فزع الآلهة

قلق زيوس من اعتزام أخيل اقتحام الحرب.

وكيف لا يقلق سيد الأولمب وكل من الفريقين يصلي له، ويطلب منه العون، ويتوسل إليه أن يُظفره بعدوه، فتنجلي هذه الغاشية التي صرعت الرجال، وضرجت أديم الثرى بدماء الأبطال!

ودعا إليه أربابه فعقد منهم مجلسًا للمشورة؛ فانتظم ديوان الأولمب، وحفلت بهم ذروة جبل إيدا، وطَفِق الإله الأكبر يُقلِّب الرأي على جميع وجوهه، ويبحث المسألة من شتى أطرافها، والأرباب فيما بين ذلك يحملق بعضهم في وجوه بعض، وتضطرم في أفئدتهم نيران العداوة والبغضاء؛ لأنهم كانوا جميعًا وقلوبهم شتى! فهذا فريق منهم يعطف على طروادة، ويشيد بذكر طروادة، بل منهم من اشترك في بناء طروادة، وإقام أسوارها وتمكين صياصيها؛ والطرواديون من أجل هذا قد أخلصوا العبادة لهؤلاء فأقاموا لهم الهياكل المشيدة والمعابد المنيفة، وهم في طويل الأحقاب والآباد ما يفترون عن عبادتهم والإخبات لهم، وتقديم القرابين والضحايا بأسمائهم.

وفريق آخر من الآلهة يعتبر الشعب الهيلاني شعْبه المخلص؛ فهو لذلك يحدب عليه ويرجو الخير له، وهو أبدًا يستأذن سيد الأولمب فيحارب في صفوفهم ويشد أزرهم، ثم الهيلانيون يخلصون العبادة لهذا الفريق وهم أبدًا يتعلقون بهم ويقيمون المعابد لهم في كل حَنِيَّة من جبالهم وبكل منعرج من شعابهم، ومنهم كل مثَّال صناع اليد، مرهف الحِسِّ، رفيع الذوق؛ وهم لذلك ملئوا المعابد والهياكل بتماثيل الآلهة حتى ما تقع العين على أجمل منها!

وفريق ثالث لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينقم على هذه الحرب الشعواء التي سُعِّرت لغير ما سبب يستأهل كل تلك الضحايا ويستحلُّ كل هذه المُهَج؛ وهذا الفريق يحنق على طروادة ويحنق على هيلاس على السواء، ويود لو يأذن سيد الأولمب فيزلزل بهما الأرض، أو يرسل عليهما كِسَفًا من السماء، فلا يُبقي على أحد منهم أبدًا!

واتفق الآلهة على أن يذهب فريق منهم فيكون في صفوف الطرواديين يُرشدهم، ويدفع عنه عادية أخيل، ثم يذهب فريقٌ آخر فيكون في صفوف الهيلانيين يَفَلُّ من نشاطهم، ويكسر من سَورتهم حتى تكون الحرب بين الجمعين سِجالًا؛ وإلى أن يرى الآلهة في شئون خلقهم رأيًا آخر.

وانطلقت حيرا مليكة الأولمب ومينرفا ربة الحكمة، ثم هرمز رسول الآلهة وقائد الأرواح إلى هيدز، وفلكان الحداد إله النيران، الذي فضحه مارس في زوجه، ونبتيون رب البحار العتيد الذي روَّع الطرواديين في هذه الحرب أيما ترويع.

انطلق هؤلاء فكانوا في صفوف الهيلانيين.

وانطلقت فينوس إلى صفوف الطرواديين، وراح في أثرها أبوللو وأمه لاتونا وديان ومارس وإكسانثوس وفئة غير هؤلاء من عشاق فينوس.

وانبثَّ الآلهة ينفخون في أبواق الحرب.

وصاح أخيل في شياطين الميرميدون صيحةً مدوِّية. زادتْها مينرفا قوةً فما تركت فؤادًا إلا زلزلته، وما غادرت نفسًا إلا تركتها تزحف من خوف وفزع.

وكان أبوللو ينظر إلى أخيل فيتميَّز من الغيظ، ويود لو يبطش به في غَدْرة من غدراته التي أودت ببيتروكلوس من قبل، ولكنه أحسَّ بفرائصه ترتعدُ، وفَقاره يندكُّ من الرعب لما رأى حول أخيل من هذه الأرباب المتعطشة للدماء، لا سيما هذا الإله الوحش نبتيون الذي كان يُرسل من عينيه بركانين من الغضب يضطرمان اضطرامًا.

وآثر أبوللو أن يستخفيَ في زِيِّ ليكاون بن بريام وصورته، وأن يذهب من فوره إلى إينياس العظيم مستشار طروادة وأبسل شجعانها بعد هكتور، فيُثيره على أخيل ويلهب فيه نخوة الجاهلية التي سداها التفاخر بالأنساب، ولُحْمتها التباهل بالأحساب، والتبجُّح بأنا ابن من سمك السماء، ودحا الأرض وأنبت فيها من كل زوج بهيج!

واستطاع أبوللو أن يُهوِّن على إينياس من شأن أخيل، وأن يُحقِّر في ناظرَيه خَطْبَه، واستطاع ببيانه الموسيقي وطلاقته السحرية أن يدفعَه إلى ناحية أخيل الذي وقف مكانه يقذف الرعبَ في قلوب الطرواديين وأحلافهم، باحثًا عن غريمه البغيض هكتور بن بريام؛ يودُّ لو يُخلِّي بينه وبينه فيبطش به، ويشفي هذا اللظى الذي يتأجَّج في جوانحه، لقتله أعزَّ أصدقائه وأحبَّ الناس إليه.

ووقف إينياس تلقاء أخيل، فتبسم زعيم الميرميدون، ووعظ المحارب أن ينثنيَ فلا يلقى حتفه، وذكَّره بما حدث بينهما قديمًا، حين ساق أخيل قُطعان إينياس السائمة في سَفْح جبل إيدا؛ وما كان من فرار إينياس، هذا الفرار المضحك الذي أشمت به الأعداء، وأثار عليه سخرية الأصدقاء والأوِدَّاء!

ولكن إينياس الذي كان لا يزال مأخوذًا بسحر أبوللو وموسيقاه أبى واستكبر، وهزَّ أعطافه ثم أخذتْه العزة بالإثم، وانطلق يقذف في وجه أخيل بهذا التفاخر الذميم الذي لا يُجدي في حلبة الحرب نفعًا، ولا يجرُّ على صاحبه مغنمًا، يوم لا حكم إلا للمرهف البتَّار، ولا قول إلا ما يقول الفيلق الجرار.

والْتحَم المحاربان العظيمان!

وارتطم الصخر بالصخر، وثار النقع في الميدان، وأظلم حتى قد تهاوت كواكبه، ونظر الجمعان نظرة القلق الحيران، وأخذ الذهول يضرب أطنابه على الساحة الحمراء، ونظروا فرأوا إينياس يستجمع كلَّ قوته، ويقذف برُمحِه العظيم فتردُّه درع فلكان، وإن تكن الطعنة قد شقت منها طبقتين، ثم فترت، فلم تَصِلْ إلى فؤاد أخيل.

وهنا!

اشتعلت نيران الدنيا في عينَي زعيم الميرميدون، وذاب في أعصابه حميمٌ من الغضب، وأرسل بدوره رمحَه الهائل يرن على درع إينياس فلا يصيبه بأذًى، ولكنه؛ لعِظم الطعنة يصرعه ويطرحه فوق أديم الثرى فريسةً رخيصة لغوائل الردى، وضربات الرقاق البيض.

وينحني أخيل من عربته الفخمة فيتناول حجرًا عظيمًا تنوء به العصبة من صناديد الرجال، ثم يرفع الحجر ليَقُدَّ به جمجمةَ إينياس.

ولكن …!

لا! ينبغي ألا يقتل إينياس؛ لأنه ابن زيوس سيد الأولمب.

وهو لو قُتِل لم يَرضَ به أبوه ألف ألف أخيل، وألف ألف جيش من ميرميدون أخيل …!

هكذا قدَّر نبتيون! وقُتل نبتيون كيف قدَّر!

لقد أرسلها إلى حيرا، مليكة الأولمب التي كانت قريبةً تشهد الحدث الأعظم، قولةً غير صادقة إلا في زعم نبتيون!

وعارضت حيرا في تدخُّل نبتيون، ولكنه؛ لشدة حبِّه أخيل لم يسعْه إلا أن يُسرع إليه فينشر أمام ناظرَيه ضبابةً كثيفة حجبت عنهما هدف إينياس، ثم انكفأ يحمله بعيدًا من أخيل، حتى انتهى إلى صفوف الطرواديين الخلفية، فسجاه على العشب الأخضر، وأخذ في نُصحه ألا يجازف بنفسه أمام أخيل كرَّةً أخرى!

وكان الجمعان ينظران إلى إينياس محمولًا في الهواء، فيأخذ العجب منهما كلَّ مأخذ!

•••

وامَّحت الضبابة، وبطل السحر، ونظر أخيل فلم يعثر لإيناس على أثَر، وشَدَهَهُ أن ينجوَ خصْمُه من قتلة محققة، فيُلقى في رُوعه أن إيناس سليل الآلهة كما ادعى منذ لحظة؛ ثم يَشدَهُه أكثر تجابُن الميرميدون والهيلانيين على السواء، بعد إذ رأوا إلى إينياس محمولًا في الهواء!

ويحضُّهم أخيل على خوض المعمعة، ويستطيع بحماسته أن يُلهب في صدورهم روح الإقدام …

ويكون هكتور في هذه اللحظة قائمًا في جنوده يحضُّهم هو الآخر ويُطمئنهم أن الآلهة معهم فلا يخافون ولا يحزنون، ويراه أخيل فيخفق قلبُه ويعلو صدرُه ويهبط كأنه الخِضَمُّ الغاضب، ويدفع عربتَه نحوه، فتندفع الخيل وكأن النيران تندلع من عيونها وأنوفها.

وكان أبوللو إلى جانب هكتور، فلم يرضَ له أن يلقى أخيل الذي ما خاض المعمعة إلا ليثأر لصديقه بتروكلوس.

وكاد هكتور لا يأبَهُ لكلام أبوللو، وتقدَّم فعلًا ليلقَى أخيل، ولكن الإله الكبير زجره زجرًا شديدًا، ثم أمره بالتقهقر في الحال، فانسحب بطل طروادة، وترك أخيل يَحرِقُ الأُرَّمَ مكانه؛ إذ أفلته هذا الصيد الثمين!

وانقضَّ أخيل يشفي غيظَه بقتل عشرات وعشرات من أبطال طروادة، فصرع إيفتيون العظيم ابن عذراء البحر، ثم ثنَّى بالكَمِيِّ الكبير ديموليون فشجَّ رأسه، فانبثق الدمُ يتفجَّر منه وبرز المخ، وذهبت روحه إلى هيدز! ثم ثلَّث ببطل الأبطال هيوداماس، شكَّه شكَّةً فتركه يخور كخوار الثور، مسوقًا إلى مذبح الآلهة، ثم انقضَّ على بوليدور بن بريام ملك طروادة فطعنه في ظهره طعنةً صرعتْه ونشرت ظلام الموت في عينيه، فهوى إلى الأرض يئنُّ أنينًا مؤلمًا أبكى الجند، وأحزن أخيل نفسه.

لقد كان بوليدور أحب صغار بريام إليه، وكان يجري فيُسابق الريح وينازل القروم الصيد فيصرعهم عشرات ووحدانًا، فيا حزن أبيه الملك عليه بعد اليوم!

وكأن ظلام الموت الذي خيَّم على عيني بوليدور امتدَّ حتى ظلَّل عيني هكتور! ولم تكن الحياة رخيصةً في نظر بطل طروادة مثلها اليوم، فقد فجعه أخيل في بوليدور، فلا بد أن يفجع ذيتيس وبليوس والدَي أخيل، في أخيل نفسه.

وألهب جيادَه فاندفعت بعربته ناحية أخيل.

واستبشر زعيم الميرميدون حين رأى هكتور يُسرع ناحيته قُدُمًا، وذكر أنه قاتِل بتروكلوس فدارت به الأرض، وذكر أن بتروكلوس ينتظر ثأرَه ميتًا، ولا بد أن يعود أخيل إليه به، فتقدَّم نحو هكتور وقال له: «هلمَّ يا ابن بريام فتعجَّل قتلتك، وودِّع الحياة الحلوة التي لن تهنأ بها بعد اليوم!» وتجهَّم هكتور، وكلَّم أخيل فاعترف أنه أقوى منه وأطول في مواقف الحرب باعًا، ولكنه حذَّره من الغرور؛ «ومن يدري؟! هل أوحَتْ إليك السماء أن تقتل هكتور؟ وهل أخذتَ على المقادير عهدًا ألا يصرعَك هكتور؟!» ثم انقضَّ ابن بريام فأرسل حربتَه الظامئة إلى صدر أخيل، ولولا أن مينرفا كانت جانبه تحرسه، ولولا أنها زحزحته قليلًا فتفادته الطعنة، لكان أخيل حديثًا من الأحاديث!

وبهت أخيل، ثم صاح صيحةً رجف لها جانب الجبل، وجاوبتها أسوار طروادة، ورددت أصداءها أجواز السماء؛ وانقضَّ على هكتور يودُّ لو يقتلعه من عربته فيضرب به الأرض، وتذهب روحُه بعدها إلى الجحيم! وكان أبوللو إلى جانب هكتور هذه المرة كما كان إلى جانبه دائمًا؛ وراع الإله الأكبر أن يهجم أخيل تلك الهجمة الي يعجز عن مثلها مارس الجبار نفسه.

وذهل أبوللو ماذا يصنع ليقيَ بطله من رُمح أخيل؟!

ثم ذكر ما صنعه نبتيون من أجل إينياس، فنشر ضبابةً كثيفة أمام عينَي أخيل، وتقدَّم إلى هكتور فحمله وذهب به إلى حيث يكون بنجوة من مصير محزن كان يوشك أن ينتهيَ إليه.

وظلَّ أخيل يطعن الضبابة، مشدوهَ اللُّبِّ حيران!

طعنها مرةً ثم مرةً ثانية ثم ثالثة، ثم ما كاد يطعنها الرابعة حتى أمحت وبطل السحر، وانكشف له الميدان يضجُّ بالجند ويعجُّ بعُدَّة الحرب، ولكنه مع ذاك وغير ذاك … خلو من هكتور!

«جميل يا هكتور! صل للإله الذي أنقذك اليوم مني! صل لربك أبوللو! لقد أنجاك من قتلة بينة وموتة محققة … صل له هكتور! ولكن ثقْ أننا سنلتقي بعدها، ولا أدري هل ينقذك إلهك عندها؟!

إن لي أربابي التي تحميني والتي إن فوجئت بغادر مثلك فهي تنجيني، سنلتقي يا هكتور، فصل الآن لأبوللو.»

•••

وثار أخيل فكان زوبعةً!

وطفق يصرع أبطال طروادة، فطعن دريوبس طعنةً اخترمت حياته، ثم جندل ديماخوس وأسرعت روحه إلى أمواج ستيكس المنصهرة، وتقدَّم فأطاح رأس دردانوس العتيد، وجال جولةً هنا وجولة هناك فكانت المنايا تتعثر أنَّى ذهب وأيان سار، فهذا تروس البطل مُلقًى على الأرض، والدم ينبثق من كبده، وموليوس الصنديد زائغ العينين يتوجع مما ألمَّ به، وإخكلوس ابن أجينور تساقط نفسه حشاشات، ثم ديكاليون الذي دوَّخ الجيوش وروَّع الأبطال، وبثَّ اليُتم في كل دار، ها هو ذا فوق الثرى جسدًا مُثخنًا وجثمانًا يتدفَّق الدم من جراحه، نهاية حمراء لحياة حمراء كلها حرب وتقتيل!

ورجموس!

رجموس بن بريوس! الذي شدَّ رحله من تراقية لينصر الطرواديين على بني وطنه، قائدًا جموعَه التي لا حصر لها؛ مؤلِّبًا القبائل والأفخاذ على الأرض التي أنجبتْه والآلهة التي نشأته، لماذا؟ لا سبب معقول!

ولكنه طيش الملك وغروره وكبرياؤه، ولأن الهيلانيين لم يختاروه قائدًا لهم في هذه الحرب الزَّبون!

لقد امتشق أخيل سيفَه، وأصلته على رأس رجموس، ثم أهوى به، فخرَّ الخائن يتشحط في دمه، وانتهت بموته حياة ذميمة.

وزُلزل قلب أريثوذ، حارس رجموس وسائسِه، فودَّ لو فرَّ بعربة سيده لولا أن عاجلَه أخيل بضربة قدَّت أضالعه، وذهبت بروحه إلى حيث ذهبت روحُ مولاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤