القصة المملة التاسعة: العاهرة

أحيانًا، يأتيك الشخص المناسب، في أكثر الأوقات سوءًا.

مشهد أول

(ينزاح الستار.)

(خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تَعتلي المسرح.)

(صوت كمان حزين في الخلفية.)

(تصفيق.)

عاهرة! خائنة! فاسقة!

هي أسماء سميتمُوها، لا تعنيني في شيء، كلمات تُطلَق في الهواء لوضعِ الناس في قوالب جامِدة، لكن في واقع الأشياء فالأوصاف الجاهزة لا تصف إنسانًا ولا تُصنِّفه، لا يوجد أسود وأبيض فيما يخص البشر، فنفوس الناس تسبح في الطيف الرمادي طيلة الوقت، من السهل أن تُطلق الأحكام ثم تَرتكن إلى نفسك، لا يُكلِّف أحد نفسه لفهم دوافعك الخفية وأسبابك لفعل الشيء، لا يغوص معك عميقًا في ذاتك، ليفهم ما فعلت.

الشخص المُناسِب لا تحتاج وقتًا حتى تعرفه، وقد عرفته من الوهلة الأولى التي رأته فيها عيناي، في مثل عمري، أنيق وسيم، يرتدي ملابس سوداء بالكامل، خفق قلبي بقوة عندما تلاقَت عينانا في لحظة كخطف البرق، اضطربت في مجلسي وارتعش صوتي، زوجي وأطفالي لم يلحظُوا اضطرابي بينهم، سوى تعليق عابر من زوجي يَقترِح أنني أُعاني مشكلة في معدتي لتغيُّر لون وجهي، عندما عدتُ معهم للمنزل شعرت نفسي غريبة بينَهم، كأني أدخله للمرة الأولى، وخلال الأيام التالية ظلَّت صورة الرجل بالملابس السوداء تُعشِّش في ذِهني وتقفز أمام ناظري حتى أرهقتني، نظراته الحادة، وابتسامته الدافئة الناصِعة، تظهر جمالها ملابسة الداكنة، رأيت وجهه في وجه زوجي في ذات المساء، وهو يَعتليني على فراش الزوجية وأنا تحته شيء جامد، أنظر له في تقزُّز في انتظار أن يفرغ ما فيه، ولما ارتمى بجانبي هامدًا وارتفع صوت شخيرِه انسللت للحمام وبكيت.

لا أعرف لماذا، لكنَّني شعرت أنني ملوَّثة بالخطيئة حتى أخمص قدمي، ظلَّت تحت الماء لساعات أغسل عني درن لمساته.

مشهد ثانٍ

(ينزاح الستار.)

(خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تَعتلي المسرح.)

(موسيقى مُتصاعِدة في الخلفية.)

(تصفيق.)

نادمة!

لا ليس حقًّا … لا يَستشعِر الندم إلا من وعي أصل الخطأ، وأنا لم أُخطئ … هذا ما أشعر به في قلبي وما يُمليه عليَّ ضميري.

تعمَّدت أن أزور ذات المطعم بانتظام عسى أن أكحل عيني برؤيته مجددًا، كانت لحظات كالحلم عندما رأيتُه مجددًا، رأيتُ ابتسامتَه الدافئة تقترب مني، جلس قبالتي وتحدَّث بصوت رجولي عميق، كاد قلبي يَقفز له من بين ضلوعي، تحدَّثنا كصديقين قديمَين، وضحكت من أعماقي عدة مرات على دعاباته اللطيفة، حكى لي عنه، قصص حبِّه القديمة، والداه وأخوانه، عمله، آماله وطموحه ومخاوفه، قصصت له كل شيء عنِّي، استمع لي باهتمام، أخبرني أن كلَّ شيء سيكون بخير، مضى الوقت بسرعة دون أن أشعر به، كان مألوفًا، شعرت أنني أعرفُه منذ سنوات، وسرَتْ قشعريرة باردة في جسدي، عندما أمسك يدي ليُعينَني على النهوض لنغادر معًا، كان كل شيء كالحلم.

وفي ذات المساء دخلت معه منزله، توقَّفت أمامه للحظات أتأمَّل وجهه المُبتسِم وأتحسَّس ابتسامتَه بأطراف أصابعي، خلعت ملابسي ببطء مُتعمَّد حتى أطيل استمتاعي باللحظة قدر الإمكان، توقَّفت أمامه عارية وقربت حلمة صدري المكتنِز من وجهه فالتقمه بين شفتَيه بلا جهد. وريد صغير ينبض في جنون بين فخذيَّ، وتوتر شبقي محموم يندلع هناك ويُبلِّل المكان تعطشًا لولوج قضيبه. بركان هائج يعصف في جسدي، وتسري حممه في أوصالي، قلبي يخفق بلا هوادة، وأنفاسي مُتسارعة محمومة.

أفلَت صَدري واحتضنني فذبت بين ذراعيه كقطعة من الثلج، أشعر بملمس يديه القويتين تتحسَّس صدري وبطني وتتسلل إلى ما بين ساقي، أتحسَّس قضيبه المنتصب بيد ترتجف شبقًا، انسحبت منه للأسفل وجثوت على ركبتي أمامه، أغمضت عيني وأولجته في فمي، تذوقتُه كما يتذوق السكران كأسًا من النبيذ بعد طول انقطاع، حمَلني للسرير حملًا واعتلاني في هياج.

الموجودات تدور أمام عيني ثم تتركز، قلبي يَخفِق بعنف ودمائي كأنها تفور في أوردتي، أغمض عيني للحظات وأشهق من فرط اللذة، ثم أفتحهما في نصف إغماضة كالمنوِّمة لأرى وجهه الجميل على مقربة منِّي. أمسك مؤخرة رأسه وأجذبه إلى لأرشف رضاب شفتَيه، بقوة وتوحُّش، ثمَّ أطلق صرخات لا إرادية، وأغيب عن الوجود مجددًا، أشتمُّ عبق رائحته بشهيق طويل، خليط آسر من رائحة السجائر وعطر رجولي يدغدغ الحواس، وفي لحظة أنينه الطويل وارتجافة جسده عند وصوله إلى أقصى اللذة، ضغطتُه على جسدي بفخذي من خلف ظهره بلطف، ولففتُ ساعِدي حول ظهره لأحسَّ ارتعاشاته المتقطِّعة تتخلَّل جسدي، وأحسُّ سُخونة مائه في أحشائي.

لحظتها، شعرت بامتنان قوي ناحيته، حبٌّ قويٌّ جارفٌ، تمنَّيت لو أمنحه كل شيء، ليس جسدي فقط، في تلك اللحظة المتجمِّدة من الزمن.

عندما استلقى جواري بعدها واحتضنَني بين ذراعَيه وقبَّل شفتيَّ قبلة طويلة، لم أكن أكثر سعادة في حياتي كما كنتُ في تلك اللحظة، لم أحسَّ بالخطيئة وقتها، في الواقع كان شعوري على النقيض أنني في مكاني الطبيعي، وبرغم أنني مُتزوِّجة من عدة سنوات خلت، كانت تلك المرة الأولى في حياتى التي أصلَ فيها لتلك النشوة وأحس تفاصيل الجنس، أستشعرُ ذلك الخدرَ اللذيذ في كل كياني وأنا أُمرِّغ أنفي في صدره في تكاسُل لأحتفظ بعبق رائحته في ذاكرتي.

أحيانًا يأتيك الشخص المُناسِب في أكثر الأوقات سوءًا، أعرف هذا، لكنَّني أحببته بكل جوارحي بلا حيلة منِّي، وليس بعد هذا الحب ذنب، وجدتُ نفسي معه منذ البداية، وقعنا في حب بعضنا من المرة الأولى، حبًّا جارفًا مجنونًا بلا قيود.

كان كالغيث يهطل بغزارة، وأنا صحراء جدباء تَستجدي المطر.

مشهد ثالث

(ينزاح الستار.)

(خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تَعتلي المسرح.)

(صوت كنائسي خفيض في الخلفية.)

(تصفيق.)

خائنة!

ربما كنتُ أخون زوجًا، لكنَّني لا أخونُ نفسي.

لا أحد يفهم مأساة امرأة تَتنازعها نفسها بين رجلين، رجل ارتبطَت معه بشريعة الزواج والبيت والأطفال، ورجل ارتبطَت به بشريعة القلب.

امرأة تعيش أمام الناس كما ينبغي لها، زوجة وأم وجارة، ثم تهرُب بعيدًا عن أعين الناس لتعيش لحظات من المتعة المحرمة كفتاة مراهقة بين أحضان حبيبها.

العاشق لا يكذب قلبه، تحبُّ المرأة رجلها بكل حواسها، وتمنح نفسها له كتعبير عن هذا الحب، شيء مَحسوس تُترجم به حواسَّها ومشاعرها تجاهه، وبهذا المنطق فقد كنتُ أرى نفسي امرأة عاشقة، وليس زانية أو خائنة.

الزواج أحيانًا يسجن المرأة، يحكم تصرفها ويقرر مصيرها ويستلب شخصيتها وتفردها، يقتل روحها ويُفرغ ذاتها من كل شيء، كل النساء عبدات عدا قلوبهن، لا يُمكِن أن تسجن القلب بأيِّ شرعٍ أو قانونٍ، فهو لا يفهم الشرائع ويتمرَّد على القيود، يَصرُخ بما يُريد بدون مراعاة لشيء، ضجيج الحب هو صوت الله الهامس في دواخلنا، وبوصلة أرواحنا، والعشق قوة تُسيرنا وتغمر قلوبنا وتربطها بمن تأنس له.

لا حيلةَ لنا في قلوبنا، كما لا حيلة لنا في عشق من نُحبُّ.

ما أُسمِّيه بيتي هو سجني، وزواجي كان عبوديتي، أهيمُ بين الناس كالشبح، وعندما أرتدُّ إلى نفسي ليلًا لا أجدها، تلاشَت رُوحي وسط روتين حياتي، توقَّفَت حياتي في اللحظة التي أصبحت فيها شيئًا إضافيًّا مع متعلِّقات المنزل، ضاعت مني نفسي وأنا أُؤدِّي دوري كزوجة وفيَّة تهتمُّ ببيتها وزوجها، وأمٍّ تربي أطفالها على مكارم الأخلاق، فقدت طفولتي وفي غمرة بحثي عن ذاتي ظهر في حياتي كالمُنقِذ، انتشلني مِن نَفسي وأنا أصارع سكرات الغرق، ظهر في حياتي كهِبة من السماء، خفق له قلبي للمرة الأولى منذ سنوات ولم يَصمُت من بعدها، فاتبعتُه بلا تفكير.

قانون البشر يُخطئ ويصيب، وقانون القلب لا يكذب، وعلى غير المتوقَّع لم أكن أشعر بالعهر إلا بين يدَي زوجي، أُؤدِّي له حقَّه في جسدي كجثَّة هامِدة، حتى لا يبغضني الله وتَلعنُني ملائكته، أقوم من تحته وأشعر بالقذارة تتخلَّلني، وعندما أسترق بعض الساعات من دوامة يومي، وأزور حبيبي في مخدعة أنسى كل شيء وأعود امرأة جديدة، امرأة كاملة يتفجَّر قلبها حبًّا، بين ذراعَيه تَشتعِل كل جوارحي، وأحسُّ معانيَ جديدة للاشتهاء عندما تَلتحِم أجسادُنا في تواصُل جنسي حيواني محموم.

كانت أوقات حالِمة تلاشَت كما بدأت أول مرة، بعد عدة أشهر فقط أفقت من حلمي الطويل على نبأ تسرُّب خبر علاقتي المحرمة إلى زوجي، طلَّقني وأخذ منِّي أبنائي، كرهني أهلي، ولفَظني الناس، صديقاتي وجاراتي، أرى نظرات الرجال الوقحة المُقتحمة، وأسمع همهمات همس النساء عندما أمر بهنَّ في الشارع، أعادُوني إلى منزل أسرتي كعار يَستوجب الغسل، وفضيحة لا بدَّ من إخفائها، العاهِرة التي خانَت زوجَها ومرَّغَت رأس أهلها في التراب، كراهيتهم تضجُّ في أعينهم، وفي أصواتهم الزاعِقة، وسوء معاملتهم المستمر، أصبحت سجينة منزلي، لا أَخرُج، لا أقابل أحدًا، لا أُغادِر غرفتي، كالملعونة، مطرودة من رحمة الله وعطف الناس.

تتقلَّب الأيام وتمضي آسفة، مضى الأمس كما يَمضي اليوم كما سيَمضي الغد، أقضي الأيام على سريري أغرق في دموعي حتى أصابني المرض والهزال، أجاهد حتى لا أفقد صوابي، وأدعو الله كل مساء يأتيني أمره فأريح وأستريح.

وأُنقِّب في ذاكرتي متسائلة طيلة الوقت، هل أخطأت؟ هل كان ذنبي أنني قد أحببت؟ فما حيلتي في قلبي؟

أليسَ الحب قانون الله يقذفه في قلب من يشاء، بلا منطق أو أسباب، تتلاقى الأرواح وتتجاذب فلا نملك إلا الانصياع.

نادِمة!

لا لست نادمة، قد سحرني العشق، أسكرني الحب وتلوَّنت في نظري الحقائق وتشوَّهت مفاهيم الصواب والخطأ، أحببتُ رجلًا ليس لي، رجل أعاد لي نفسي وأزهرني من جديد بعد طول انطفاء، حياتي ليسَت سوى تلك اللحظات المسروقة التي عشتها بين ذراعَيه، نَرشف معًا لحظات حبِّنا المحرم، وما عَداها دور كنت أُؤدِّيه على مضض.

وإن استطاعُوا أن يَسجُنوا جسدي فليس لهم سلطان على قلبي، قلب يَشتاقك صباحًا، ويحنُّ لك ليلًا، ويظلُّ يرفل في حبِّك حتى مماتي، لا تُغادِر القلوب أعشاشها ولا يَنسى المحب من أحبه.

إذا كان خاطئًا ما أفعله، فقل لي بالله عليك لماذا لا أشعر بخطيئتي؟

(ينطفئ الضوء ويعم الظلام المسرح.)

(تصفيق.)

ينغلق الستار.

(تمَّت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤