الفصل الأول

الضيافة

(يمثل المرسح الصحراء، وإلى جهته اليسرى الأبلق حصن السموأل.)

(يدخل المسافرون بعد ارتفاع الستار وعلى وجههم القناع وهم يلتفتون يمينًا وشمالًا.)

المشهد الأول

(امرؤ القيس – يزيد – هند)
امرؤ القيس (إلى يزيد وهند) :
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ
وذكر الليالي البيض بالسعد تنجلي
كأني غداة البين حين تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وفاضت دموعُ العين مني صبابة
على النحر حتى بلَّ دمعي محملي١
وقوفًا بنا صحبي نئن ونشتكي
تجلد ولا تهلك أسي وتجمل
يزيد : فها قد بلغنا غاية السفر، وحططنا عصا الترحال على باب السموأل صاحب الأبلق المنيع.
امرؤ القيس : بل قد بلغت حدود الشقاء. أي يزيد! إن نفسي أصبحت تناجيني بالإحجام بعد الإقدام؛ فإن الدهر يأبى إلا معاندتي والتفنن في بليَّتي، كيف لا وقد قادني من هاوية إلى هاوية حتى أمسيت على باب عدوي أستجير به.
يزيد : وسيكون لك نعم الجار.
امرؤ القيس : لا، فإن حظي لا يزال حالكًا كأنه شُقَّ من جنح الدجى.
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ
ليلٌ مدلهم أسدل عليَّ سجوفه، فجلببني بجلباب النكد والشقاء. فأصبحتُ بعد العز والرفعة أجر ذيول العناء.
لا في النهار ولا في الليل لي فرج
فلا أبالي أطال الليل أم قصرا
نَبَتْ بي الأوطان، وجفاني الأهل والخلان، فقمت أضرب في الأحياء ولا من مجير، وأهيم على وجهي بين القبائل ولا من نصير.
يزيد : عهدتك رجلًا شديد البأس، ثبتَ الجنان، لا يتولاه القنوط. فاخلع عنك ثوب الجزع، ولا تدع اليأس يستولي عليك، بل ظُنَّ بالسموأل خيرًا، واصبر فما ظفر إلا من صبر.
امرؤ القيس : وحتامَ التصبر وقد عيل مصطبري؟ فمنذ درجتُ من المهدِ والشقاءُ أتبَع لي من ظلي؛ قُتل أبي غيلة، قتله بنو أسد الأنذال، وخلفوني أقاسي بعده مرَّ العذاب. استنجدت على أعدائي في قبائل العرب، فلم أجد من ينهض لنصرة الحق، استجرت بالحارث بن شهاب فخان عهدي، لجأت إلى نسبي عمرو بن هند فهاله تهديد المنذر، هربت إلى هانئ بن مسعود فأعرض عني وأنكرني.
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها
ولابن جريج كان في حمص أنكرا
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته
وقرت به العينان بُدِّلت أخرا
كذلك دهري ما أصاحب صاحبًا
من الناس إلا خانني وتغيَّرا
وهذا عدوي الطماح لا يزال يسعى بي لدى المنذر ويوغر صدره عليَّ. وقد طرحتني الآن مطارحُ النوى أمام حصن السموأل عدوي.
يزيد : ولكن أبشر بزوال المحن وقرب الفرج، فقد أنخنا ركابنا بالأبلق المنيع، فعلينا أن نستجير بصاحبه الهمام، حامي الجار، ومانع الذمار، فهو ولا شك يُبلغك أمانيك، وينصرك على من يعاديك. وقد قادنا إليه صديقنا الربيع بن ضبع الفزاري وهو من أخصائه والمقربين إليه.٢
هند : ها هو راجع إلينا، عساه أن يحمل لنا ما تقر به نفوسنا.

(يدخل الربيع الفزاري.)

المشهد الثاني

(الأشخاص ذاتهم – الربيع)
الربيع : عمتم مساء يا كرام، تركتكم قليلًا حتى جبت أنحاء الحصن أستكشف أخبار القوم، وجلُّ ما وقفت عليه أن السموأل ناءٍ عن الحمى، على أن غيبته لا تطول.
امرؤ القيس : وأي خير أرتجي من الأبلق وصاحبه، وقد كانت بيني وبين السموأل ضغائن لم تكن الأيام لتمحوها، فهجوته في شعري وأسلفته الإساءة بذمي له وتعريضي به. فاشتدت الشحناء بيني وبينه، أوَينصرني من هذه حالي وحاله وقد تخلى عني الأحلاف والأخدان؟٣
الربيع : إن السموأل لكريمٌ ينسى العداوة إذا ما جئته مستجيرًا؛ فهو من أوفى الناس ذمارًا وأمنعهم جوارًا. يُقري الضيف، ويحمي الجار، ولا يسأله أحد شيئًا فيمنعه ولو كان عدوًّا.
وأخو إخاءٍ ذو محافظة
حلو الشمائل ماجد الأصلِ
شهم إذا ما جئت قال ألا
في الرحب أنت ومنزل السهلِ
يزيد : وعلى كلٍّ فأين المفر وقد قامت علينا الدنيا بأسرها؟
امرؤ القيس : أجل، خذلتني قبائل العرب، أما قيصر الروم٤ فقد يئست من نجدته، فدون الوصول إليه خرط القتاد وتحمل الويلات الشداد. فلا أطمع بنيل أمانيَّ.
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو
وأبلغ ذلك الحي البعيدا
بأني قد هلكت بأرض قوم
بعيدًا عن ديارهم طريدا
ولو أني هلكت بأرض قومي
لقلت الموت حق لا خلودا
أعالج ملك قيصرَ كل يوم
وأوشكتِ المنية أن تقودا
بأرض الشام لا نسب قريب
ولا حامٍ فيمنع أو يذودا
يزيد : بالله يا ابن العم وبحق دم أبيك، عُدْ إلى همتك، وانبذْ بعيدًا عنك هذا القنوط، دعوك بامرئ القيس أعني رجل الشدة٥ فكن إذن حازمًا صابرًا على مضض البلوى.
الربيع : يا ابن حجر، لا تطأطئْ رأسك إذا ما هبَّت عليك رياح النوائب، وثارت عواصف الخطوب، بل كن صابرًا متجلدًا. لقد احتدمت بينك وبين الأيام نيران حرب عوان، فتدرَّع بالصبر والإقدام.
فصبرًا في مجال الضيق صبرا
ولا تقنط إذا صادفت عسرا
امرؤ القيس (بعد سكوت) : وهب أن السموأل تناسى الماضي فأجارني، فأنَّى له أن يمنعني من المنذر بن ماء السماء مَن بَثَّ العيون والأرصاد في طلبي، وجنَّد عليَّ كل القبائل فلم يقوَ حيٌّ من أحياء العرب على نصرتي.
الربيع : أجل أيها الأمير، نزلتَ على أحياء العرب فرأيت ضعفهم على إجارتك، فأهل البادية أهل بَرٍّ لا أهل حصون تمنعهم. لكنَّ حصن صاحبنا منيع عزيز، فقد جئت القيصر وجئت النعمان فلم أرَ لضعيف نازل ولا لمجتدٍ مثله ولا مثل صاحبه، فهو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيبك، ولسوف أضرب لك مثله بحرمة الجار ولو عدوًّا.٦
امرؤ القيس : أنا لا أدري كيف أجد إلى شكرك سبيلًا يا من مدَّ إليَّ يد المساعدة فانتشلني من الهاوية. هجرت لأجلي ربعك ونأيت عن ذويك، فلا عدمتك من خل وفيٍّ أيها الشهم الكريم. ولقد سلمت إليك زمام أمري فأنقاد لك حتى النهاية.
إني بحبلك واصل حبلي
وبريش نبلك رائشٌ نبلي٧
يزيد : فهيا بنا نتابع خطتنا؛ فقد كدنا نصيب الهدف ونحظى بالمرغوب، فنثأر من قاتلي سيد أسد وغطفان.
هند : وا رحمتاه على قتلانا!
أيا عين اذرفي دمعًا سخينًا
على قتل الملوك الماجدينا
ملوك من بني حجر بن عمرو
يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا
ولكن في ديار الخائنينا
ولم تغسل جماجمهم بغسلٍ
ولكن بالدماء مغسلينا
تظل الطير عاكفة عليهم
وتنتزع الحواجب والعيونا
بحقكَ يا أبي جرِّد حسامًا
لتثأر للجدود الملحدينا
امرؤ القيس : وعلى ذلك وقفتُ حياتي، وهذا ما يدفعني إلى الأمام. يعلم الله يا أبي أن دمك لا يذهب هدرًا؛ فقد آليت على نفسي ألا أرتدَّ عنهم حتى أبني على ضريحك قبةً من هامِهم.
هند : آه! إنني كنت صغيرة آنئذٍ، ولكنني لا أزال أذكر ما حلَّ بنا حين وافى الناعي٨ ربعنا حاملًا نعي جدي حجر، فعمَّ الحزن وشمل الأسى، لكنك أنت يا أبي لم تنتحب كالغير، بل سمعتك تردد شعرًا لا يزال راسخًا في ذهني.
أرِقتُ لبرقٍ بليلٍ أهلْ
يُضيء سَناهُ بأعلى الجبلْ
أتاني حديثٌ فكذَّبتهُ
بأمر تزعزعُ منه القُللْ
بنو أسدٍ قتلوا ربهم
ألا كلُّ شيءٍ سواه جللْ
فأين ربيعة عن أهلها
وأين تميمُ وأين الخولْ
ثم رأيتك وقد امتشقت البتار وأنت تتهدد وتتوعد فلم أفهم، ولكنني لم أنسَ بعدُ هيئتك الرائعة.
امرؤ القيس : نعم يا ولدي، حلفٌ هائل حلفته أمام السماء وأردده الآن في هذا الليل الرهيب، فيمكنكِ أن تدركي سرَّه وتقومي به إن غالني غائل المنية قبل بلوغ الوطر. أقسمتُ أن الخمر عليَّ واللعب حرام حتى أبيد بني أسد القاتلين سيدهم.٩
إنَّ جنبي عن الفراش لنابِ
كتجافي الأسرِّ فوق الظراب
من حديث نمى إليَّ فلا تر
قدُ عيني ولا أسيغُ شرابي
يا أبي لو أني شهدتك إذ تد
عو تميمًا وأنت غير مُجاب
لتركتُ الحسام تجري ظباه
من دماء الأعداء يوم الضرابِ
ثم طاعنت من ورائك حتى
تبلغ الرَّحب أو تبزَّ ثيابي
ويحكم يا بني أسيِّدِ إني
ويحكم ربكم ورب الرباب
فارس يطعن الكتيبة بالرمـ
ـح على نحره كنضح المذاب
فارس يطعن الكماة جريء
تحتهُ سابحٌ كلون الغراب
هند : عفوًا سيدي، فلقد ذكَّرتك دون عمد مني أمورًا يثقل عليك سماعها، فهاج هائجك وتلظى غضبك.
امرؤ القيس : لا يا ولدي، بل ذكرتني أقدس الواجبات فأعدتِ إليَّ همتي ونشاطي.
فمن يُبلغ الطماح عني وقومَه
بأني بثأري لا محالة لاحقُ
ستسعدني بيضُ الصوارم والقنا
وتحملني الضمر العتاق السوابق
الربيع : ها الشمس توارت وراء الصحراء فلنصبرنَّ قليلًا ثم نقرع باب السموأل فتستودعه دروعك ومالك وتستأنف السير إلى قيصر الروم تستنجده، فيمدك بجيوش تجمعها إلى فرسان كندة وكتائب حِمْير فيتم لك الظفر وترغم أنف الحساد.
هند : ودعني الآن أغنيك أبياتًا حفظتها من نظمك، فغنائي يطرد عنك أحزانك، ويبدد أشجانك.
امرؤ القيس : هاتي يا قرة العين، فصوتك العذب يؤاسيني في بلوتي، ويعزيني في كربتي؛ فأنت منشأ ارتياحي، ومعدن أفراحي، ومرمى غدوي ورواحي.
هند (تنشد) :
يا لهفَ هند إذ خطئتَ كاهلا
القاتلين الملك الحلاحلا١٠
خير معدٍّ حسبًا ونائلا
والله لا يذهب شيخي باطلًا
حتى أبيد مالكًا وكاهلا١١

(تفتح كوة من الحصن أثناء الإنشاد ويشرف منها عاديا بن السموأل.)

المشهد الثالث

(الأشخاص ذاتهم – عاديا (من الكوة))
عاديا : ما أعذب هذا الصوت وما أرق ألحانه! فهو يُسبِّح رب الأكوان، ويُناجي الأطيار على الأغصان. طابت الأنفاس أيها المنشد الكسير الفؤاد.
أعد غناءك فهو ندى الصباح وبلسم الجراح.
هند (غناء) :
أيا أهل هذا الحصن إني أتيتكم
شريدًا طريدًا قاصدًا لحماكم
فلا تنكروني إنني أنا جارُكم
ولي أملٌ أن تسمعوني نداكم
صوت عاديا (من داخل الحصن) : هيا يا أخي شريح فلنخرج إلى الأكمة.
صوت شريح (كذلك) : أنا لك.

المشهد الرابع

(الأشخاص ذاتهم – ما عدا عاديا)
الربيع : إني أتفاءل بحسن المبتدأ، فإن محادثة ابن السموأل تُبشِّر بحسن المآل.
يزيد : حقَّق الله ظنك يا بشير الخير.
هند : إن ابن السموأل لفتى مثلي، وحماسة الفتيان تجعل لنا فيه خير مساعد.
امرؤ القيس : ربي إني رجوتك، فلا تخيبْ راجيًا.

(يدخل عاديا وأخوه شريح – يضع المسافرون اللثام.)

المشهد الخامس

(الأشخاص ذاتهم – عاديا وشريح)
عاديا : السلام على الغرباء الكرام، نزلتم أهلًا ووطئتم سهلًا.
الربيع : حييتما بالمثل يا أكرم الفتيان، وبلَّغ الله بكما أكلأ العمر.
عاديا (لهند) : أنت هي لا شك المنشدة ذات الصوت الشجي؛ فإن كان صفاء قلبك كصفاء أنغامك، وسلامة طويتك كسلامة ألحانك، فأود أن تربطني وإياك عُرى المحبة والإخاء … (يقترب منهم) ومَن تكونون يا زين الكرام؟
الربيع : إنَّا لكم أضيافٌ يا ابن الأمجاد، وأمامك رجل من أشراف العرب، خائف على دمه وماله. وهذه ابنته ونحن من أنسبائه وأنصاره، وقد أتينا نستجير بحماكم.
عاديا : رحبت بكم الديار يا كرام، وممَّن أنتم خائفون؟
يزيد : من عدوٍّ نكل بذوينا وأوقع بنا الويلات، فخلف ربوعنا بلاقع، وهو لا يزال إلى الآن يجد في أثرنا من حي إلى حي، ومن نُزُلٍ إلى نُزُلٍ.
شريح : تبًّا للظالمين، ما أقبح أعمالهم وأفظع فعالهم!
عاديا : لقد رقَّ قلبي لبلواكم، وانعطف فؤادي لشكواكم. فباسم والدي السموأل بن عاديا أُنزلكم بحمانا وأجيركم بأبلقنا هذا.
شريح : حسنًا فعلت يا أخي، فأنا الآن أحب هؤلاء الغرباء كأنسباء لنا، وأتمنى لهم كل خير.
الربيع :
قد جلت ما بين أحياءٍ مفرَّقة
وطال في العجم تردادي وتسياري
فكان أكرمهم مجدًا وأوثقهم
عهدًا أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث ما استمطروه جاد وابله
وفي الشدائد كالمستأسد الضاري

(يدخل الحارث.)

المشهد السادس

(الأشخاص ذاتهم – الحارث)
الحارث (لعاديا وشريح) : خرجتما يا عزيزيَّ في هذا المساء ولم تنتظراني (يرى المسافرين) أراكما بحديث مع هؤلاء الغرباء فمن يكونون؟
عاديا : عرب كرام يستحقون كل مليحة.
الربيع (للحارث) : أبيت اللعن أيها الهمام، نحن قاصدون صاحب الأبلق المضياف.
عاديا : أتوا يستجيرون بنا فأجرتهم باسم والدي. (للمسافرين): هلموا إلى الحصن أيها الأمجاد، ننزلكم في جوارنا على الرحب والسعة، فتأكلوا من زادنا، ونشملكم بذمامنا.
الحارث (لعاديا) : على رِسْلك يا ولدي، لقد أسرعت قولًا وعملًا، ولم تتبصر في عاقبة ما أنت عليه قادم؛ فإن مَن يجير الناس يأخذ على عاتقه تبعتهم وأوزارهم.
عاديا : أنا لست من يجهل حقوق الجار. يشهد عليَّ العليم بما في السرائر أني إذا مست الحاجة لأبذل روحي في سبيل مَن أجيره.
شريح : نعم يا سيدي، دماؤنا فداءٌ لجارنا فدعهم يدخلون.
الحارث : إني أثني على ما تبديانه من كريم المهزَّة، ولكن يا ولديَّ ليس لنا في غياب صاحب الأبلق أن نجير أيًّا كان، فتربصا ريثما يعود أبوكما فله وحده حق الإجارة.
عاديا : لستُ إخال والدي إلا مثبتًا ما نحن فاعلون، وأنت تعلم أنه لا يمضي إلا القليل حتى تقام السوق الحولية.١٢ ويجري السباق فأنزل إلى المضمار لأول مرة ونحن بحاجة إلى منشدين صانعين، وهذه الأعرابية كفوءة بالغناء.
الحارث (للمسافرين) : عفوًا يا كرام العربان، قدمتم علينا فمرحبًا بقدومكم، سيُرسَل لكم الطعام والشراب، ولكن يتعذَّر عليَّ وايم الحق أن أدخلكم الحصن وأجيركم فيه وصهري غائب.
امرؤ القيس : بالصواب نطقتَ يا ابن الأمجاد، ونحن تأبى علينا الشهامة أن نحملكم أتعابًا وأثقالًا.
الربيع : وهل يطول غياب صاحب الأبلق.
الحارث : لا، نحن الليلة بانتظاره؛ فقد قصد بشرذمة من رجالنا أحد الأحياء المجاورة في طلب عدوه امرئ القيس بن حجر الكندي.

(يضطرب المسافرون، أما الحارث فيقول هذا دون أن ينتبه لوقع كلامه ويعود إلى محادثة عاديا.)

امرؤ القيس (على حدة) : يا لله! السموأل في طلب امرئ القيس ناقمًا، وامرؤ القيس على باب السموأل لائذًا.
عاديا (للحارث) : لكنني أعطيتهم عهدي فلا أحنث بقولي. لا ومن رفع السماء لستُ أخفرُ ذمتي … (للمسافرين): أجرتكم أيها الأمجاد فلا أتخلى عنكم، فيُقالَ إن وُلدَ السموأل عابوا أباهم. أجرتكم وأحبُّ إليَّ أن أجود بدمي في سبيلكم من أن يمسكم أحد بضرر.
يزيد :
طابت أرومتكم وأينع فرعكم
والفرع يُعرف منه طيب العنصرِ
لا زلتم غوثًا لكل ملمة
والدهر يخدمكم طوال الأعصرِ
عاديا : فهلموا يا كرام العرب ندخل الحصن فنقدم لكم طعام الضيافة.
هند (ناظرة إلى الخارج) : ما هذا الغبار المرتفع من وراء الأكمة؟
الحارث (كذلك) : هذا أبوك يا عاديا. (على حدة) أرسله الله في حينه.

(يخرج الحارث وعاديا وشريح لملاقاة السموأل.)

امرؤ القيس : لحاك الله يا قلبي ما لك تزيد خفوقًا! آه بأي لسان أخاطب السموأل؟
الربيع :
خفض الجأشَ واصبرن رويدًا
فالرزايا إذا توالت تولَّتْ
امرؤ القيس (ناظرًا إلى الخارج) : وهل تخدعني عيني؟ لا، لا. هو الطماح عدوي الألد يميس عجبًا ويختال تيهًا إلى جانب السموأل. يا لخيبة مسعاي!

(يدخل السموأل وإلى جانبيه ولداه، والطماح والحارث وعلقمة وبعض رجاله، يضع المسافرون اللثام على وجوههم ويرجعون إلى مؤخر الملعب.)

المشهد السابع

(الأشخاص ذاتهم والسموأل والطماح وعلقمة … إلخ)
عاديا (وهو داخل لأبيه) : أجل يا سيدي، علمتني إغاثة الملهوف ولست بمن ينسى تعاليمك.
السموأل : حسنا فعلت يا قرة العين. اقتفِ آثار أجدادك، وكن عونًا لمن يُعلِّق عليك أملًا.
الحارث : لقد أسرع عاديا بإجارته قومًا نجهلهم ونجهل غايتهم.
السموأل : لا يا أخي ما في عمل الخير من إسراع، ولسنا لنوصد بابنا قط بوجه طارق.
فما أخمدت نارٌ لنا دون طارق
ولا ذَمَّنَا في النازلين نزيلُ
ونحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يُعدُّ بخيلُ
عاديا : ها هم الغرباء الذين طرقوا علينا.
السموأل (للمسافرين) : رحبتِ الديارُ بالأعراب الأمجاد. قدمتم علينا قدوم خير، فكفيتم على الرحب والسعة الهم والضير. نزلتم علينا فأهلًا بخير نازلين، فالسموأل لا يرد سائلًا، ولا يجيب قط بلا.
امرؤ القيس (يتقدم) :
إني أتيتُ إلى الكرام مفاخرًا
وإلى السموأل جئته في الأبلقِ
فأتيتُ أفضل من تحمَّل حاجة
إن جئتُه في غارم أو مرهق
عرفت لهُ الأقوام كلَّ فضيلة
وحوى المكارم سابقًا لم يسبقِ
السموأل (مبتسمًا) : كنتُ في طلب شاعر هجاني فظفرت بشاعر يمدحني، فلم أعُد بصفقة خاسر.
الطماح (يكون كل هذه المدة يلاحظ امرأ القيس على حدة) : هذا صوت لا أجهله! أتبلغ منه القحة؟! هذا قدُّه؟ لا، لم يخطئ ظني.
السموأل : طال بنا الوقوف، فلندخل الحصن ولنحتفِ بالقادمين علينا.
الطماح (ينتصب بوجههم صارخًا) : قفوا! (للسموأل): يا ابن عاديا، لا تفعل فتجعل الأفعى في حجرك. أنت تُجير رجلًا تجهله وتجهل اسمه. فأنا أُطلعك على دخيلة الأمر، اسم تستشيط حنقًا من سماعه، ورجل تترنح فرحًا للقائه والتنكيل به. أميطوا عنه النقاب فيتبدَّى لك من ورائه رجل طالما تقتَ إلى مشاهدته وجهًا لوجه؛ تظهر لك من ورائه طلعةُ من كنت تجدُّ في طلبه، يبدو لك من وراء اللثام وجه عدوك الألد امرئ القيس ابن آكل المرار.١٣
امرؤ القيس (يكشف عن وجهه النقاب) : لقد طال التخفي، أجل يا بن عاديا. أمامك الملك الشاعر امرؤ القيس بن حجر الكندي سيد أسد وغطفان. وقد عاندته تصاريف القدر فطرحته أمام حصنك.
إني امرؤ عرفَت معدٌّ فضله
من خير نسل العُرْبِ والأعجام
خالي المهلهل قد علمتَ مقامه
وأبو يزيد ورهطه أعمامي١٤

(للطماح.)

وأنازل البطلَ الكريهَ نِزاله
وإذا أنازلُ لا تطيش سهامي
الربيع (كذلك) : وأنا الربيع بن ضبع الفزاري صاحبك القديم، أتيتك بالكندي لتجيره، ولست لأتخلى عنه ساعة الضيق، فيدي بيده.
امرؤ القيس : وأنت أيضًا يا طماح رجل طالما تقتُ إلى مصادفته. فلنخرج من حمى السموأل وما إلَّا أن تصول الخيل صولة فأعفِّر وجهك بالتراب.
فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تبعثوا الحرب لا نقعدِ
وإن تقتلونا نقتِّلكم
وإن تقصدوا لدم نقصدِ
وأعددتُ للحرب وثابةً
جواد المحثَّة والمرود
وذا شطبٍ مرهفًا حده
إذا صاب بالعظم لم ينأدِ١٥
الطماح (لامرئ القيس) : خفِّف من غلوائك يا ابن حُجر، فليست لتجديك نفعًا، وأنت تعلم أن شأننا سيكون على غير ما تتوهم. (للسموأل): أما الآن أيها الأمير وقد كشفتُ لك النقاب عن وجه عدوك فلم يبقَ إلى أن تسلمه إليَّ فأدرك ثأري من قاتل أخي، ويكون لنا أحسن شأن لدى المنذر بن ماء السماء.
السموأل (بعد سكوت) : لقد أخطأت الظن بنا يا طماح، لست بمن يخفر ذمة الجار ولو عدوًّا. (لامرئ القيس): أجل يا ابن حجر، كنت عدوي الألد ومن أرجو الله أن يُظفرني به. يشهد عليَّ من يعلم الغيب أنني لو ظفرت بك قبل اليوم لسقيتُ حسامي نهلتهُ من دمك، لم أكن لأعبأ بكتائبك الجرارة ولا بفرسانك الأباسل. ولو أني علمت بمقرك آنذاك لانقضضتُ عليك ولا انقضاض الصواعق، وانتشلتك كما ينتشل عقابُ الجو فريسته، وحلقت بك نحو وكري المنيع … هذه هي عواطف الانتقام ودواعي الثأر التي كانت تدور في خلدي حتى اليوم، أما الآن وقد أجارك ولدي وأصبحت ضيفي فأنبذُ بعيدًا عني كل الضغائن والأحقاد، وأمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فتحرسك أبطالي، وتتفانى في خدمتك رجالي، كنتَ عزيزًا قويًّا فهدرتُ دمك. أما وقد ناء عليك الدهر بكلكله فأصبحتَ عندي مقدسًا، فانزلْ في حصني وأنا أُقسم بشرف الأجداد والسبع الطباق أنه لا يصل إليك أحد بأذى وأنا حي، ولو كان ابن ماء السماء بعينه. وهذه يدي لك بالذمام (يصافحه).
الربيع : عشتَ لا تنكدْ … لم يخطئ ظني بشهامة الكرام.
امرؤ القيس :
منعتَ الليثَ من أكل ابن حجر
وكاد الليثُ يودي بابن حجر
منعتَ فأنت ذو منٍّ ونعمى
عليَّ ابنَ الكرام بحيث تدري
سأشكرك الذي دافعتَ عني
وما يجزيك عني غيرُ شكري
فما جارٌ بأوثق منك جارًا
ونصرك للطريد أعزُّ نصرِ
السموأل : أبشر يا أخي بزوال الهم والضير وحصول النعم والخير؛ فلقد أجرتك من جميع العربان، ولو كان الملك النعمان أو كسرى أنوشروان.
الطماح (للسموأل) : أهذا ما عولتَ عليه فأرجع إلى سيدي المنذر وأطلعه على ما جرى وحدث؟
السموأل : أجل يا طماح، أليس هذا ما تقضي به النخوة والشهامة؟ أما أنت فالبثْ عندنا تقيم ثلاثة أيام الضيافة ثم تذهب.
الطماح : عفوًا، يجب عليَّ أن أشخص إلى مضارب قومنا قبل يومين. هيَّا يا علقمة (وهو خارج ينظر إلى امرئ القيس) سنلتقي.

(يخرج الطماح وعلقمة.)

السموأل : اذهب واصنع ما أنت صانع.
هند : عاش واللهِ السموأل مانع الجار، وحامي الذمار!

المشهد الثامن

(الأشخاص ذاتهم ما عدا الطماح وعلقمة)
امرؤ القيس :
كأني إذ نزلتُ على الهمام
نزلتُ على البواذخ من شمام
فما ملكُ العراق عليك يومًا
بمقتدرٍ ولا الملكُ الشآمي
أقرَّ حشَا امرئ القيس بن حجر
بنو تيما مصابيح الظلام١٦
أما وقد أصبحتَ نصيري ومجيري فعليَّ أن أُسلم إليك زمام أمري، وأطلعك على ما أنا فاعل: فقد جئتك بأدرعي الكندية، فهي كنزي الوحيد وميراثي الثمين. اتخذتها عن أجدادي واذَّخرتها لي عدة على نوائب الدهر. منها خمسٌ قد طار ذكرها في الآفاق وهي الفضفاضة والضافية والخرِّيق والمحصنة وأم الذيول. فأنا أستودعكم إياها مع سائر الأسلحة. وكفاها أهمية أن فيها طالع النصر لمن أحرزها، وعربون الظفر لمن كانت له، فتجعل صاحبها بمقام ألف. فأنا لستُ مودعها غيركم.١٧
يزيد : وهي أدرعٌ منيعةٌ لم يُسمع بمثلها في سالف الحقب. ولكَم طلب الملوك نظيرها فلم يجدوا، ولكَم وفدت وفود ملك العراق لتغتصبها فلم تجد إليها سبيلًا. ولطالما بثَّ المنذر علينا العيون والأرصاد ليسلبنا إياها فعجز وكَلَّ؛ فهي المعين إذا سُدَّت الطرق، وستكون لنا ظهرًا قويًّا متى جاءتنا جحافل الأنصار وكتائب الأحلاف.
امرؤ القيس : فأنا أسلمها إليك مع ابنتي ومالي وكل ما لديَّ يا مجيري الهمام، وأضعها في ذمتك ولا أخاف.
السموأل : وعليَّ بحفظها طالما أردت. فهي ستبقى عندي ولا ينزعها أحدٌ مني قبل أن تُنزع مني الحياة، ولست أُسلمها إلا إلى من تشاء، وإن اضطرني الأمر فقسمًا بمن أرسى شامخات الجبال إني أضحي وُلدي دونها ولا أخفر ذمتي.
عاديا : وأنا أيضًا يا أبي قد أقسمتُ بالخلاق العظيم أني أجود بنفسي راضيًا في سبيل من أجرتهُ وفي سبيل وديعتهِ.
امرؤ القيس : أما الآن وقد أمنتُ على مالي وسلاحي فإني سائر إلى قيصر الروم أستنجدُه فيمدني كما وعدني رسولُه بالعساكر والعدد، فأعود بتلك الجحافل الجرارة، وأشنُّ الغارة على أعدائي فيتم لنا الظفر وتكون لي الغلبة. والفضل في كل ذلك عائدٌ إليك يا شهمًا كريمًا.
السموأل : إنك في عهدي وذمتي، والشرف يقضي بما فعلت، وها أني أُسيِّرُ معك شرذمة من رجالي خوفًا عليك من الغوائل، فيبلغون بك إلى نسيبنا الغساني صاحب الشام، فيمهد لك الطريق إلى قيصر الروم.١٨
يزيد : لقد غمرتنا أيها الأمير ببحر عوارفك الطامي، وشملتنا بظلك الوارف، فلا زلتم يا نسل الأماجد على ثوب الزمان طرازًا، تزداد بكم القبائل رفعة واعتزازًا، فبكم يفتخر الزمان، وبمثلكم تبخل الأيام.
السموأل : كفُّوا عن الثناء يا كرام، فليس من عربي منسوب إلا وهو فاعل ما نحن فاعلون، وهيوا بنا يا أمجاد العرب ندخل الأبلق فقد خيَّم الظلام.

(يدخل الجميع إلى الحصن.)

امرؤ القيس (يتأخر عنهم – لهند) :
هلمي لتوديعي على أمل اللقا
فإنا سراعًا لاحقون بقيصرا
ولا تذرفي الدمع السخين فإنما
نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

هوامش

(١) هذا مطلع معلقة امرئ القيس الشهيرة، و«البين»: هو الفراق، و«تحملوا»: ارتحلوا، و«سمرات»: جمع سمرة وهي شجرة، و«الحنظل»: شجر. والمعنى: أنه بكى في الديار عند رحيلهم فكأنه ناقف حنظل. وناقف الحنظل ينقفها بظفره، فإن صوتت علم أنها مدركة فاجتناها. وعينه تدمع لحدة الحنظل وشدة رائحته. «الصبابة»: رقة الشوق، و«النحر»: الصدر، و«المحمل»: السير الذي يحمل به السيف.
(٢) الأغاني ج٨، ص٧٠.
(٣) افترضنا وجود هذه العداوة بين السموأل وامرئ القيس، وهذا مما يزيد في شهامة السموأل.
(٤) كانت العرب تُسمِّي قيصرًا مَنْ مَلَك الشام مع الجزيرة من الروم، قال المسعودي في كتاب مروج الذهب: وتفسير قيصر أي: شق عنه، وذلك أن أغسطس الذي هو الثاني من ملوكهم ماتت أمه وهي حامل به فشق بطنها. وكان هذا الملك يفتخر في وقته بأن النساء لم يلدنه.
(٥) اسمه جندح. وامرؤ القيس لقب غلب عليه، ومعناه: رجل الشدة.
(٦) الأغاني ج٨، ص٦٩.
(٧) راش السهم: ألزق عليه الريش ليحمله في الهواء كما يحمل الطائر. قال الشاعر:
ما لقوي عن ضعيف غنى
لا بدَّ للسهم من الريش
(٨) من عوائد العرب ما حكاه الأصمعي، قال: كان العرب إذا مات فيهم ميت له قدر ركب راكب فرسًا وجعل يسير في الناس، ويقول: «نعاءِ فلانًا» أي: انعه وأظهر خبر وفاته، وهي مبنية على الكسر مثل «نزالِ».
(٩) الأغاني ج٨، ص٦٥. وراجع أيضا ما جاء في المقدمة بهذا الشأن، وجاء في «بلوغ الأرب»: كان العرب يحرمون الخمر على أنفسهم في مدة طلبهم؛ لأنها مشغلة لهم عن كريم الأخلاق والإقبال على الشهرة. قال الشنفري يرثي خاله تأبط شرًّا من قصيدة:
فأدركنا الثأر فيهم ولما
ينجُ من لحيان إلا الأقل
حلَّت الخمر وكانت حرامًا
وبلأي ما ألمَّت يحل
وجاء في كتاب مساوئ الخمر: غزا امرؤ القيس بني أسد ثائرًا بأبيه … فظفر بهم وقتل مقتلة عظيمة، وفي ذلك يقول:
لا تسقيني الخمر إن لم يروا
قتلى فئامًا بأبي الفاضل
حلت لي الخمر وكنت امرأ
من شربها في شغل شاغل
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثمًا من الله ولا واغل
قال إسماعيل بن هبة الله في كتاب الأوائل: أول من اخترع هذا المعنى امرؤ القيس في هذا الشعر.
(١٠) الحلاحل: السيد الشريف.
(١١) و«مالك وكاهل» حيان من بني أسد، وبنو أسد قتلوا أباه.
(١٢) كانت العرب تنزل في حصن السموأل فيضيفها وتقيم هناك سوقًا (الأغاني جزء ١٩، صفحة ٩٨).
(١٣) سُمي حجر بآكل المرار؛ لأنه لما بلغه أن الحارث بن جبلة سبى امرأته جعل يأكل المرار من الغيظ وهو لا يدري. والمرار نبت شديد المرارة.
(١٤) أمه فاطمة بنت ربيعة أخت المهلهل وكليب. وأبو يزيد من أشراف كندة.
(١٥) من قصيدة مطلعها:
تطاول ليلك بالإثمد
ونام الخليُّ ولم ترقدِ
يقال: فرس جواد المحثة؛ أي: إذا حُثَّ جاءه جري بعد جري. والمرود: حديدة تدور في اللجام. لم ينأدِ: لم ينثنِ ولم ينعوج، ولكنه يذهب في العظام ويجاوزها.
(١٦) الباذخ: المرتفع، وشهام: اسم جبل. يقول: أنت تمنعني كما لو نزلت على جبل شاهق لا يوصل إليه. وملك العراق كان في ذلك العهد النعمان بن المنذر، والملك الشآمي هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وفي الأصل قال امرؤ القيس هذه الأبيات في غير السموأل.
(١٧) الأغاني ج٨، ص٦٨.
(١٨) الأغاني ج٨، ص٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤