الفصل الثاني

الخديعة

(قاعة في الأبلق: رمحان مركوزان في الأرض، وعلى الحائط سيوف وتروس.)

المشهد الأول

(يزيد – الربيع)
يزيد : لله ما أكبر نفس السموأل وما أشرف سجاياه، فقد وجدنا عنده من إكرام المثوى وحرمة الجار ما لم نجده قط عند عرب ولا عجم، فجزاه الله خيرًا على اصطناعه إلينا.
الربيع : وها إن الدهر قد بسم لنا فقد وافى الأبلق هذا الصباح رسول من الشام يحمل البشائر بوصول امرئ القيس ظافرًا غانمًا. وقد مدَّه قيصر الروم بجحافل وكتائب جرَّارة يقوى بها على محاربة أعدائه والتنكيل بالذين تمردوا عليه وشقُّوا عصا طاعته.١
يزيد : أجل. بَيْدَ أني لا أزال مرتابًا بأمر الطماح عدونا الألد، فهو لا ينفكُّ يتعرض لنا ويحاول الإيقاع بنا. والذي يثبتني في ظني هو عدوله عن خطته الأولى وتملقه إيانا بعد مكاشفته بالعداوة وانعطافه علينا بعد مظاهرته بالشحناء؛ فهو لا يزال يضمر لنا الشرَّ ويتحين الفرص لبلوغ الوطر.
الربيع : وعلامَ يقوى الطماح وقد أعطانا السموأل ذمته فلا يخفرها، فليسعَ ما شاء فمكائده أوهى من نسيج العنكبوت، وإن هو إلا كالذئب يعوي عواء فيسكته الأسدُ الذي نحن في عرينه.
يزيد : لا تقلْ يا صاح، فمكائد الأشرار أوسع من أن تُحدَّ، فتجعل لهم قوة في استنباط حيلٍ تُعيي إبليس نفسه. وممَّا نبه مني الخاطر هو تغيُّبه عن الأبلق ثم رجوعهُ ثم عزمهُ على حضور السباق الذي يجري في هذا النهار، فقلت: إن في الأمر لسرًّا خفيًّا. والطماح هذا — وأنت أدرى به — فارس مغوار في ميدان الدسائس والخيانة.
الربيع : لقد تمهدت الآن أمامنا جميع السبل وأوطأنا الدهر على نيل المنى، ونحن سلمنا مقاليد أمورنا إلى الإله الجبار، وهو على كل شيء قدير.
يزيد : وبه نأمل حسن الختام.
الربيع : وما علينا الآن إلا أن نشاطر القوم الأفراح، فإن الأبلق قد برز بمظهر العيد وتجلى بحلة الابتهاج؛ لأن الأمير عاديا ينزل في هذا النهار إلى الميدان ويجاري الفرسان لأول مرة.

(تدخل هند حزينة كئيبة.)

المشهد الثاني

(الأشخاص ذاتهم – هند)
الربيع : أهلًا بالمنشدة ذات الصوت الرخيم. إن نغماتك اللطيفة كانت لنا مفتاحَ باب الفرج.
يزيد : لا شك أنك هيأت أنشودتك لهذا النهار، فسيحضر هذا السباق أمراء كرام وفرسان عظام، فاشحذي قريحتك واجلي صوتك فيسرَّ الجميع بأنغامك الشجية ويطربوا بألحانك الحماسية.
هند (بكآبة) : لا يا عماه، ليست نفسي لتطيب بالغناء في هذا الصباح، ولا يلذ لي إنشاد الأشعار والألحان.
يزيد (بقلق) : ما للحزن يا ولدي يغشى جبينك الوضاح؟! لم نركِ قط على مثل هذه الحال، بل كنت دائمًا تعزيتنا في كربتنا، تلوحين لنا في ظلام الخطوب كنجم السعد والإقبال فتحيين منا ميت الآمال. فما لغياهب الأشجان تكسفُ ضياءك.
الربيع (بحنو) : حزن الولد على فراق الوالد يكوي فؤادها.
هند : يعلم الله يا سيدي كم يشق عليَّ فراق والدي، لكنني أُعلل النفس باللقاء العاجل. فليس هذا داعية حزني في هذا الصباح.
يزيد : يا ولدي أنا مقامُ أبيك فلا تكتميني شيئًا.
هند : هي الأحزان يا عماه تسطو على القلب فتضغط عليه وتستولي على الأفكار فتبلبلها، ولا يعلم الإنسان لذلك من مسبب، بل يستسلم إلى اليأس ويضيع في وهاد الكآبة.
يزيد : أرى عاديا مقبلًا فهو يسليكِ ويطردُ عنكِ مثل هذه الأفكار.
الربيع : وهيَّا بنا نحن إلى السموأل نساعدهُ على إعداد الحفلة واستقبال المدعوين (يخرجان).
هند (وحدها) : أوَأتشاءمُ بالأحلام؟ ربي خذ بيدي وقوِّني على مقاومة هذه الهواجس. ربي احفظ عاديا وصُنهُ من كل مكروه (يدخل عاديا).

المشهد الثالث

(هند – عاديا)
عاديا : أنا بطلبك يا هند. ما لكِ تعتزلين الناس والكلُّ في فرح ومرح، والمدعوون يفدون أفواجًا، وآلات الطرب تعزف فتنفي الأكدار عن القلوب.
هند : لا يا عاديا، إن هذه الأفراح تثقل على من كان مثلي كليم القلب كسير الفؤاد، فحزنه يكدِّر صفو الهناء ولا تطيب نفسه إلا بالعزلة.
عاديا : أوَأُثقل عليك بحضوري فأتركك وأذهب؟
هند : لا ابقَ، فإن نفسي تتعزى بقربك.
عاديا : أجل أبقى، لعلي أُفرج كربتك وأقشع عنك غياهب الأحزان، يعلم الله يا هند لم يخطر لي ببالٍ أني أراك على ما أنت عليه يوم يبتهج الجميع ويهيئون الأفراح. وأنا آتٍ أستصحبك إلى الميدان لننزل معًا إلى المضمار فنظفر بقصب السبق، فأنت على متنِ الجواد تضاهين أشدَّ الفرسان.
هند : عفوًا، ليست هذه الأمور لتليق بمن كان مثلي.
عاديا : عجبًا، أما قلتِ لي مرارًا عندما كنا نطلق لأفكارنا العنان: إن أحب شيء إليك ترويض الجياد في الميدان، واعتقال الرماح لمنازلة الفرسان. وقد طالما تعودتِ ذلك في قبيلتك فجاريت ونازلتِ وطاعنتِ. فما أُحَيْلَى سنوح هذه الفرصة لإظهار بسالتنا وقد اجتمع الأمراء لمجازاة المبرَّز في حلبة السباق! فنعلو الأدهم ونهز الأسمر ونقلب الأبيض؛ فتشخص الأبصار إلينا وتحوم القلوب حوالَيْنا.
هند : أجل يا عاديا على مثل هذا ربيت، وبمثل ذلك تطيبُ نفس الفتيان. فأنت محفوف بالكرامة والعز، لا تنظر إلا إلى وجوه باشَّة، يُحدق بك الأهل والخلان، ويشملك الجميع بالانعطاف والمحبة. أما أنا …
عاديا : أما أنتِ فإنك تحلين منا محلَّ الرُّوح من الجسد، فكل ما لدينا فداؤك وفداء قومك، لأبيك على أبي حقوق الجار، ولك عليَّ فوق ذلك حقوقٌ ستدركين عن قريب سرها المكنون.
هند (على حدة) : إن كلماته ونظراته تحرِّك كامن عواطفي. (لعاديا): لك ولأبيك ألف شكر.
عاديا : بالله دعينا من الشكر، ألم تهيئي على الأقل أنشودتك الحربية؛ فإني أراني أزيد تحمسًا وبسالة إذا ما طرقت أذني ألحانك الشجية.
هند : عذرًا يا عاديا، كان ذلك عليَّ فرضًا واجبًا، لكن الحزن قد غشى القريحة فلم تجُد بشيء.
عاديا : إنكِ يا هند قد بلبلتِ أفكاري وحيرتِ خاطري. ما هذا اليأس؟ بالله عليك افتحي لي قلبك وأنا الكفيل بتضميد جراحه. فمكاشفة الأحباب بالأسرار تخفف وطأة الأكدار. فبحياتي عليك لا تكتميني سرًّا.
هند : لا وحياتك، ما أنا بالتي تُخفي عنك شيئًا.
عاديا : قولي إذن، ما داعية هذه الكآبة وما علة هذا الحزن؟
هند : حلم رائع فاجأني وأنا غارقةٌ في بحور الكرى أذوق لذة الوسن، فضعضع أركاني، وبلبل أفكاري.
عاديا : وما هذا الحلم؟
هند : آه يا عاديا! رأيت كأن حمامة صغيرة طارت من عشها وحلقت في الفضاء، فانقضَّ عليها عقاب كاسر، وهي تنهزم من وجهه وهو يتتبعها، حتى لجأت إلى وكر نسر وعدوُّها يترقبها، فرأى إذ ذاك فرخ النسر وقد فاتته طريدته، فأنشب براثنه فيه ومزَّقه شرَّ ممزَّق. على أن الحمامة لم تفلت منه؛ فانتبهتُ مذعورة من هذا الحلم الهائل واستولى عليَّ الرعب من جرَّائه.
عاديا (على حدة) : هالني هذا الحلم كما هال هندًا. (لهند): سكِّني جأشك أيتها الحبيبة، فما هذا إلا أوهام وأضغاث أحلام.
هند : فذهب عني كل فرح وهناء، ونفرت نفسي من الإنشاد والغناء، وصارت تتحول كل ألحاني المطربة إلى ندب ورثاء، ونغماتي المفرحة إلى عويل وبكاء. فأتيتُ إلى حضور هذا السباق على الرُّغم مني. ولو لم أعِد لما فعلت، بل لو سمعتُ وجيبَ قلبي لتوقعت حلول خطبٍ جسيم.
عاديا : وقانا الله من الشيطان الرجيم. انبذي هذه الأفكار وعودي إلى السكينة (سكوت) وأنا أيضًا يا هند رأيت حلمًا ولا أزال أراه في كل دقيقة منذ لقيانا: رأيتني كأني وإياك اليد باليد نسير في مرج أخضر بين هديل الطيور وتغريد العصافير وخرير الجداول … وحفيف الأشجار يردد صدى الحنين والمُرام، والنسيم يسارقنا مناجاة الهوى والهيام، والطبيعة بأسرها تبسم لنا بثغرها الفتان … فهل تساعديني يا هند على تحقيق هذا الحلم؟
هند : ليست المواربة من عادات البنات الكندية يا عاديا، فلو لم تطب نفسي بالقرب منك لما رأيتني هنا.
عاديا : وأنا كنت أخفي عنك ما يكنه الفؤاد، ولا أبوح به لئلا تقولي يا هند: أجارنا وهو يطلب جزاه «وما الكريم إذا أسدى بمنان»٢ ولكن أنَّى للمياه المتدفقة أن يقف بوجهها سد؟! أو أنَّى للإعصار العاصف على الصحراء أن يصدَّ أو يرد؟! فإن الغرام قد اشتدَّ سعيره في صدري فأسال منه الفؤاد، وها هو يسكبه الآن على جبينك المنير في تلك القبلة الملتهبة … (يقبلها).
هند (بتأثر) : عاديا! (ينفرط عقدها أثناء المعانقة) آه شؤم على شؤم!
عاديا (باسمًا وهو يجمع لؤلؤ العقد) : انفرط عقدك وانتثر منظومه، ولكن قرِّي عينًا يا قرة العين، فسأنظم لك عقدًا فريدًا أصوغ لآلئه من قطرات الفؤاد، وأغزل سلكه من حبال الوصل والهيام، وأُقلد به جيدكِ يا جيد الغزال، فأزيدك جمالًا على جمال (يكوِّن نظم العقد، وحاول إعادته إلى عنقها).
هند : وأنا أُقسم ألا أتحلى بغير عقد صاغته يداك، وألا يعرفَ قلبي هوى غير هواك. (يسمع صوت المعازف) ابتدأ العيد وأخذ المدعوون يفدون.
عاديا :
إن كان للناس عيدٌ يفرحون به
يا نور عيني فعيدي يوم لقياكِ
أو كان للناس سُكْرٌ يسكرون به
أو يطربون فسكري من ثناياكِ
أما شعرتِ ونار الحب تحرقني
أي السهام رمت في القلب عيناكِ
أما علمت بأني مدنفٌ وَلِهٌ
أُفني الليالي وأحييها بنجواكِ
فما رأيتكِ إلا صرتُ منشغفًا
أقول سبحان من بالحسن حلاكِ
واللهِ واللهِ أيمانًا محرَّجة
إني وربكِ طول الدهر أهواكِ
هند : دعني الآن أوافي بنات الحي ثم نلتقي هنا ساعةَ السباق.

المشهد الرابع

(عاديا وحده)

ومَن يُجاريني الآن في السباق وأنا أطير على أجنحة الشوق والهيام؟ ومَن ينازلني من الفرسان وأنا أطاعن بسهام الحب والغرام؟ ألا تجمَّعي يا فرسان العرب واحتشدي يا أبطال النزال، فأين مطاياك من مطية ابن السموأل؟ وأين سلاحك من سلاح حبيب ابنة الكندي؟

تعشق قلبي ظبية عربيةً
تَنعَّمُ في الديباج والحلي والحللْ
حجازية العينين مكيَّة الحشا
عراقية الأطراف رومية الكفل
تهامية الأبدان عبسية اللمى
خزاعية الأسنان درية القبل
لها مقلة دعجاء لو نظرت بها
إلى عابد قد صام لله وابتهل
لأصبح مفتونًا مُعَنًّى بحبها
كأن لم يَصُمْ لله يومًا ولم يصل
كأن على أسنانها بعد هجعةٍ
سفرجل أو تفاح في القند والعسل
وعانقتها حتى تقطَّع عقدها
وحتى نظام الطوق عن جِيدِهَا انفصل
كأن لآلي الطوق لمَّا تناثرت
ضياء مصابيح تطايرن عن شعل٣

المشهد الخامس

(عاديا – يدخل أمراء وفرسان وشعراء وبينهم علقمة – ثم الحارث)
عاديا : رحبت الديار بكرام السادات، وحفظهم الله من جميع الآفات.
أحد الأمراء : حييت بالمثل يا ابن الأمجاد. هذا قد وافينا حماكم من أحياء مختلفة لنشاطركم الأفراح.
عاديا : إنَّ رَبعنا يزدان بحضوركم يا أبطال العرب، وعيدنا يزداد بكم بهجة يا سادة الأدب.
أحد الأمراء : أكرِمْ بك فتًى طيب الأعراق.
الحارث (داخلًا لاستقبالهم من الجهة المحاذية) : أسعد الله أوقات الكرام وشملهم باليمن والسلام، أهلًا بكم يا خير قادمين، هيوا بنا إلى البهو فالقوم بانتظاركم.
أحد الفرسان : ونحن بانتظار الأفراح ومعاقرة كئوس الراح. هيوا يا كرام.

(يخرجون كلهم، ما عدا علقمة.)

المشهد السادس

(علقمة وحده)
وعلقمة هنا بانتظار سيده الطماح ليداوله بأمور ذات شأن، وهو لا يلبث أن يوافيني إلى هذا المكان؛ فقد سبق وأشار إليَّ أن أنتظره هنا … أجل ليست أتعابي لتذهب أدراج الرياح، فقد وعدني جزاءَ خدماتي أن يجزل صلتي ويوليني بعض الأعمال، وهناك تمام الطرب وبلوغ الأرب، فأُصبح ذا شوكة واقتدار، عزيز الكلمة، مرهوب الجانب. (ناظرًا إلى الخارج) ها الطماح قد وافى في الأجل المضروب.

المشهد السابع

(الطماح – علقمة)
علقمة : أهلًا بسيدي وملاذي.
الطماح : لا عدمتك يا ساعدي ومساعدي.
علقمة : قد وصل منذ برهة الأمراء والفرسان والشعراء.
الطماح : فليمرحوا ما شاءوا، فإني لمكدرٌ عليهم صفو هنائهم. تأكدت يا علقمة صدق خدمتك وصحة أخبارك؛ فإن السموأل لم يكتفِ بإجارة امرئ القيس عدو المنذر وقاتل أخي، بل مدَّه بالرجال وأوصله إلى نسيبه في الشام حتى مهد له محالفة قيصر الروم.
علقمة : نعم يا سيدي، فإن السموأل قد جاهَر بانتصاره له وميله إليه.
الطماح : وكان كلما طلبنا تسليمه يماطلنا بالجواب، وقد مرَّ على ذلك أيام، ونحن لم نخطُ خطوة في سبيل أمنيتنا.
علقمة : وعلامَ عول سيدي، أيرضى دائمًا بالمماطلة؟
الطماح : لا واللات والعزى! فلا بدَّ من كشف المستور. ولكن اسمع يا علقمة أنت تدري أن حياتك بيدي وأن نجاحك منوط بنجاحي، فهل يمكنني أن أعتمد عليك عند الملمة؟
علقمة : أنت تعرف يا سيدي إخلاصي لك، وتفانيَّ في سبيلك، فخنجري رهن إشارتك. فمن تريد أن أطعن ومتى وأين؟ كلمة واحدة فأقضي بغيتك!
الطماح : اسمع يا علقمة، لسنا بحاجة إلى الخناجر؛ فإن القتال بالحيلة أنفذُ من القتال بظُبَى السيوف وأَسِنَّة الرماح. أما وقد تأكدت صدق إقدامك ومضاء عزيمتك فسأكشف لك عمَّا صرنا إليه: لا يخفاك أن المنذر علم بنجاة امرئ القيس فأصبح موقفنا حرجًا، وكلُّ ما بنيناه كاد يتقوَّض، فإن المنذر قد سلم إلينا الإيقاع بعدوه: فإما الخيبة والشقاء، وإما الفوز والهناء … وها إن الحائل دون الوصول إلى بغيتنا هو السموأل بن عاديا.
علقمة : وما العمل إذن وما الحيلة؟
الطماح : قد تأكدت شديد حاجتنا إلى الإقدام في هذا الأمر؛ حفظًا لمقامنا، وتوطيدًا لدعائم ثروتنا، وإلا دُكَّ صرح مجدي، وغار نجم سعدي.
علقمة : وبذلك تخيب آمالي، وتضمحل سعادتي، فما نصيبي من الدنيا غير نصيبك.
الطماح : وهذا ما يضمن لي أمانتك في خدمتي. قلت لك إن الحائل الوحيد الذي حال بيني وبين بلوغ الوطر كان السموأل بإجارته عدوَّنا. واعلم الآن أن الذريعة الوحيدة لنيل المنى هو أيضًا السموأل.
علقمة : وكيف ذلك؟
الطماح : لا يخفاك أن امرأ القيس قد استودع السموأل ماله وسلاحه وولده، فإذا حصلنا على ذلك فقد حصلنا على كل شيء.
علقمة : لم أفهم بعد.
الطماح : قليلًا وينكشف لك المقصود، أنت تعلم أهمية هذه الدروع والأسلحة، فمتى صارت بحوزتنا نقوى بها على امرئ القيس والتنكيل به. وإن ظل الدهر على معاكستنا. ولا إخاله يكون لنا بالولد أحسن ذريعة للإيقاع بالوالد، وهكذا نكون أصلحنا ما أفسد السموأل.
علقمة : قد فهمت الآن، ولعمر الحق إني أقر لك بالدهاء والمهارة في محاربة الزمان.
الطماح : سوف ترى بعدُ من عزيمتي ما يقوِّض أركان الرواسي، وقد أطلعت المنذر على خطتي هذه فوعدني خيرًا جزيلًا إن نجحت.
علقمة : ولكن كيف السبيل إلى امتلاك الأسلحة واعتقال الولد؟
الطماح : لذلك قد أتيت إلى هذا السباق لا طلبًا للفرجة وطمعًا بالأفراح، فأواجه السموأل وأعلمه بغضب المنذر وأبسط له جليًّا عزم ابن ماء السماء على التنكيل به إن لم يسلم الوديعة، ولا إخال السموأل الحكيم يعاند ملكًا رفيع الشأن.
علقمة : وإن أبى السموأل تسليم الوديعة كما أبى تسليم الرجل.
الطماح : إن أبى؛ أنا أجد حيلةً ترميه على قدمي صاغرًا. أوَيظن السموأل أنه يهدم هكذا آمالي عبثًا ويقوِّض ما بنيته في السنين الطوال وأدعه يفعل. لقد طفحت كأس اصطباري واحتمالي، فإن كان هذا ظنه فلقد غرَّه الظن إن أبى … فكر شيطاني يخالج صدري، يكون هذا السباق عليه وعلى ابنه عاديا وبالًا ويجر عليهما ذيول الويلات، فترى حينئذٍ ما سوف يفعل.
علقمة : كلامك ألغاز عليَّ يا سيدي، ومعناه لا يزال مغمضًا.
الطماح : لا يلزم الآن أن تفهم أكثر من ذلك فمن قريب يظهر لك كل شيء … اذهب الآن إلى مجتمع الأمراء والفرسان واختلط بهم، كن حذرًا حرصًا يا علقمة كلك آذان تسمع وأعين تبصر ووافني بكل خبر يهمنا. راقب كل حركاتي وسكناتي عند السباق، وافهم كل إشارة تبدو مني، فإنا نحارب القوم بالحيلة ونقاتلهم بالمكيدة، نصارعهم باللين ونخاتلهم بالرفق.
علقمة : فليطمئن سيدي فإنه يجد مني إن شاء الله عقلًا ثاقبًا، وخنجرًا صائبًا (يخرج).

المشهد الثامن

(الطماح وحده)

أجل لئن أبى لأقلبن أفراحهم ترحًا، وصفاءهم كدرًا، ولأجعلن عيدهم مأتمًا، وسباقهم نواحًا وعويلًا.

أجل فكرٌ فظيع يدور في خلدي … يوسوس لي الشيطان أن أنتقم لنفسي هكذا: يريد السموأل أن يحول دون تتميم مقاصدي، فلأسحقن قلبه سحقًا، فيدري أي فارس يجاري في ميدان الدسائس والأهوال، ويعلم أن من تصدَّى للنمر ينازعه فريسته قد يقع هو في مخالبه فيمزَّق شرَّ ممزَّق، نعم إنه لفكر هائل، ولكن وحقِّ الذي ألهمنيه سأبرزه إلى حيز العمل إذا أصرَّ السموأل على عناده؛ فأي الكبائر لا أقدم عليها في سبيل غايتي، وإذا كان السموأل يبغي الوفاء بحقوق الجار فلست بالذي ينقض حق الثار، وليس دم أخي ليُطَلَّ وفي عروق الطماح نقطة دم. أما وداعية الثأر تدفعني إلى الأمام فأنا أسير كالسيل الجارف مجتاحًا كلَّ ما يقف بوجهي.

سموأل إن رمثَ العداء فإنني
سأسقيكها كأسًا من السم تنقع
أقود إلى الأعداء خيلي جوعًا
فتأكل من لحم العداة وتشبع
إذا لم أطأ تيمًا وأحلافها معًا
فتصبح من سكانها وهي بلقع
فلا قدتُ من أقصى البلاد طلائعًا
ولا كنت مغبوطًا وعيشي موسع

ها إن السموأل مقبل يرفل في ثياب العز والمجد فلأصبغنها بالسواد إذا رأيت فيه معرقلًا لمساعيَّ.

المشهد التاسع

(السموأل والطماح)
السموأل : علمت بمجيئك أيها الأمير الكريم فأسرعتُ إليك.
الطماح : أبى الله أن أدع أعيادكم تمر فلا أشاطركم الأفراح.
السموأل : أدام الله عزكم فما لنا من ريب في إخلاصكم.
الطماح : يلذ لي أن أختلي بك بعيدًا عن الأسماع والأنظار فأعطيك برهانًا جديدًا على إخلاصي وأكاشفك بأمر ذي بال.
السموأل : وما يكون الأمر؟
الطماح : أمر أوشَك أن يجرَّ عليك الويلات ويكاد الآن يوقعك بالتهلكة إن لم تتلافه.
السموأل : ما عهدي أني فعلت قط غير ما يرضاه الشرف.
الطماح : أنت تعلم بغض المنذر لامرئ القيس، وتعرف كم هو يضمر له من الشحناء والضغينة، فهو ناقم عليه وعلى كل أشياعه وأنصاره.
السموأل : المنذر وشأنه ينزل سخطه ويسكبُ نعمه على من يشاء، فلست بالمضطر إلى مشاركته في عواطفه.
الطماح : بيد أنك أيها الأمير تشاطره البغض لامرئ القيس عدوِّك وهاجيك.
السموأل : كان عدوي، وهو الآن جاري.
الطماح : ولكن لا يذهبن عن بالك أنك واطأت المنذر على الإيقاع بابن حجر وحالفته على ذلك.
السموأل : أجل حالفته ووعدته النصرة على الكندي. لكني لم أعِده قط المساعدة على جاري. واطأته على الإيقاع بأمير عظيم طغى وتجبر ولم أواطئه قط على رجل شريد أعطيته عهدي وميثاقي.
الطماح : لا تغرُّ الملوك بمثل هذا الكلام، ولا ترضى بمثل هذا التنصل. والاك المنذر وحالفك فلم تقم بشروط المحالفة. فلا تدع حرمة الجار تنسيك ما كنت تتوقع من فيض نعم ملك العراق.
السموأل : أنا لست بمن يضحي شرفه في سبيل موالاة الأمراء ومحالفة العظماء، فأرتدي ثوب المواربة وأتسربل بسربال الدناءة.
إذا المرء لم يدنَس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
واعلم يا طماح أني أضحي موالاة المنذر وكلَّ مصالحي على مذبح الوفاء، ويا لها ضحيةً تطيب بها نفسي!
الطماح : لو كنت بعملك هذا خسرت موالاة المنذر فقط لاستصوبت صنيعك وأثنيت على كريم مهزتك، ولكنك أيها الأمير قد تعرضت لسخطه وغضبه.
السموأل : لا نعبأ بغضبه ولا نكترث لسخطه والشهامة راضية عنا.
الطماح : ولكن لا تعاند من إذا قال فعل؛ فابن ماء السماء سيد عظيم الشأن دانت لسطوته القبائل، وائتمرت بأمره الأحياء، فأصبح في الجزيرة يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فإذا أقام عليك الحجة بنقض العهد وزحف عليك بكتائبه الجرارة هل تقف رجالك الأقلاء في وجهه؟
السموأل : كأنَّ المنذر لا همَّ له إلا بكثرة العدد.
يعيرنا أنَّا قليل عديدنا
ألا قل له إن الكرام قليل
وما ضرَّنا أنا قليلٌ وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
واعلم أن لنا في مناعة حصننا هذا ما يردُّ عنا كيد الطامعين ويدرأ هجمات المهاجمين.
هو الأبلقُ الفردُ الذي طار صيته
يعزُّ على من رامهُ ويطولُ
رسا أصلُه تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرعٌ لا يُنال طويل
على جبلٍ يحتلُّه من نجيره
منيع يردُّ الطرف وهو كليل
ولقد كان ذكرُ غير هذا أولى إذ أنت في حمانا ولكنك قلتَ فأجبتُ.
الطماح : لندع الماضي فقد فات ما فات؛ فأنا وجدت وسيلة تصلح شئونك والمنذر وتعيد المياه إلى مجاريها.
السموأل : هاتِ.
الطماح : سلم الأدرع والأسلحة فنقوى بها على جحافل الروم وردها على الأعقاب، وهكذا تُكفِّر عن الماضي وتكتسب رضى المنذر، ألا تحير جوابا؟
السموأل : وبمَ أجيب؟ أسلم وديعة جاري وأخون عهدي وأنت تنصح لي بذلك.
الطماح : نعم فليس من وسيلة غيرها تمكنك من السلامة وتدفع عنك المكروه.
السموأل : بئست الوسيلة إذا كانت تقضي بالنفاق والخيانة، ولسنا أناسًا يرهبون المنايا أو يحسبون للأعداء حسابًا.
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غررٌ معلومةٌ وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تُسلَّ نصالها
فتغمدَ حتى يستباحَ قبيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول
فسلْ إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواءً عالمٌ وجهول
الطماح : اسمع صوت مخلص لك أيها الأمير ولا تستسلم إلى العناد والخيلاء، فتجر على نفسك الويلات، وتمطر على رأسك وابل الشقاء.
السموأل : كفى يا طماح، فإن نفسي لا تطيق مثل هذا الكلام.
الطماح : تبصَّر أيها الأمير في مغبة هذا العناد وتروَّ في أمرك.
السموأل : قد تبصرتُ في كل شيء، فلا غضب المنذر يثنيني عن عزمي، ولا قوات الأرض تحملني على الغدر بالجار.
إنما جاري لَعَمْرِي
فاعلمن أدنى عيالي
وأرى للجار حقًّا
كيميني من شمالي
إنما حرمة جاري
في جواري وظلالي
إن للجار علينا
دفع ضيم بالعوالي
فأقلَّ اللوم مهلًا
دون عرض الجار مالي
سأؤدي حق جاري
ويدي رهن مقالي
أو أرى الموت فيبقى
حقه عند رجالي
الطماح : وهل سمعت قط بأن حرمة الجار بلغت هذا الحدَّ؟
السموأل : وهل سمعت قط أن عدوًّا بلغت عظمته وشهامته حدَّ ما بلغ عدوي أو أن حصنًا كان من المناعة على الجانب الذي عليه الأبلق هذا؟ فلا تعجب إذن إذا بلغ وفاء صاحبه ما لم يسمع قط أن وفاء عرب أو عجم بلغه.
الطماح (على حدة) : سنرى ما إذا كنت تثبت أمام مكائدي … اعذر أيها الأمير حدة لهجتي في خطابك، وتأكد أن غايتي الوحيدة هي ما فيه نفعك.
السموأل : لا ريب لي في ذلك. ها إن الضيوف مقبلون فلندع هذا الحديث (يتقدم ليقابل الداخلين).
الطماح (على حدة) : لا بدَّ إذن من تتميم ما عزمت عليه فخذ بيدي يا رب الكعبة (يدخل الجميع).

المشهد العاشر

(السموأل وولداه – والحارث ويزيد وهند – الطماح وعلقمة وشيبوب والمنادي والأمراء والفرسان … إلخ)
السموأل : دمتم بالعزِّ يا سادة، وبلَّغكم الله منتهى الهناء والسعادة.
أحد الفرسان : وبلغكم المثل يا كريم الأصل.
السموأل : في كل عام يزدان حِمانا بحضوركم يا فرسان العرب ونخبة آل الأدب، فتزداد بكم أعيادنا سرورًا وبهاءً، وتكلل سوقنا الحولية بنظم درر أقوالكم بهجة وسناء. أما الآن فقد تمَّ القسم الأول من العيد فسمعنا من الخطباء قولًا يزري بالسحر الحلال، ورأينا الشعراء ينظمون في سلك أقوالهم الدرر الغوال؛ حتى خلناهم يذيبون الشعر والشعر يذيبهم، ويدعون القول والسحر يجيبهم وما بقي علينا إلا حضور سباق الخيل فنشهد الفرسان تطلق لخيلها العنان في المضمار، فيظهر لنا فضل الباسل على الجبان. أما وقد اجتمعت الخيل للنصرة من كل صوب في هذه الحلبة، فيحق لنائل قصبات السبق أن يفاخر الأقران ويباهي الأبطال والفرسان.
الطماح : إن جود صاحب الأبلق الهمام أصبح حديثًا جرى مع الركبان، فضرب المثل في القبائل بكرمه وسخائه، وانتشر في كل الأحياء ذكر آبائه ووفائه، وقد نهض يجمع في كل عام حول أبلقه أرباب الشعر وفرسان الطعان، ويجعل للسابق خير العطايا حثًّا للناس على العلم والأدب وتنشيطًا لفرسان العرب، فلا زال تاجًا على مفرق الدهر ودرة يتحلى بها جيد هذا العصر.
يزيد (على حدة) : يا لك من مملق مخادع.
السموأل : ثم تعلمون أيها الأمراء العظام والأبطال الكرام أن ولدنا عاديا بعد أن تروض على الجول في الميدان وتمرَّن على منازلة الفرسان لمبرز في هذا النهار لأول مرة إلى مضمار السابق. (لعاديا): وقد أعددت لك يا ولدي مطية فرسي ذا العقال، وهو فرسٌ لا يُسار في مضماره، ولا يطمع جواد في شق غباره، قد ألبسه الليل برده، فرأينا بين عينيه سعده. إن جرى فبرق خفق، وإن أسرج فهلال على شفق. فكن أنت ثبت الجَنان صادق العزيمة، والله يوليك الفوز والنصر.
الحارث : لا تنسَ يا عاديا وصيتي لك: أطلق لفرسك العِنان شيئًا فشيئًا، انتهره بالصوت ولزَّه بالمهماز، ولا تضربه بالسوط إلا عند الحاجة، ولي الأمل أنك ستنال قصب السبق.
السموأل : والآن فليبرز المنادي وليعلن افتتاح السباق.
المنادي : يا معاشر الفرسان من عدنان، وأبطال فزارة وغطفان، وسادة أسد وذبيان، وكل من حضر هذا المكان تحية وسلامًا، سيبتدئ الساعة سباق الخيل وفي المضمار تعرف السوابق، وقد وضعت الجياد على المقوس٤ وجعل الرهان عند الغابة على رءوس قصب الرماح، فالسابق له الجائزة والإكرام، واللطيم٥ كفاء ما يلحق به من العار. فاحلفوا بذمة العربان وشرف الفرسان أنكم لا تخونون بشروط الرهان.
الفرسان : وذمةِ العربان وشرفِ الفرسان لا نخون بشروط الرهان.
الطماح (على حدة) : وأنا قد أقسمت بمن بسط الغبراء أنني سأنتقم شر انتقام.
المنادي : فامتطوا صهوات خيولكم وأطلقوا لها العِنان في مجال الميدان.
يزيد : ليس وراء هذا السباق إلا خراب الديار وقلع الآثار.

(عاديا يُقبِّل يد أبيه.)

الطماح (في غضون ذلك يقول لعلقمة) : أسرع إلى وراء الأكمة وكن بانتظاري.
علقمة : أمر مولاي مطاع.
عاديا (وهو خارج لهند) : ادعي لي بالنصر والتوفيق يا هند.
هند : أعادك الله إلينا سالمًا يا عاديا (على حدة) آه! هذا الحلم.

(يخرج عاديا والطماح وعلقمة والفرسان … إلخ.)

المشهد الحادي عشر

(الأشخاص ذاتهم ما عدا عاديا والطماح وعلقمة والفرسان)
الحارث : ها قد امتطى الفرسان صهوة خيولهم وتأهب كلٌّ للسباق.
شريح : أُطلقت الخيل في الميدان. ما أجمل أخي بين الفرسان ممتطيًا متن أشهب ينهب الأرض عدوًا.
الربيع : الرهج يسطع من سنابك الخيل.
هند : ما أثبت الفارس وما أجود الفرس! إن الشرر يتطاير من اقتداح النعال فهو.
مكرٌّ مفرٌّ مقبلٌ مدبرٌ معًا
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
يزيد : ما للطماح لا يلوي عنانه عن متابعته، فهو يستقري الصفوف ولا يزال يتتبعه.
الحارث : عافاك الله يا عاديا، قد تقدم الجميع؛ فلا من يرجو لحاقه.
يزيد : بلى. هو الطماح وفارس آخر مقنَّع قد قارباه.
شريح : قاتل الله الطماح، أوَيسبق أخي فيحرمه جائزة الرهان؟!
السموأل : وهل يرجو اللحاق بفرسي ذي العقال، وهو من أكرم الأفراس.
كأن غلامي إذ علا حالَ متنهِ
على ظهر بازٍ في السماء محلقُ
الربيع : ما أثبت جَنان عاديا وأشد عزيمته، كأني به ينازل الفرسان من أعوام طوال.
يزيد : ولكن ما له يبتعد عن الغاية؟ أشرد به الجواد؟ هو الطماح ورفيقه لا يزالان أتبع له من ظله.
السموأل : ما عهدي بالجواد شرودًا.
يزيد : تواروا وراء الأكمة واحتجبوا عن العيان.
شريح : وقاك الله يا أخي من كل طارئة!
هند : جُعِلْتُ فداك يا عاديا!
السموأل (لبعض رجاله) : أسرعوا وعودوا إلينا بالخبر الأكيد. (يخرج شيبوب مع بعض الرجال) آه إني على مقالي النار. أوَيصيب ولدي مكروه؟
شريح : ربي كن عون أخي وارعه بعين عنايتك يا رحيم!
هند (على حدة) : إليك عني أيها الحلم المشئوم، إن قلبي زائد بالخفقان.
السموأل : لكن وجود الطماح بالقرب من عاديا يُسكِّن روعي، فسيكون له ترسًا يدفع عنه كل ضيم.
يزيد : بل يكون — إن صدقت ظنوني — داعية الدمار والويل؛ فإن وجوده بين الفرسان مع هذا الفارس المقنَّع يزيدني قلقًا على قلق، فلا مأمن للنعجة بصحبة الذئب.
السموأل (لا يزال ناظرًا إلى الخارج) : لم يظهر بعدُ من وراء الأكمة.
الحارث : أرى فرسًا يعدو نحونا ولا يعلوه فارس … أحاطت به رجالنا.
السموأل : هذا فرسي ذو العقال. وولدي؟ آه ما أصعب الانتظار.
شريح : فدتك نفسي يا عاديا، لحاك الله يا فرس الشؤم ماذا فعلت بفارسك؟
الربيع : عسى أن يكون واقع الحال على خلاف ما نتوهم (يعود شيبوب).

المشهد الثاني عشر

(الأشخاص ذاتهم – شيبوب)
السموأل : أسرع، ما وراءك؟
شيبوب : ما ابتعدنا قليلًا حتى رأينا الجواد عائدًا فأسرعنا إليه، فلم نرَ عليه أثر دم، لكنا وجدنا على الرحل هذه الكتابة فحملتها مسرعًا.
السموأل (يفضها ويقرأ) :

يا صاحب الأبلق، ظننت نفسك في حصنك أمنع من العقاب في طبقات الجو، ولم تنتبه للعدو الواقف لك بالمرصاد، فولدك بقبضة يدي، ولا يرد إليك حتى تسلم وديعة امرئ القيس. هذا وإلا فلا ترى ابنك إلا جثة باردة. والسلام!

التوقيع: الطماح
(سكوت) يا لك من نذل خائن! أتيتني من باب الحيل والمخادعة، فأوقعتني في حبائلك الشيطانية. أردت أن تتمرد وتبادر إلى إعلان العداوة حين أجرتُ الكندي، فرأيت الظروف تحول دون مبتغاك فأكمنت الضغينة وأظهرت السكينة وكنت كالعقرب تحت الزهرة، ولكن سنسحقك سحقًا يا عقرب الشر والفساد. أوقعت بولدي وظننت أن بذلك تحقيق أمانيك، ولم تدرِ أن دون ذلك تجريع الغُصَص واحتمال الويلات، أوَيخطر لك ببال أن تكاشف بالعداوة صاحب الأبلق المنيع يا طماح؟ أم تطمح بأبصارك إلى مقامي فترغب في معاندتي؟ فقسمًا بمن وطد راسيات الجبال سأقصدك بخيلي ورَجلي، ولئن سقطت شعرة من رأس عاديا لأطلبنَّ فيها دمك.
الحارث : ليس الطماح ليقوى على معاداتك لولا أمله بمساعدة المنذر. ولست إخاله فعل شيئًا بغير إيعاز من ابن ماء السماء؛ فهو عدو امرئ القيس ويود استئصال ذريته. وما هو إلا يستخدم بُغض الطماح لبلوغ أربه وتحقيق أمنيته.
السموأل : أوَيثنيني المنذر هذا عن إعزازي الجار أم يخالني أخاف تهديده وأخشى وعيده حتى أخفر ذمة ضيفي؟ فوحقِّ المروءة والشرف لا أتخلى عن جاري ولو تألَّبَت عليَّ قوات الأرض والجحيم. أوَيجهل الطماح من أنا؟
والخيل تعلم يوم الروع إن هزمت
أن السموأل في الهيجا لحاميها
لا يختشي الجار منا غدرة أبدًا
وإن ألمَّت أمورٌ نحن نكفيها
أما الآن فليس بوسعنا أن نهجم على الأعداء؛ فإن معظم رجالنا متغيبون عن الحمى مع امرئ القيس، ولا أرى إلا المماطلة حتى تعود فرساننا مع ابن حجر وأنا أطلب ولدي مباشرة من المنذر. فما رأيكم؟
الحارث : قلت لك: لا تُعلِّق على المنذر أملًا، فما هذه الدسيسة إلا بأمره ورضاه. أما ما ذكرت من أمر المماطلة فذلك تورُّط ما وراءه جدوى.
السموأل : إن مَن تسلح بسلاح الحق ومشى تحت راية الشرف لا يعبأ بالأعداء قَلُّوا أو كثروا؛ فإن الله يجعل بيمينه قوة تقاوم أشد الأبطال. فإن انتصرتُ على معاندي يكون انتصاري انتصار العدل والوفاء وانخذال البطل والبهتان، وإن قدَّر الله الظفر لأعدائي فإني أناجزهم حتى آخر رمق، وأموت ملتحفًا بالمجد، ويا ما أحلى الموت في سبيل الوفاء.
يزيد : أيها الأمير الهمام، لو كان ابن عمي امرؤ القيس هنا لصدَّك عن عملك هذا، ولقال لك: إن كل أدرع الدنيا لا تساوي شعرة تسقط من رأسك أو رأس قومك، ولسنا نرضى أن نعرضك للمحن ونكون عليك مجلَبة الخراب والهلاك، فأذعن لطلب عدوك ونجِّ ولدك.
هند : أجل يا صاحب الأبلق ليست وديعتنا بشيء إذا ما قوبلت بما نحمِّلك من الأتعاب. سلِّم الدروع وسلمنا جميعًا ولا تدع عاديا يُصاب بأدنى أذى.
السموأل : لا يا ولدي، ليست حياتي وحياة كل من يعز عليَّ بشيء في سبيل الجار والبقاء على الوفاء.
هند : إني أستحلفك ثانية باسم والدي وبحق حبك لولدك أن ترجع عن عزمك.
السموأل : ما بذا استعطاف.
هند : أيها الأمير ليس الموقف موقف شكر وإطراء فنبدي لك عظيم شكرنا. إن الدروع دروعنا والطماح عدونا لا عدوك، فدعنا نفعل ونخلص ولدك. أليس لنا حق التصرف بها؟
السموأل : لا يا ولدي، دفعها إليَّ امرؤ القيس وحلفت ألا أسلمها إلى غيره. (لقومه): قد طال بنا الوقوف والخوض في مجال القول، فقد عقدت النية على العمل بما تقتضيه النخوة العربية. فاجمعوا ما تبقى لنا من الرجال وادخلوا الحصن وكونوا على أُهبة القتال، فما يهمنا عددهم ولنا قلوب لا تهاب الموت، فاشحذوا بيض الصفاح واجلوا الأسنة والرماح فيجدَ العدو فينا ليوثًا لا تروَّع وقلوبًا لا تُزعزع … يطمح نظر المنذر إلى وديعة جاري فليأتِ يأخذها من بين مخالبنا.
إذا ظلمت حكامنا وولاتنا
صرمناهم بالمرهفات الصوارمِ

المشهد الثالث عشر

(يزيد – هند)
هند : لا بدَّ من إيجاد حيلة واستنباط وسيلة لنجاة منقذنا.
يزيد : وعلى ذلك عوَّلت يا ولدي، فأنا أخرج الآن من الحصن وأفرَّ على جوادي طالبًا ابن عمي فألتقي به في الطريق ونطير على جناح السرعة لإنقاذ مَن حمى عرضنا ووديعتنا.
هند : نعمًّا يا عماه! اذهب وعد برجالنا قبل فوات الحين.
يزيد : أستودعك الله يا هند.
هند : رافقتك السلامة يا عماه.

المشهد الرابع عشر

(هند)
وأنتِ يا هند ابكي حظك واندبي سوءَ طالعك، فما نصيبك من الدنيا إلا النكد والشقاء، ما كدت أسعدُ بأبي حتى شقيت بمحبوبي. آه! كيف لم أسمع وجيب قلبي وأصدق حلمي فأمنع عاديا عن هذا السباق. (إلى الخارج) سرْ يا عماه واستقدم رجالنا فنخلص عاديا من هذه الذئاب.
قل لأبطال الوغى هيَّا بنا
فأجيبوا قد دعا داعي الوغى
واعقدوا الرايات يا أبطالنا
واشهروا البيض وسيروا في الضحى
يا بني كندة طيروا وانصروا
من كفى أعراضكم شرَّ الخنا
كذب الطماح لا يقتله
وامرؤ القيس أبي حامي الحمى
سوف ينقضُّ عليهم هاجمًا
دافعًا عن عاديا شر الردى
يا عدانا خسرت صفقتكم
إي وربي قد خسرتم يا عدا
سوف أبغي القومَ في عسكرهم
أنشد الأشعار فيهم والغنا
ولئن سرتُ إليهم فأنا
أبذل الروح لمن أهوى فدى

هوامش

(١) الأغاني ج٨، ص٧٠.
(٢) قال امرؤ القيس:
أفسدت بالمن ما أوليت من نعم
ليس الكريم إذا أسدى بمنان
(٣) أصل هذه الأبيات والتي تقدمتها من الشعر المنحول إلى امرئ القيس. والأبيات اللامية من قصيدة له طويلة مطلعها:
لمن طللٌ بين الجدية والجبل
محلٌّ قديم العهد طالت به الطول
وهذا مطلع لقصيدتين من قصائد امرئ القيس.
(٤) حبل تُصَفُّ عليه الخيل عند السباق.
(٥) هذه أسماء الخيل في السباق: أولها المجلي، ثم المصلي، والمسلي والعاطف والمرتاح والحظي والمؤمل. وهذه السبعة لها حظوظ، ثم التي لا حظوظ لها هي اللطيم والوغد والسكيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤