توطئة

فنُّ الروايات التمثيلية فنٌّ حديثٌ عندنا ولا أثر له عند العرب، وما كاد يدخل إلى بلادنا حتى أظهر الجمهور ميلًا إليه وشغفًا به، فأقبل عليه أيَّمَا إقبال، مما دلَّ على ارتياح النفوس إلى مشاهدة الوقائع وسماع الحقائق في هذا الأسلوب الرائق. وليست غايتنا في هذه الأسطر ذكر نشأة هذا الفن عند قدماء اليونان وتقدمه عند الفرنجة حتى أصبحوا يعوِّلون عليه في إيراد الحوادث التاريخية ونشر بعض المذاهب والأفكار، وتهذيب الأخلاق بتمجيد الفضائل وشجب الرذائل. فإن ذلك يطول بنا، فضلًا عن أنه صار في حيز المعروف عند الأكثرين، فنكتفي بالحث على مداومة السعي وراء إتقان رواياتنا ومراسحنا ليجد الشعب فيها طعامًا لعقله … وشعبنا الآن في طور الانتقال وهو أكثر الأطوار حاجة إلى التغذية، وغذاء الروايات لذيذ مفيد، وخير الأطعمة ما جمع بين اللذة والفائدة …

وقد اكتفى كَتَبتُنا حتى اليوم بتعريب الروايات فلا يتكلفون مشقة تأليف الحوادث وتنسيق المشاهد وإيجاد العقدة وحلها ورسم الطباع والأخلاق إلى غير ما يقتضيه هذا الفن من الشروط المتعددة. ونِعْمَ ما فعلوا في أول الأمر حتى يفسحوا مجالًا للروايات فتتوطن عندنا شيئًا فشيئًا ونألف قواعدها وندرك أسرارها.

أما الآن فلم يبقَ لنا عذر على الاكتفاء بالتعريب والنقل، فقد آن أوان إطلاق الأقلام من عقالها في هذا المضمار الجديد، ولا ينقصنا إلا النشاط والتنشيط.

•••

لا يرد ذكر العرب حتى تتوارد إلى الخاطر معاني الشهامة والمروءة والشجاعة والكرم ورقة الغزل والوفاء … إلخ. ولا يُقلِّب المطالع صفحات تاريخهم ويتصفح أخبارهم ونوادرهم وأشعارهم حتى ينبعث من وراء سجف الماضي نور هذه الفضائل والمحامد السامية التي امتاز كل منهم بواحدة منها، فأحرز بها صيتًا بعيدًا حتى أصبح اسمه مرادفًا لها يتمثل الناس به وبها.

فمن يذكر الكرم ولا ينسبه إلى حاتم طي أو يضيفه إلى آل برمك؟ أو متى لُفظت كلمة الثأر ولم يُلفظ اسم المهلهل؟ أو متى ذُكرت الشجاعة ولم تُقرن باسم عنترة العبسي؟ أو متى ورد حديث النسيب والهيام ولم يرد اسم ذلك المجنون المخلَّد الذكر؟ أو متى دار الكلام على العفة ولم يدر على ليلى العفيفة؟ أو متى جاء ذكر الوفاء ولم يجئ ذكر السموأل …؟

ويضيقُ بنا المجال عن إيراد كل الفضائل التي تحلَّت بها العرب فأدركت بها شأوًا بعيدًا حتى أقرت بها الأمم ولم تحاول منازعتها فيها.

ونحن نعجب بمثل هؤلاء الأشخاص لأنهم أبطال، وندرك عواطفهم لأنهم رجال. فإذا كان علو هممهم يدهشنا فإن محركاتهم النفسانية نفهمها فتحركنا. فيجدر بنا — والحالة هذه — إعادة ذكرهم للاقتداء والتشبُّه بهم «إن التشبه بالكرام فلاحُ».

وقد أراد مؤلف هذه الرواية تمجيد إحدى هذه الفضائل في شخص بطلها المشهور، وهي فضيلة «الوفاء» في شخص «السموأل بن عاديا»، وقبل أن يقول كلمته فيها يليق به أن يورد هنا ما عثر عليه في كتب الأقدمين من تفاصيل هذه الحادثة لإفادة القراء.١

هوامش

(١) قد اعتمدنا في هذه اللمحة التاريخية على «كتاب الأغاني» و«العقد الفريد» و«العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين» … إلخ. وإلى هذه المصادر استندنا أيضًا في إيراد القديم من الشعر مع إدخال التحوير والتبديل حسب مقتصى الحال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤