مقدمة

خيطٌ واحدٌ يجمع بين فصول هذا الكتاب وإن بدت عناوينُها متباينة؛ هذا الخيط هو أزمة الفكر العربي التي هي في جوهرها أزمةُ حضارة أو أزمةُ فعل التحوُّل الحضاري. والحضارة، هذه الكلمة المستحدَثة، هي فكرةٌ أو مفترضٌ ذهني أو مصطلحٌ مُلتبِس تَبايَن مدلولُه باختلاف زمان عصرنا الحديث، وكذلك باختلاف المكان حسب الأهواء والمصالح. بيد أن الكلمة أصبحَت عملةً مُتداوَلة وإن غاب عنا تاريخها وتطوُّر مدلولها والمسكوتُ عنه لدى المتحدِّثين بها، ولكننا في حياتنا الفكرية تلقَّفْنا هذا وذاك على نحوِ ما اعتَدنا دون نقد.

وتكفي الإشارة كمثال، إلى استخدام كلمة الحضارة عند اثنَين؛ الأول عاش في منتصف القرن التاسع عشر، والثاني معاصرٌ لنا. الأول هو كارل ماركس رائد التقدُّمية السياسية في عصره والمناهض للرأسمالية. نقرأ عند ماركس في «البيان الشيوعي» في مَعرضِ وصفه الأزماتِ الاقتصاديةَ المتواترة سؤالًا عن الأسباب. ويُجيب على سؤاله بقوله: «لأن هناك قدْرًا كبيرًا من الحضارة.» .. ويقول أيضًا: «إن الرأسمالية هي آخرُ أشكال الحضارة.»

والثاني هو المفكِّر الأمريكي صمويل هنتنجتون الذي ذاع صيتُه بفضل أجهزة الإعلام الأمريكية مع مقاله ثم كتابه «صدام الحضارات» الذي قبِلْناه مسلَّمةً فكرية، وتداولناه وانعقدَت من أجله المؤتمرات دون أن نقدِّم نحن تصويبًا أو نقدًا أو تعديلًا. وإذا شاء لبعضنا أن يتحدَّى ويطعن ردَّ كلمة الحضارة إلى تاريخٍ بعيد في إشارة إلى الماضي، وإلى تطلُّعِنا إليه، وتشبُّثِنا به، وعَقدِنا الأملَ والجهدَ من أجل استعادته، وكأن الحضارة شيءٌ مكتملٌ منجزٌ ثابت ساكن غير تاريخي يمكن التحرُّك إليه ومنه تقدُّمًا ورجوعًا، إلى الخلف أو إلى الأمام. ولهذا يرى هذا البعض أن الحضارة هي التُّراث الذي هو اسمٌ جامع لا نعرف له تحديدًا ولا نتفق على مكوِّناته وأسلوب التعامل معه. وهذا مظهرٌ من مظاهر اللَّبس والغموض والافتقار إلى منهجٍ علمي في التفكير.

لهذا أجد لزامًا أن أضع بدايةً تعريفي للحضارة الذي أتخذُه معيارًا للحكم على واقعنا العربي في مجال إنتاج الفكر اجتماعيًّا، وأتخذُه شرطًا للتجديد، وأساسًا للحكم على طبيعة التحدي والمنافسة أو الصراع على الصعيد العالمي. والحضارة عندي هي عمليةٌ تاريخية قوامها «إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري/القيمي في تكامُلٍ معًا استجابةً لتحدياتٍ وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعُلهما في تكاملٍ معًا استجابةً لتحدياتٍ وجودية يفرضها الواقع المتجدِّد والطبيعة بتفاعُلِهما مع الإنسان/المجتمع.» وهذا التعريف فيه دينامية؛ إذ يُدمِج الإنسانَ كأحد مكوِّنات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، ويتسق مع التعدُّدية والتطوُّر في الزمان والتنوُّع في المكان.

وتأسيسًا على هذا أقول إن صراع الوجود الاجتماعي ليس مجرَّد صراعٍ من أجل البقاء، بل صراعٌ حضاري من أجل التميُّز الحضاري؛ أعني تميُّز إمكانات البقاء الأفضل والأقوى والأمضى سلاحًا في الصراع الذي هو قاعدة الوجود .. وتجلياته لغةً (فكرًا) وأدبًا وعلومًا وثقافةً اجتماعية وسلوكًا .. البقاء وحده قد يكون أن يعيش المجتمع حياة اطرادٍ عشوائي. والاطراد العشوائي يعني خضوعًا للطبيعة أو صراعًا في حدودها، كما هو الحال بالنسبة للحيوان، ولكنه يعني بالنسبة للبشر تبعيةً للطبيعة وتبعيةً في الوجود لمن يملك من البشر ناصيةَ الحضارة.

الوجود فعلٌ خالق في إطار صراعٍ اجتماعي. وأقول صراعًا لا حوارًا .. فالحوار يكون عندما تتوازى القوى .. والبقاء مجرد اطرادٍ عشوائي .. والحضارة مفهومٌ كلي لبنية وأدوات المجتمعات في الصراع .. بنية ذات علاقة داعمة وأداة متميزة أبدًا في تطوُّر وارتقاء .. والحضارة تتجاوز الطبيعة الفيزيائية موضوع الصراع البدائي الأول، وخلقَت وتخلق طبيعةً مضافة متطورة أبدًا — أدواتٍ وفكرًا — لتكون طرَفَ صراع .. صراعٍ فكري وثقافي ومادي .. والغلبة في الصراع على صعيد الطبيعتَين لمن يملك الأداة الأفضل بمعايير العصر .. والحضارة الأداة هي سلاحٌ مادي وفكري متنوِّع في آنٍ واحد.

لهذا قرنتُ التطور الحضاري للمجتمعات — إبداع الأدوات أي التقانة والفكر — بتطور فعل الإنتاج أو فعل إنتاج الوجود ونمط تنامي الإنتاج على صعيد المنافسة الإقليمية أو العالمية. وأعني بالإنتاج الفعل الإنتاجي النشط إزاء الطبيعة المادية أو الفيزيائية وإزاء الطبيعة المضافة التي تتمثَّل في منتجاتٍ أو تقانةٍ أبدعها الإنسان في فكر وثقافةٍ موروثة ومستحدَثة في اتساق مع التصوُّر الحضاري العالمي؛ ذلك أن الإنسان/المجتمع يدعم وجوده ويُطوِّره حضاريًّا من خلال إنتاجه لهذا الوجود في تفاعُله، بل وصراعه مع الطبيعتَين المشار إليهما، وطبيعة القوى التي يحتكم إليها، والإمكانات التي يعتمد عليها. وبذلك تكون دعامات وجوده وصراعه من إنتاجه هو.

وتأسيسًا على نوع الإنتاج بهذا المعنى يتحدَّد للمجتمع إطار العلاقات الاجتماعية، ونظام السلطة، وتنشأ دائمًا قضايا ومشكلاتٌ أو مسائلُ وثيقة الصلة بعملية الإنتاج. ويكون هذا كله موضوع تفكير وبحث ودراسة واستخلاص نظريات وصياغة مفاهيم على أيدي أهل الفكر الذين هم أحد أدوات الفعل والانتصار الاجتماعيَّين. وتباين القضايا الفكرية بتبايُن أدوات ومحتوى الإنتاج ومستوى الصراع والثقافة الاجتماعية الحاكمة لتشخيص الظواهر.

ويتطور مفهوم الإنتاج من حيث حجمه وكثافته مع أطوار الحضارة؛ الرعي، الزراعة، الصناعة، المعلوماتية … إلخ. ويتطوَّر الفكر في اقترانٍ بتطور الثقافة وتكون بين الاثنَين؛ الإنتاج والفكر، تغذيةٌ متبادلة مطَّردة. وتتبايَن أُطُر الفكر/اللغة في المجتمع بتبايُن الطَّور الحضاري. وهكذا يكون مفهومُ الإنتاج عملًا اجتماعيًّا هادفًا يشتمل على قوة الدفع الاجتماعية ومحققًا للانتماء وليس مجرَّد أفرادٍ يعملون أو يعيشون على قيد الحياة أيًّا كان مستوى العَيش رفاهةً أو فقرًا، وإلا سادت حالة الاطِّراد العشوائي، اليوم مثل الأمس، ويكُفُّ الفكر عن إبداع جديد. وهكذا تمايزَت المجتمعات عن بعضها تقانةً وفكرًا معًا .. وهو ما يمكن أن نسمِّيَه تمايزًا حضاريًّا حسب التعريف الذي أسلفناه.

•••

والمسلَّمة التي أنطلقُ منها هي أن المجتمعات العربية تخلَّفَت حضاريًّا وعلى مدى قرون، كفَّ إنتاجها لوجودها تقانةً وفكرًا .. وتوقَّفَت عن العطاء الحضاري بمعنى الحضارة الذي أسلفتُه .. واستبدَّ بها نزوعٌ هروبي عن صراعِ خلق الوجود.

والظاهرة اللافتة للنظر أن مكونِّات الانطلاق الحضاري نحو الحداثة والتي اعتمدَت عليها أوروبا إنما استمدَّتْها من الشرق بعامة ومن بينه الشرق العربي. واستطاع البرابرة الأوروبيون — أو هكذا كانوا كما يصفون أنفسهم — حتى القرن السادس عشر، بأسلوب النهب والسلب، أولًا أن يؤسِّسوا بدايات التطوُّر نحو حضارة التصنيع، ولكن مقرونًا بجهدٍ منهم قوامه المغامرة المعرفية، وتفحُّص كتاب الطبيعة، وتأسيس المنهج العلمي للبحث والتجريب، واتساع نطاق حرية الفكر؛ لذلك نُخطِئ وننحاز إلى هوًى في نفوسنا حين نقنع بالقول إنهم حقَّقوا هذه الإنجازات بالسلب والنهب والاستعمار وقَهْر الشعوب فقط.

ولكننا ننسى أن نسأل أنفسنا بلغة العولمة — موضة العصر — التي تصدَّرَت مسرح الفكر سؤالًا كاشفًا ومهمًّا، ليس كاشفًا الماضي فقط، بل وكاشف الطريق إلى المستقبل. لماذا احتجبَت عن الفعل والتأثير العناصر الإيجابية في حياتنا، في حضارة الشرق الأوسط حين كان الشرق العربي منارةً للعطاء الفكري والتقاني أي الحضاري؟ أو لنُعِد السؤال بلغة العولمة: لماذا اغتربَت المنطلقات الإيجابية الفكرية والعلمية والتقانية — البيروني والخوارزمي وابن رشد وابن الهيثم وابن خلدون … إلخ — اغتربوا جميعًا في أوطانهم قرونًا؟ أي كما يُقال غُيَّبوا أو اغتربوا عن الوطن Delocalized ولماذا توطَّنوا وتعَولموا Glolocalized في أوروبا فكانوا البداية والمنطق لتأسيس حضارة جديدة؟ ابن خلدون عالم الاجتماع وصاحب مدرسة العمران الفكرية. غاب عنا واغترب ثم توطَّن وتعَوْلَم في أوروبا، وكان بالإمكان، افتراضًا، تطوير فكره عن العمران ليكون أساسًا لفكرٍ جديد وموضوعي عن الحضارة.

نحن بحاجة إلى دراسةٍ سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية نقدية لواقع حركتنا في التاريخ وبِنيَتنا الثقافية الاجتماعية المتوارَثة وأثَرها على السلوك العرفاني، ومسئوليتها عن التقاعُس والتواكُل، وأن نُعيد إحياء إيجابيات حياتنا الفكرية مع تجديد أو تثوير قواعد تفكيرنا وتنشئتنا وتعليمنا، وأن يقترن هذا بإنتاج وجودنا على مستوى حضارة العصر وفي صراع الوجود الخالق. وهذا ما حاولتُ الإشارة إليه في الفصل المعنون «الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل»، وكذلك فصل «تجديد الفكر الاجتماعي». هي محاولةٌ قاصرة يقينًا ولكنها دعوةٌ إلى ذوي الكفاءة والأهلية للانطلاق ووضع تصوُّرٍ عقلاني نقدي لمسيرتنا الفكرية أو الحضارية صعودًا وهبوطًا لتكون نبراسًا لنا لتصحيح الذات، بل الثورة على الذات لكسر القيود التي تعوقُ حركتنا.

وبدأتُ الكتاب برؤية عن جدل العقل والوجدان لأُوضِّح أن القاعدة السوية التفاعل بين الطرفَين الفاعلَين، وأن هناك حركةً بندولية؛ فالإنسان يُحاور الطبيعة ويُحاور نفسه ممثلًا في تُراثه الفكري الذي يسكُن إليه، وممثلًا في إنجازاته بفضل إعمال العقل اليقِظ الفعَّال المتطوِّر أبدًا. وهذا التفاعُل مظهر سواء، ويجري على طريق الطفرات وإن بدا ساكنًا أو منحازًا مؤقتًا لأحد الطرفَين، ولكنه وبحكم غلبة الوجدان يتخذ وضعًا غير سوي؛ إذ ينحاز البندول في حركته إلى الوجدان مؤقتًا حين يتأزَّم المجتمع ويُراجِع حصاده. ويطول أو يدوم الوضع، كما هو حالنا، خاصةً حين يكُفُّ المجتمع عن الفعل الإنتاجي النشِط وينزعُ إلى السكون، وربما يغيب الوعي بأزمةٍ تحث على الحركة. وهنا مظهر من مظاهر التخلُّف الحضاري.

وحديثي عن التُّراث والتحديث في الهند وثيق الصلة بموضوع الكتاب؛ إذ هنا إشارة إلى تجربةٍ حية للتعامُل مع التُّراث حتى لا يكون قيدًا ولا عُنقَ زجاجة بل قوة دفعٍ نحو التغيير الحداثي أو التحديثي حسبما يتسق مع المجتمع وتاريخه وتحدِّياته.

وإذا كنتُ قد تحدَّثتُ عن أزمة ترجمة المصطلح الفلسفي، فذلك لأنني اتخذتُ الموضوع شاهدًا على فقدان القدرة على التواصُل الحضاري؛ ذلك لأن الحضارة رهنُ فكرٍ جديد أو لنقُل لغةً جديدة. وإذا غاب الفكر نتيجة غياب الفعل الإنتاجي الاجتماعي انحسرَت أو اغتربَت اللغة أو جمدَت وعجز المجتمع عن التواصل مع المجتمعات التي تحتل موقعًا حضاريًّا مغايرًا؛ لأن كلًّا له إطاره الفكري الحضاري المميز.

كذلك حديثي عن «مصر المثقَّف والسلطة في التاريخ»؛ إذ هدفي بيان قسمةٍ تاريخية مميزة لحياتنا الفكرية والثقافية .. ودور النخبة المثقَّفة ومسئوليتها عن حالنا .. نحن لا نُفكِّر بحرية ذلك لأن ثقافتنا الاجتماعية المتسقة مع البنية السياسية، وليدة حضارة الزراعة البدائية أو الرعي، علمتنا أن نخضع للمركز — السلطة — القوة. عيون المثقَّفين على السلطة ترنو إليها في خضوع؛ نظرًا لما تملك من قدرة على الترغيب والترهيب والثواب والعقاب .. وعيون المثقَّفين تفيض طمعًا وخوفًا في آنٍ واحد، والطمع والخوف محورهما الأنا الفردية. ومثلما ترى السلطة نفسها هي الأمة، المجتمع، الدولة، كذلك المثقَّف أو المفكِّر يفكِّر في الأمة من منظور السلطة، ويرى حريَّته في تبعيَّته لها وليس في اكتشاف أو معاناة اكتشاف الحقيقة.

وهكذا أسهم المثقَّفون بدَورٍ في استدامة حالة الانحسار. واطِّراد دَورِهم مع غياب أزمة تحوُّل حضاري؛ أعني أزمة فعلٍ اجتماعي إنتاجي على مستوى حضارة العصر، يطرح قضايا فكريةً جديدة، ويكشف عُمق التناقُض بين الفكر والفعل والحاجة إلى حسمِ هذا التناقُض عن طريق طفرةٍ حضارية ينحاز إليها أهل الفكر والثقافة والعامة من أصحاب المصلحة. وتكون الاستجابة لقضايا الواقع هي المركز – السلطة – القوة – الحقيقة.

وهنا تبرُز الدعوة إلى تنويرٍ جديد .. رؤيةٍ جديدةٍ لماضينا وواقعنا ومستقبلنا تأسيسًا على فعلٍ إنتاجي إبداعي للوجود، يُحرِّرنا من أَسْر عُنق الزجاجة .. ويمهِّد التنويرُ الجديد الأرض لفكرٍ حضاري جديد.

شوقي جلال
القاهرة، سبتمبر ٢٠٠٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤