الفصل الرابع

بداية الدولة اليهودية

كان بين الأقوام التي تقسمتها الاختلافات اللغوية وغادرت مواطنها الأصلية، بعض القبائل التي من الأصل السامي الرحالة الساكنة بين الدجلة والفرات، قد طردها المغيرون والظالمون إلى سواحل البحر المتوسط، وكان الطيراقيون أو العبريون من نسل إبراهيم الذين لم يكن الإسرائيليون سوى فرع منهم. وكانت فلسطين أول مهبطهم، وكانت أخلاقهم ساذجة لكونهم رعاة وزرَّاعًا، وكانوا يقودون قطعانهم في أعالي البلاد في وادي نهر الأردن، وعلى مقربة منهم كان يسكن الكنعانيون «أو الفينيقيون» الذين استعمروا ساحل البحر المتوسط، وأكثرهم من الملاحين والتجار، وعنهم تلقى الإسرائيليون هاتين المهنتين؛ مما كان له الأثر البعيد في مصير الإسرائيليين.

وحين دخلوا مصر كانوا يتألفون من ستين أبا أسرة، فلما خرج أبناؤهم منها كانوا — كما ذهب مؤرخو الفرنجة — أمة أصبحت تؤلف مملكة من الكهنة، أمة مقدسة، ومنحوا قانونًا، حفره «موسى» على ألواح من الحجر، فحفر في قلوب الإسرائيليين. خوطب بها العقل والقلب ومنحها دستورًا أساسه «جمهوري وديموقراطي، وأن الله هو مرشد الخلق والمثل الأعلى للعدالة وليس له من يمثله على الأرض.» وخلف موسى نبي آخر، كان هو وأعضاء المجلس الأعلى أنبياء من الشعب وللشعب من غير تفريق بين طبقة وطائفة.

لم يتح للإسرائيليين بعد موسى وجوزيه، عظيم يسعه صون وحدة الأمة ويكافح الفوضى والغزو الخارجي، وكانت قبائلهم بين أن تخضع للأجنبي أو أن يسعها أن تتحرر من نيره لا يعنيها غير المصلحة الوقتية؛ فنسيت ديانتها، وعبدت آلهة الفينيقيين.

وبعد فترة طويلة مليئة بالمآسي، ظهر رجل الساعة القاضي العادل «صمويل» بعد ثلاثة أجيال من وفاة «موسى»، ثم نزلت الهزيمة بهم في حربهم مع الفلسطينيين. هذا؛ وقد كان صمويل، مع مدرسة من الأنبياء بالبلاد، موحدًا القبائل، وبعد ذلك تمت وحدة الأمة، التي طلبت من صمويل ملكًا فانتقلت من الجمهورية إلى الملكية. وفي عهد الملوك الثلاثة الأولين — خاصة الملك داود — بلغت الأمة أَوْجها السياسي. كذلك كان عهد الملك سليمان، فاتسعت مساحة المملكة من سوريا إلى البحر الأحمر، وتقدمت تجارتها وامتدت ملاحتها، وعقدت مع جارتيها مصر وفينيقيا المعاهدات، وأخرجت آدابها الوطنية، وأسست عاصمتها «أورشليم» ومعبدها «موريا»، وركزت جميع قوى الأمة، غير أن هذا النعيم قد أفضى بها إلى الإسراف في الظلم.

وفي خلال قرنين ولي الملك «إيلي» ذو الحمية والغيرة في زي من الشعر حزامه من الجلد، وكان إيايزيه تلميذه المحبوب، وآموس راعي تيوقا وإيساي أكبر الأنبياء وزكريا وهوسيه، وميشا الذي ساد العدل البلاد في عهده على الأرض كلها، فساد السلام جميع الأقوام.

يهود أورشليم

أورشليم «جيروسلايم» عبرية. يؤخذ من مكتوبات وجدت في تل العمارنة موجهة من أحد الحكام الأقدمين لأورشليم أن اسمها كان «أورسليم»؛ أي «مدينة سليم» أو «مدينة السلام» منذ أعوام عديدة قبل أن يدخل الإسرائيليون تحت جوزهوا أرض كنعان. ولما أعاد «الإمبراطور هادريان» بناء المدينة أبدل اسمها إلى «إيليا كابيتولينا». وكان العرب يطلقون عليها أسماءً تعبر عن تقديسها «كبيت المقدس» و«المقدس»، ومختصرها «القدس».

والتاريخ البعيد جدًّا «للقدس» غامض، وجهد ما وصل إلينا — كما يؤخذ من المكتوبات المشار إليها — أنه قبل أن يغزو جوزهوا Joshua القدس، كان المصريون يحتلونها؛ إذ كان موقعها استراتيجيًّا في أرض تلية جنوبي فلسطين. وليس معروفًا كيف هجرها المصريون، وإن يكن من المحقق أنه حين غزاها الإسرائيليون، كان يحكمها الجيبوزيون من مواطنيها، وهم سكان مدينة «جيبوز» التي لم يُعرف موقعها بعد، وإن يكن بعض المؤلفين يحددون هذا الموقع عند التلِّ الغربيِّ المعروف الآن باسم «صهيون» Zion، ويحددها آخرون على التل الشرقيِّ بعدئذ في المكان الذي يشغله معبد ومدينة داود، ومما تدل عليه التوراة أن «أورشليم» كانت جزءًا منها في يهودا «جودا» والآخر في «بنجامين»؛ ذلك أن الخط الفاصل بين قبيلتي جودا «يهودا» وبنجامين أو بنيامين يخترق المدينة. وعلى هذا كان الجزء المسمى زيبوس Jebus في التل الغربي. أما الجزء المعروف باسم حصن صهيون الخارجي، فكان على التل الغربي، على أن الجوديين والبنجاميين لم يستطيعا الاستيلاء التام على هذا المكان، فقد كان الجيبيون يشغلونه حين أصبح داود ملكًا على بني إسرائيل، ذلك الملك الذي وُفِّق في الاستيلاء على «أورشليم» بعد بضع سنين وشدائد. فقد أنشأ مدينته الملكية في التل الشرقي القريب من صهيون، حين صارت «جيبوز» المدينة التي في الجانب الغربي لوادي تيروبيان، المدينة التي عين «جوب» قائد داود حاكمًا عليها، وقد أحاطها داود بسور وقلعة يرجح أنها كانت في موقع الحصن الجوبوزي، بينما كان حصن «جوب» في المدينة الغربية. أما في شمال مدينة داود فإن الملك — مؤتمرًا بأمر سماوي — اختار موقعًا لمعبد جيهوفا الذي أنشأه سليمان، وأكثر المؤلفين يذهبون إلى أن الموقع الحالي الذي يشغله هذا المبنى لا بد أن يكون واقعًا على أحد أجزاء المسافة المعروفة باسم هارام.

•••

هذا؛ وقد كان يسكن فلسطين في القرن الخامس عشر ق.م أناس لغتهم وأفكارهم وديانتهم لا تختلف أساسًا خلال مئات السنين؛ ذلك أن فلسطين كان يحكمها أمراء وطنيون تابعون لمصر، التي بعد طردها الهكسوس امتدت فتوحها إلى الفرات، وبعد بضعة قرون ادعت بابل ملكية الدول التي تقع في غربها. وقد استخدمت الكتابة واللغة الآشورية لا فيما يتصل بالمكاتبات الدبلوماسية، بل في الشئون الخاصة واليومية بين الأمراء الفلسطينيين أنفسهم.

وكانت كنعان «أي فلسطين» وجنوب الساحل الفينيقي وعامر Amor؛ أي كنعان وما إليها، تسيطر عليها مصر سيطرة دائمة. وكان موظفو مصر يجوبون بلادها لتحصيل الجزية، ولسماع شكوى الشاكين، وللتثبُّت من ولاء الحكام. ففي لوحات العمارنة وما وجد عند تناخ وما كشفت عنه الآثار، ما يوضح ما كان عليه القوم من الثقافة والحضارة من غير تعيين حدود ذلك، وكان الحيثيون يقلقون مصر ويتعدَّون حدود فلسطين التابعة لها. وفي نهاية الربع الأول من القرن الثالث عشر قبل الميلاد استعادت مصر ولايتها.
وكان هناك بين الحين والحين أناس منعزلون أصاخوا إلى تعاليم الأنبياء، وعلى رأس أولئك الملك جوزياس.١
١  راجع كتاب ديانة الساميين، تأليف و. ر. سميث. وكتاب التاريخ الجغرافي للأرض المقدسة، تأليف ج. أ. سميث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤