تمهيد مُهم من الراوي

كاتب هذه السطور ليس عميقًا على نحو خاص …

هل تُريدني أن أحدثك بصراحتي المعهودة؟!

سأُحدِّثك بصراحتي المعهودة …

هذه المجموعة القصصية مملة جدًّا …

دعني أكن صريحًا معك أكثر، تلك أكثر القصص مَللًا على الإطلاق!

لن تَحصُد جائزة الطيب صالح، ولن تترشَّح للبوكر، ولديَّ شكوك جدِّية في أنها ستدخُل في قوائم أفضل القصص القصيرة على مر التاريخ، ربما لن تُنافِس قصص جدَّتك عند انقطاع الكهرباء، أو قصص سائق الحافلة المتذمِّر؛ إذ يَحكي لك قصة حياته وانتصاراته القديمة، بعد أن رماك حظك التعس بجواره.

لكنها ستحصد حنقك، وستجعلك تتثاءب وتشعر بالنعاس بعد الصفحة الأولى، قد تُطلق بعض عبارات السباب البَذيء كذلك للأحمق الذي وجد في نفسه الجرأة والمزاج الرائق لكتابة مثل هذه السطور، وتضييع وقتك.

قد تلعن دار النشر — وأنا أُشجع على ذلك — التي قامت على سبيل اليأس والجشع بنشر شيء كهذا، ربما لو قاموا بطباعة الصفحات خالية لكان الكتاب أكثر تشويقًا!

قد تُمزِّق الأوراق وتتحسَّر على مالك المسلوب الذي أنفقتَه عليه!

إن للنصب حيلًا كثيرةً كما تعلم.

عندما ترى لوحة فنية قبيحة الشكل، تمازجت فيها الألوان بقُبحٍ وبلا نظام، وكأنَّ أحدهم قد مسح يدَيه فيها على عجل، سيَنبري لك ناقد نَحيل، يرتدي ربطة عنق مزركشة، ويضع تركيبة عطرية رخيصة من عند دكان جوزيف بالسوق الإفرنجي، ليُؤكِّد لك أن الأمر أعمق مما تظن، وأنها لوحة مُذهِلة حد الإبهار، تُعبِّر عن الأبستمولوجيا الحديثة، ورفض القولَبة وتنميط المفردة لإعادة صياغتها من جديد. اختيار هذه الألوان تحديدًا — يا أحمق — هي صرخة احتجاج في وجه المجتمع. الخطوط المُتداخِلة تُشير لبُعد سيسيولوجي اجتماعي عميق، تُعبِّر عن فرط جدلية تأطير المُفرَدة وتُقوقِعُها حول ذاتيتها الفِطرية، من عهود الأرسطية وسطوة الكاهن، حتى عصر الحداثة والتحرُّر الثقافي.

ستهزُّ رأسَكَ في ذكاء مُتظاهِرًا بالفهم، وتقول شيئًا مثل: «يا سلاااااام قد أبدع الفنان!» ثم تشعر أنك أكثر ضآلة من أن تستطيع استيعاب هذه المعاني، هو فنٌّ راقٍ على الأرجح ما دمتَ لا تفقه عنه شروَى نقيرٍ.

يَنطبِق الشيء ذاته على الأدب. اقرأ أي قصة سخيفة، مُرهَقة، سطحية، بلا روابط أو هدف من أي نوع، مع الكثير من البذاءة، والمصطلحات المعقَّدة، والتجديف في الدين، ثم الاستِرسال في الفُحش بلا ضوابط، وسيَنبري لك ناقدٌ نحيل، يَرتدي ربطة عنق مُزركَشة، ويضع تركيبةً عِطرية رخيصة من عند دكان جوزيف بالسوق الإفرنجي، ليُؤكِّد لك أنها تُحفة أدبية زاخرة المعنى عميقته. الكاتب — يا ساذج — هو عبقري سابق لعصره، لم يجد من يفهمه بعد، إن هي إلا سطحية القطيع وعقله الدوغمائي.

لا تُصدق هذا، أجمل الكتب أكثرها بساطة، وأشدُّ الأشياء عمقًا، أكثرها وضوحًا. لا يتوسَّل المصطلحات المتضخمة والتعبيرات المُتحذِلقة إلا سطحيُّوا الفكر، فارغوه.

كثير مما تَعدُّه فنًّا عميقًا محضُ هُراء.

كثير مما تظنُّه أدبًا عميقًا هراء محض.

الهراء موجود في كل مكان حولك، لا يَتطلَّب الأمر أكثر من أن تبتاع صحيفة اليوم، أو تتابع تصريحات الحكومة، أو تستمع لزوجتك، أو تقرأ الصفحات التالية.

وحتى لا تشعر أن مالكَ قد ضاع سُدى، إليك بضعة اقتراحات عملية مفيدة:
  • استخدم ورق الكتاب لاحقًا لتسليكِ أذنك.

  • استخدم الورق لامتِصاص زيت السمك أو الطعمية، أيهما أقرب لمَعدتك.

  • استخدم الورق لمسح زجاج السيارة (إذا كنت تَمتلك واحدةً بالطبع).

  • يُمكنك قص صورة المؤلف من الغلاف الخلفي وحرقها على سبيل الاحتجاج الغاضب، إذا غامرت دار النشر بوضع صورته وهو يَبتسِم ببلاهة مُتظاهرًا بالعمق والذكاء (لا يُنصح بعرضها للأطفال دون الثالثة، لأسباب سيكولوجية بحتة، تتعلَّق بالنمو النفسي السليم).

    إذا لم تكن تَملك مقصًّا أو سعة بالٍ يُمكنك حرق الكتاب كلِّه.

  • يُمكنك استخدام الكتاب لموازنة الثلاجة مكان الحامل الخشبي المكسور.

  • وللأمهات العزيزات: يُمكنكِ استعمال الكتاب لقذفه على رأس طفلك كبديل ثقافي مُمتاز عِوَضًا عن الشبشب.

  • يُمكنك استخدام الورق كذلك لعمل قراطيس جميلة للفِّ الملح المُستلَف من جارتكم البدينة «عوضية أم التومات»، لا أنصح بهذا؛ لأن «عوضية أم التومات» ستمنُّ عليكم بملحها لاحقًا، عند أول لحظة عنفٍ لَفظي مُتبادَل بين الجارتَين، وسيعرف الكل عن قصة كَرمِها الأسطوري، وتصدُّقها عليكم بالملح، ابتداءً من جاراتكم في الحي، وحتى نساء مقاطعة «جيجيانغ» في جمهورية الصين الشعبية.

هذه نصائح ذهبية، لن تجدها حتمًا في أي قصة رصينة هادفة.

المجموعة القصصية التالية، جزء من مجموعة من القصص القصيرة وصلت إلى بريدي الإلكتروني من مؤلفها «مهند رحمه» — حوالي ٢٠ قصة — وهو كاتب شاب ناشئ، لا أُطيقه ولا أحب كتاباته، لكنني لاحظت أنه بدأ يُكوِّن شهرة لا بأس بها مؤخرًا، وسمعة طيبة بين الناس، حتى إن البعض — تصور هذا — بدءوا يُنادونه بكلمة «أستاذ»!

وهي من علامات الساعة بكل تأكيد!

كل قصة منها أشد بؤسًا من سابقتِها، تحت عنوان سخيف مُبتذَل من طراز «أجنحة العذاب» أو «عندما هفهَفَ لباس الليل»، أو شيء من هذا القبيل، ولما كنت أمقت العناوين السخيفة التي تدَّعي عمقًا لا تحتويه، وتُشير بوضوح لمستوى ذكاء كاتبها، فقد قرَّرتُ أن أُسمِّيَها كما هي: «قصص مملة جدًّا».

كتحذيرٍ لا بدَّ منه، ولإخلاء مسئوليتي الأدبية.

أما بقية القصص فلم أجد داعيًا لنشرها.

قصص لزجة جدًّا، مطاطة جدًّا، مملَّة جدًّا، وغير هادفة بالمرة، عن أبطال إغريقيين، وكتب ملعونة، وهلاوس محرَّمة، ومؤلِّف فاقد للبوصلة، بدأت تُثير سلامة قُواه العَقلية شُكوكي، لم يَعُد يجد شيئًا أفضل يفعله.

الراوي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤