إلى أسبرطة

– «سمعتَ يا أبي قصة أختك المعذبة «هسيونيه»، إذ أنا أرعى الشاء والبُهم فكان قلبي يتفطر أسًى؛ كيف يسكت شعب عظيم كشعب طروادة على إهانة تصيبه في الصميم من شرفه وعار ليس أيسر من دفعه، لكنه يُغضى عليه ويُنام عنه كأن العزة القومية عند أهل هذا البلد ليست إلا أسطورةً قديمةً أو حلمًا لا يدور لهم بخلد؟!»

– «حسبك يا باريس! حسبك يا بني! إنها محنة كُتِبت على طروادة صنعها جدُّك بيديه!»

– «جدِّي؟»

– «أجل! جدك، أبي، أبي لايوميدون هو الذي نكث بعهده لبطل الأبطال هرقل، الرجل العظيم الذي أنقذ هسيونيه من براثن هذا الوحش البحري الهائل، الوحش الذي فتك بعذارى طروادة، لقد أعلن أبي أن من يقتل هذا التنين فإنه يتزوج هسيونيه. ولما قتله هرقل العظيم …»

– «رفض والدك أن يزوجها منه!»

– «هو ذاك!»

– «لم أسمع بهذا من قبل، ولكن كيف سمحتم لهرقل وملئه أن يستبيحوا طروادة ويذهبوا ببعض الأعزاء من أفراد البيت الملكي؟»

– «كنتُ طفلًا، وقد كنتُ بعضَ هذا السبي، ثم مَن الذي كان يستطيع دفع هرقل أقوى أبناء زيوس وصاحب المجازفات الخرافية! من كان يستطيع حماية طروادة منه بعد أن نكث الملكُ بوعده؟

– «أنتَ كنتَ بعض السبي؟ أنت يا أبي؟»

– «أجل يا باريس! وقضيتُ في أيدي أعدائنا الشرفاء أجمل حِقبة من شبابي! لله كم كانوا كرماء حقًّا؟»

– «وكيف عدتَ إلى طروادة إذن؟»

– «مات أبي بعد حياة مفعمة بالمتاعب ولم يكن له وليُّ عهد غيري، فتوجَّه الطرواديون إلى الأعداء يطلبونني ملكًا عليهم بأي ثمن، ولكن أعداءنا كانوا أكرمَ من أن يسترقوا الملوك أو يبيعوا الأمراء، لقد أعادوني معزَّزًا مكرَّمًا إلى وطني بعد إذ أخمد خصومتَهم موتُ هرقل.

– «ولمَ لمْ تُعِدْ عمَّتي هسيونيه يا أبتاه؟»

– «لقد تزوجها تيلامون يا بُنيَّ وأحسبها الآن أيِّمًا.»

– «ذلك أدعى لعودتها؛ إنها لا شك تتعذَّب في دار غربتها، مسكينة! إن حدائق الخلد لا تُجدي نفعًا إذا كانت سجنًا لأحدنا!»

– «هذا حقٌّ يا بُنيَّ، ومثله القفص من ذهب يُحبس فيه البلبل المحزون!»

– «أنا حزين يا أبتاه، لا بد أن تعود عمتي، أفتأذن لي في الإبحار إلى هيلاس؟ إذا أذنتَ، فلن أعود إلا بها.»

•••

الآلهة لا تكذب!

هكذا قالت فينوس! وإذا كانت الآلهة لا تكذب فلن يكذب أبوللو، لا بد أن تصدق النبوءة القديمة، لا بد أن يبحر باريس إلى هيلاس ليجرَّ الخراب على طروادة وليُخيم الموت في داراتها جميعًا.

الآلهة لا تكذب!

لقد أبحر إلى أسبرطة في يوم عاصف، أسود من جبين الموت، وأبرد من بطون القبور، ولقد كان أسطوله اللَّجب يرقص على نواهي الموج كما يرقص الطائر المذبوح في قبضة الفناء.

هيلين١

ثمرة الحب الأولمبي الساحر، ابنة زيوس الغَزِل، زِير النساء؛ من ليدا الفاتنة، التي حوَّلها حبيبها كبير الآلهة وسيد أرباب الأولمب إلى بجعة بيضاء تتهادى في مرايا المستنقعات والغدران، ليسهل عليه لقاؤها دون عزول أو رقيب. ولقد وُلِدت له هذه الطفلة التي كانت كقطرة المِداد يمهر بها إعلان الحرب!

شبَّت هيلين وشبَّت في أثرها شياطينُ الفتنة؛ وكَبِرت وكثرت تحت قدميها مصارعُ العشاق.

لقد كان جمالها أسطورةً مصورةً في الحب موشاةً بذهب الأصيل، كانت نظراتُها تتغذَّى بأرواح المحبِّين في غير شَرَه وترتوي بماء حياتهم في غير نهَم، وإن كان محبُّوها يُحصون بالآلاف!

وهي لم تعمِدْ يومًا إلى قتْل هذه الأرواح المظلومة؛ ولم يكن ذنبُها كذلك أن تنظر فتُصرع، أو تنعس فتُصمي، ولكن القتل كان يذهب بأرواح عاشقيها عفوًا كلما نظرت هنا أو هناك، وذاك هو القتل البريء.

وكان لها فمٌ شَتيت حلو أودعت فيه السماء أسرارها، وصبغته عرائس٢ الفنون بحمرة القُبَل؛ فهو دائمًا يبتسم وكلُّ ابتسامة منه تُحيي وتُميت!
وخدَّاها الأسيلان كذلك، لقد كانت لهما نعومة ولمعة، و«نونةٌ»٣ خلَّابة، هي ملتقى الفتنة بين الخدِّ والفم والعين والأنف.

ثم عنقُها الطويل البلوري الشفَّاف، وجِيدها الممتلئ الخصب، وجسدها الرخص المرمري، وساقاها الملتفتان يختلط في بشرتهما بياضُ الندف بحمرة الورد.

هذه هي هيلين!

فإذا فتَّرْتَ العينين وأرخَيْت الأهداب الكحيلة السوداء ذاتَ الوطْف، وأرسلتَ نظراتِك المذهولة ترف بالخدِّ والجِيد والفم النضيد فترتدُّ إلى فؤادك بأحمال الحُب وأثقال الهوى، رأيتَ التمثال المعبود الذي خلب ألباب أمراء هيلاس وأجَّج قلوبهم بالفتنة وقرَّح أجفانهم بالسُّهاد!

•••

لم تنشأ هيلين مع ذاك في حجور الآلهة إذ تزوجت أمُّها بعد أن هجرها زيوس من تنداريوس — أحد أمراء هيلاس — فترعرعت الطفلةُ في مهاد النعمة وسعدتْ بالهناءة والعيش المخفرج حتى كانت هيلين التي رأيت!

وقد تقدَّم إلى خِطبتها كثيرٌ من سادة الإغريق ونُبلائهم، ولكنَّ أحدًا منهم لم تقبلْه هيلين بعْلًا لها، لا لعيبٍ فيهم، ولكن القلب.

أجل؛ لم يكن يتفتَّح قلبُ هيلين الأولمبية الرائعة إلا لكل جميل رائع، ولمَّا لم يكن في كل مَن تقدَّموا لخِطبتها من هو سليل الآلهة مثلها، فقد رفضتهم جميعًا، وعلَّة ذلك هذا الدم المتكبر الذي يتدفق في عروقها، وذلك الجمال المعبود الذي كان أكثرَ من أن يجري في امرأة واحدة!

وجرتِ الألسنُ في هيلين، وجمال هيلين، وعشَّاق هيلين، والساخطين على هيلين ممن جرحتْ كبرياءهم لرفضها إياهم، ولقي زوج أمها من جراء ذلك هولًا شديدًا ورهقًا.

تحدثوا أن عشَّاق هيلين — ومنهم أبطال هيلاس وشجعانها وذوو الصولة والجبروت فيها — كانوا يضربون معسكراتِهم حول بيت زوج أمها؛ يطمع كلٌّ منهم أن يفوز هو بهذه الغادة ذات المفاتن التي أذلَّت الأعناق العزيزة ورغمت بها الأنوف الإغريقية الشمَّاء.

وخشي تنداريوس أن تشبَّ الحربُ بينهم لو أن هيلين قبلت أحدَهم زوجًا لها دون الآخرين، وأُسقط في يده حين تقدم منلوس — ملك أسبرطة وسليل الآلهة أيضًا — إلى هيلين يطلب يدها، فلما أسرَّت الفتاةُ إلى زوج أمها أنها ترضى ملك أسبرطة بعلًا لها تضاعف فزعُه وازدادت خشيتُه، وأيقن أنه لو أنفذ من أمر ذلك الزواج شيئًا فإن أمراء هيلاس بأسْرهم يُصبحون له أعداء ألدَّاء وهو لا حول له بعداوة أحدهم بمفرده ولا قوة!

ولجأ تنداريوس إلى الحيلة.

لقد أقام حفلًا شائقًا دعا إليه كلَّ من تقدموا لطلب يد هيلين، وبالغ في إكرامهم والاحتفاء بهم، ثم خطبهم فتحدَّث عن فتاته وما كان من أمر خطبتهم لها وعدم التوفيق في إنجاز شيء مما أقدموا له واختلفوا فيه، «أفإن بدا لهيلين يا سادة أن تختار أحدَكم ليكون لها زوجًا من دونكم انقلبتم على أعقابكم، وثرتم بمن يقع عليه اختيارُ الفتاة، فقتلتموه أو فضحتموه في عِرضه، وجعلتم اسمَ هذا البيت الكريم مضغةً في أفواه الهيلانيين وجيرانهم؟ إنما نريد أن نتقيَ هذا الشرَّ فلا يستطير، ونتدارك الأمر فلا ندعه همجيةً بيننا، ولن أكلفكم في سبيل ذلك شططًا، يمين يا سادة صادقة تقسمونها فتكون عهد الوفاء بيننا أن ترتضوا جميعًا ما ترتضيه هيلين، وأن تكونوا يدًا على مَن يحنث ولو كان أعزَّكم جانبًا وأكثرَكم قوة، بل لنتفق جميعًا على أمر يكون أعمَّ مما أشرت إليه؛ أن نكون يدًا على مَن تُحدِّثه نفسُه بالإضرار بهيلين أو بسَبيِها؛ فقد تَحدَّث إليَّ مَن عنده علم أن بعضكم ينتوي هذه النية السوداء، ينتوي أن يسرق هيلين إذا لم يكن من حظِّه أن يقع اختيارُها عليه ليكون بعلًا لها، وأنتم السادة النجب من عِلية الإغريق وجيرة الأولمب؛ أفَتَرضَون أن يحدث في أمرٍ كلكم شاركتم فيه من قبل؟»

ويجيب المدعوون في صوت واحد: «حاشا حاشا! لنقسم جميعًا.»

وأشرقت هيلين على الملأ وكادوا يفتتنون بعد إذ أقسموا، لولا أن أرسلت الفتاة صوتها الموسيقي الرنان تختار ملك أسبرطة، الملك منلوس ليكون زوجَها الوفي الأمين!

وطأطَئوا رءوسهم، وانصرف أحدهم في إثر الآخر.

•••

رسا أسطول باريس في مرفأ ليسديمونيا٤ الأمين، وخرج الأسبرطيون وعلى رأسهم ملكُهم ومليكتهم للقاء ابن بريام العظيم، حيث شاع أنه ينزل ضيفًا كريمًا على صاحبي العرش، فيلبث أيامًا في ضيافتهما ثم يعود أدراجَه إلى طروادة مصطحبًا عمَّتَه الأيِّم هسيونيه.

وتقدَّم الملك والملكة فسلَّما على الضيف الشاب، وتحرَّك الموكب الكبير في طريقٍ حُفَّت بالشعب الطروب، وفُرِشت بأوراق الورد، وتأرَّجتْ في جنباتها أنواعُ الرياحين، وكانت فِرق من الموسيقيين تعزف هنا وهناك، فتُراقص ألحانُها العذبة حبَّاتِ القلوب. وكم كان جميلًا رائعًا إنشادُ الجنود وقد وقفوا صفوفًا صفوفًا كلما مرَّ الموكب الملكي بفرقة منهم دوَّى هتافها حتى يبلغ عنان السماء، فإذا فرغوا وصلتْ هتافَهم فرقةٌ ثانية، وهكذا.

وكان سِربٌ من أجمل قِيان اليونان وحِسانها يُحيط بالملكة الجميلة وقد قصَّرْن ثيابهن وأرسلْن شعورهن، فبدَوْنَ فتنة الركب، وكُنَّ سحرَ الموكب ولَفتْن من باريس بصرَه وسمعه وفؤاده!

وكان الفتى يخالسهن نظراتٍ مشغوفةً، وكُنَّ بدورهن يبسمْنَ له ويتبرجْن، حتى التقت عيناه بعينَي الملكة، فنسي نفسه!

لقد خُيِّل له أن قلبه انخلع من مكانه الذي بين جنبيه ليتأرجح في مقلتيه! أين رأى هذه الملكة من قبل يا ترى؟ إنه لم يذهب إلى الأولمب قط! وهل لبشريٍّ أن تطأ قدماه أرضَ الأولمب فيرى مثلَ هذا الجمال الساحر والحُسن الفتَّان؟

الحق أن هيلين تعمَّدت أن تشكَّ قلبَ باريس في قوة وعنف، حين أدركت رُسل العيون تنتقل بسرعة بينه وبين قِيانها وحِسانها، فلما التقت عيناها بعينيه غمزت قلبَه الضعيف الغض بسهم مراش من عينيها الساجيتين انطلق إلى جوانحه في برق من بسماتها، ورعود!

لقد زلزل قلبه.

وأحسَّ كأن قُوًى خفيةً تجذب روحه لتمرِّغها تحت قدمي هيلين! وطفِق يفكِّر ويفكِّر أين رآها من قبل، ولكن بلا جدوى.

ثم بدتْ له فينوس بحيث لا يراها أحد غيره، وقالت له: «هي، هي، كن شجاعًا!» ثم غابت ربة الحُسن.

فذكر ماضيه القريب وذكر ما وعدتْه به فينوس، وذكر أن هيلين إن هي إلا صورة أرضية سماوية من ربة الحب، وأنها مخلوقة كخلقها، عذوبة روح ورقَّة نفس ودفء دم وسحْر عيون …

فصمَّم على أن تكون له.

•••

ولبث باريس في ضيافة الملك أيامًا كانت تتصرَّم كأطياف الأحلام، ثم حدث حادث جلَل في أطراف المملكة استلزم وجودَ الملك نفسه ليرى رأيه فيه، فلما كان يوم السفر ودَّع منلوس زوجته الحسناء وأوصاها بإكرام ضيفه العظيم باريس «ابن صديقي ملك طروادة»، فطمأنته هيلين وخرجت تودِّعه حتى إذا كانت عند أسوار ليسديمونيا، حيَّتْه تحيةً فاترةً، وعادت لترعى عصفورها الغِرِّيد.

أقبلت هيلين على ضيفها غيرَ هيابة وأقبل هو عليها في غير وجَل. أقبلتْ عليه تُؤانسه كما أوصاها زوجُها، وأقبل هو عليها يُغازلها ويبحث فيها عن أجمل امرأة في العالم كما وعدتْه فينوس!

«هي هي، كن شجاعًا!» هكذا كانت تتردَّد هذه العبارة المقتضبة في أُذُنَي باريس كما ذكر الوفاء وشكران الجميل؛ وكلما همَّ أن يبتعد بقلبه عن زوجة الملك الكريم المضياف الذي احتفى به وأكرم مثواه.

«هي هي، كن شجاعًا»، إذن فليكن باريس شجاعًا كما أمرته فينوس! ليقترب من هيلين في هذه الخلوات الحلوة التي تمنُّ عليه بها فتستطيل كل مرة إلى ساعات وساعات.

ليقترب منها، ولتصب هي سلسبيلًا من الموسيقى في أذنيه المرهفتين لكل كلمة من كلماتها، وليرشف هو هذه الخمر التي تتدفَّق من عينيها وأهدابها، وليرشف هو هذه الخمر حتى تثمل روحُه ويسكر قلبه، وتزيغ عيناه.

ليقتربْ، ليقترب كثيرًا، ليمسَّ جسدُه المشتعل جسدَها المعطر الفينان، إنها لا ترفض أن تكون ذراعُه فوق كاهلها، بل هي أيضًا تنثر ذراعَها فوق كاهله، ها هما يتخاصران، الخبيث يُجيل عينَيه في عينَيها، هل يبحث عما يكنُّه قلبها، أم يفتش عن شيء مفقود في نفسها؟ إنهما ما يتحولان عن عينيها! إنه يحملق فيهما بشراهة!

قُبلة …

هي القُبلة الأولى من غير شك، هي الاعتراف الصريح بنضوج الحب!

وقُبلة ثانية …

وهي القُبلة المؤكدة لأختها الأولى، هي عدم المبالاة بما عساه أن يكون، أول شرط في عقد هذا الغرام الأثيم، هي الاعتداء الصارخ على عِرض منلوس، منلوس العظيم، منلوس ملك أسبرطة، وسليل الآلهة.

•••

– «ألَا يسرُّك يا هيلين أن نعيش سويًّا أبد الدهر؟»

– «ألا يسرني؟! ما السرور إذن يا حبيبي باريس؟»

– «إذن فلنرحل في ظلام الفجر!»

– «إلى أين؟»

– «إلى طروادة!»

•••

وأقلع الأسطول في غبشة البكور يحمل هيلين.

وعفا الحب عن عمة باريس، عفا الحب عن الأيِّم هسيونيه!

١  إيلين أو هيلانة: أخذت كليتمنسترا من أشهر الشخصيات الكلاسيكية.
٢  Muses.
٣  للخدِّ البارز المستدير خطٌّ مما يلي الأنف يزيده جمالًا، وقد أطلق عليه بعض الكتاب «نونة»، ودعاه بعضهم «قسمةً».
٤  عاصمة أسبرطة قديمًا، وقط يُطلق هذا الاسم على أسبرطة نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤