القصة المملة الأولى: ببلومانيا

خي إكس سيغما

١

سأقول لك شيئًا مهمًّا.

هناك نوعان لا أطيقهما من البشر، عليك أن تتعلَّم ألا تثقَ فيهما مهما حدث.

النوع الأول؛ هو أولئك الذين يتصوَّرون بوضعية المفكر في الأستديوهات العمومية.

هل رأيت أحد هؤلاء؟

بالتأكيد تعرف هذا النوع اللزج، الذي يَضع سبَّابته على خدِّه وإبهامَه على ذقنِه، مُتظاهِرًا بتجاهُل الكاميرا وهو يُحملِق في الفضاء بنظرة حالِمة عميقة، كأنه يُحاول حلَّ مُعضلة سلوك الإلكترون في فضاء عالم الكوانتم.

كلهم لهم ذات الهيئة بالقُمصان الغريبة، والبناطل المُسطَّرة، والشعر المصفَّف بعناية، والجِباه الضيِّقة، والوجوه اللامِعة من أثر الفازلين، وسِمة عامَّة من الغباء تَنضح من وجوهِهم لا تُخطئها عينك.

كل هذا بالطبع أمام خلفية لعينة من الورود والقلوب المُمزَّقة، وأشياء سيريالية أخرى، ليذكرنا بأن رُوحه مُرهَفة كذلك، يُضيفها صاحب الأستديو بالفوتوشوب مقابل جنيه ونصف إضافيين، أو بعض التوسُّل من طراز «عليك النبي … عليك الله»!

فلتأخُذها عنِّي يا بُني قاعدة هي من ثوابت الكون:

المُفكِّرون الحقيقيُّون لا يتصورون بهذه الطريقة!

الحمقى فقط يفعلون!

النوع الثاني؛ هو أولئك الفضوليُّون، الذين يتحلَّقون حول المشاجَرات والكوارث وحوادث الطريق، لا بدَّ أنكَ قد رأيت أحد هؤلاء وقد شبك يدَيه على مؤخِّرة رأسه، وانحسَرَ كُمُّ جلبابِه حتى كوعه، ويتقافَز على أطراف أصابعة في شغف، ليَحظى بنظرة أوضح لأشلاء «حاج عبدالستار» المتناثِرة تحت إطارات الحافلة!

هناك دم، هناك أشلاء ممزَّقة، هناك أطراف مجدوعة!

فيرتجف من النشوة!

يُمارس التطهير النفسي برؤية الحوادث المُميتة لكي يَحمد الله على نعمة الصحة والعافية، وبعد أن يُفضَّ الجمع وتُجمَع الأشلاء، لا بأسَ من تعبيرٍ حكيمٍ يُبرهن للناس مدى تديُّنه، وزُهده عن الدنيا وزخرفها.

«هيييييييه الدنيا فانية، بس نحن المابنتعظ!»

يقولها في خشوع، ثم ينسى كل هذا الزهد في ثانيتَين، فيعود ليُطفِّف في الميزان، ويغتاب جيرانه، ويتفحَّش في النساء.

هؤلاء — أي بُني — هم أسوأ الناس طرًّا، وهم جديرون حقًّا بأن يكونوا حطب جهنم!

هل تسمح لي بأن أناديك «بُني» يا حضرة المُحقِّق؟

أنت في عمر ابني بالتأكيد، ابني الذي لم أُرزَق به بعدُ لأسباب لستُ بصدد ذكرِها اليوم، لكنك ستفهمها من السياق.

تريد أن تقوم بتسجيل هذه المقابلة؟ لا بأس، لا أريد أن أعيد رواية قصتي مجددًا بالتأكيد.

نعم أنا قتلت «سعيدًا»، وسأُخبرك الآن لماذا.

هل تريد كوبًا من العصير؟ أعتقد أن جلستنا ستطول قليلًا، فلا بأس ببعض العصير!

حسن!

كان «سعيد» اسمًا على مُسمًّى، رجل سعيد!

وهو ما بدا لي غريبًا؛ أن يوجد من يُطلِق اسم «سعيد» على ابنه في بلاد كالسودان، هذا نوع من الكوميديا السوداء إن أردت رأيي.

«سعيد» هذا كان سعيدًا جدًّا، سعيدًا للغاية.

سعيدًا إلى درجة تُثير غبينتك وغيظك.

تراه ترتسم الابتسامة البلهاء على وجهه طوال اليوم، يصحُو صباحًا ليكتشف أن الحنفية لا تُخرِج سوى صوت حشرجة مُرعِبة، لا ماء هنالك، فيبتسم، طرمبة ضخ الماء لن تعمل لأن الكهرباء تم قطعها كذلك فيبتسم، تفوته الحافلة فيبتسم، تتركه زوجته وتهرب مع عشيقها فيبتسم، يشتمه مديره في العمل فيبتسم، كأنه مُصاب بمتلازمة مرَضية لعينةٍ ما!

ابن اﻟ… هذا.

عندما أتذكر وجهه الغبي الآن أتمنى أن يعود للحياة لأهشِّم جُمجمته مجددًا.

متى بدأ كل شيء؟

هذا سؤال مُهم، ولكي أُجيبَك عليه يجب أن ترجع معي عدة سنوات للوراء، مذ كنت طفلًا صغيرًا وأنا مولع بعادة غريبة، وهي تكديس الكتب … لم أكن أسعد بشيء سوى اقتناء كتاب جديد، رائحة الكتاب الجديد، وملمس الورق المصقُول، تصاميم الأغلفة، هذه أشياء كانت تثيرني حد الولَه!

وخلال فترة وجيزة تراكَمَت مئاتُ الكتُب فى غرفتي، كتب من شتى المجالات، في الفلسفة والاقتصاد والرياضيات وعلم النفس والفيزياء والأدب والتاريخ والأدب، بعضُها أفهمه وبعضها لا أفهمه، هل تعرف أنني قد قرأت «الأيام» لطه حسين، و«ثروة الأمم» لآدم سميث، و«هكذا تكلم زرادشت» لنيتشة، وكتب معقَّدة مُماثلة، وأنا بعد طفلٌ لم أتجاوز الثامنة من العمر! كنت أقرأ ما أستطيع استيعابه، وما لا أفهمه أخزنه من باب الاحتياط، لربما يُفيدني في يومٍ ما!

بالتأكيد لم أكن أعرف أن هوايتي الوحيدة لها اسمٌ لاتيني معقَّد مثل ببلومانيا Bibliomania، وهو اسم شاعري كما لو لاحظْت، يَصف اضطرابًا نفسيًّا يَنتمي إلى عائلة الوسواس القهري (OCD) المبجَّلة، داء العباقرة أو مرض المثقَّفين كما يُطلق عليه.

لم أكن أعرف أنني «ببلوماني» بطبيعة الحال، وأنَّ حبي للكتب شيء يَستوجِب زيارة الطبيب النفسي، كنتُ سعيدًا وكان هذا ما يُهمني.

مرت الأعوام وتزوجت زواجًا تقليديًّا، لم أكن مولعًا بالنساء بشكل خاص، ولم أعجب بفتاة أو أقع في الحب من قبل، لستُ مريضًا أو مُنحرفَ الميول إذا ما تبادَرَ شيء من هذا إلى ذهنك، أنا فقط أعشق كُتبي وقراءاتي إلى الحدِّ الذي لم يعد هناك مجال لإضافة شيء آخر.

هل رأيت زوجة «أينشتاين» من قبل؟ من الواضح أن الرجل لم يكن يفقه شيئًا في النساء، وأكاد أجزم أنه لم يَرفع رأسه عن كتبه عند زواجه بحيث يَنتبه أنه يتزوَّج ابن خالته، لا أقارن نفسي ﺑ«أينشتاين» بالطبع، لكنَّني أُوضِّح لك فكرتي فقط!

في لحظة ما انتبهت والدتي أنني تجاوزتُ الأربعين ولمَّا أتزوَّج بعد، فاقترحَتْ عليَّ ابنة عم خالة جدي، أو شيئًا من هذا القبيل.

– «بنت أصول ومتربية وست بيت شاطرة.»

مع الكثير من «عايزة أشوف أولادك قبل ما أموت!» ولا بدَّ من بعض الدموع كذلك، على سبيل الابتزاز العاطفي حتى لا أعترض!

أنت تعرف كيف يتمُّ ترتيب مثل هذه الزيجات فلن أُصدِّع رأسك بالمزيد، خلال أسبوع انتهى كل شيء، ووجدتني أجلس في كوشة حفل الزواج وأضع خاتمًا على إصبعي، وبجواري امرأة لا أعرف عنها شيئًا تَرتدي فستان الزفاف وترقص بسعادة.

المسكينة!

في تلك المرحلة كانت كتبي تشغل غرفة كاملة، مئات الكتب تتراصُّ من الأرض لسقف المكان، آلاف الكتب جمعتُها طوال حياتي!

هناك قصة مشهورة عن «الزبير بن بكار»، كان يقضي وقته دائمًا في بيته وسط كتبه يقرأ ويكتب، قالت بعض النسوة لزوجتِه إنها محظوظة؛ لأنها تزوَّجت رجلًا محترمًا لا تزوغ عينه إلى سواها، ولا يعود لها أنصاف الليالي برائحة عطر أنثوي أو بصمة أحمر شفاه على كتفِه، فقالت المرأة غاضبة: والله إن هذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر.

الآن يُمكنك أن تفهم شعور زوجتي وقتها، لا أستطيع أن ألومها حقًّا، كنت أقضي كل يومي بين عملي في الجامعة، أحاضر الطلاب عن اقتصاد السوق الحر، ونظريات جون كينز، وعندما أعود للمنزل أغلق على نفسي باب مكتبتي وأنهمك في القراءة، لا أخرج منها إلا ليلًا فأجدها قد نامت وتركت لي الطعام على طاولة الصالة، في النهاية لم تَعُد تطيق كل هذا فطلَبتِ الطلاق، وتطلقنا بسرعة وهدوء.

لم يكن الأمر محزنًا بالنسبة لي، في الواقع نسيت كل شيء عن زوجتي بعد يومين، لم أشعر بغيابها لأنني لم أشعر بوجودها سابقًا، أخرج للعمل صباحًا وهي نائمة وأعود للفراش ليلًا وهي نائمة كذلك، لم أكن أتذكرها بعد انفصالنا إلا عندما تصرخ أمعاء بطني، فأخرج من المكتبة ولا أجد شيئًا آكله في الخارج، أفتَح الثلاجة فأجد بعض الخبز الجافِّ أو وجبة ظلَّت هناك لعدة أسابيع تحلُّ المشكلة وتُخرِس معدتي. جربتُ أن أتعلَّم الطبخ لكنَّني اكتشفتُ أنه مضيعة كبيرة للوقت، هل جربتَ أن تقضي قرابة الساعة لتطبخ شيئًا تأكله في دقيقتَين يا حضرة المُحقِّق؟

ربما تتَّفق معي أنه ليس التصرف الأكثر ذكاءً في العالم، ومضيعة كبيرة للوقت، دعك من قناعتي بأن أيَّ دقيقة أقضيها في شيء غير القراءة هي وقت ضائع بالنسبة لي، فلم يكن لديَّ وقت لعادة سخيفة كالأكل.

ثم اكتشفت الحل السحري فجأة، كان هذا الحل دكانًا صغيرًا يُسمى «مطعم العائلة»، الآن هذا حلٌّ ممتاز يُوفِّر لي طعامًا على مائدتي بدون تضييع وقتي في الطبخ، والأجمل أنه لا يطلب منِّي اهتمامًا خاصًّا أو يُهدِّدني بالطلاق. اتفقتُ مع صاحبه على أن يَجلب لي طلبات محددة كل يوم في وقتٍ معيَّن، ويُعلقها على باب الشقة من الخارج، ونقدته مالَه مسبقًا.

هناك مُشكلة أخرى لاحت لي، لا أعرف ما الحكمة من اتِّساخ الملابس وغسلها باستمرار، سمعت من قبل عن تكنولوجيا النانو التي سيُضيفُونها للملابس فلا تتَّسخ على الإطلاق مهما تطاوَلَ زمن ارتدائك لها، وإنني أحسد أولئك المحظوظين الذين سيعيشون في ذلك العصر.

كانت مشكلة كبيرة وقتَها وقد حُلَّت بسرعة كذلك عندما اكتشفتُ شيئًا سحريًّا آخر اسمه «عبدو المكوجي»، ثم الحل السحري الآخر المسمى «أم بركة»، امرأة ضخمة كوزير اتحاديٍّ فاسد، تلهث بلا انقطاع، وتشهق للهواء وهي تضع يدها على صدرها كأنها ستسقط ميتة بالسكتة القلبية في أي لحظة، لحسنِ الحظِّ لم تفعل ذلك، لكنها فعلت ما هو أفضل، وافقت على أن تمر على بيتي مرة كل أسبوع لتعتني بالنظافة، وغسل الأواني، وترتيب المكان مقابل أجر زهيد.

حشد من الحلول السحرية حلت جميع مشاكلي، وعادت حياتي لروتينها الجميل بين الجامعة والبيت.

أرجو ألا أكون قد أثرت مللَكَ يا حضرة المحقق؟

لا؟ جميل!

الآن يمكنني أن أجيب سؤالك وأقول لك متى بدأ كل شيء.

لا بد لك أن تقفز بالزمن معي عدة أشهر للأمام، كان هذا في شهر أبريل، أو ربما هو مايو! لا أذكر بالضبط.

لكنني كنت عائدًا إلى داري عصرًا من الجامعة، خلعتُ ملابسي وارتديت الجلباب الخفيف ودخلت إلى المكتبة، كان المكان في حالة فوضوية، أقصد أنه كان نظيفًا للمرة الأولى منذ سنوات، وهو ما بدا لي فوضويًّا، لديَّ نظام معيَّن في ترتيب الأشياء لا أتحمل تغييره، وهو مرض آخر جادت به علي عائلة الوسواس القهري الكريمة، الهوس الشديد بنظامي الخاص في ترتيب أشيائي.

أذكر أنني قد ثرت ثورة عارمة على زوجتي من قبل عندما حركت كتابًا كنتُ أقرؤه بضع سنتمترات لليسار، كان هذا مما لا يُحتمَل في قاموسي الشخصي، وقد عرفَت هي هذا وفهمته فلم تجرؤ على الدخول إليها مجددًا.

لا بد أنها «أم بركة»، حذرتها مرارًا من عدم دخول مكتبتي، فلا بد أنها قامَت بالتنظيف على سبيل تجويد العمل.

تلك اللعينة!

دلفت للداخل بسرعة وأنا أسبُّها وألعنها، عندما تعثَّرت قدمي بكتاب ضخم مُلقًى على الأرض، كان الكتاب مجلدًا ضخمًا مكتوبًا بخط اليد، له أوراق مصفرة غريبة الشكل.

وغمرتني قشعريرة باردة، وأنا أقرأ العنوان الرهيب.

شمس المعارف الكبرى!

٢

شمس المعارف الكبرى، مخطوط لأعمال سحر تتعلَّق بالجن والعالم السُّفلي.

يُنسب تأليفه إلى أحمد بن علي البوني المتوفَّى سنة ٦٢٢ﻫ، تمَّ تحريمُ تداوُلِه في الدين الإسلامي لما فيه من مزيج عجيب من المعلومات عن كيفية تحضير الجن، ووصفات خطيرة لتسخير كائنات العالم السُّفلي وجعلها طوع القيادة.

(ويكبيديا)

جذبت كرسيًّا وجلستُ أتصفَّح الكتاب السيِّئ السمعة.

هناك العديد من النسخ صدرت من الكتاب لاحقًا، ما أعرفه أنه قد تمَّت طباعة أول نسخة في بيروت عام ١٩٨٥، وقد حُذفت كل الفقرات التي تحتوي على شفرات تحضير الجن وطلاسم عالم السحر، لم يتبقَّ منه سوى بعض الحديث الإنشائي عن السحر وتفاصيله العامة.

فيما بعد تمت مصادرة كل النسخ المطبوعة من كل الدول الإسلامية، ومُنع تداوله بعد صدور عدة فتاوى بتحريم التعامل به، باعتباره من كتب تعليم السحر الأسود، وأصبح من يقتنيه في حكم الكافر شرعيًّا، فبالرغم من تقنينه لا زال الكتاب خطرًا جدًّا.

ما بين يديَّ الآن هي النسخة الأصلية من الكتاب الرهيب، المكتوبة بخط يد أحمد بن علي البوني شخصيًّا!

الأوراق من جلد الحيوانات المدبوغ، والخط مُتعرِّج يصعب قراءته، خط كوفي متشابك من النوع الذي يُميِّز المخطوطات القديمة، هناك تعليقات على الهوامش بها بعض آيات القرآن الكريم، وتركيبات جمل غريبة مثل «بطح، نويا، جبم»، آيات قرآنية كُتبت عكسيًّا، وجملة تتكرر بإصرار غريب في هوامش الكتاب «افهم ترشد»، «افهم ترشد».

هناك رموز غريبة، ورسومات متكرِّرة لمربعات متداخلة، بداخلها حروف متقطعة عربية وعبرية وحروف أخرى لم أعرفها، تبدو كالتالي:

يُمكنك أن تفهم مدى حيرتي ورعبي يا حضرة المحقق، فما بين يدي كان أخطر الكتب على الإطلاق وأسوأها سيرة، كل من حاز على الكتاب انتهى نهاية بشعة يشيب لها شعر رأسك، بعضهم انتحر، وبعضهم وجد مقتولًا على طريقة العصور الوسطى، كسر الرقبة وتدوير الوجه للخلف … هناك بضع روايات متداوَلة عن السير «فيتزجيرالد»، أحد النبلاء الإنجليز في القرن الثامن عشر، قيل إنه قد اشترى الكتاب من مزادٍ سريٍّ بمبلغٍ فلَكي من أحد العرب، وقد رآه بعض الشهود في آخر ظهور له، يتصارَع مع كائن شيطاني مخيف قبل أن يختفي بلا أثر على الإطلاق. لا توجد جثة، ولا أشلاء، ولا أيُّ شيء يشير إلى مقتله، فقط تلاشى كأن لم يكن!

هذه النسخة ظلت تنتقل سرًّا بين الأيدي عبر مئات السنين حتى وصلت إليَّ أنا بالذات!

فكيف وصلت إلى مكتبتي؟ ومتى؟

لا أذكر أنني قد اشتريتُه أو تحصَّلت عليه بأي طريقة من الطرق، نحن لا نتحدث عن كتاب أسرار الطبخ أو تعلم الإنجليزية بدون معلم في ثلاثة أيام، كتاب كهذا لا يُمكنك أن تنسى كيفية حصولك عليه!

أغلقت الكتاب بيدَين مُرتجفتَين وقد قررت على الفور ما عليَّ فعله، سأحرق الكتاب!

أعرف جيدًا ما حدث لكل من تحصل عليه وتعامل معه، لست بهذا الحمق، لا أرغب في الموت الآن، وبالتأكيد لا أريد لشيطان ما أن يهشم رأسي ويلوي رقبتي للخلف بطريقة القرون الوسطى، ستكون نهايتي في مستشفًى حكومي ضعيف الإمكانيات، أسعل قليلًا وأطلب كوب ماء، ثم أغمغم شيئًا ما لا يفهمه أحد، وأموت بأناقة!

اتَّجهتُ للمَطبخ ووضعت الكتاب في أحد أواني الطبخ، ملمَس الكتاب غريب يُثير التقزُّز، نحن نتحدَّث عن جلدٍ حيوانيٍّ مدبوغ، قال البعض إنه جلدُ بشر حقيقي لكنَّني لا أرجح هذا الاحتِمال، لا بدَّ أنه من الأساطير التي أحاطت بالكتاب، أشعلتُ ثقابًا ورميتُه، وراقبت الشعلة الزرقاء الجميلة؛ إذ تتوهَّج وتبدأ في التهام الكتاب الشيطاني، رائحة مُزعجة فاحت مع الدخان المُتصاعِد، رائحة شواء كريهة تعبق بسحرِ القُرون الوسطى، إن كنت تفهم ما أعنيه.

هل هذا صوت صراخ؟!

هنا تذكرت شيئًا، من يَضمن لي أنَّ كل القصص التي نسجت عن ضحايا الكتاب هي قصص حقيقية فعلًا؟ لا يُوجد دليل مُؤكَّد عن تلك الوفيات، والأمر قد لا يعدو كونه جزءًا من هالة الأساطير التي نُسجت عنه وعن مؤلفه؛ ألا يكون حرق الكتاب ضربًا من الجنون؟ خاصة وأنه النسخة الوحيدة في كل العالم.

دعك من الجانب المادِّي، هذا الكتاب الذي بين يدي الآن يُمكنه أن يَجلب لي ثروة إذا ما قررتُ بيعه، ثروة ستُغنيني عن العمل بقية حياتي.

قفزتُ بسرعة وجلبتُ منشفةَ المطبخ ورُحت أُطفئ النيران، لحسن الحظ لم يَحترق منه شيء سوى الزوايا العلوية، أعددتُ كوبًا من الشاي الثقيل وعدت لمكتبتي ورحت أتصفح الكتاب.

أغلب الصفحات وصفٍ سردي للسحر، وبعض التعاريف لحُروف الأبجدية العربية ومواطن قوتها إذا ما تمَّ تركيبُها مع حروف أخرى بتركيبات معيَّنة.

هناك تعريفات عامَّة للحروف، يقول الكاتب في إحداها:

«حرف العين: ظاهره عليم وباطنِه عظيم، أحد الحروف الترابية، وهو حرف ليِّن يطوع الجن إذا ثارَ أو أراد نص غير واضح، دين الإنسان، يكتب في قُماش ويُوضَع في الماء ويقرأ عليه سلامٌ قولًا من ربِّ رحيم عشرين مرة، وهذا الحرفُ المبارَك مُشتَق من العلم والتعلم، و… نصٌّ غير واضح سبعين مرةً في الساعة الأولى من يوم الجمعة، نص غير واضح وزعفران وسقاهُ لمَن به وجع، سكن وجعه بإذن الله».

الحروف — بحسب الكاتب — تَنقسِم إلى أربعة أنواع، الحروف النارية، والحُروف المائية، والحروف الترابية، والحروف الهوائية، يتمُّ استِحضار الجن عن طريق تركيبات ثلاثية معيَّنة للحروف النارية، وترديدها سبعين مرةً بطقوس معيَّنة تتضمَّن شفرة الاستِحضار، ويتمُّ صرفُه عن طريق مزيج من الحروف المائية والترابية، لا يُوجد وصفٌ لمهامِّ الحروف الهوائية.

هناك جدول للحروف النارية وتركيباتها الثلاثية، لن أَذكرها لك بطبيعة الحال حتى لا تحدث كارثة.

هناك رسومات بخطِّ اليد تُشبه الوصف التشريحي لمراكز تركُّز الجن عن حلوله في جسد الشخص المضيف، رسومات للجن نفسه كما تخيَّله الكاتب — وربما رآه! — ورموز غريبة تبدو كخليط من الحروف العبرية والحروف الصينية ونجمة داءود.

قاطَع أفكاري صوتُ طرقٍ مُنخفِض على الباب، أغلقت الكتاب وذهبت لأفتح باب الشقة، كان ذلك الشيء يقف هناك في خجل، قصير القامة قليلًا، ضئيل الحجم، بدأ الشعر يتساقَط من مقدمة رأسه، وله ابتسامة بلهاء مُعلَّقة على وجهه بلا سبب.

من النوع الذي يَصحُو صباحًا ليَكتشِف أن الحنفية لا تُخرج سوى صوت حشرجة مرعبة، لا ماء هنالك، فيَبتسِم، طرمبة ضخِّ الماء لن تَعمل لأنَّ الكهرباء تمَّ قطعها كذلك فيبتسم، تفوته الحافلة فيَبتسم، تتركُه زوجته وتهرُب مع عشيقِها فيَبتسِم، يشتمُه مديره في العمل فيَبتسِم.

figure

قال لي إنَّ اسمه «سعيد» وأنه جاري الجديد، دعوته للدخول وأعددتُ لنا كوبَين من الشاي، وراح يتحدَّث كثيرًا.

أعتقد أنك قد لاحظتُ يا سيدي المُحقِّق أنني لستُ من نوعية الأشخاص الذين يُمكنك وصفُهم بالاجتماعيِّين، في الواقع أنا أكره البشر وأهرب منهم كأنَّهم الطاعون ذاته، وأمقت أيَّ تواصُل بشري إذا ما خرج من نطاقِ التحية وردِّها. أما التواصُل الحميم فهو شَعر لا أملك له مِشطًا، ولا أُطيق هؤلاء اللزجين المُملِّين، الذين يظنُّون أن مجرَّد وجودِهم في الحياة هو حدث أسطوري بما فيه الكفاية، يَستحقُّ أن يُسطر في المجلدات، وأن ما في حيواتهم التافِهة ما يَستحِق أن يُروى لتُستقطَر منه الحكمة، ويستهديَ به الناس من بعد ضلال.

يَجلس أحدهم وهو يُداعب كرشَه في رضًا عن النفس يُثير هلعك، ليُصدِّع رأسك بقصصِه ووجهات نظره، وآرائه الحَمقاء في كل شيء.

«سعيد» كان من هذا الطراز، لزجٌ كالمُخاط، ومُمل كبيانٍ حُكومي.

وخلال الساعِات التالية أصرَّ أن يُعذِّبني بقصصِه مع برنامج اللوتري الأمريكي ورغبته في الهجرة من بلد لا يُقدِّر مواهبه، مُعاناته مع زوجته وهروبها مع عشيقها، مديرِه المُتسلِّط، زحام المواصلات، تقلُّب الجو، مُؤامَرات الماسونية، ومشاكل الإصلاحات السياسية وتحديات التنمية في دولة الكنغو، بينَما كنتُ أهزُّ رأسي في سأم وأُفكِّر في كيفية طردِه، أو إشعاره بأنه غير مرغوب فيه، تشاغلتُ عنه أثناء حديثِه ولم يفهم، قرأتُ كتابًا ولم يفهم، تثاءبْت ولم يفهم، غططتُ في النوم وارتفع صوتُ شَخيري، فأيقظني وسأَلَني بفضولٍ «هل نِمت؟» ثم عاد لكرسيِّه واستمرَّ في تعذيبي.

ثم أشرق وجهه فجأة من بين حديثِه، وهو يُخرج صورة فوتوغرافية من جيبه، قال شيئًا ما عن تعارُف بالبريد الإلكتروني بينه وبين فتاة ما تُقيم في أحد دول المهجر، كانت الصورة له وهو يأخُذُ وضعية المُفكِّر إياها، مع الكثير من فلاتر تحسين الصورة لجعلِه يبدو أجمل ممَّا هو عليه في الواقع.

يضع سبابتَه على خدِّه، ويَنظر للكاميرا في هيام واضِح، وعلى وجهِه أغبى ابتسامة يُمكنُك أن تراها. في الخلفية صورتان مصغرتان له؛ في الأولى يضع الهاتف المحمول على أذنه مُتظاهرًا بالانهماك في مكالَمة مع مدير أعماله، وهو ينظر للكاميرا بطرف عينه. أما الثانية — وهي ألعن — فقد كان يَحمل أزهارًا بلاستيكية ويتظاهر باستِنشاقها في هيام، مع حشدٍ من القلوب المُنفطِرة التي تقطر دمًا!

الآن يُمكنك تفهُّم دوافِعي لقتلِه يا حضرة المُحقِّق.

أليس كذلك؟!

٣

في الجامِعة كنتُ مشغولَ الذِّهن أثناء المحاضَرة، وقد ظللتُ أنسى الموضوع الذي أتحدَّث عنه عدة مرات، فيُنبهني أحد الطلاب ضاحكًا أين توقَّفت وماذا كنتُ أقول، كنتُ مُتشوِّقًا للعودة للبيت وقراءة الكتاب، فلم يترك لي «سعيد» وقتًا بالأمس لمطالعتِه، لم يُفارقني اللعين إلا عندما اعتذرتُ له صراحة لرغبتي في النوم، وراح يُتمتِم بعبارات الشكر لحُسنِ ضيافتي وأنا أدفعه أمامي متعجِّلًا، ويعدني بزيارة أخرى.

وكأن الأحمق لم يفهم بعد أنني أطردُه من منزلي!

عدتُ للمنزل، كانت «أم بركة» قد انصرفت للتو على ما يبدو؛ فالشقة كانت نظيفةً ورائحة بخور عطر تَطغى عليها، دلفتُ للمكتبة وفتحت الكتاب!

في المقدمة يقول الكاتب إنه قام بتشفير وصفات استحضار الجنِّ في الكتاب، مِفتاح الشَّفرة نفسُه موجود بالكتاب، وقد اضطرَّ لفعل هذا حتى لا يتعرَّض أيُّ شخص للخطر إذا ما وقع الكتاب في يده بالصدفة، هكذا لن يُفيدَ الكتاب أحدًا إلا إذا كان يعرف ما يريده منه بالضبط، وهو تصرُّفٌ نبيلٌ من المستر أحمد بن البوني بعد كل شيء.

«افهم ترشد»، «افهم ترشد»!

العبارة تتكرَّر بلا هَوادة في كل الصفحات تقريبًا، أحيانًا تكون في سياق الكلام وأحيانًا تخالف السياق، لا أحتاج أن أكون هوكينج لأعرف أنها مفتاح شفرة الوصفة.

جلبت ورقةً وقلمَ رصاص، ووضعتُ عدة علامات على الصفحات التي تَحتوى على العبارة، ثم رحت أبحث عن كيفية فكِّ الشفرة، جربتُ شفرةَ قيصر، وشفرة ديغراف، وشفرة النقر بلا نجاح.

أعتقد أن الأمر استغرَقَ منِّي قرابة الأسبوع حتى استطعت فكَّ شفرة الكتاب، قامَ الكاتب بوضعِ تشفيرٍ خاصٍّ به، وهي شفرة بسيطة ومُبتكَرة في الواقع، بحيث يُشير رقم كل حرف في العبارة إلى رقم السطر في الصفحة.

قمتُ بتفكيك العبارة إلى أحرفها الأبجدية، ثم مُقابلة الأحرُف بالأرقام التي تُكافئها في الترتيب الأبجدي كجدولٍ مرجعيٍّ للشفرة!

في كل صفحة توجد فيها عبارة «افهم ترشد» علَّمتُ بالقلم الرصاص على السطر الأول، ثم العشرين، ثم السادس والعشرين، وهكذا.

الآن قمتُ بتحديد الأسطر المقصودة، وهي عبارات بريئة لا تَعني شيئًا عند جمعها، ولا توجد عبارات مميَّزة أو أحرف كُتبَت بألوان مختلفة لتُوضِّحَها، لا بدَّ من وجود تشفيرٍ آخر لتحديدِ الجمل المقصودة من كل سطر، لن أُصدعِّ رأسك بكمية المُحاوَلات التي قمتُ بها لمحاوَلة اكتشاف جمل الاستدعاء، لكنني توصلت للحل الصحيح لاحقًا بطريقة غريبة بعض الشيء.

أ ١
ف ٢٠
٢٦
م ٢٤
ت ٣
ر ١٠
ش ١٣
د ٨

كان الليل قد انتصَف، وشعرتُ بأن الصداع يَفتك بي من كثرة محاوَلاتي الخرقاء، فأغلقت الكتاب وقمت لأخلد للنوم، ورأيت في حلمي الجدول الذي قمتُ بكتابتِه يَنفصِل عن الورقة التي كتبتُه فيها ويُحلِّق في الفضاء المظلم، ثم تتناثَر عدة حروف في فضاء المكان.

«ك و د م ح» «ا ر ك ش.»

وهي جُملة جميلة جدًّا لو دققتَ النظر.

تتراقَص الحروف في الفضاء قليلًا، وتعود بعض الأحرف وتستقرُّ في أماكنها، ثم يُضيء حرف الألف ثم التاء ثم الشين بالترتيب.

«أ – ت – ش.»

تحضُرني هنا قصة أرخميدس عندما كلفه ملك سيراكوس بمهمة وزن التاج دون إتلافه، بعد أن شكَّ في أن الصائغ قد غشَّه في المكونات وأضاف النحاس بدلًا عن الذهب الخالص لزيادة الوزن. لاحَظَ أرخميدس وهو يستحمُّ أن كتلة الماء تنزاح بمقدار وزن الجسم المغمور فيه، هكذا قفز من حوض الاستِحمام وخرج في الشارع يجري ويَصيح «أوريكا أوريكا» أي «وجدتها وجدتها»!

كان هذا ما فعلته تقريبًا.

قفزتُ من السرير مُستيقظًا فجأة، وتعثَّرت بطرف الملاءة حتى سقطتُ أرضًا، نهضت وأنا أسب وألعن، ثم ارتديتُ نظارتي وقلبي يخفق من فرط الحماس …

أحمد بن البوني!

أيها الذكي اللعين!

فتحت الكتاب من البداية بيدَين مُرتجفتَين من فرط الحماس، ورحت أتقصى الأسطر التي رسمت عليها علامات بالقلم الرصاص بحسب التشفير النصي لعبارة «افهم ترشد».

في الواقع، كانت الشفرة مزدوجة من البداية، فقد قام مؤلف الكتاب بتشفير الأسطر بحسب الترتيب الرقمي لحروف الأبجدية أولًا، ثم اختيار الأحرف التي تُقابلها أرقام فردية لتحديد الكلمات المطلوبة في الأسطر ذاتها ثانيًا، وهي الكلمات التي تَبتدئ بهذه الأحرف.

لأُقرِّب إليك الفهم سيدي المحقق؛ فإن الأرقام الفردية في الجدول تقابل ثلاثة أحرف فقط من عبارة «افهم ترشد»، وهي الحرف «أ»، والحرف «ت»، والحرف «ش».

أ ١
ت ٣
ش ١٣

من السطر الأول وضعت علامات على الجمل التي تَبتدئ بأحد تلك الأحرف، أو تأتي في الترتيب الثالث في حال وجود حرفي التعريف «ال»، إذا ما كانت الجملة قائمة بذاتها بدون حرفَي التعريف، بمعدل ثلاث كلمات في كل سطر.

عندما فرغت من نقل الكلمات في ورقة جانبية واجهتْني الرسالة الرهيبة التالية:

«الآن تفهَم شفرتي، أنت تحمل الشعلة، إليك تسخر الشرور.»

«اجم تتط شطط — الم تاب شقف — اجج تغف شيش — إبليس تحر شظغ — اشر تعف شيص.»

من المؤلف للقارئ

قبل أن تستمرَّ في القراءة، أتمنى ألا تكون قد قرأت هذه الرموز بالترتيب سرًّا أو علانية، وإذا فعلت، فاستعِذ بالله من همزات الشياطين، واقرأ المُعوذتَين ثلاثًا مع الوضوء «هذا مُهم»، ولا تَقلق بشأن الكوابيس، ستستمر معك يومًا أو اثنين على أقصى تقدير.

في هامش مؤخِّرة الكتاب يقول الكاتب:

«أمراء الجحيم السبعة، لوسيفر، ومامون، وأسموديوس، والشيطان، وبعلزبول، والحوت لوياثان، وبلفيجور، هم الشياطين الكبار الذين يحكمون جهنم، وينشرون الخطايا ويُوسْوِسون بالآثام، وأسباب كل الشرور.»

لاستدعاء أحد الأمراء السبعة تُقرأ كلمات النداء سبعًا وسبعين مرة، مع الجلوس بغير طهارة، عكس اتجاه القبلة، وقراءة الآيات الثلاث من القرآن الكريم أدناه بشكلٍ عكسي، وترديدها ثلاث مرات قبل كلمات النداء، والبدء بالبسملة «باسم السبع العظام» بدلًا عن «بسم الله الرحمن الرحيم»!

باسم السبع العظام «…»١

بسم السبع العظام «…»

بسم السبع العظام «…»

ثم يضيف أخيرًا فيما يُشبه إخلاء الطرف:

«أما الآن وقد وعيتُ وفطنت، وباسم الجبار تحصَّنت، تتفتَّح لك طاقات عالم الشياطين السُّفلي ويُسخَّر لك مثل نبي الله سليمان، فاستخدم سلطتك بحكمة ولا تكونَنَّ من المُمترين، وإني أدلُّك ولا أهديك، وأُوجِّهك ولا أُثنيك، وأُرشدك ولا أُزجيك، ثم لا أغنيك عن الله شيئًا، بين يديكَ مفتاح عالَم مخفيٍّ عن العيون، ومفارق للمتون، وداعٍ للكُفر والجنون، فاعلم أن ما بين يديكَ قوة ساحِقة ماحِقة لم يَسبقْك إليها أحدٌ من الأنام، وأُبرئ نفسي من استخدامها في ارتكاب الذنوب والآثام، وإن الله على ذلك لشهيد.»

لم أنتبه لشروق الشمس إلا عندما فرغتُ من الكتاب، وقد قرَّرت ما عليَّ فعله.

بثباتٍ قمتُ من على الكرسي، ضوء الشمس يتسرب بخجل من بين فرجات الستار السميك على النافذة، أزحت الستار فغمر الضوء المطمئن المكان.

قرأتُ الآيات القرآنية المكتوبة بشكلٍ عَكسيٍّ ثلاثَ مرات، ثم وقفتُ وظَهري في اتجاه النافِذة، أخذتُ شهيقًا عميقًا، ثم رددتُ بصوتٍ عالٍ:

«اجم تتط شطط — الم تاب شقف — اجج تغف شيش — إبليس تحر شظغ — اشر تعف شيص.»

٤

لم يحدث شيء!

تلفَّت حولي في حذرٍ مُتوقعًا تجسُّدَ كائن شيطاني ما مع بعض الصواعق والعواصف والدخان ليُخبرَني أنه طوع أمري، وأن لديَّ ثلاث أمنيات أو شيئًا من هذا القبيل، لكن لم يحدث شيء من هذا، ظل المكتب هادئًا كما هو!

صحتُ مجدَّدًا:

«اجم تتط شطط — الم تاب شقف — اجج تغف شيش — إبليس تحر شظغ — اشر تعف شيص.»

مجددًا، لا شيء!

هي مُزحة ثقيلة إذن من الأخ أحمد بن البوني بعد كل شيء!

مُزحة سخيفة إلى أقصى حدٍّ!

لا بد أنه كان يشعر بالكثير من الملل في خيمته فقرَّر أن يُزجي وقته بطريقته الخاصة، بأن يتلاعب بالأحمق الذي سيأتي من بعدِه ليُردِّد هذه العبارات غير المفهومة بثقة وثبات بحثًا عن سر القوة المطلقة.

وتخيَّلتُه يتقلَّب في قبرِه ضاحكًا!

على كل حال لا يوجد وقت للمزيد من الألعاب، أنا مُرهَق للغاية، لقد ظللتُ مُستيقظًا طوال الليل، سأتَّصل على عميد الجامعة وأعتذر عن قدومي اليوم، أما الآن فلا شيء سوى السرير الدافئ؛ فالنوم الطويل بلا كوابيس!

تدثرت بالأغطية وأنا ألوك تلك الأشياء الوهمية، جفناي يتثاقلان، أشعر أنني أغوص في ثنايا الفراش … أغوص!

أغوص …

أغوص …

ثم رأيتُه يقف أمامي!

على عكس الصورة النمطية السائدة للشياطين، كان هذا رجلًا عاديًّا، رجل وسيم في الواقع، شعره مُصفَّفٌ بعناية يتخلَّله بعض الشيب حول فوديه، ويَرتدي بذلةً سوداء وربطة عنق أنيقة، وبعض الحلي الذهبية حول رقبتِه وأصابعه، ويَبتسِم ابتسامةً آسرةً غاية في اللُّطف.

– «من أنت؟» سألته مذعورًا!

– «أنا إبليس، أنت استحضرتني بعبارات النداء!»

قالها وابتسامته الساحرة تزداد اتساعًا وتضيئ المكان فعليًّا.

تلفَّت حولي في توتُّر، كنا نقف في صحراء جرداء، رمالها حمراء كالدم، وبعض الأشجار الجافَّة والنافقة، السماء ملبَّدة بالغيوم فلا يتبين منها شيء، وضَوء خافتٌ يعم المكان لا أعرف مصدره بالضبط، كنت أعرف أنني أحلم الآن، قرأت في إحدى الصحف من قبل عما يُسمَّى بالحلم النقي، عندما تحلم وأنت تعرف في حلمك أنك تحلم، كانت المرة الأولى التي أعيش فيها هذه التجربة.

قال، وكأنه قرأ أفكاري: «أنت تحلم الآن، لكنه ليسَ حلمًا مختلقًا، وبرغم أن جسدك يربض في فراشه بعيدًا عن هنا فإن هذا اللقاء حقيقي، لكنه في بُعدٍ آخر غير بُعدِك الأرضي، تلك هي الوسيلة الوحيدة التي أستطيع بها التواصُل معك، فقط عبر العالم الأثيري، أما في واقعِك المادي فليس لي وجود.»

سألته بذات التوتر: «ما الذي سيحدث الآن؟»

قال وهو يهز كتفيه ببساطه: «ستُوافِق على بيع روحك، أشياء بسيطة، مجرد شكليات!»

– «ماذا تعني؟!»

– «أعني أننا سنبرم عقدًا، تمامًا كما يفعل المتعاقدون في عالمك!»

قلت وقد بدأتُ أشعر بالمأزق الذي قدتُ نفسي إليه: «تقصد أبيعك روحي مثل فاوست!»

– «شيء من هذا القبيل!»

– «استحضرتك بشفرة الكتاب، ألا يكفي هذا؟!»

ضحك برقَّة حتى أشرق وجهه ووضَع يدَه على كتفِي، وكأنه صديق قديم سمعَ للتوِّ خاطِرة مُضحِكة من صديقه المقرب، ومن القرب بدتْ ملامحُه أكثر جمالًا، لا تُوجد امرأة على وجه الأرض يُمكن أن تُقاوِم سحر هذا الرجل، ربما لا يوجد رجل يُمكن أن يقاومه كذلك!

قال وهو يَمسح على زجاج نظارة ظهَرت بين يدَيه فجأةً: «عبارات النداء الغرض منها استِحضاري فقط، أما التعاون فشيءٌ آخَر، لا بدَّ لك من أن تُوافِق على خدماتي.»

ثم نظر لي باسمًا وأضاف: «أنتَ استحْضَرتني بإرادتك الكاملة، وأجهدتَ نفسك حتى توصَّلت إلى شفرة الكتاب، لا أفهم سبب تخوُّفك الآن!»

من قال إن الشياطين يفتقدون حسَّ المنطق!

سألته في تبرُّم لا داعي له: «حسنٌ أين سأُوقِّع؟»

ضحك مجددًا، ثم ارتدى النظارة الطبية «أنتَ مُضحك حقًّا يا صديقي!» قالَها من بين ضَحكاته، ثم فرقَعَ بأصابعه فظهر كرسيٌّ من العدم جواري، أشار لي بالجلوس فجلستُ صامتًا، وكأحد حُواة برامج المواهب الأجنبية، فرقَع بأصابعِه مُجدَّدًا فظهرتْ شَمعة متَّقدة قدَّمها لي وطلب منِّي أن أُمسكها بكلتا يديَّ في حرصٍ، ثمَّ أشار للأرض فارتسمت دائرة ضخمة على الرِّمال حولي، وفي مُنتصفِها نجمة داءود المُميزة، كنتُ أنا في منتصفِها.

ردَّد بصوتٍ فخيمٍ مُحبَّب: «باسمكَ لوسيفر العظيم، إلهي الأعظم، ورب الظلمات، حاكم أقداري ومالك روحي، أُناشدُك بالحضور والوفاء لرغباتي!»

كانت الكلمات بلغة غريبة على مَسمعي، ولغرابتي فقد عرفتُ أنها اللاتينية القديمة، والأكثر غرابة أنني كنتُ أفهم ما يقول بلا مشقَّة برغم أنني لا أعرف حرفًا من اللاتينية. اقترب مني وقد بانت أسنانه المتراصَّة بنظام، ببياضِها الناصع من خلف ابتسامته الواسعة، أمسك يدي وسألني: «هل تُوافق على شروط العقد المبرم بيننا …»

بطرف عيني استرقتُ نظرةً إلى السماء الملبَّدة بالغيوم، بدتْ أكثر سوادًا وادلهمامًا، وغمَرني شعورٌ مُزعِج بأن الله غاضب عليَّ!

– «سامحني يا رب!» أسررتها في نفسي، ثم قلت له: «نعم … أُوافق.»

ابتسامة واثقة شاعَت على وجهِه الجميل، ثم سألني: «ماذا تريد؟ مالًا؟ معرفة؟ سلطة؟»

سألته في حذر: «ألا يُمكنُني الحصول عليهم جميعًا؟ أم أن هناك عددًا معيَّنًا من الأمنيات؟»

ضحك في رقة، ثم قال: «لقد أفسدتِ القصصُ العربية عقلك، أنا لستُ جنِّيًّا خرَج من فانوس سحري يا صديقي، يمكنني أن أُحقِّق لك ما تُريد لكن ليس بتلك الطريقة الإعجازية، إن ورد شيء كهذا إلى خاطرك!»

تفكرتُ قليلًا، ثم قلتُ بعد أن حسمتُ أمري: «حسن، المعرفة، أريد أن أعرف كل شيء، بالمعرفة يُمكنني أن أُحقِّق كلا الأمرَين الآخرين.»

هزَّ رأسه في إعجابٍ مُؤمِّنًا على كلامي، وقال: «هي المعرفة إذن!»

ثم تراجع للخلف بذات الابتسامة الجذابة، وأضاف: «قد يُؤلمُك هذا قليلًا، تقبَّل أسفي!»

شعرتُ فجأةً بألمٍ جارفٍ يجتاح جهازي العصبي، وكأنَّ النيران شبَّت في يدي، فأطلقتُ صرخةَ ألم حادَّة، وقفزت من الكرسي في ذعر. مادَتِ الأرض تحتَ قدمي، وأحسستُ بنفسي أُحلِّق في الفضاء لجزء من الثانية، قبل أن يَرتطِم رأسي بطرف الكومود، وفتحتُ عيني لأجد نفسي على الأرض في ظلام غرفتي، وقد سقط غطاء الفراش بجواري!

أضأتُ ضوءَ الغرفة في لهفة ونظرتُ لظهر يدي مذعورًا.

كان هذا وشمًا طازجًا لنجمة خُماسية تتوسَّطُها الأرقام «٦٦٦»، بينما أبخرة الشواء المُزعِجة لا تزال تنبعث منه!

٥

«خي إكس سيغما» أو ٦٦٦.

رقم الوحش، وهو تفسير لنصٍّ ورَدَ في سِفر رُؤيا يوحنا في العهد الجديد من الكتاب المقدَّس، كتب الرقم في المخطوطات اليونانية القديمة بالأحرف اليونانية χξς.

ويَجعل الجميع الصغار والكبار والأغنياء والفقراء والأحرار والعبيد تصنع لهم سمةً على يدهم اليمنى أو على جِباههم.

(سِفر الرؤيا)

مع لسعِ ماء الصنبور البارد الذي تدفَّقَ على يدي رحتُ أُفكِّر بعمق.

قرأتُ كثيرًا عن رقم الوحش في الأساطير اليونانية القديمة، وكتابات يُوحنا الإنجيلي في الكتاب المقدَّس، لكنها في النهاية تَندرِج تحت بند الأساطير، أغلب الظن فإنَّ الرقم «٦٦٦» إن صحَّت الأقاويل عنه فهو يرمز للحاكم الغاشم «نيرو»، وقد استحدثته المعارضة كنوع من الترميز لاسمه عند الحديث عنه دون التعرض لخطر الاعتقال أو القتل، آراء قليلة جدًّا هي تلك التي أشارت إلى أنَّ الرقم لا علاقة له بالحاكم «نيرو» ولكنه رمز للشيطان نفسه!

تعرف يا سيدي المُحقِّق أنني رجل أكاديمي عقلاني، من الصعب عليَّ ابتلاع قصة أنَّني قد انتقلت لبُعد آخر وقابلت شيطانًا قامَ بوشمِ نفسِه على يدي، وبهُدوء منطقي حاولتُ أن أفند تلك التجربة الغريبة التي مررتُ بها.

لا يُوجد تفسيرٌ لوجود هذا الوشم إلا أنَّ ما مررت به كان حقيقيًّا، وإلا فمِن أين جاء؟ لم يكن هناك قبل أن أذهب للفراش.

معنى هذا أن الأساطير التي تحدَّثت عن رمز الوحش لم تكن خرافات إلى هذا الحد، الأمر حقيقي بعد كل شيء.

كانت ساعة الحائط في الصالة تُشير للرابعة صباحًا، لن أستطيع النوم مجددًا، سأظل مستيقظًا حتى تشرق الشمس ثم أذهب للجامعة … أعددتُ كوبًا من الشاي الثقيل، ومع رائحة النعناع الزكية المُتصاعِدة من الشاي جلست في المكتبة على ضوء الأباجورة الخافت أطالع الكتاب.

في الفصل السابع المُسمَّى «في الأسماء التي كان النبيُّ عيسى يُحيي بها الأموات» يقول أحمد ابن البوني: «لم يكن السر الخاص بالسحر والشياطين وكيفية تسخيرهم متاحًا للبشر في أي زمن مضى، حتى جاء النبي سليمان ملك بني إسرائيل، وسخر الله له كائنات العالم الآخر، وبعد وفاته انتشرت أقاويل أن هناك مخطوطًا كتبه أحد الجن يَحتوي كل الرموز التي كان يستخدمها النبي سليمان للسِّحر ويشرح كافة تفاصيله بدقة.»

ثم راحَ في الصفحات التالية يتحدَّث بإسهاب عن الجنِّي «شمشوق».

«شمشوق» هذا — بحسب ابن البوني — ملاكٌ ساقط، من أوائل الملائكة التي تمرَّدت مع إبليس ورفضَت السجود لآدم، فنفاهم الله جميعًا إلى الأرض، ثم سخَّره لاحقًا ضمن حاشية من الجن ليكونَ خادمًا لدى سليمان، وقد كان حاضرًا عندما طلب سليمان عرش بلقيس وجاءه الجني ليعرض عليه أن يحضر عرشها قبل أن يرتدَّ إليه طرفُه … وحدَث ما حكى عنه القرآن الكريم لاحِقًا.

كان «شمشوق» مقرَّبًا من نبيِّ الله «سليمان»، وكثيرًا ما كان الملك يَستشيره في أمور الناس.

لكنه كان يَملك عادةً سيئة جدًّا، هي أنه وسيم جدًّا.

وعادة سيئة أخرى، أنه يكتب كثيرًا!

حشد من العادات السيئة كانت السبب لما حكى عنه لاحقًا.

في مخطوطة تقع في أكثر من ألف صفحة من جلد الجمال المدبوغ، سطر «شمشوق» تفاصيل الأيام التي قضاها مع «سليمان»، تَحكي الأوراق عن القوة الهائلة التي حصل عليها النبي، وكيف أن العالم المنظور وغير المنظور كان تحت تصرُّفه وأوامره، حكى عن هوس السلطة، وجنون العظمة الذي بدا يعتري النبي الملك، وهو شيء مفهوم بالطبع، افتح أي كتاب في التاريخ واقرأ عن قادة الجيوش أو الملوك والأمراء، ستُصاب بالذهول من الكم الهائل من الاضطرابات النفسية، والنرجسية المفرطة، وكل أوهام العظمة، والبارانويا، التي كانت تَنضح من وجوههم وأفعالهم، أن تكون ملك الملوك، وأقوى الأقوياء على وجه البسيطة، لم يُخلَق بعدُ الإنسان الذي يستطيع الحياز على كل هذه السلطة دون أن تُغيِّر فيه شيئًا.

لم يكن السحر بمعناه الحديث معروفًا في تلك الأيام، لذلك كانت الأشياء السِّحرية الإعجازية التي يقوم بها الملك مُثيرة للذهول، تحكي الأوراق كذلك عن الشفرة السرِّية التي كان يُردِّدُها النبي والتي أوحى الله له بها عن طريق الملك «جبريل»، حين زارَه ذات مساء في قصره، وأعطاه ملفوفًا يحتوي عبارات غريبة، نوع من التعاويذ يُحافظ على كل هذه الكائنات المُرعبة تحت سيطرته حتى لا يفلت عيارها، أو تتمرَّد عليه!

متى بدأ الخلاف؟

بحسب ابن البوني فإنَّ الشقة بين الجنِّي الكاتب، والنبي الملك، بدأتْ مع قدوم بلقيس إلى «سليمان» لتعرض الصلح، في اللحظة التي كشفَت فيها عن ساقها لتعبر ما ظنتْه بركة ماء، وقع الاثنان في غرامها من الوهلة الأولى، يُمكنك تخيُّل النظرة المُنبهرة في عين الملك والجنِّي مع أي موسيقى رومانسية في الخلفية تُعبِّر عن الحالة.

لكن «شمشوق» لم يُصرِّح بحبِّه البكر واحتفظ به لنفسه خوفًا من غضب الملك، لا أحدَ يعرف ما حدث بالضبط، فقد أورَدَ ابن البوني العديد من الأقوال المُتضاربة هنا، على كلِّ حالٍ زلَّ لسانُ «شمشوق» وتحدَّث إلى الشخص الخطأ في نهاية المطاف، تسرَّب الخبر بسرعة البرق ووصل إلى سليمان بوشاية من أحد الجن، خشيَ الملك أن يسلبه الجني فَتاته على ما يبدو، خاصة وأن الجني كان جميلًا بشكل يفوق الحد الطبيعي، كان يُشكِّل تهديدًا، هكذا أمَرَ بسجنِه وتعذيبِه، لكن الجني العاشق لم يتحمَّل كثيرًا، ومات تحت وطأة التعذيب.

الآن يَقفز أحمد بن البوني قفزةً طويلة، بعد أن أُطلق سراح الجن والشياطين عند موت «سليمان»، انتشرَت الأقاويل أن «شمشوق» تنبَّأ بتاريخ وفاة النبي الذي لا يَعلمه سوى الله، وأنه قد دوَّنه في كتابه، بالرغم من أنه قد مات تحت سمع وبصر حاشيته دون أن يعرفوا أنه قد مات، قالُوا كذلك أن الملاك الساقط تنبَّأ حتى بوقتِ موتِه هو بعد اكتشاف «سليمان» لأمره، وقام بدفن الكتاب في مكانٍ سرِّي بجوار عرش الملك في إسرائيل قبل أن يتمَّ القبضُ عليه!

هذا المكان نعرفه الآن باسم «هيكل سليمان» في بيت المقدس!

تحكي الشواهد التاريخية عن قائد آخر تسرَّبت له أخبار الكتاب وسعى للحصول عليه، كان هذا نبوخذ نصر الثاني، وقد قامَ بحصار القدس سنة ٥٨٧ قبل الميلاد، وهدم الهيكل بحثًا عن الكتاب، لكنه لم يُوفَّق في الحصول عليه.

يستطرد أحمد بن البوني أن الجن والشياطين الذين تمَّ إطلاق سراحهم في العالم، بعد وفاة سليمان لا يزالون هناك، في حالة من الانفلات والتوهان بعد أن مات سيدهم، ويُضيف أن من يستطيع الحصول على هذا الكتاب فإنه سيستطيع ملك العالم المادِّي وقوانين الطبيعة طوع قبضته، وإعادة تطويع هذه الكائنات مجددًا وجعلها ملك أمره، ويُؤكِّد أنه — أي أحمد بن البوني — قد حالَفَه الحظُّ واطَّلع على صفحة واحدة فقط من أوراق «شمشوق»، كتب منها كتاب شمس المعارف الكبرى، لا يعرف أحد كيف تسربت إليه، ولم يذكر هو كيفية حصوله عليها.

يقول كذلك أنَّ الكتاب يَحتوي على صورة طبيعية لبلقيس في إحدى صفحاته، ولا تَسألني عن كيفية قيام الجنِّي بأخذ صورة فوتوغرافية في ذلك الزمن السعيد قبل اختراع الكاميرا ذاتها!

على ما يبدو، فإن الجني العاشق كان يُمضي أوقات فراغه في تأمل صورة محبوبته عشيقة الملك، بينما يَستمِع لأغاني كاظم الساهر ويتمزَّق قلبه من فرط اللوعة.

هنا يعرج ابن البوني للحديث عن الشيء الأكثر خطورة على الإطلاق في الكتاب.

حكى عن العمَلية السِّحرية المرعبة التي كان يُمارسها بعض الجن من حاشية «سليمان» للحُصول على المعرفة، وهي عادة مُرعبة بما يَكفي لدرجة أنها تسبَّبت في تأزُّم الحالة النفسية للنبي الملك، بعد أن عرَفَ ما يقوم به كهَنتُه في أقبية القصر المُظلمة. وأمَرَ بإيقافها فورًا وقتل كل من كان يُمارسها.

عادة عرفت فيما بعد باسم «النكرومانسية»!

•••

صوت أنفاسي غريب بالنسبة لي!

تنفُّس ثقيل شهواني أشبه بصوت تنفس حيوان مفترس، أمشي وسط المقابر الصامتة في ثقة.

كنتُ هادئًا برغم خوفي الغريزي الكامن في أعماقي منذ كنت طفلًا من المقابر، شيء ما في طريقة مشيتي لم يبدُ لي طبيعيًّا، أمشي مكبًّا للأمام، وكأنَّني أمشي على أطرافي الأربع.

توقفتُ أمام قبر بعينِه، وبسُرعة قمت بنبشه بأظافري كحيوان مسعور، ظهَرَ الكفنُ الأبيض تحت طبقة التراب الأخيرة، فقمتُ باقتلاع الجُثمان من مكانِه ورميتُه على كتفي ثم هرولت عائدًا!

٦

النكرومانسية nekromanteía: نوع من أنواع السحر الأسود، يقوم بالتسلُّط على جثثِ الموتى واستنطاقها عبر أكل الجسد الميت للحصول على الحِكمة أو القوة الروحانية، أو أي أسرار لا يَعرفها إلا الميت المُستحضَر.

هل انتهى كوب العصير أخيرًا يا سيدي المحقِّق؟ هذا جيد.

هل تُريد المزيد؟ لا؟

حسن، فلنستمرَّ في قصتنا.

فتحت عيني فجأةً مع شهيق قصير، من طرف فمي كانَ يسيلُ خيط من اللعاب تجمع ليُشكِّل بِركة صغيرة على سطح المكتب، مسحتُه بظهر يدي سريعًا وأنا أتحسَّس عنقي المتشنِّج.

نمتُ دونَ أن أشعُر على سطح المكتب، وبجواري على أرضية المكتبة سقط الكتاب على الأرض وتناثَرَت معه بعض الكتب والأقلام.

كان قلبي يَخفق بعنفٍ حتى توجَّستُ، لا بدَّ أن هذا من آثار الحلم الغريب الذي حلمت به من قليل، تثاءَبتُ بصوتٍ عالٍ، وأنا أمدُّ يدي لآخرهما لتحريك عضلات جسدي المتيبِّسة، أحرك عنقي يمينًا ويَسارًا بضغطة من يدي فسمعتُ صوتَ القرقعة الخفيف، ظمآن بشدة، ككلب في يومِ حرٍّ قائظ، جفافٌ شديدٌ في حلقي، وبعض حبات العرق البارد على جبيني وأعلى صدر جلبابي، وكأنَّني بذلتُ مجهودًا مُرهقًا … نهضتُ عازمًا التوجُّه لثلاجة في المطبخ لأشربَ بعضَ الماء، هنا لاحظتُ شيئًا غريبًا عندما استندتُ بيديَّ على سطح المكتب لأنهض، كانت هناك بقايا طينٍ جافٍّ على أطراف أصابعي وتحت أظافري!

ما معنى هذا!

جاءني خاطر غريب لمع في عقلي بسرعة البرق، خاطر مُفزع تزايَدَت له ضرباتُ قلبي حتَّى كاد يقفز من بين الضلوع.

عندما ضغطت على مِفتاح النور في الصالة الخارجية، تأكَّد لي الأمر!

كانت الجثَّة مُستلقية على أرضية الصالة، وقد انسلَّ منها الكفن والتفَّ بطرفِ حاملِ المنضَدة الزجاجية!

لحظة! لماذا أشعر بأنَّني!

– «ما بالك يا صديقي تبدو مُرهَقًا!»

ما زال يقف هناك، بوجهِه الوسيم، وشعره المصفَّف بعناية، وابتسامته الودود!

صحتُ في هلعٍ: «مه … ما اﻟ… ما الذي يحدث!»

قال بهدوء وهو يَشعل سجارًا ويصلح من وضع نظارته الأنيقة على أنفه: «لقد فقدت وعيك!»

صحتُ فيه بحدة: «لا تتظاهر بالغباء، ما الذي جلب جثة إلى صالة داري؟»

قال مُبتسمًا وهو ينفث الدخان ويصنع منه أشكالًا غريبة «بدت لي حية وتتحرك»: «أنت جلبتها بنفسك!»

– «لا لم أفعَل هذا، كنتُ نائمًا.»

قال بابتسامة ساخِرة خفيفة وهو ينظر ليدي: «حقًّا؟»

رفعت يدي أمام وجهي، كان الطين الجاف يُغطي أطراف أصابعي وتحت أظافري، تمامًا كما رأيتهما قبل أن أفقد وعيي، قلتُ بصوت كالبكاء: «ما الذي فعلته بي!»

– «ما طلبته بالضبط.»

– «طلبت المعرفة، لا أن أكون غولًا يَنبش القبور.»

– «وكيف تحسب أنك ستَحصُل عليها، هذه هي الطريقة الوحيدة، لا تُوجَد حلول سحرية هنا.»

قلت له مُتحديًا: «ما الذي تتوقَّع منِّي فعله؟»

نظر لي في تركيز، من خلف زجاج نظارته الشفاف، بدَت لي عيناه غريبتان، هناك شيء غير طبيعي فيهما لم أستطِع استيعابه.

قال: «أنتَ تَعرف ما عليك فعله!»

– «أنا لن أفعلَ هذا.»

– «بل ستفعل، هل نسيت أنَّني أَملكك الآن!»

رحت أُتمتِم بصوتٍ هامس، فاقترب منِّي في فضول متسائلًا: «ماذا تقول؟»

رحتُ أُردِّد: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ

قال ضاحكًا: «هل تقرأ القرآن؟»

صرختُ مُتهانفًا: «ماذا تظن يا ابن العاهرة؟»

ثم رحتُ أُردِّد في هيستريا: «إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا، إِنَّ عِبَادِي …

كان ينظر لي ببرودٍ ساخر مُستفز، وهو يضع يدَيه في جيبَي بنطاله وينظر لي في ملل، في انتظار أن أَنتهي، على وجهِه الجميل ابتسامة واسعة مُستفِزَّة، صرختُ: «لماذا لا تختفي؟»

– «هل يَجب أن أحترق أو أتلاشى؟»

– «نعم.»

– «لا تكن طفلًا.»

وأضاف بنفاد صبر، وهو يُصلِح من ربطة عنقِه أمام مرآة ظهرت أمامه من العدم: «أنت طلبت المعرفة وها أنا ذا أُقدِّمها لك، عندما تأكُل أدمغتهم ستَعرف كل ما عرَفُوه، كل معلومة اكتسبوها، كل اسم حبيب أو صديق أو زميل مرُّوا به، كل كتاب قرءوه من قبل، عندما تَأكُل أعينَهم سترى كل ما رأوه، كل منظر جميل أو قبيح، كل لحظة فرحٍ أو ذُعر، عندما تأكُل جلودَهم سَتشعُر بكل ما شعروا به من قبل في حياتهم، كل لسعة بردٍ، كل شكَّة ألم، كل قشعريرة خوف، كل ارتعاشة شبَق، كل لمسة حبٍّ حانية شعروا بها أو عاشُوها.

تلك هي القوة المريعة التي تَحُوزها الآن، تلك هي الهبة التي أمنحك إياها، بين يديك كل تاريخ البشرية، وأسرارها، فقط إن أنت جرؤت.»

كان قد اختفى تمامًا ولا زال صدى صوته يتردَّد في ذِهني.

«فقط إن أنت جرؤت.»

أتلفَّتُ حولي في خوف، الصَّحراء الجرداء قد دبَّت فيها الحياة، الأرض تفُور تحت قدمي، ويتصاعَد التراب الأحمر للأعلى ببطء مُتحديًا كل قوانين الجاذبية، الأشجار الجافَّة والنافقة بدت تتحرَّك بطريقة مُتخشِّبة وتنزع جذورها من عمق الأرض، السَّحاب يزداد سوادًا ويُزمجِر بطنين مُزعِج يتصاعَد من كل مكان، وينتهك طبلة أذني بعنفٍ حتَّى غطيتُهما براحتَي يدي ألمًا.

«فقط إن أنت جرؤت!»

صرخت: «لن أفعل هذا!»

ويذوب صوت صراخي وسط صوت رنين السحاب المؤلم.

«فقط إن أنت جرؤت.»

«فقط إن أنت …»

فتحت عيني مجددًا!

كنت ساقطًا على أرضية الصالة، وصوت رنين المنبه يَنبعث من غرفتي بإلحاح.

لثوانٍ ظللت أحدق في الحائط بوضعي المقلوب غير عالم أين أنا، وماذا أفعل، وما الذي يحدث بالضبط.

ثم داهمتني الرائحة!

رائحة شنيعة، لعينة، لا تُوصَف.

رفعت عينَين غائمتَين مُتمنيًا أن يكون حلمًا.

فليكن حلمًا يا رب.

كانت الجثَّة على بُعد مترين منِّي، رجل متوسِّط العمر حليق الذقن، انتفخَت بطنُه، وذابَت مُقلتا عينَيه، تآكَل أغلب لحمِ وجهِه وأطرافه، حتى بانت أجزاء من عظام جُمجمته وسلاميات أصابعه، وطفقت بعض صغار الديدان تزحف في بطء عبر تجاويف أنفه وفمه وأذﻧﻴ…

أوووووووووووووع.

تناثرت بقايا فطور الأمس وأحماض المعدة على السجادة الفارسية المزركشة.

الرائحة … يا إلهي … الرائحة!

رائحة لعينة تخترق كياني وتزيد كابوسي سوءًا!

هذه رائحة ملموسة إن كان شيئًا كهذا قابل للتفسير، رائحة لها طول وعرض وارتفاع ونفوذ، وحضور طاغ يُلغي كل ما عداه.

شعرتُ بالحمض يتصاعَد لفمِ معدتي مجددًا … ثم …

أوووووووووع …

أفرغت ما في بطني حتى كدتُ ألفظ معدتي، وطفقتُ أسعل في عنف حتى انتفخَت أوردةُ عُنقي.

الآن لم يعد هناك وقتٌ للتفكير العقلاني.

لقد جُننت!

فلأَستجمِع أفكاري وأفكر بروية، لن أشعر بالذُّعر وأفقد السيطرة على نفسي الآن، فلأتمالك أعصابي!

أغلقتُ المُنبِّه وسحبت ملاءة السرير، مزقتُ منها قطعة ثم قمتُ بنثر بعض الخلِّ والليمون عليها، وربطتها على أنفي كالكمامة للتقليل من حدة الرائحة الكريهة، جلبت قارورة عطر قمت برشها في فضاء المكان بسخاء، ثم وضعتُ الملاءة على الجثة مُتقززًا.

رحتُ أتنفَّس بسرعة وانتظام، شهيق بالأنف، زفير بالفم.

شهيق … زفير!

شهيق … زفير!

رويدًا رويدًا بدأت ضربات قلبي المُضطرب في التباطؤ، الآن يُمكنني جمع الحقائق والتعامل مع الأمر الواقع كما هو.

هناك جثة في صالة داري، هذه الحقيقة الأولى!

كيف جاءت إلى هنا؟

يبدو أنني أنا من جلبتها هنا في لحظة غياب عن الوعي، تلك الحقيقة الثانية!

ما الذي يجب عليَّ فعله بالخصوص؟

أتصل بالشرطة؟

لا تكن سخيفًا.

أستطيع تخيُّل نفسي جالسًا أمام حضرة الصول «عباس» عسكري المناوبة المسائية المرهق، لأحكي له بثباتٍ عن تعاقُدي مع الشيطان مقابل بيع روحي، لأصبح نكرومانسر ينبش الجثث ويتسلَّى بأكل لحوم الموتى للحصول على المعرفة!

سيكون هناكَ الكثيرُ من المرح، وسيُعبِّر لي عن جانبه العقلاني المتفهِّم لقصتي بالكثير من الصفعات والإهانات والشتائم البذيئة، التي يتعلَّق معظمها بنشاطات أمي الجنسية، مع الكثير من «نكرومانسر يابن اﻟ…» سيُلقون القبضَ عليَّ مباشرة بتهمة القتل، أو نبش قبور الموتى، أو — إذا ترفقوا بي — سيُرسلونني لأقرب مستشفًى للأمراض العقلية.

وتخيَّلت صوري تُنشر في الصحف وأنا أنظر للكاميرا في ذعرٍ مُرتديًا الزي الأبيض الجميل، بينما يتفرَّغ الناس للحديث عن الدكتور الوقور الذي انتهى به الأمر إلى نبشِ القُبور ليلًا، بالتأكيد سيكون هناك خبير ما، مُختَص في هذا الشأن، سيتحدَّث كثيرًا عن التأثير الطردي والعلاقة الفرويدية المدفونة في العقل الباطن بين النكرومانسية وأكل لحم البشر مع رَواتب أساتذة الجامعات وعلاقة كل هذا بالسياسات الداخلية للحكومة، ربما هناك اسم لاتيني معقَّد لهذه الحالة لا أعرفه، سيلُومون الحكومة على كل حال.

سأجد حلًّا عقلانيًّا ما، بالتأكيد هنالك واحد، عدا الشرطة.

لا يوجد حلٌّ سوى أن أُعيد الجثَّة لمكانها، أعتقد أنني عرفت المقبرة التي رأيتها في حِلمي سابقًا، مَقبرة شهيرة في أطراف العاصمة، عندما يأتي المساء سآخُذ الجثَّة بسيارتي حتى المقابر وأدفنها مكانها.

الحقيقة الثالثة التي يجب علي التعامُل معها أنني أصبحت أفقد وعيي بانتظام وأذهب لعوالم أخرى أو أقوم بأشياء مخيفة، سأجد حلًّا ما لهذه المعضلة وإن اضطررتُ لتقييد نفسي في السرير وعدم النوم لسنوات.

شارد الذهن قمتُ بالاستِحمام، ثم ارتديتُ ملابسي على عجل لألحق بمواعيد مُحاضراتي الصباحية، أشعلت بخورًا ليُغطِّي على الرائحة الخانقة، وقمتُ بتشغيل الراديو، طوال عمري لم أكن صاحب نزعة دينية، لم أصلِّ منذ ثلاثين عامًا، ولديَّ الكثير من التحفُّظات فيما يخص القضايا اللاهوتية، لكنَّني وجدت نفسي أُغيِّر تردُّد القنوات إلى إذاعة القرآن الكريم، أريد لكلمات الله أن تتردَّد في هذا المكان الكئيب.

انساب صوت القارئ الشجي اللحني يُردِّد مرتلًا:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

ودون وعي منِّي شعرت بالدموع تَحتشِد في عيني، وتذكَّرتُ زوجتي.

من الغريب أنني أشتاق إليها، وبرغم أنَّني لا أحمل لها أي مشاعر من أي نوع سوى التعوُّد، إلا أنني أفتقدُ حضورها وتواجُدَها في المكان، كان يُشعرُني بنوعٍ من الاطمئنان.

لقد جُبلنا على منحهنَّ الأمان، لكنَّنا لا نجده إلا عندهن.

خرجتُ من المنزل بسرعة، وحرصتُ أن آخُذ معي النسخة الأخرى من المفتاح من أسفل السجادة، واتَّصلت على أم بركة وأَخبرتها بأنني سأُغادر العاصمة لأيام فلا داعي لحضورها، آخر ما أريده الآن أن تأتيَ في غيابي لتجدَ الجثَّة مُستلقية هناك وتُثير فضيحة.

في الجامعة قال لي الطلاب فيما بعدُ إنني كنتُ أبدُو شاردَ الذِّهن وأنا أُلقي المحاضرة، في المكتب قال لي زميلي الدكتور «عمر» إنَّني كنتُ أبدُو شاردَ الذهن وأنا أُراجع بعض البحوث.

في الحمَّام قال لي عامل النظافة إنني كنت أبدو شاردَ الذهن وأنا … إحم … أغسل وجهي.

قال لي الجميع إنني كنت أبدُو شاردَ الذهنِ وغريبًا أحملق في الفضاء بعينَين ذاهلتَين.

في الواقع لا أذكر شيئًا من هذا، آخر ما أذكره أنني كنتُ أُلقي المحاضرة صباحًا، ثم شعرت بتلك الوخزات في دماغي المُمهدة لنوبة الصداع التالية، كانت تلك أولى علامات بداية استحواذه عليَّ.

هتفت بصوت واهن «لا … لا!» ثم عمَّ الظلام.

فتحت عيني ببطء.

كان صوت المضغ عاليًا، صوت أسنان تصطكُّ ببعضها؛ إذ تمضغ شيئًا ثقيلًا.

صوت البلع.

صوت لهاث حيواني ثقيل.

عندما زالت الغَشاوة من عيني رأيت شيئًا غريبًا!

كنت أقف أمام المرآة، لكن ما أثار دهشتي الانعكاس الذي رأيته لم يكن لي!

كان شخصًا آخر!

وكأنَّني أنتعِل عينَيه، وجدتُ نفسي أحدِّق في انعكاس رجل متوسِّط العمر، به آثار وسامة ملحوظة، حليق الذقن، يُصلح من وضعية ربطة عنقِه، ثم يضع بعض العطر على جانبي عنقِه وصدر قميصه.

أدرتُ وجهي للخلف فرأيت «هدى» زوجتي تتقلَّب في الفراش بجانب «سوسو» ابنتي ذات العامَين.

زوجتي وابنتي!

تبدوان كملاكَين صغيرَين!

لماذا أشعر أنَّني أعرفهم جيدًا!

طبعتُ قُبلةً على جبينها وقلت لها إنني سأتأخَّر اليوم في العمل قليلًا فلا تَقلق عليَّ. غمغمت شيئًا ما من بين شفاهها الناعسة، ثم احتضنت ابنتها ونامت، قبلت ابنتي على خدها وخرجت من الغرفة.

تموجت الموجودات أمام عيني.

«كاثرين» الجميلة الشهية تَنتظرني.

تحملُني القابلة من قدمي وتضربني على مؤخِّرتي فأصرخ باكيًا، «مبروك يا حاجة، ولد!» أبي يكبر الله فرَحًا، وتبكي أمي وهي تحتويني برفق، أعود للبيت ممزق الثياب وأسقط في حجرها «لقد ضربني محمد مجدَّدًا وأخذ فطوري».

«الله أكبر، الله أكبر … لا إله إلا الله … الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.»

أجري في الشوارع مع قُصيِّ ورءوف ومصطفى، نُطلِق مسدَّسات الصوت الجديدة في وجوه المارَّة والمعيدين، طاخ طاخ بيو بيو، أخرج البرشام في حذرٍ من كمِّ قميصي وأضعُه تحت ورقة الأسئلة، «تهاني» تغمز لي بعينها ضاحكة فأضعُ إصبَعي أمام شفتي محذرًا.

ششششششششششش …!

«كاثي» الجميلة تَرتدي قميص نوم قصير أحمر اللون، وتَستلقي على السرير وهي تنظر لي في إغراء، تقول في غنج بلُكنة إنجليزية come baby, I missed you، أنزع ملابسي في سرعة، وأسحب البنطال للأسفل في لهفة حتى كدتُ أسقط، ضحكت هي من خرقي، وضحكتُ أنا حرجًا!

تتموَّج الموجودات مجدَّدًا، يا إلهي.

صوت المضْغ والبلع يتعالى.

أقف في سرادق العزاء، قلبي مُنقبض بألمٍ عميق، عويل النساء في الغرفة، وصبي يافِع يدُور على المُعزِّين بصينية الشاي، الفااااتحة، «هدى» تَضرب رأسها بيدَيها في جنون وتَبكي في هستيريا، «سوسو» ماتَت يا مختار، «سوسو» ماتت!

مختار!

من مختار؟

تتموَّج الموجودات مجددًا.

تبًّا، الصداع اللعين يفتك بدماغي.

كلبٌ يعوي في ناصية الشارع، قال «سليمان» وهو يُلقي عقب السجارة على الأرض ويدوسها بقدمه: «الشركة تقول أنها ستَبتعثُك لإنجلترا مجدَّدًا لاستكمال تسويق المنتج، الأستاذ «كامل» يصرُّ على هذا.» يتهدَّج صوت مقدم النشرة الإخبارية ويختنق بالبكاء، بينما الكاميرا تتنقل بين جثث دامية بجوار البحر، وطفلة تجري بين الجثث باكية «بابا … ماما»، الصهاينة فعلوا هذا، الكلاب، الشمس تُرسل لهيبها قاسيًا في رءوسنا، نَهتف بصوت مدوٍّ ونحن نحمل اللافتات «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد بدأ يعود!» عسكري أخرق الملابس ينظر لنا في ملل وهو يهرش مؤخِّرتَه.

أبي على فراش الموت يَعتصر يدي وينظر لي نظرة زجاجية، شعرتُ أنَّني أرى روحه تتسرَّب عبر عينيه الرماديتين.

Will You Marry Me?

صوت المضْغ والبلع يتعالى.

صوت الازدراد!

يُمكن معرفة الاتجاه الذي ستَسير فيه معدَّلات الفائدة من خلال مراقبة بعض المؤشرات الاقتصادية الهامة كمُؤشِّر أسعار المُستهلِكين (CPI)، ومعدَّل البطالة، ومعدل إنفاق المستهلكين وسوق العقار!

ما اﻟ…!

تنظر لي «كاثرين» في إعجاب وهي تُصفِّق مع الحضور، تلف ساقَيها حول ظهري، وتحملقَ فيَّ من قرب، في عينَيها حبٌّ عميقٌ، تَخمش ظهري بأظافرها وهي تغمض عينيها في نشوة ثم تتأوَّه.

خطيب المسجد يَدعُو الجميع لتقوى الله ثم يبكي، «سوسو» مغمضة العينَين، تبدو كملاك نائم، لكنَّني عرفت وقتها أنها لن تستيقظ للأبد.

أرمي حجرًا في بحيرة «ويندرمير» الساكنة، يقفز ثلاثًا على السطح الرائق ثم يغوص عميقًا، «كاثرين» تتعلَّق بساعدي كقط أليف، أسبح في عينيها الفاتنتَين وشلال الذهب الذي ينهمر على ظهرها، عندما أعود سأُطلِّق «هدى»، بعد أن ماتَت طفلتي لم يَعُد من شيء يَربطني بتلك المرأة، لم يَعُد شيء يربطني بتلك البلاد الكئيبة وأهلها الكالحين تَعِسوا الملامح.

الضوء الرهيب والضوضاء، صوت بوق السيارة العالي يهز الأرجاء.

الضوء الباهر يقترب حتى بسرعة حتى لم يَعُد في الكون سوى الضياء.

صوت البوق العالي يَخترق طبلة أذني ويزلزل كياني.

مذاق الدم في فمي كالحديد.

والرعب.

الرعب البِكر، المُتوحِّش، كأفظع ما يكون.

يا إلهي الرحيم!

أنا …

•••

كان يقف هناك!

بوجهِه الوسيم، وشعره المصفَّف بعناية، وابتسامته الودود، يُصفِّق بيدَيه في أناقِه ودخان سيجاره يتصاعد أمام وجهه، يشدُّ على يدي في مرح مهنئًا.

– «مبارك يا صديقي، لقد فعلتُها.»

نظرت له في ذهول مصعوقًا غير فاهم: «فعلت ماذا؟»

– «مارست النكرومانسية بنجاح، أنت الآن ترى حياته كاملة كما عاشها أمام عينيك، عدد مهُول من المعلومات والخبرات التي جمعها طوال حياته، اكتسبتها أنت هكذا — وفرقع بإصبعَيه — وكأنَّك عشت حياتَين في آنٍ واحد!»

رأسي يضجُّ بالعديد من الأصوات، أصوات هامسة مُتداخِلة لا أعرف أولها من آخرها، فتاة تضحك، رجل يبكي، أطفال يُغنُّون، حديثٌ غاضِب، قهقهات، أبواق سيارات، نقاشات مُتداخِلة، كلهم يتحدَّثُون في نفس الوقت وتتداخَل أصواتُهم حتى كاد عقلي يتمزق.

الصداع … الصداع!

جثوت على ركبتي على الأرض وأنا أُغطِّي أذني بكفِّي، صرخت في ألم: «دعهم يصمتون، أرجوك.»

تقدَّمَ ناحيتي في هدوء، وضع يدَه على كتفي وأمسك بيدي ليُعينَني على النهوض، قال: «هذه مليارات النبضات الكهربية تتدفَّق على عقلك، هذا والحق يُربكه، المرات الأولى هي الأصعب دائمًا، ستَحتاج إلى بعض الوقت حتى تتعلَّم كيف تتعامل مع المعلومات الجديدة التي تَكتسبُها مع كل ضحية، لكن لا تقلق، ستتعلَّم السيطرة على قدراتك قريبًا.»

في هذه المرة يا سيدي المحقِّق لم أكن خائفًا.

لقد أحببتُ «كاثرين».

أحببتُ شعرها الأشقر الناعم، وضحكتَها القصيرة التي تبدأ وتنهي فجأة، وعينَيها اللوزيتان البريئتان، وتلك الشامة الصغيرة أعلى فخذها الأيمن، صحيح أنَّني لم أعرفها ولم أقابلها في حياتي قط، لكنَّني كنتُ أعرف كل شئ عنها، أشعر بحبِّها يملأ شغاف قلبي ويتملَّكني بلا فكاك، تَعتصِر قلبي غصة مُؤلِمة عندما أتذكر ابنتي.

لقد سطوت على حياة شخص آخر.

تلصَّصت على ذكرياته، وسلبت تفاصيله الخاصة والحميمة.

في دقائق فقط أصبحت أحوز معرفةً حياة كاملة، في دقائق فقط أصبحتُ أعرفُ كلَّ شيء عن أسعارِ الفائدة في السوق العالَمية، ومُضاربات وول ستريت، وأتكلَّم الإنجليزية بطلاقة.

نظرت في عينَيه بتركيز، الآن أتبيَّن لم بدَتا لي غريبتَين من قبل، لم يكن سواد عينَيه دائريًّا كبقية البشر، بل يمتدُّ طوليًّا كالقطط، وبرغم هذا كان وسيمًا كأقصى ما يكون.

سألته: «كيف تفعل هذا؟»

قال وقد فهم ما قصدتُه في الحال: «واقعك مجرَّد وهم، هو مجرَّد انعكاسات ضوئية وإشارات كهربائية في دماغك تجعلُك تصفُه بأنه واقِع، في الحقيقة هو ليس كذلك، أنت ترى ما تريد رؤيته، وما أريد لكَ أنا أن تراه، إذا ما استطعتَ تغيير هذه الإشارات تلاشى الواقع كأن لم يكن، الزمن كذلك مجرَّد مقياس وهمي لتفسير حركة المادة، يُمكنني التحكم في واقعك والتلاعب بزمنك كيفما أشاء.»

هو شيطان مثقَّف بعد كل شيء!

صوت المضغ والبلع يتعالى من جديد!

اهتزَّت الموجودات أمامي وبدأت تفاصيل أخرى تظهر لناظري، صالة شقتي، السجَّاد الفارسي، بقايا دامية مُتناثرة هنا وهناك، وأنا جالس القرفصاء على الأرض، أمسك بما تبقى من فخذ الجثة التي كانت لرجل قبل أيام.

كان اسمه «مختارًا»، وقد أحب فتاة إنجليزية وأنجب طفلة جميلة، الآن هو مجموعة من العظام البالية مكوَّمة في صالة داري.

ما أتفه الإنسان!

أُمزِّق اللحم بأسناني، وأمضُغ في بطءٍ مُتلذذًا، طعم اللحم البشَري شهي، أقرب للحم الأسماك، تلكَ المرَّة الأولى التي أعرف فيها هذه المعلومة، مع تحلُّل الجثة يغدو اللحم طريًّا أكثر وأسهل في المضغ.

ازدردتُ ما كنتُ أمضغُه ثم تجشَّأت، ورميتُ عظم الفخذ بعيدًا.

نظرتُ حولي في خمول، لم يكن في الصالة سوى بُقعة كبيرة من الدم تشرَّبَها السجاد، وعظام متناثِرة.

هذه المرة كانت الرائحة محبَّبة، لم تَعُد كريهةً إلى هذه الدرجة!

عندما رنَّ جرسُ الباب، لم أكن خائفًا!

فتحتُ الباب مُواربًا، كان «سعيد» يقف هناك، فلمَّا رآني تهلَّلتْ أساريرُه وقال شيئًا عن الفيزا التي حصَل عليها ورغبتِه في الاحتفال، تراجعتُ للخلف ببطء وأفسحت الباب ودعوته للدخول، ما إن دلف للداخل حتى رأيتُ وجَهه يتقلَّص، وضع يده على أنفه وقال شيئًا عن الرائحة النتنة، قال شيئًا عن رائحة قفص الأسود في حديقة الحيوانات، قال شيئًا عن الدماء التي تناثرت على أرضية صالتي، لكنه لما رأى الكفن والجُمجمة منزوعة اللحم مَلقيةً في الصالة، والدماء التي تناثرت على وجهي وملابسي لم يَقُل شيئًا، تصلَّب في مكانه وهو يرمقني في بلاهة.

كان «سعيد» غبيًّا يا حضرة المُحقِّق، فلم يَستطِع فهم الأمر بالسرعة الكافية.

هذا من سوء حظه بالطبع.

وكما قلت لك من قبل كان رجلًا سعيدًا جدًّا.

سعيدًا إلى درجة تُثير غبينتَك وغيظك!

تفوتُه الحافلة فيَبتسم، تتركُه زوجتُه وتَهرُب مع عشيقِها فيَبتسِم، يشتمُه مُديره في العمل فيبتسم.

حسن، الآن لم يَعُد يفعل أيًّا من هذا!

عندما هويتُ على رأسه بالحامل الحديدي الثقيل، تكوَّم على الأرض كجوال من البطاطس دون أن ينطق حرفًا، أغلقتُ الباب ورحتُ أسحبُه إلى مغطَس الحمَّام، خلعتُ ملابسَه وقمت بنحره من عنقه لأُصفِّي الدم منه، أنت تتفهَّم بالطبع لِم لَم أعد أُريد مزيدًا من الدماء في صالتي، ليس لديَّ الوقت لأعمال التنظيف المُملَّة هذه.

عندما انتهيتُ من سَلخِ فروةِ رأسه، وهشَّمتُ عظام جُمجمته بيَدِ الهاون، ثم بدأتُ في التهام مخِّه عرفتُ كل شيء عنه، في الواقع لم تكن هناك معرفة تُذكَر، عقله خاوٍ كجَيب موظف حكومي منتصَف الشهر، لا يوجد شيء، عدا بعض الصور الفاضحة له بملابسه الداخليه، في وضعيات يُفترَض أنها مُغرية، أرسلها بالبريد الإلكتروني لفتاة ما، ورسائل بريدية تعجُّ بالأخطاء الإملائية.

تصوَّرْ أنه كان يستخدم الحروف الناسخة «إنَّ وأخواتها» في الجمل الاسمية دون أن يَنصِب المبتدأ ويَرفع الخبر! والأدهى أنه كان يكتب حرف الاستدراك «لكن» كما يَنطقُه «لاكين» دون أدنى شعور بالخطيئة أو الذنب! مع الكثير من معلومات صحف التسلية الرخيصة على غرار: «هل تعلم أن سور الصين العظيم في الصين؟!» «هل تعلم أنه يمكنك رؤية الكعبة من القمر؟!» إلخ.

لم تكن هناك معرفة ما في عقله.

الآن فهمت لم كان سعيدًا طيلة الوقت.

لكنني لم أشعر بالأسف على سلبه حياته على أيَّة حال، على الأقل نقص عدد السعداء واحدًا.

هذه قصتي يا حضرة المُحقِّق، وهذا اعترافي الكامل، وأرجو أن تَعذرني على التسويف.

أصبحَت عادتي كل مساء أن أزور المقابر القريبة أسرق الجُثَث، ثم أستنطقها عندما أعود للمنزل، وعندما يبدأ الناس في طرح الأسئلة، أترُك المكان وأرتحل بجوار مقابر أخرى.

أحيانًا أَشتهي اللحمَ الطازح، فأختطفُ بعض الأحياء، أغلبهم من فتيات الليل، وأحيانًا بعض الأطفال، أجلب الواحدة منهنَّ لداري، وأدسُّ لها بعض المخدِّر الذي يشلُّ الحركة لكنه يبقيها حية تُشاهد كل شيء، على الأقل حتى اللحظة التي أشقُّ صدرَها وأنتزعُ قلبها من الضلوع، لحم دافئ ينبض في يدي، وهي لذة لا تُضاهيها لذة، لكنني في حلٍّ من قصِّ هذه التفاصيل عليك الآن.

تعلَّمت الكثير، وعرفت الكثير، اكتشفت أسرارًا مرعبة يشيب لها شعر رأسك، نبشتُ خبايا لن تصدق حرفًا منها إن قصصتها عليك.

أصبحت أكثر قوة وثراءً وذكاءً في أشهُرٍ معدودات. إن رصيدي البنكي الآن يَحتوي أرقامًا كففت عن عدِّها منذ زمن.

هل تَشعُر بالنعاس سيدي المحقِّق؟ هل أثرت ملَلَكَ لأقصى حد؟!

أرى أن جفنَيك يَتثاقلان، وبالكاد تقوى على تثبيتِ رأسِك باستقامة.

لقد انتهَيتُ من سردِ قصَّتي على كل حال.

فقط تبقَّى شيء أخير لأقوله، ما دفَعني لدعوتك لزيارتي اليوم يا سيدي المحقِّق أنني شعرت بأنكم تُضيِّقون عليَّ الخناق مؤخَّرًا، أعرف أنها مسألة وقتٍ فقط حتى تقوموا بالربط بين اختفاء الجثث والغريب الذي يحلُّ ضيفًا في المكان فجأة، ثم يتوقَّف نبش القبور مع اختفائه، الغريب المنطوي الذي لا يَخرُج من منزله إلا ليلًا، لذلك قررتُ أن أهاجم بدلًا عن أن أتوسَّل الفرار في كل مرة، ضقت ذرعًا بالهرب وعدم الاستقرار.

طرأت لي فكرة جَميلة، لم لا أفترس أحد أفراد الشرطة المُكلَّفين بقضيتي لأعرف آخر ما توصلتم إليه بالضبط؟ ومن نافلة القول كذلك أنَّني سأَعرِف طريقة تفكيركم وتكتيكات عملِكم فأستطيع حماية نفسي مُستقبلًا.

تنظر لي في عدم تصديق؟ يَصعُب استيعاب الأمر من الوهلة الأولى، لكن دعني أقل لك إن حسَّك الأمنيَّ قد خانك هذه المرة، لقد أخطأت عندما قبلت أن تزور غريبًا في شقتِه بدون تأمين نفسك.

أخطأتَ مجدَّدًا عندما قبلت أن تَشرب عصيرًا لا تعرف محتوياته.

ألم تقل لك والدتك قديمًا أن لا تأخذ الحلوى والعصائر من الغرباء؟

ربما هو الغباء، ربما هي الثقة المُفرطة بالنفس، لا أعرف!

أشكرك لأنك استمعت لجانبي من القصة، وهي خصلة حميدة أشكرُك عليها، يَندر أن تَجدها في مثل أيامنا هذه، لذا سأُقدم لك معروفًا خاصًّا لم أُقدِّمه لغيرك، لن أقدم على التهامك حتى تَفقِد الوعي تمامًا، لن تشعر بشيء.

فقط ستغرق في سبات عميق لن تستيقظ منه هذه المرة، فانطِقِ الشهادتَين إن أحببت.

من بين عينيك الغائمتين سترى أن جسدي يتحوَّل لشي آخر.

سترى شيطانًا مُرعبًا يتحوَّل أمام عينيك المذهولتَين.

أرجوك، لا تخف!

سترى أذنَيَّ تَستطيلان، ويتمدَّد فمي للأمام ويسيل منه اللعاب، وتنبت فيه بعض الأنياب.

أرجوك، لا تقلق!

من حسن حظك أنك لن تشعر بأنفاسه الحيوانية الجشعة اللاهِثة على عنقِك وهو يَتشمَّمك، قبل أن يبدأ في نهشِ كتفِكَ ونزع اللحم عنه.

لا … لن تشعر بشيء!

سيمر كل شيء بلا ألم!

قد بدأ الصداع اللعين يغزو مقدمة رأسي، إنه قادم!

والآن، أستمحيك عذرًا، سأغيب عن الوعي لبعض الوقت.

(تمَّت)
١  تم حذف الآيات القرآنية من المؤلِّف كنوع من المراعاة على الأرجح حتى لا تحدث كارثة. (الراوي)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤