فتنة

انتظرت ذيتيس — أم أخيل وحبيبة زيوس من قبل — حتى عاد الإله الأكبر من حفلٍ أولمبي دُعِي إليه حينما شبَّت السخيمة بين أجاممنون وبين ابنها، فأسرعت إليه لتكلمه في الإهانة التي لحقت أخيل العظيم، وأزرت بكبرياء بطل هيلاس.

عجلت ذيتيس إلى زيوس.

وكانت ذكرياتُ غرام الإله الأكبر لا تزال تتدفَّق في قلبه، وكان رنين القبل فوق شفتيها القرمزيتين لا يزال تتجاوب أصداؤه الموسيقية على شفتَيه المنهومتين الملتهبتين، وكان هذا الجمال الفَتيُّ لا يزال له رَجْع في كل جوارحه وجوانحه.

وقفت أمام زيوس!

وكأن حلمًا لذيذًا طوَّف بعينَيه فرأى إلى قصة حبِّه تُمَثَّل بكل ماضيها الحافل أمامه؛ ورأى إلى هذه الأويقات الحلوة التي التذَّ فيها فتنة ذيتيس تثبُ فجأةً من الأيام الخوالي فتغمره بسحرها وأسرها؛ ورأى إلى ذراعيه المرتجفتين ملتفَّتين حول خصرِها النحيل، وطرفه الساهم الباكي يحول في طرفها الناعس الكحيل، ورأى إلى هذا المرمر الطروب المنصبِّ في تمثالها يكاد يكلِّمه، فيروي له من أخبار العناق، وسكرات الهوى ما يفيض له دمعُه، ويجبُّ قلبَه وترتعد من ذكره فرائصُه.

– «ذيتيس؟!»

– «…؟ …»

– «ما لك؟ … تبكين! …»

– «…! …»

– «لا … لا … إليَّ يا حبيبتي!»

وكانت كلما ألحَّت في الصمت والبكاء، ألحَّ هو في التلطُّف والرجاء، وكانت ذيتيس تدرك ما أثارتْه في قلبه من غرامه القديم، فدلَّتْ وتاهت، حتى أيقنت أنه منقادٌ لما تطلب، ولو كلفته هدْمَ الأولمب، وثَلَّ عروش السماء!

– «أ… أخيل …!»

– «أخيل؟ … ما له؟ …»

– «ما كفاني أن يذهب ليلقَى حتفه تحت أسوار طروادة حتى يُهينَه أجاممنون!»

– «يهينه أجاممنون؟ يهينه كيف؟»

– «أغضَب قدِّيسَ أبوللو وكاهنه الأكبر، ولم يقبل أن يردَّ عليه ابنتَه خريسيز؛ فغضب الراهب الشيخ، ودعا ربَّه، فسخَّر الطاعون على الهيلانيين، حتى كاد يُبيدهم، فلما طلب إليه أن يردَّ ابنةَ القديس على أبيها الشيخ، أبَى، وأخذتْه العزةُ بالإثم، فلما ألحَّ عليه أخيل — ولدي البائس — إنقاذًا للجيش، وإبقاءً على أبناء هيلاس، رضي أن ينزل عن الفتاة، إذا نزل له أخيل عن بريسيز …

وآثر أخيل حياة المحاربين ونجاتهم، فنزل عن الفتاة للقائد الغاشم.»

– «… ثم …»

– «ثم هو الآن يحترق بينه وبين نفسه، وقد اعتزل الحرب وخلا وحده في معسكره، يجترُّ أحزانه وتجترُّه الآلامُ.»

– «لا عليك يا ذيتيس! لا عليك يا حبيبتي! قَرِّي عينًا … قَرِّي عينًا … فيما أخذه الناس بغير ما ينبغي له، لأُذيقنَّه وجنودَه البلاء المبين!»

وعادت ذيتيس جذلانةً بعد أن طبع على جبينها المتلألئ قُبلةً … كم كان يشتهي أن يطبعها على فمها الخمري … لولا أن ذكر أنها زوجة.

•••

زلزلت ذيتيس قلبَ الإله الأكبر بدلالها وقوة فُتونها، وأرَّق طيفُها الرائع جفنَيه، فلم يذقْ طعمَ الكرَى تلك الليلة بطولها، فهبَّ من مضجعه السندسي فوق سدَّة الأولمب، واستدعى إليه إله الأحلام، فأمره بالذهاب من فوره إلى معسكر الهيلانيين.

«فإذا كنت ثمة فانطلق إلى فسطاط أجاممنون فداعبْ عينَيه واجثِمْ على قلبه، وقل له وهو يَغِطُّ في نومه العميق، إن الآلهة تأمرك أن تُصبح فتنفخ في بوق الحرب، حاضًّا عساكرك على اقتحام طروادة، فإن زيوس يُبشِّرك بالمدينة الخالدة، ولا يكاد النهار ينتصف حتى تكون جنودُك في شوارع إليوم ظافرةً منتصرةً بإذنه.»

وصدع إله الأحلام بما أمره سيدُ الأولمب، وانطلق إلى معسكر أجاممنون في أقل من لمحة، فداعب عينيه وألقَى في رُوعه الحلم الكاذب، وعاد أدراجه إلى مولاه.

فلما تبيَّن الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، هبَّ أجاممنون من نومه مذعورًا، وأرسل رسلَه إلى رؤساء الجند، فاجتمعوا لديه قُبيل الشروق، وأعلن هو انعقاد المجلس الحربي، فصمت الجميع، ونظر بعضهم إلى بعض، وكلٌّ يظنُّ أن لا بدَّ من أمر جلَل، استدعى انعقادَ المجلس في هذه الساعة من بُكرة اليوم!

ونهض أجاممون فتحدَّث إلى القادة، وأخبرهم برؤياه. ولما فرغ؛ نهض نسطور الحكيم المحنك، فسبَّح باسم زيوس وأثنى عليه، وقال: لو أن أحدًا غير القائد الأعلى رأى تلك الرؤيا لأثار استهزاء الجميع، ولرماه الجميع بجِنَّة أو مَسٍّ، ولكنه قائدنا وملكنا، وسليل الآلهة العظام، أجاممنون، هو الذي رآها وهي لا شك موحاةٌ إليه من لدن ربِّنا وسيدنا ومولانا مليك الأولمب، وهو لا بد ناصرنا على أعدائنا الظالمين. فهلمُّوا أيها الإخوان إلى رجالكم فأيقظوهم، وانفخوا فيهم الحميَّة والحماسة، فإذا أشرقت ذُكاء، فسوُّوا صفوفَهم واشحذوا عزائمهم، ولنتوكَّلْ على أربابنا، وليهتف الجميع باسم زيوس، ولنصلِّ له، ولنسبحْ تسبيحًا كبيرًا.»

فلما كان الصبح، ارتجف السهلُ والجبل، ودوَّى المشرقان والمغربان بجلبة الجند، وصار كل المعسكر كأنه خليةٌ صخَّابة من النحل، تَطنُّ وتَطنُّ، وصارت الساحةُ الحمراء كأنها سماء معتكرة، لرعدِها هزيمٌ ولريحها هزيز، ولبرقها خطفٌ يذهب سناه بالأبصار.

وشُرِّعت الرماح، وأُرهِفت السيوف، وحملقت المنايا كأنها الأغربةُ السود تُرنِّق فوق الفرائس، وتُدوِّم فوق الجِيَف!

ولم يكن أجاممنون قد انخدع بالحلم الكاذب، فشدَهه أن يرى إلى استعداد الجيش ونَفرَته نَفرةً واحدةً، ولم يخدعه كذلك هذا العددُ العديد من الجنود طالما أن ليس فيهم أخيل وشياطينُه المقاتِلة، الميرميدون!

فأوجس في نفسه خيفةً، وهاله أن يكون في الأمر سرٌّ، ووقر في قلبه أن غَضْبة أخيل لا بد أن تُغضِب السماء، واستقرَّ في نفسه أن هذا الجيش العرمرم سائرٌ إلى الهزيمة المؤكَّدة، وواردٌ موارد الرَّدَى!

وهكذا جَبُنَ القائد العام، وندم على أن عقد المجلس الحربي!

فما إن متع النهار، ونظر إلى الجند فرآهم يغمرون الأوديةَ، ويربضون في مشارف الجبال، ورأى إلى طروادة المنيعة تهزأ بكواكب الهيلانيين وجيوشهم، حتى نهض فوق يفاعٍ من الأرض، وهتف بجنوده يقول:

يا أبناء هيلاس! يا بني قومي!

لستُ أدري إلامَ تمتدُّ بنا هذه الحربُ، وحتَّام نُنفَى هنا في هذا المكان السحيق من الأرض!

تسعة أعوام يا قوم، ونحن هنا بمعزل عن العالم؛ ننام في الخيام، ونأوي إلى السفائن، تلفحُنا الرياحُ، ويثور بنا البحر، وتتخطَّفُنا المنايا!

وعبثًا ينتظرنا أبناؤنا ونساؤنا في هيلاس العزيزة! ومن يدري؟ فقد يكون بعض أبنائنا أو آبائنا قد انتقلوا إلى هيدز، ونحن هنا نتصارع مع الموت من أجل امرأة آبقة لا عِرضَ لها ولا شرف!

أبناءَ وطني!

ألا أقولُها لكم كلمةً سواء صريحة؟! هلمُّوا فاغمدوا هذه الرقاق البيض، ولنعقد مع الطرواديين هدنةً يعقبها صلحٌ شريف، ثم لنركب أسطولنا الذي نخر السوسُ في أخشابه أو كاد، ثم لنعُد أدراجَنا إلى هيلاس سالمين!

حرب!

أية حرب هذه التي اشتعلتْ من هولها الرءوس شَيبًا!

أية حرب هذه التي تودي بأعز المُهَج، وتذهب بأغلى الضحايا من نفوس الشباب؟! بل أية حرب هذه التي تُوقع العداوة والبغضاء بين أخوَين من أعزِّ أبناء هيلاس، فيتراشقان بالفُحش من القول، ويتبادلان الهجرَ من الكلام، ويوشكان أن يلتحما في نِزالٍ يودِي بحياة أحدِهما من أجل امرأة؟!

أنا — أجاممنون — أُغضب أخيل أخي من أجل لذَّة طارئة، ومتاع غير مقيم!

يا للهول!

لتنتهِ هذه الحرب، لتنتهِ هذه الحرب، ولنعد إلى هيلاس.

وأرسلها أجاممنون خطبةً طويلةً تفيض بالحق وتعترف بالواقع.

فصادفت من قلوب الجند المعذَّبين هوًى، ولقيت منهم استحسانًا وتحبيذًا، وطَرِبت لها نفوسُهم التي أضناها الحنينُ إلى الأوطان، وشفَّها التَّوق إلى لقاء الأهل، ونبْذ نِير هذه الغربة الطويلة التي أنهكت قواهم وأوهنتْ شبابَهم.

وفكَّر كلٌّ في أبنائه وأبويه وأحبَّائه، فهفت نفسُه إلى الارتحال عن هذه الساحة المشجية، عسى أن يقضيَ الحِقبة القصيرة الباقية من حياته الخريفية في راحة وهناء بين أهله وذَويه.

لكن الآلهة لا تريد هذا!

وكيف تنتهي حربٌ أثارها باريس بين ربَّات الأولمب في البدء؟!

أليس هو قد قضى بالتفاحة لفينوس؟

إذن ففينوس تنصره، وهي لذلك تقيه هوانَ الهزيمة وذلَّ الانكسار؟ ولكنه أين يهرب من حيرا سيد الأولمب التي وعدته نعيمًا وملكًا كبيرًا إذا هو كان قد أعطاها التفاحة؟

لقد أسخطها بما لم يسخطْها أحدٌ به من قبل، وهي لذلك تصل ليلَها بنهارها في تدبير السوء له، والكَيد لوطنه وعشيرته وكل من يلوذ بهما.

ثم أيَّان يهرب من سخط مينرفا كذلك؟!

أليست مينرفا كذلك قد وعدتْه الحكمةَ التي لم يُؤتَها أحدٌ من قبل إذا كان قد قضى لها بالتفاحة؟

إن مينرفا هي الأخرى تتربَّص به السوء، وتودُّ لو أظفرتْ به أعداءه فيُنكِّلون به، ويسقونه عذاب الهون بما قضائه في التفاحة لفينوس!

سمعت حيرا خطبة أجاممنون من علياء الأولمب، فأفزعها أن ينقاد الجندُ له، وهالها أن يستعدَّ الجميعُ للرحيل!

فاستدعتْ إليها مينرفا، وخاطبتْها بصدد ما قال قائد الهيلانيين، ثم اتفقتا على أن تذهب مينرفا إلى معسكر القوم فتلقَى البطل المغوار أوليسيز، فما تنفكُّ تحضُّه وتُحرِّضُه حتى يقوم بإلهاب عاطفة الجند، وتفتيح عيونهم على العار الأبدي الذي ينتظرهم في بلادهم، إذا عادوا إليها من غير أن يُظفرهم أربابُهم بأعدائهم، قانعين من الغنيمة بالإياب! بعد تسعة أعوام في دار الغربة.

وانطلقت مينرفا إلى ساحة الحرب، وكانت ترفُّ كالسحابة البيضاء في دُجنة الليل فيما بين جبل إيدا وشواطئ الهلسبنت، حتى إذا شارفت المعسكر أطلَّت على القوم فوجدت رؤساءهم يتحاورون فيما قال أجاممنون، ورأت إلى أوليسيز متجهِّمًا منقبضَ النفس مُثقَل الروح، يكاد ينشقُّ من الغيظ مما سمع من كلام القائد العام الدالِّ على الخور واليأس، واستبشرت مينرفا بما رأت من هياج أوليسيز، فهبطت عليه رحمةً من السماء، وكلَّمته قائلةً، بحيث لا يراها أحدٌ غيره: «أوليسيز فتى إيثاكا وبطل هيلاس!

أسرعتُ إليك — إليك أنت — إليك يا أشجع جندي هنا، لأحذرك من أن تنخدع بكلام أجاممنون! إنها خدعة يا أوليسيز! إن القائد العام يحاول أن يسبر عزائمكم ويخبر هممكم فلا تنطلِ عليكم كلماتُه.

إنكم لم تنفروا إلى طروادة خِفافًا وثِقالًا لتغتربوا عن أوطانكم تسعة أعوام طوال ثم لتعودوا كما أتيتم! بل أضلَّ سبيلًا!

أوليسيز! ما ذنبُ القتلى الأجرياء الذين خضبتْ دماؤهم ثرَى هذه الساحة، تتركونهم في حُمرتين من مقابرهم؛ حمرة الدم، وحمرة الخجل مما فرطتم في حقوقهم وتهاونتم في كرامتهم؟

وما خَطبُ السنين التسع يا أوليسيز؟

أكنتم تلعبون يوم ضحيتم بإفجنيا؟

أكنتم تلهون يوم أهدر بروتسيلوس دمه؟

وشرفُكم الذي يُذبح كل يوم في قصور طروادة!

واستهزاء الأمم بكم، وضحْك القبائل عليكم؟!

لا يا أوليسيز! هلمَّ فحرِّض القادة، وانفخ من روحك في قلوب الجند.»

وسمع أوليسيز إلى ربَّة الحكمة، فخفَق قلبُه، وثارت نخوتُه، والتهبتْ نحيزتُه؛ وعاهدها على إضرام المعمعة، وتأجيج لظى الحرب.

وانطلق بين الصفوف فلقي نسطور وأجاكس وبالاميدز وغيرهم من زعماء الجيش ورءوس فيالقه، فحذَّرهم «من الانخداع بكلمات أجاممنون؛ لأنها حيلة يريد بها القائد سبْر عزائمهم واختبار هِمَمهم»، كما تحدثت إليه مينرفا!

وحضَّهم على التضحية والصبر، وحرَّضهم على الجلَد والاستبسال، وذكَّرهم بعهودهم ونظرِ الدنيا جميعًا إليهم، ثم حذَّرهم من العار السرمدي الذي يتربَّص بهم إذا عادوا من دون أن يفتحوا طروادة!

وتغيَّرت الحال!

وتجدَّدت روح الحرب، وفتح كلُّ جندي عينيه على مجد الوطن! ونجح أوليسيز!

ونجحت مينرفا!

•••

ودُهِش أجاممنون لهذا التحول المفاجئ في نفسية الجيش، تلك النفسية التي كانت منذ لحظة فقط، مزيجًا من القنوط واليأس، وخليطًا من السرور المخامر لمجرد الإيذان بالعود إلى الوطن؛ فصارت تضطرم تشوُّقًا إلى الحرب، وتتحرق شوقًا إلى امتشاقِ السمهريات الظوامي!

وما وسعه إلا أن يُثنيَ على شجاعة الجنود، و… عدم استسلامهم، و… ترفُّعهم عن الاستكانة والاستحذاء!

فكان تحوُّله أعجب، وموقفه بين عشيَّة أو ضحاها أغرب!

ونظر الطرواديون من كُوَى أبراجِهم، فراعَهم التِفافُ الهيلانيين بمدينتهم وإحاطتهم بها من كل جانب وسرَى الرعبُ في قلوبهم، ودعَوا ثبورًا كثيرًا!

وكان يُحنقهم أن باريس الذي جَرَّ عليهم كلَّ ذلك الكرب، وكان السببَ العقيم لهذه الحرب، يَقَرُّ في مَخدعه الوثير، يُداعب هيلين المنحوسة، ويلاعبها ويساقيها كئوس الهوى وتُساقيه، غيرَ آبهٍ لما يَغُصُّ به قومه من كئوس الردَى والحِمام!

وخرج باريس لشأن من شئون لهوه، وعبثٍ باطل من أغراض غرامه الدنيء، فسمع الناس يلغطون ويلمزون، ويلوكون اسمَه بألسنة الهوان والتحقير، فثار ثائرُه، وفارت حماستُه، وأقسم ليُريَنَّ الجبناء من ضروب شجاعته ما تنخلع له قلوبُهم، وتطير من هَوله ألبابُهم.

وذهب من فَوره إلى أخيه هيكتور، فطلب إليه أن يرفع الراية البيضاء، ويخترق الصفوف حتى يكون في وسط الميدان، وينادي قائد القوم ليتفق معه على أن يستريح الجيشان طيلةَ هذا اليوم، ثم لتكون مبارزة بين باريس — على أن يمثِّل الطرواديين — ومنلوس — على أن يمثل الهيلانيين — فإذا فاز أحدُهما بصاحبه، وأظهرتْه الآلهة عليه، عاد إلى قومه فرحًا مسرورًا!

وطرب منلوس لما اقترحه غريمُه الذي كان كالساعي إلى حتفِه بظلفه؛ وصمتت الأفواه وحملقت الأنظار، وتلمَّس كلُّ جندي في الجيشين قلبَه من شدة الخفْق وثورة الوجيب، وبرز منلوس وبرز إليه باريس، ومرَّت الأحداث سِراعًا أمام عينَي ملك أسبرطة، فذكر عُشَّاق هيلين وصدود هيلين، وذكر يوم الخِيَرة الكبرى، يوم رضيتْهُ من دون عشَّاقها الكثيرين بَعلًا كريمًا لها، وذكر يوم احتفائه بباريس واحتفال أسبرطة كلها به كضيف عظيم لملكها، وذكر أن هذا الفارس الذي تَزَّلزل من تحته الأرض إن هو إلا الغادر الختَّال الذي اعتدى كأحقر الجُبناء على عِرضه، ولطَّخ بوحْلِ الفضيحة شرفَه، ثم ذكر كيف فرت زوجه معه تحت جنح الليل … ذليلةً للذتها أسيرة هواها … فثارت في قلبه زوبعةٌ من الجنون، وتفجَّر في رأسه بركانٌ من الغضب، واتَّقدتْ في عينيه جحيمٌ بأكملها من النقمة، واندفق الدمُ يغلي في ساعدَيه، وانقضَّ على خصمه فأوشك أن يحطمه، لولا أن هاله هذا الطَّيفُ الغريب الذي كان يحمي باريس منه، واقفًا إلى جانبه، وخلفه، وأمامه، ومن فوقه، ومن كل جهة جاءه منلوس منها، يذود عنه، ويتلقَّى الضرباتِ الأسبرطية فوق دِرعه المسرودة السابغة ذات الحلقات!

ماذا؟

آه! إنها هي! هي بعينها! هي فينوس! لقد أسرعتْ إلى باريس تحميه في ذلك الرَّوع الأكبر! فلما أوشك أن يستسلم عزَّ عليها ألا تُنقذَ حياته وهو هو الذي حكم لها بالتفاحة.

لقد رفعته إلى عَلٍ!

وطفق منلوس يبحث عنه ها هنا وها هنا، ولكنه لم يعثر له على أثر! لقد ذهبت به ربَّةُ الحُبِّ إلى مخدع الحُبِّ!

إلى هيلين!

ولكن ويل له من هيلين! لقد كانت تَطَّلع على الساحة فترى إلى مبارزة البطلين، فهالها أن يبطش ملكُ أسبرطة بحبيبها، لولا هذه السحابة البيضاء التي كانت تحميه دائمًا من خَصمه وتقيه.

وعذلتْه هيلين على هذا الفرار المشين، فكان عذلُها له أشدَّ على نفسه من ضربات منلوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤