هنا وجولة هناك يبحث عن أصحاب النداءات المنكرة التي كانت تملأ الساحة شماتةً بالهيلانيين منذ لحظات، فلقيَ منهم برنوس فصرعه، ثم ثستور فجَندله، ثم إريالوس فأرسل به إلى الجحيم، وعشرات غيرهم من بني طروادة النُّجُب.

وكانت أعزَّ أمانيه أن يلقَى هكتور؛ فسعى إليه وضيَّق الحصار عليه، وأرسل إليه طعنةً لو أصابت جانب الجبل لصدعته، ولكن، يا لهكتور! لقد ريع من هول ما رأى من مقاحمة بتروكلوس، فأَلهب جيادَه الضاريات فعدَت به وأنقذتْه من قتلة محققة وموت مبين.

ولشدَّ ما شُده بتروكلوس؛ إذ رأى إلى جانبه فتى هيلاس ومحاربها الصنديد أجاكس يقود فلولَ الهيلانيين، ويقتحم بهم الحلبة كَرَّةً أخرى، غيرَ مبالٍ بجروحه التي يتدفَّق من أفواهها الدمُ صبَبًا.

وكم كان سرور الهيلانيين عظيمًا حين استيقظوا من سكرة هزيمتهم فرأوا جنود أخيل يذودون عنهم، ويردُّون عادية الموت والقتل والغرق عن جموعهم!

ونشبت ملاحاة بين بتروكلوس — قائد الميرميدون — وساربيدون٣ — البطل الطروادي الكبير — أدَّت إلى مبارزة دامية، وانتهت إلى فجيعة طروادة في أشجع فتيانها بعد هكتور؛ إذ شكَّه بتروكلوس شكَّةً جرَّعتْه غصةَ الرَّدى، وأوردتْه موارد الحِمام!

وانكشفت غمةُ الهيلانيين.

ولكن الميرميدون هم الذين دفعوا ثمن هذا النصر، ودفعوه غاليًا وعزيزًا، يا للهول!

لقد قُتِل بتروكلوس!

فمَن لك بعده يا أخيل؟!

١  أرض لابة، أي كثيرة الحجارة والنؤى.
٢  أطلق العرب الخميس على الجيش الكبير؛ لأنه يتكون من خمس فرق: الميمنة والميسرة والجناحان والقلب. فهل كانوا يأخذون هذا النظام عن الإغريق؟
٣  نأسف أشد الأسف لعدم اتساع هذه الصور لإيراد ملاحاة ساربيدون؛ وهي من أروع صور الإلياذة (الكتاب السادس عشر).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤