الفصل الرابع

الوفاء

(قاعة في الأبلق كالفصل الثاني.)

المشهد الأول

(السموأل وحده)
أأخون عهدي بالوفاء وذمتي
فأخلصَ ابني من ملمات الخطرْ
أم هل أكون على العهود محافظًا
فأشاهد ابني تحت أطباق الحفرْ
ما حيلتي سُدَّت عليَّ مذاهبي
واندكَّ عزمي من تصاريف القدرْ
والدهر أبدى ناجذيه معاديًا
وصفاءُ عيشي قد تبدل بالكدرْ
وإذا تكاثرتِ الهموم على امرئ
فمن القضاء وحكمه أين المفرْ
أحياتك ابني أم وديعة جارنا؟
أمران ذا مرٌّ عليَّ وذا أَمَرْ

ما العمل وما التدبير؟ إن الطماح قد هاج هائجه وثار ثائره، فليس كلامه من باب التهويل، وهو لا يرجع عن قصده ما لم يظفر بثأر أخيه. إنه يطيع داعية الانتقام، ويستبط الحيل الجهنيمة لبلوغ أربه، وقد اصطادني في الأُحبولة التي نصبها لي. وها إن ولدي ومهجة فؤادي أصبح في قبضة يده فيتخذه ذريعة لنيل مناه، وأنا قد أصبحت في موقف حرج يتعذر على الآباء الوقوف بمثله: إما غدر وإما ثُكل. وما أشدهما على قلب المجير والوالد! إما أن أكون أبًا قاسي القلب وحشي الطباع بربري الأخلاق، وإما أن أخون جاري وأخفر ذمتي وأحنث في يميني فأصبح سُبَّة في أفواه العربان. يا لها من عوامل قاتلة قد اشتد معتركها في فؤادي فأمسى تتنازعه دواعي الحب والحنو تارة، ودواعي الوفاء والشرف أخرى! تيار هائل يتجاذبني ويتلاعب بي. فإن غلب الحنان الوالدي وسعيت في خلاص ولدي بتسليم الوديعة أكون خنت جاري ونقضت عهدي؛ فأوصم بوصمة العار ونفسي تأباه فأظل أغدر الغادرين. وإن بقيت محتفظًا بالوديعة، أمينًا على حقوق الجار، أكون أنا بنفسي قد قتلت ولدي فأَبِيتُ أثكلَ الثاكلين. ولكن صوت والدي يدوِّي في أذني ويردد على مسامعي: «كن وفيًّا يا سموأل.» وأنا وحقِّك يا أبي لست لأخون الجار أو أنقض العهد مهما انتابني من النوائب والخطوب.

وفيتُ بأدرع الكندي إني
إذا ما خان أقوام وفيتُ
بنى لي عاديا حصنًا حصينًا
إذا ما نابني ضيم أبيتُ
وأوصى عاديا قدمًا بأن لا
تهدِّمْ يا سموأل ما بنيتُ

المشهد الثاني

(السموأل والحارث)
الحارث : السلام عليك.
السموأل : وعليك أحسنه وأذكاه.
الحارث : تسرني مصادفتك على حدة لمحادثتك بأمر ذي بال.
السموأل : إن مخاطبتك تلذ لي وآراءك السامية تروقني. فقل ما بدا لك يا مهذِّب أولادي.
الحارث : وما حديثي إلا عن أولادك يا أخي. إلى متى هذا العناد حتامَ تعرِّض حياة عاديا للهلاك؟ فإن الطماح عقد النية على قتل عاديا إن لم تسلم الأدرع.
السموأل : وأنا عقدت النية على حفظ الوديعة ومنع الجار. وما الطماح إلا وغد لئيم قد طالما تمرَّغ في وحول الدناءة.
الحارث : ذلك ليس من ينكره، ولكن الأيام تواطئه على نيل مبتغاه وتحقيق أمانيه، فجعلته محطًّا لأنظار المنذر ومكَّنته من ولدك ليتمَّ له الظفر.
السموأل : إن آماله أوهى من نسيج العنكبوت، فليس المنذر ليخدم بُغض الطماح ويساعده على الانتقام. وقد أرسلت أطلب ولدي من ابن ماء السماء، وعن قليل يعود رسولنا بما أُرغم به أنف الحساد.
الحارث : لا تستمسك بأهداب هذه الآمال الفارغة، فابن ماء السماء هو ألد أعداء امرئ القيس كما لا يخفى عليك، وما الطماح إلا مؤتَمِر بأمره، فلا أرى لنا من هذا الباب فرجًا، سيما الآن وقد بلغ المنذر خبر عودة امرئ القيس بعساكر الأحلاف فلا يزداد إلا غضبًا وهياجًا. وما إخاله إلا يلحُّ في طلبه بل يزيد في مطالبه ليتمكن من الثبات في وجه أعدائه، وعليه ما سوف تفعل إذا ثبت ملك العراق فعل الطماح واستصوبه؟
السموأل : إني أجود بولدي ولا أخفر ذمتي (يدخل شيبوب).
شيبوب : رسول حمل إلينا هذه الرسالة.
السموأل (يفض الرسالة) : «من المنذر ملك العراق وسيد العرب إلى السموأل بن عاديا: ساءنا جدًّا ما أتيتَهُ من إجارة عدونا، وما الطماح إلا عامل بإرادتي فسيعلمك بمطالبي الجديدة؛ فهو المفوض في كل الأمور. والسلام.» وما تكون مطالب المنذر الجديدة؟
الحارث : لا ندري ما يخبئ لنا الدهر من المحن. أرأيت كيف أن الطماح وسوس للمنذر أنه بلا الأدرع لا يتمكن من عدوه، وأنه لا ينال الأدرع إلا ما دام ولدك رهنًا عنده يضمن له خضوعك.
السموأل : قاتل الله المكر، فإنه متى تمكَّن من قلب الإنسان جعله أشد من النمر فظاعة وقساوة.
الحارث : فما أنت فاعل الآن، وقد أصبح حدسنا حقيقة إذ تأكدت مواطأة المنذر للطماح؟
السموأل : قلت لك: لَتضحية ولدي عن آخرهم أحب إليَّ من الخيانة والعار، فأنا مقيم على الوفاء ثابت على العهد، ولو كان في وفائي وفاتي.
الحارث : تروَّ في الأمر يا أخي، ولا تأخذك عزة النفس فتوقع ولدك في التهلكة.
السموأل : ليس عزمي بناجم عن الحدة والإسراع بل هو ثمرة تروٍّ طويل وقد أملاه عليَّ الشرف.
الحارث : وما هذا التروي الذي يقودك إلى قتل ولدك؟ وما هذا الشرف الذي يقضي بقطع حياةِ مَن هو حياتك؟
السموأل : هذا الوفاء يا حارث.
والغدر بالعهد قبيحٌ جدَّا
شرُّ الورى مَن ليس يرعى العهدا
الحارث : هذا تورط. وهل بلغك أن أحدًا ضحَّى بولده في سبيل الجار؟ ألا تشفق على ولدك؟ أتدع السهام تمزِّق لحمانه على مرأى منك وأنت ثابت الجأش لا تتزعزع؟
السموأل : يعلم الله! لسفك آخر نقطة من دمي أسهل عليَّ من أن يلحق بولدي أدنى أذى، ولكن تيقن أن سفك آخر نقطة من دمائنا جميعًا أهون على قلبي من أن يلحق بعرضنا أدنى دنس.
الحارث : إذن لا شيء يثنيك عن عزمك؟
السموأل : لا!
الحارث : يا للقساوة! إليَّ أيها الحبُّ الوالدي. إليَّ يا حنو الآباء على الأبناء. ساعديني يا عواطف الشفقة والحنان، هلمي واخرقي هذا القلب القاسي ولَيِّنِي منه الفؤاد، عله يحنُّ على ولده، ويشفق على فلذة كبده. آه إن عنادك ينزل بعاديا أشد العذاب، وإصرارك يقصف غصن حياته، وكلمة من فيك تحل وثاقه، وإشارة منك تعيده إلينا سالمًا، وهذه الكلمة أنت لا تقولها وهذه الإشارة لا تأتي بها فتبحث بنفسك عن هلاك ولدك.
السموأل : كفى لومًا وعذلًا يا حارث! كفاك تضرب على وتر كاد يتقطع من الاضطراب! رشقتْني الأيام بأحد سهامها فأصابت حبة قلبي، وكأنَّ الطعنة غير كافية فتسعى أنت في توسيع الجرح. أتظن أن هذه العواطف لا صدى لها في صدري؟! أيتبادر إلى ذهنك أن قلبي لا يقطر دمًا عند هذه الأفكار؟ آه إن دموعي أحرُّ نار الجحيم أبردها. أنت تجهل أي مراجلَ فارَ فائرُها هنا تحت مظاهر السكينة والهدو، وأي نار تأجَّجَ سعيرها فكادت تلتهمني. آه أود أن تنهشني السباع بأنيابها وتمزقني العقبان بمخالبها أفضل أن أُقلَّب على مقالي الجمر وأُحرق في تنور مسجور من أن أكون في موقف يتنازعني فيه عامل الوفاء وعامل الحُنُوِّ، وأنا موقن أن السهم الذي يخرق أحشاء ولدي لا يلبث أن يصيبني فيُرْدِيني فأتبعه إلى القبر عاجلًا، لكننا نكون متنا شهداء الوفاء.
الحارث : ليس الوفاء يطلب ما تأباه الشريعة، ولا يرضاه الله؛ فإنه عز وجل يأمرنا بتفضيل النفس على المال. فهل يجوز لك أن تجود بنفس ثمينة خالدة في سبيل شيء فانٍ؟ لا يا أخي، حياة عاديا لله وليست لنا فنجعل لها حدًّا.
السموأل : ثِقْ بأني لولا هذا الفكر لما كنت ماطلت بالجواب، ولما أصغيت برهة إلى نجوى الحنان؛ فإن ما يمنعني عن الإقدام في هذا الأمر هو قولي: إن حياة ولدي لمن أعطاه الحياة، وليس لي حق التصرف بها.
الحارث : ونعم الفكر، فرضى الضمير قبل رضى الناس. وكن على ثقة من أني ما قصدت بكل ما قلت إثارة أحزانك وتهييج أشجانك، لكنما الشفقة على عاديا مَن ربَّيته وثقَّفته دفعتني إلى حدة اللهجة.
السموأل : لا ريب لي في ودادك وإخلاصك. اذهب الآن فرسول الطماح لا يلبث أن يأتينا بالجواب الأخير، فاجمع وجهاء عشيرتنا ووافني بهم إلى هذا المكان، وأنا سأفكر مليًّا، فإذا كان ولدي لا يرضى أن يجود بحياته في سبيل الجار فليس لي الحق أن أفعل. (يهم الحارث بالخروج) ولكن قل لي: هل وقفتم على شيء جديد بشأن هند ويزيد؟
الحارث : لا، فهما لا يزالان غائبين من الحمى (يخرج الحارث).
السموأل : يا رب السماء، ما هذه المحن التي تحدق بنا؟

المشهد الثالث

(السموأل وحده)

ما حل بهما يا ترى؟ إن امرأ القيس جعلهما في ذمتي مع الأدرُع. أما يزيد فقد بلغ أشدَّه فلا خوف عليه، لكن هندًا فتاة يُخشى عليها الوقوع في المكروه، بأية لهجة شريفة طلبت إليَّ أن أدفع الأدرع إلى الطماح فلا يلحق بولدي أذًى. ما أعز نفس هذه الفتاة ولله درها ما أكرم سجاياها! عن قريب يوافينا رسول الطماح، فبِمَ أجيب؟ أنِرْ عقلي بنور حكمتك يا باري الورى.

المشهد الرابع

(السموأل – شريح)
السموأل : أهلًا بقُرَّة العين وبلسم الفؤاد.
شريح (يُقبِّل يد أبيه) : أنا بطلبك يا أبي، ما لك تُؤثر العزلة والانفراد؟! أتحب أن يبقى ولدك شريح هنيهة عندك عساه أن يسلي كربتك وينفي همك؟
السموأل : إن مرآك يا أعز من روحي هو مصدر سروري وأفراحي.
شريح : وهل من خبر جديد عن أخي عاديا، فإن بُعده يكوي فؤادي؟
السموأل : شريح أصغ إليَّ: إن أخاك سيبقى أسيرًا حتى نُسلِّم الوديعة، فلو طلب منك أن تنوب منابه في الأسر هل كنت تفعل؟
شريح : بكل طيبة خاطر، لو كان أخي يتخلى عن مركزه لأحد.
السموأل : ولو بلغت القحة من عدونا أن قال: موت الأسير أو تسليم الوديعة، فما كنت تصنع؟
شريح : أنا لا أدري ما هو الموت، ولكني إخالني أفضله مهما كان على خيانة الجار.
السموأل (يقبله) : عشت يا بن أبيك يا كريم الأجداد! فإن مروءتك لدليل على ثبات أخيك. (على حدة) وهل يكون عاديا أقل حزمًا من شريح؟

المشهد الخامس

(السموأل – شريح – الحارث – شيبوب – فرسان – ثم الرسول)
الحارث : إن الرسول قد وافى يحمل إلينا جواب الطماح.
السموأل : أدخلوه. أيمكنني أن أعتمد عليكم أيها الأبطال في الثبات في وجه العدو؟
شيبوب : لك الأمر وعلينا الطاعة (يدخل علقمة).
علقمة : على الكرام سلام. أما بعد فهاك ما يقوله لك مولاي الطماح: يا ابن عاديا، قد عيل صبري من مماطلتك، فأجب سؤلي الساعة، وإلا ترى ولدك هدفًا لسهامٍ تمزق أحشاءَه. فأشفِق على ولدٍ يسترحمك بحب الآباء للبنين ألَّا تقصفَ غصن حياته.
شريح : كذبت وكذب سيدك يا رجل! ليس من يجري في عروقه من دم السموأل ليرهب الموت في سبيل الوفاء.
علقمة : دع عنك هذا الكلام يا غلام وأشفق على من تعرِّضونه للموت.
الحارث (للسموأل) : أوعيت وسمعت؟ فهل يحق لك أن تجازف بحياة عاديا في سبيل ما لا يعتد به إذا ما قوبل بدم يهدر؟
السموأل : آه استرحام ولدي! هذا ما كنتُ أخشاه، وهذا ما قد يزعزعني فيقضي عليَّ الضمير بحجر دمه.
علقمة : هذا، وإن مولانا وسيدنا المنذر بات يتوجَّس شرًّا من محالفة قيصر الروم للكندي وإمداده إياه بالعدد والجنود، فلا بدَّ لنا إذن مع الأدرع من هند بنت امرئ القيس لتكون لنا ذخرًا عند الحاجة.
السموأل : كفى يا رسول! فلم يبقَ للتردد من مجال. خيرتموني بين ابني والوديعة فترددت لأن الله ينهانا عن تفضيل المال على الروح. أما وأنتم تطلبون مني الآن بذل حياة جاري دون حياة ولدي فيقضي عليَّ الله والشريعة بألا أحجز دم ولدي بهدر دم جاري. فلموتي ولسفك دمائنا عن آخرنا أهون عليَّ من أن يمسَّ جاري بأذى.
يهون علينا أن تُصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
فإنا لقومٌ لا نرى القتل سُبَّةً
إذا ما رأته عامرٌ وسلول
تسيل على حد الظُّبَات نفوسنا
وليست على غير الظُّبَات تسيل
وما مات منا سيدٌ حتف أنفه
ولا طُلَّ منا حيث كان قتيل
إذا سيدٌ منا خلا قام سيد
قئولٌ لما قالَ الكرامُ فعول
علقمة : أوَتشهد مقتلَ ولدك ولا تجزع؟
السموأل : أوَتشمت ببلائي يا هذا؟ أما والمروءة تملي عليَّ ما أفعل فلا أجزع من شيء. (للحارث) أليس كذلك يا أخي؟
الحارث : قد وضعت اتكالي على الله، وإياه أسأل أن يمدنا بالمعونة.
علقمة : لكن ولدك يسألك إنقاذه، فعاديا لا يريد أن يموت.
هند (من الخارج) : لا، لا يريد أن يموت!
الحارث : ما هذا؟ هند!

المشهد السادس

(الأشخاص ذاتهم وهند والربيع)
هند : أنا آتيةٌ من معسكر الطماح حيث زرت عاديا وهاك منه رسالة.
السموأل (يفض الرسالة) :

أبي لستُ أخاف الموت، فاحتفظ بوديعة جارنا واحرص على هند فقد أصبحت مطلب الأعداء، ولا تأسفوا على من يموت في سبيل الشرف.

شريح (لعلقمة) : أترى مصداق قولي وأن كلام سيدك إفكٌ وافتراء؟
السموأل : أوَأكون أقل شجاعة من ولدي؟ عونك يا رب السماء أسأله لأقوى على هذه المحنة.
هند (بعد سكوت كمن يفيق من حلم) : سامحك الله يا عاديا. أهكذا خدعت من تَدَّعِي حبها؟
السموأل : وأين الخداع يا بنية؟
هند : هاكم واقع الحال: طلبتُ إليك تسليم الأدرع لإنقاذ عاديا فأبيت، فذهبتُ متنكرة إلى مضارب الطماح، وتوصلت إلى السجين وعرضت عليه أن يفر وأقوم مقامه فأبى، فعزمت على تسليم نفسي إلى عدونا فيعتقلني ويطلق سراح أسيره، وكدت أفعل لو لم يَعِدْني عاديا بأنه ينقاد لي ويفعل ما أريد، فخيرته بين قيامي موضعه وكتابته إلى أبيه يُحرضه على تسليم الوديعة، ففضَّل الكتابة.
وأنتم سمعتم كيف قام بوعده
وخان مقالًا كنت أحسبه صدقَا
توهمت أن الخط يثبت عهده
فخالف منه خطُّه العهد والنطقَا
السموأل : أكرِمْ بكما من فتيين كريمي الأخلاق شريفي الخلال، أحرز كل منكما — على حداثة سنه — عزة النفس وكرم الطباع! فإن ثباتكما وازدراءكما بالموت يمليان عليَّ جليًّا ما يجب أن أفعل.
علقمة : والآن أتُسلم الوديعة مع ابنة امرئ القيس أم تسلم ولدك إلى الهلاك؟
هند (للسموأل) : بالله عليك يا كريم الأصل! كفى ما تحملته في سبيلنا من الضيم، وها أنا أترامى على قدميك وأستحلفك ثانية باسم والدي وبحق حبك لعاديا ألا تفعل فينتج عملك ما يجرُّ الويلات. سلِّم الأدرع وسلمني أنا وأنقذ ولدك.
السموأل : انهضي يا هند، موتنا جميعًا ولا يصيبك مكروه. والذي روح السموأل بيده لست لأنقض عهد الجار.
هند : آه لو كان أبي يحضر الآن فيصدك عن عزمك!
السموأل : كفى! فليس ما يثنيني عن عزمي، وأنا بحاجة إلى كل جلَدي، فلا تسعوا في إضعاف عزيمتي، فالموقف حرج، والأمر جلل.
علقمة :
فكِّرْ سموأل فيما أنت فاعله
قد قلتُ فاحذر عداءَ الضيغم الضاري
أعطِ الوديعة فالطماح يُنذركم
فإن أبيت ثكلتَ ابنًا بإصرار
إما دم ابنك وإما أن تسلمها
فاختر وما فيهما حظٌّ لمختار
السموأل :
فقل لمولاك منعُ الجار من شيمي
اقتلْ أسيرك إني مانعٌ جاري
عندي له خلفٌ إن كنت تقتله
وإن قتلت كريمًا غير خوَّار
مالٌ كثير وعرض غير ذي دنسٍ
وإخوة مثله ليسوا بأشرار
فسوف يخلفه إن كنت تقتله
ربٌّ كريم وقوم ولدُ أحرار
ونحن لا نشتري عارًا بمكرُمة
نختار مكرمةَ الدنيَّا على العار
نصون بالصبر عرضًا لم يشِنه خَنا
وزندنا في الوفاء الثاقب الواري
من جاء أبلق تيماء يلاقِ به
حصنًا حصينًا وجارًا غير غدَّار
فقل لمولاك منع الجار من شيمي
اقتلْ أسيرك إني مانع جاري١
علقمة (وهو خارج) :
هذا الكلام يزكي اليوم حرقتكم
أشرِفْ سموأل وانظرْ للدم الجاري
شيبوب :
مولاي دعني بحد السيف أصرعه
فيرتوي من دماه غلُّ بتاري
السموأل : لا تفعل فما هو إلا رسول، ودم الرسول حرام.

المشهد السابع

(الأشخاص ذاتهم ما عدا علقمة)
الحارث : ألا يثنيك عن عزمك لا وعدٌ ولا وعيد؟
السموأل : لا، وحقِّ من خلق آدم من التراب لن أعتاضَ بتلك الأدرع جملًا ولا ناقة، فأكتسب بذلك فن العضد وسبة الأبد. وأنتم يا كرام العرب هل تعدوني بالذود عن جارنا ووديعته؟
شيبوب :
سيُهرِق كلٌّ في رضاك دماءَه
وكلٌّ على حفظ الوديعة قائم
حلفنا وحقِّ الله لسنا لنرتضي
بما طلب الأعداء واللهُ عالم
لقد خسئَ الأعداء لا ينزعونها
مراغمةً ما قام للسيف قائم
الحارث : مالَ الظلُّ إلى الزوال وانتهت الهدنة المعطاة لنا.
الربيع : إن معسكر الطماح في حركة.
الحارث : وصل الرسول وبلَّغ جوابك.
السموأل : آه من لي برجالي الآن فأخرج على الأعداء وأبدد شملهم وأنتشل ولدي وحبيبي من بين مخالبهم!
هند : آه لو أرسل الله أبي مع فرسانه الأبطال فينقذ عاديا!
الحارث (ناظرًا إلى الخارج) : لقد أتوا بعاديا وشدوه إلى جزع شجرة.
الربيع (كذلك) : ما هذه الجلبة بين عساكر العدو؟ هرع كلٌّ إلى سلاحه.
الحارث (كذلك) : ما هذا الغبار المرتفع في أطراف السهل؟
الربيع : هذه فرسان من غير العرب.
السموأل : أوَيكونون أحلافًا يبشرون بالخير أم أعداء ينذرون بالويل؟
هند : يا للنصر والابتهاج! هذا علمنا تخفق طياته فوق رءوسهم.
السموأل : وهل حققتِ النظر؟
هند : وهل تخفى عليَّ رايتنا المحبوبة؟ انظرْ قد انقشع الغبار، هذه طلائع كندة تحمل القلوب حنقًا وفوق الأسنة علقًا.
السموأل : وهل يصلون في حينهم؟
الحارث : إن فرقة من الأعداء اصطفَّت أمام عاديا. ها قد وتروا قسيَّهم وصوَّبوا نبالهم.
هند : ليس من مجال للريب، هذا أبي ينهب الأرض عدوًا وإلى جانبه عمي يزيد. ألا طيري بهم يا خيولهم!
الحارث : آه فات الحين، طار سهم وشكَّ في ضلوع عاديا!
السموأل (على حدة) : وهذا السهم خرق حبة فؤادي.
الربيع : التقت الطلائع واشتبك القتال.
شيبوب (للسموأل) : أوَيأمر مولاي أن أخرج بمن تبقى من رجالنا؟
السموأل : افعلوا وردُّوا عليَّ ولدي!
شيبوب (صوته خارج الملعب) : بَدارِ إلى القتال أيها الأبطال!
الربيع : علا الصياح واشتدَّت الضوضاء.
الحارث : إنما العثير يحول دون مشاهدة القتال.
هند (إلى الخارج) :
سيوفَ رجالنا شُقِّي الظلاما
وقدِّي من عداة القوم هامَا
ويا أرماحنا شكي ضلوعًا
بطعن صائب يفري العظامَا
ويا فرساننا شدُّوا عليهم
بخيل ضمر تبغي انتقامَا
ويا أبطالنا كرُّوا عليهم
وروُّوا من دمائهم الحسامَا
ألا انقضُّوا على الأعدا أسودًا
ونجوا عاديا الشهم الهماما
فإن عداتنا تبغي رداهُ
وقد رشقت إلى الأحشا سهامَا
حبيبي ما جنى إلا وفاء
وراعى في وديعتنا الذماما
الربيع : أرى فارسًا مقبلًا إلينا وحسامه يقطر دما.
هند : هذا عمي يزيد!

المشهد الثامن

(الأشخاص ذاتهم – يزيد)
يزيد :
إنا التقينا ونار الحرب ساطعة
وسمهريُّ العوالي بيننا قَصِدُ٢
وقد ذبحناهمُ بالبيض صافية
عند اللقاء وحرُّ الموت يتَّقدُ
طورًا ندير رحانا ثم نطحنهم
طحنًا وطورًا نلاقيهم فنجتلد
وقد فقدنا أناسًا من أماثلنا
ومثلهم فكذاك القوم قد فقدوا
حتى إذا الشمس ولَّتْ أجفلوا هربا
عنَّا وخلوا عن الأموال وانجردوا
فالخيل تعلم أنَّا من فوارسها
يومَ الطعان وقلبُ الناس يرتعد
لما تركتُ الحصن طرت على جناح السرعة إلى ابن عمي امرئ القيس، فألفيتهُ وكتائبه في الطريق بين الشام وتيماء، فعرضت عليه واقعة الحال وُعدنا مسرعين، فأحطنا بمعسكر الأعداء وأعملنا بهم السيف. وأول طعنة طعنتها كانت في قلب علقمة وهو يصوب سهمًا إلى صدر عاديا فخرَّ صريعًا بلا حراك.
هند : سلمتْ يدك يا عماه!
يزيد : وكان حظ ابن عمي أوفر من حظي، فإنه تتبع الطماح وقد ولى الأدبار، فعاجله بطعنة سنانه فألقاه على الثرى يختبط بدمه فوكل أمره إلى أحد رجالنا. ثم عاد أبوك يا هند يخوض صفوف الأعداء كأنه ملك الموت ينقضُّ عليهم.
هند : سلمت لي يا أبي ولا شُلتْ لك يمين!
يزيد : فتركت الحرب وقد دارت رحاها على الأعداء وبادرتُ إليكم لأهدئ روعكم (يسمع هتاف نصر).
الحارث (ناظرًا إلى الخارج) : إن الأعداء قد وَلَّوُا الأدبار والأحلاف قاصدون إلى الحصن.

المشهد التاسع

(الأشخاص ذاتهم – وامرؤ القيس ورجاله – ثم الطماح وعاديا)
امرؤ القيس (لرجاله مشيرًا إلى السموأل) : احنوا رءوسكم إجلالًا أمام بطل المروءة والوفاء.
السموأل (آخذًا بيد هند ومشيرًا إلى داخل الكوليس) : يا امرأ القيس هذه ابنتك! وهذه وديعتك! حلفتُ ألا أسلمها إلى غيرك فإلى غيرك لم تسلم.
امرؤ القيس :
واللهِ لو صِيغَ الكلامُ جميعه
شعرًا لقصَّرَ عن مدى ما تفعل
كرمٌ وإقدامٌ وفاءٌ باهرٌ
ما الغيث ما أُسدُ الشرى ما المنهل
إن جاء ذكرٌ للوفاء وآله
بوفا السموأل في الورى يُتمثل
السموأل :
وفيت بأدرع الكنديِّ إني
إذا ما خان أقوام وفيتُ
امرؤ القيس (للطماح وقد يكون أُدخل جريحًا منذ برهة) : هل لك من عبرة فيما ترى يا رجل؟
الطماح (في حالة النزع) : هيهات أن يعرف الندم سبيلًا إلى قلب الطماح. لا! لم يتمَّ انتقامي، ولم تنتهِ المأساة التي دبرتها لكم مكايدي. أخرجتُ من كنانة المكر سهمين: أصابَ الأولُ عاديا فأرداه، وها إنَّ الثاني يمحو اسمك من عداد الأحياء.
امرؤ القيس : خسئت يا هذا! لم أعبأ بك شاكي السلاح فهل أخشاك أعزل؟
أتقتلني والمشرفيُّ مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
ولست بذي سيف فتقتلني به
ولست بذي رمح ولست بنبال
الطماح : على رسلك يا ابن حجر، لستُ في حاجة إلى سيفٍ أو رمح أو نبل فقد نال منك دهائي ما لم ينله سلاح. دسست لك الدسائس عند قيصر الروم حليفك فوسوست له أنك أوقعت بابنته وفضحتَ أمرها بين العرب، فألبسك هذه الحلة عربون نعمته، وما هي إلا حلة مسمومة ستميتك فتكون وسيلة نقمته.٣
الجميع : يا للفظاعة …! (يُسرعون إلى نزع الحلة عن امرئ القيس، وفي أثناء ذلك يتابع الطماح).
الطماح : انزعها! انزعها عنك فقد سرى سمُّها في جسمك وجرى في عروقك. انزعها، فقد تسرَّب من طلائها ما يكفي لقتلك ألف مرة. هكذا يكون الانتقام. أما أنا لستُ أبالي بالموت بعد إدراك الثأر.
الحارث : ولكنَّ جزاءَ الغدرِ في النار.

(يكون أدخل عاديا أثناء ذلك جريحًا، وهو متكئ إلى ذراع جندي فيسرع إليه السموأل وهند.)

هند : حبيبي عاديا.
السموأل : ولدي قتلتك!
عاديا : لا يا أبي! بل أنا أموت سعيدًا (نظرة إلى امرئ القيس) في سبيل الوفاء (نظرة إلى هند) والحب.

هوامش

(١) راجع قصيدة الأعشى التي مطلعها:
شريح لا تتركنِّي بعدما علقت
حبالك اليومَ بعد القد أظفاري
(٢) رمح قصد وقصيد: متكسر.
(٣) الأغاني ج٨، ص٧١. راجع أيضًا: التوطئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤