القصة المملة الخامسة: بإخلاص: أنتَ تَعرِف مَنْ

هل ستكفُّ عن حبي إذا ما رأيتني الآن؟

١

أصوات خافِتة متداخلة، أزيز متقطع.

مُمرضتان تتهامَسان في الممرِّ الضيق بالخارج.

صوت سعال خفيف من الغرفة المُجاورة.

فراشة تحطُّ على مقبض النافذة الزجاجية من الخارج، تتأمَّلني للحظات بفضول ثم تُحلِّق مُبتعدة. قطرات المحلول الوريدي الممتد حتى ذراعي، يُسرِّب قطراته في عروقي ببطء.

أستلقي على سرير المُستشفى الذي ظلَّ يتَّسع على جسدي المتهالِك يومًا بعد يوم، أرتدي رداء المُستشفى الفضفاض، وأكتب لك هذا الخطاب على ضوء الأباجورة الخافت.

هو خطابي الأول لك، واعترافي الأخير.

أمامي تفاحة خضراء اللون لم أمسَّها منذ الصباح، وبعض الخضروات، لم تَعُد معدتي تتحمَّل شيئًا سوى الماء القراح، أسماء لاتينية كريهة تتراصُّ أمامي لأدوية كفَفت عن إحصائها منذ زمن، أدوية تُبلع، وتُدهن، وتُحقَن، وتُشم، في كل يوم يُضيف لي الطبيب المسئول عن حالتي دواءً جديدًا. إنَّ سرطان الثدي لا يمزح، العلاج الكيميائي مقيت، هو ليس علاجًا في واقع الأمر، لكنه يَمنحني فقط بعض الوقت، لكنَّني أعرف أنه لم يتبقَّ لي الكثير، انتشر الورم واستفحل انتشر في صدري بالكامل، على أنَّ أحسن استغلال أيامي القليلة المُتبقية فقد تتداعى أعضائي في أيِّ لحظة، قالَها لي الطبيب ببرودٍ مِهَني صارم.

لكن تعلم، أنَّني لا أثق في الأطباء.

خمس سنوات مرت على فراقك اليوم.

خمس سنوات كاملات أحصيتهنَّ يومًا بيوم، وعلى الرغم من ذلك، أتذكر وجهك بوضوح كما لو كان بالأمس.

بالأمس رأيت النظرة الحزينة في عينيك، وقبلت رأسي ثم انصرفت، لا أزال أشعر بملمس شفتَيك على رأسي.

كنت مخطئة، أعترف، لكنَّك ذهبت، بلا رجعة!

هل تشتاقُ لي كما أشتاق إليك؟

هل تتأمَّل صورتي وتحتضنها قبل نومك، هل تُبلِّل وسادتك بالدموع والشهيق حتى لتشعر بأن روحك تزهق من بين الضلوع؟

هل تحنُّ لي؟!

زجاج النافذة المعتم يعكس صورة مشوَّشة، فتاة تبدو مثلي، لا، هي أشد هزالًا، تساقط شعرها بالكامل، وبرزت عظام وجهها الصامت، أشبه بفزاعة آدمية …

هل هذا ما أصبحته؟

لطالَما أحببت شعري، أعرف هذا، لطالما داعبته بأصابعك عندما يغمرك فيضان المشاعر.

هل ستكفُّ عن حبي إذا ما رأيتني الآن؟

أتذكَّر دعاباتك القاسية لي عندما يرهقك المشي، تقول لي إنك لا تَعرف لم أحببتك، تقول لي كم أنتَ مُعدَم كصرصور، لا تَملك سيارة كأي حبيب يحترم نفسه، فلماذا تُحبينَني!

لماذا تُحبينَني؟!

تسألني!

لم تفهم، أحببتك لأنك أنت، بتذمُّرك، وفقرك، وعنادك، أحببت طفوليتك، ودعاباتك المضحكة من فرط سذاجتها عندما تُحاول التخفيف عنِّي وقتَما يَتملكني الضيق.

حسن، تزوَّجت من يملك سيارة الآن، حرِصَ هو أن تكون الأفخم، والأجمل، والأكثر حداثة ليرى النظرة المنبهرة في عيني.

برغم كل شيء، ظل المقعد المُجاور لي خاليًا منك.

ظللتُ أنتظر نظرةَ السعادة في عينيك، عندما تملك بعض المال أحيانًا لأجرة التاكسي، وتتباهى بانتصارك الصغير، وسعادتي بك وقتها.

انتظرت طويلًا.

خمس سنوات مرَّت على فراقك.

كنتُ كاذبة عندما قلت لك في تحدٍّ أنني سأنساك، كذبت على نفسي قبل أن أكذب عليك.

تزوَّجتُ رجلًا ليس أنت، أنجبت طفلة ليست منك، كوَّنتُ أسرتي التي لا تشملك، حاولت أن أستمر في حياتي بما تبقَّى لي.

حاولت باستماتة أن أمضي قدمًا.

لكنَّني تعلمتُ عادةً سيئة من بعدك.

كنتُ أبحثُ عن وجهك في وجهِه، عن ضحكتِك وسط ضحكاته، عن طعم قبلاتِك في شفتيه، عن لمساتك.

كنت أخدع نفسي.

لستُما سواءً.

ليس أنت.

زوجي يُحبُّني بجنون، يَبذُل جهدَه في إسعادي، عندما يَحتضنُني ليلًا أرى النظرةَ الحائرة في عينَيه، أقول له إنني أُحبُّه كذبًا!

تخرج من فمي باهتة بلا طعم، بلا يقين.

شتان ما بين «أحبك» التي كنتُ ألقيها على مسمعك خجلًا، وأشعر بكل حروفها تتخلل قلبي فيضطرب في خفقانِه، ويُفيض بالحب والسعادة، وبين «أحبُّك» التي أقولها له في برود، ألقيها إلقاءً كشيء ثقيل يتدلَّى من على طرف لساني، هربًا من عينيه المتسولتَين.

هو لا يَفهم ما الذي أجرم فيه لأقابله بهذا البرود، أرى حيرته في عينيه.

مسكين هو، لم يفهم أنه ليس ذنبَه، فقط تزوَّج بقايا امرأة!

امرأة تَعِسة، مُحطَّمة، خاوٍ قلبها كخرابٍ يَنعَق فيه البوم بعد أن غادرته.

فهل يَعمُر مجدَّدًا ما أضحى خرابًا؟

تركتَ حطامًا لا يصلح لمَن بعدك، أحرقت كل شيء وغادرت، للأسف، في هدوء عاصف.

عسى الله أن يغفر لي ما أذنبته معه!

عسى أن يَغفرَ لي قلبي ما أذنبتُه معك!

خمس سنوات مرت على فراقك!

حين أستلقي لوحدي في الليل أعيد التفكير وأستعيد شريط الذكريات، أفكِّر، ماذا حدث؟ ولماذا؟

قالوا لي إنكَ لستَ الأنسب، قالوا لي أنك لست مسئولًا لتكوين بيت وأسرة، قالوا لي إنك طفل كبير، لم أستطع، للأسف، أن أقول لهم إن طفوليتك تلك هي سر جاذبيتك وما أحببته فيك!

أمي، أخواتي، صديقاتي، خدعوني فصدقتهم!

علَّمُوني أن أقسوَ عليكَ، ليَسهُل على قلبي اتخاذ القرار.

ظللتُ أخوض صراعًا لا تعلم عنه شيئًا، شدٌّ وجذب بين قلب يطلبك بشدة، وعقل يلفظك مرغمًا، يَتشاكسان في ساحة دواخلي، وتَتنازعني أمواجهما المتلاطمة يمينًا ويسارًا، حتى ضاقت نفسي بحملها.

لكم أرهقني هذا الشعور …

ثم جاء من هو على النقيض منك، من يملك كل شيء، فاخترته.

ذهبت رغمًا عني، وظلت ذكراك تطاردني كاللعنة!

أخطأت بلا كفارة، كان هذا ذنبي العظيم الذي لم تَستطِع أن تَغفره!

ألسنا بشرًا نُخطئ ونصيب؟! ألا نَستحقُّ فرصًا ثانية؟

أليس الله يغفر؟!

فلم لا تفعل أنت!

أغرقت نفسي بالبيت، بالعمل، بالطفلة، أدمنتُ التدخين سرًّا، لم يشفع لي شيء!

تسلَّقتُ سلَّم حياتي هربًا من شبحك، كنت أهرب للأمام.

أحاول أن أخبر نفسي بتلك الطريقة أنني بخير بدونك.

فعلت كل هذا، أصبحت زوجة رجل الأعمال الناجح، أصبح يُشار إليَّ بالبنان، والحسد أحيانًا، حزت بيتًا لم أحلم به وزوجًا من أفضل ما يكون، لكنَّني عندما توقفت هناك، للحظات سألت نفسي: «ثم ماذا بعد؟!»

ما قيمةُ المال والثروة مقابل قلبٍ أحبك! ما قيمة الحياة المريحة بين طرفَين لا تجمعهما قيمة سوى المال، مقابل قلبَين يتنفَّسان بعضهما على شظف من العيش، ما قيمة الحياة بدون شخص يحبك لا لشيء سوى ذاتك، لا يُبرر حبَّه لك بشيء سوى أنك أنت، لا مالُك ولا جاهُك ولا هيئتك، فقط أنت … أنت … لأنكَ أنت، بسوئك وعُيوبك ونقائصك.

ففي نقائص المحبوب يَكمُن كمالُ الحب وسموُّه.

للأسف، هي قشور الحياة.

نمضي حياتنا بقِصَرِها لاهِثين خلف أشياء براقة تبهرنا، المنزل الفخم، السيارة، الملابس، الرفاهية، ثم نقف على حافة العمر بعد أن فني أو كاد، نلتفت في لحظة خاطفة للوراء، لنكتشف أننا سلكنا المنعطف الخاطئ، أهدرنا حياتنا هبة الله لنا سدى، نسينا المعنى الحقيقي وتمسَّكْنا بالقشور.

فلا بقيت حياتنا ولا بقيَت القُشور.

صدقني، كانت نظرة فَخرِك بنفسك عندما ترى الإعجاب في عيني عندما تَفتح لي قارورةَ الماء، أعظم عندي من كل هذه الحياة، بحثتُ عنك بعيني وسط الحشود لأرى تلك النظرة مجددًا، تمنَّيت للحظة لو يَختفي الجميع.

وتبقى أنت!

أنفقت كل شيء بَحثًا عن سعادةٍ مُصطنعة مُشتراة، لم تُساوِ لحظة من لحظات سَعادتي وأنا أتأمل ملامحك الوادعة تستكين بالنوم على صدري.

خمس سنوات مرَّت على فراقك!

بالأمس قرأت مجلة جلبها لي أحد مُساعدي التمريض لتُسرِّيَني قليلًا في وحدتي.

يحمل بعض ملامحك، وشيئًا من ضحكتك.

قرأت ما خطَّه الجبران من قبل، وكأنه يتحدث عني.

لا أحد يعلم ما أصابك، لا أحد يعلم كيف هي معركتك الخاصَّة مع الحياة، ما الذي زعزَع أمانك، وقتل عفويتك، كم كافحت وكم خسرت؟! لا أحد يعلم من أنت حقًّا!

حقًّا! لا أحد يعلم من أنا!

ما الذي زعزع يقيني، وقتل روحي، وأفرغ كل كياني؟!

ولأنَّ روحك جزء من رُوحي، أعرف أن كل ما يَعتري قلبي يشعر به قلبك، برغم كل المسافات.

كان هناك مقال يتحدَّث عن الأرواح وتواصلها عبر العوالم، قالوا إن مثل حبِّنا لأنَّ رُوحَينا التقتا بعضهما في عالم آخر من قبل في حياة غير هذه الحياة، كُنا أحباء قبل أن نعود كغرباء في هذه الحياة ونَلتقي مجددً!

هذا عزائي!

لئن فقدتك في هذه الحياة، فسأُحاول التعويض في حياة أخرى، أن أتمسَّك بك بقوة من البداية.

لا أعرف كيف سنلتقي!

هل سأراك في السوق بالصُّدفة؟ هل ستكون زميلي في الجامعة؟ ربما ستَجلِس بقربي في مكانٍ ما، وأشعر أنك لست غريبًا عني!

هل سأجد في نفسي الجرأة لمُحادثتِك؟

لا أعرف، لكنَّني أعرف أنني سأُحبُّك من النظرة الأولى التي سأراك فيها، أعرف كذلكَ أن شعري سيكون قد عاد وقتها، وستُحبُّه كما أحببته من قبل.

عندها أعدك!

سأُحاول مجددًا.

ووصيتي لك: أحبَّ زوجتك كما أحببَتني؛ فهي تستحق!

ولتبحَث في قلبِك عن بعضِ الرحمة، عسى أن تَغفر لي سوء تقديري وما أذنبته معك.

قالُوا أنهم سيَبعثون لك هذه الرسالة فيما بعد، اشترطتُ عليهم أن أكون قد فارقت الحياة قبلها، لذا، عندما تقرأ حروفي هذه، أعرف أنني قد سبقتك في العبور.

لم يَعُد في العمر بقية يا طفلي، ولم يَعُد في الوقت متَّسع.

فلتعلم، أنني قد أحببتُك كما لم يحب إنسان إنسانًا من قبل، وعشقتُك فوق طاقتي.

فليَرحمني الله!

بإخلاص: أنتَ تعرف مَن.

(تمَّت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤