السياسة الحميدية

ليس في العثمانيين ولا في الغربيين من عرف سياسة عبد الحميد حق معرفتها. بلى أقول: ليس في خاصته وأشد الناس قربًا منه من استبان مقاصده. لقد كان هذا الرجل لغزًا من الألغاز حارت في فهمه العقول وقصرت المدارك. ولا أدَّعي لقراء كتابي أني عرفت من عبد الحميد ما لم يعرفه غيري؛ فتلك دعوى عريضة لا تقدِم نفسي عليها. وإن ما أذكره لهم في سطوري هذه لضروب من الحدس قد أُخطئ فيها وقد أُصيب. غير أن أمرًا واحدًا لا أُخطئ فيه ولا يجادلني فيه أحد من الناس؛ وهو أن عبد الحميد كان عدو أمته، لم يعرف مقدار جهلها في أوائل حكمه، فتولى زمامها على حذر منه، فلما مارسها وعرف من أمرها ما كان يجهل صغُرت في عينه عقولًا ولم تصغُر في عينه قلوبًا. وقد شهد لها بالبأس والفتوة واحتقار الموت في سبيل كرامتها، وعلم أن هذه الصفات الطيبة يسترها الجهل؛ فتمسَّك بالجهل، وأيقن أن سمو المدارك يكون على قدر العلم؛ فقضى ألَّا تزداد الأمة علمًا لكيلا تزداد فهمًا.

ورأى بني الشرق مولعين بقديمهم، لا يريدون أن يبدلوا منه غيره، فمشى على أهوائهم وفتنهم بالهِبات، وفتح لهم باب الحسد ففرَّق بينهم وجعل بعضهم رقباء على بعض، ثم دلَّته تجاربه أن خير ما يؤيَّد به عرشٌ في بلاد لم تزل على عهد البداوة أن يبدو من السلطان تعصب للدين، فجعل يستدني من مجلسه أولي العمائم ويُعمر لهم التكايا ويُشيِّد لهم المساجد، ويواصل ببره أهل النسك والزاهدين، فيقولون هذا سلطان تقي بار يحب أهل البر والتقوى؛ وهم لا يعلمون ما وراء بره وتقواه. على أنه نال بغيته فجعل لنفسه منزلة في قلوب المسلمين في بلاده وفي البلاد القاصية، وأوهم دول أوروبا أن له ركنًا قويًّا وجانبًا غير هضيم.

أما أوروبا فكان فيها المصدِّق وفيها المكذِّب، فرأى المصدِّقون ألَّا يفتحوا على أنفسهم أبواب الفتنة ويدَعوا عبد الحميد في ملكه حتى يقبضه الله، ورأى المكذِّبون أن يستفيدوا منه بتخويفهم إيَّاه؛ فقد علموا أنه ضعيف الفؤاد شديد الفزع، فكانوا كلما لاحت لهم بالبلاد العثمانية غنيمة أقبلوا عليها يتراكضون وأمامهم أساطيلهم وجيوشهم تتكلم النيران بأفواه مدافعها، ولا يلبث أن يهبهم حاجتهم فيرجعون ظافرين غانمين.

وقد شاء الله أن يكون في الأمم المتمدينة قوم يرْثون لحال العثمانيين، ويستحثون حكوماتهم وأبناء جلدتهم على الأخذ بناصرهم وافتدائهم من أسْرهم، فلم يفلحوا؛ وذلك لأن بعضهم لمع له المال في يد الظالم فعيَّ لسانه وشُلَّت أنامله، وبقي البعض الآخر لا نصير له حتى ملَّ النضال وطلب الهدون. وما ظهر من العثمانيين من يدعو الناس إلى نصرتهم ويحدِّثهم بخَطْبهم إلَّا تغلَّب عليه عبد الحميد بالمال، وإذا لم ينفع في نكايته المال تغلَّب عليه بالحِيَل. ورأى الغربيون ذلك، فساءت بنا ظنونهم وصغُرت منزلتنا في أعينهم، وقالوا هؤلاء قوم لا ثبات لهم على رأي، فليذوقوا الظلم حتى يتعودوه فيستطيبوه أو يملُّوه فيغلبوه. وبذا أمكن الله عبد الحميد من رقاب أمة استسلمت إليه امتثالًا لا ذلًّا، وسكتت عنه صبرًا لا عجزًا، وأحبه منها من أحبه جهلًا لا علمًا.

ولو اقتصر ساسة أوروبا على التغاضي عن العثمانيين لهان الأمر ولتدبر العثمانيون لأنفسهم تدبيرًا يقصر دون رقابهم يد القاتل، ولكنهم في حضارتهم وشغفهم بإنصاف بني الإنسان أقبلوا على خزائن عبد الحميد، فبينا تجري دماء الأرمن أنهارًا في أقطار الأناضولي، ويعلو صراخ الثاكلات واليتامى بين الصخور والوديان، وتغتذي أسماك البوسفور بأجساد الفضلاء من الأمة، وتُجبى الأموال إلى عبد الحميد وأعوان نقمته وهي تُسَل من كبد القروي المسكين، إذا بزعيم قوم يخطب على ضريح صلاح الدين الأيوبي محييًا عدو الأمة العثمانية فوق عرشه الذي اغتصبه، فيقول لأبناء الحضارة: كذب المتظلمون، إن عبد الحميد سلطان جليل عادل رحيم، ويقول أبناء الحضارة: صدق الزعيم وكذب العثمانيون.

كان أبو الهدى أشد الناس بغضًا لعزت العابد، وكان العابد أشد الناس بغضًا لأبي الهدى، وكان عبد الحميد مصطفيًا كليهما وهو يعلم أنهما لا يتفقان في رأي ولا يجتمعان على خطة. فإن كان يظنُّ بأبي الهدى خيرًا فقد وجب عليه أن يكتفي به ويستغني عن العابد، وإن كان يتوهم بالعابد نفعًا فكان من الصواب أن يستخلصه لنفسه وينصرف عن أبي الهدى. ولا يجتمع نقيضان على حق. وبذا يتبيَّن للمتأمل أن عبد الحميد لم يُرِد من اختيار المتخالفين إلا اتخاذ كلٍّ منهما رقيبًا على الآخر، علمًا منه أنهما سيسهران لياليهما في رِقْبة ويرتاح هو بين الرقيبين.

وأشدُّ ما على نفس الحر أن يعيش عبد الحميد في ملكه ثلاثًا وثلاثين سنة يظلم فيها رعيته ويقتل أبناءها تقتيلًا، وأن يجد كثيرًا من الناس يضربون بسيفه ويجادلون بحجته، وما ذاك إلا أنه أرضى رجال الدين، والعامة تبع رجال الدين.

هذا هو دهاء عبد الحميد الذي يضرب به الأمثال أكثر المتشيعين له. وهذا هو السر في استمرار حكمه طول هذه المدة. وأنا أخالف كل من يقول بذلك؛ فإن الرجل فُطِر على حب نفسه ووُلِد إذ وُلِد جبانًا مستطارًا، فكان همه استطلاع أسرار الناس ليتبين إن كان فيها ما يرجع إليه بمكروه. ولو كان ذا دهاء كما يقولون لتبيَّن الحقَّ من الباطل ولاستطاع أن يحبِّب نفسه إلى مبغضيه، وذلك ما لا يُكلِّفه شططًا ولا يُكسبه إثمًا؛ فقد خرج الآن من ملكه وهو لا يعلم من رعاياه إلا ما كان خاصًّا بذاته من حب أو بغض؛ وهو علم تتكنفه الشبهات ولا يؤيده إلا الوسواس. والرأي السديد لا يُقيم بفؤاد الجبان؛ فإن الخوف يمنع الفكر إدمان التأمل، وكل ما يراه المرء في فزعه من الرأي يراه على غير حقيقته. وقد وقع ذلك لعبد الحميد في كثيرٍ من أموره. وما اشتد به أمر إلا استدعى وكلاءه وفاوضهم مفاوضة المقيم على جمر الغضا، فتزل قدمه وتزل أقدامهم. وربما أمر أمرًا يستحدث شرًّا فيتجاهله ويزعم أنه لم يأمر به خوفًا وذلة، ولبئست الخلَّتان.

وأي دهاء عند رجل كلمة تقيمه وأخرى تُقعده، كما وقع له في أمر العرابي، فوعد الإنكليز بإرسال الجنود العثمانية لإخماد الفتنة، ثم انصاع لرأي الشيخ أسعد كما سبقت الإشارة إليه في أحد الفصول المتقدمة؟! بل أي دهاء عند رجل يخاف أحقر عبيده وترتعد فرائصه أمام نسائه ويكاد يميته الخوف من طفلة ربيبة تقلب مسدسًا له، كما جرى له مع تلك المسكينة التي قتلها ظلمًا وعدوانًا؟! أنا لا أصدِّق أن جبانًا يكون ذا دهاء، وإذا كان المراد بالدهاء احتياله على الناس وابتزاز أموالهم فذلك ما لا أجادلهم فيه. وإذا كان في الناس من يظنُّ أنه خدع أوروبا فذلك ظن كله خطأ. وإن أوروبا لأعقل أن يتلاعب بساستها عبد الحميد، ولكنهم كانوا معه على ما قال الشاعر الحكيم:

ليس الغبي بسيِّد في قومه
لكن سيِّد قومه المتغابي

بلغني أن سفير إيطاليا شدَّد عليه النكير في إحدى زياراته وجعل يقول له: إن الدول الأوروبية لم ترَ من الدولة العليَّة وفاءً بوعدٍ من وعودها، وأنها كلما طالبتها الدول إنجاز الإصلاح الذي ضمنته مالت إلى الخديعة والمطل، وأن هذه الحال قد تضطر الدول يومًا إلى ركوب الخشن والرجوع إلى الوعيد. فحاول عبد الحميد إقناع السفير بأنه ساهر ليله مشتغل نهاره سعيًا وراء ما يُرضي الدول، وأن الأمة العثمانية جاهلة ومتعصبة؛ فهو يعاني الشدائد في إرشادها إلى الخير، وأنه لا يلبث أن يتمكن من ذلك قريبًا. كل هذا والسفير لا يقتنع، فحار عبد الحميد ولم يدرِ ما يصنع، ولما كبر عليه الأمر استدعى عزت العابد وقال له: كلِّم جناب السفير بشيءٍ يكون له فيه مقنع. وأقام العابد يُغالط السفير حتى استرضاه بالرجاء ولم يُرضِه بالبرهان. فأين كان الدهاء في عبد الحميد يومئذٍ وفي مثل ذلك يُعرف الدهاء؟ ولا يستنجد الملك الحازم بكاتب من كتابه في معضلة بينه وبين أحد السفراء.

هذا كجوابه لمن قال له: ما السبب في إكثار السلطان من الحراس والجند حين يخرج إلى صلاة الجمعة؟ وكان سائله أوروبيًّا، فقال له عبد الحميد: لأمكِّن هيبة الخلافة من قلوب النصارى. وقد حرَّف الكلمة ترجمانه فقال: من قلوب الأوروبيين، فجاءت الإقالة شرًّا من العثرة.

وأقبح من كل ما تقدَّم أن عبد الحميد كان كلِفًا بالاستقلال، فلم يشأ أن يكون لغيره رأي في كبيرات الأمور ولا صغيراتها، وسيَّان لديه تولية والٍ وتوظيف أحد رجال الجاندرمة، كلٌّ يكون بإرادة سلطانية. وقد تولى تدبير حركات الجيش في الحرب الروسية وهو بقصره بين جواريه وغلمانه، فكانت العاقبة أن جاءت الجنود الروسية إلى عاصمة ملكه، وكادت تطأ سنابك أعوجياتها حجرة نومه لولا فضل الأسطول الإنكليزي ووقوف جباله الشم تلقاء «سان استفانو».

ولينظر القراء من اختارهم لدولته من الصدور والوكلاء؛ أما والله لم يكن بينهم ذو عقل ولا من يليق به أن يكون من الرعاة. هذا وفي الناس من يتوهمون أن عبد الحميد كان من الدهاة.

جهل الأمة وأطماع قادتها ومقاصد أوروبا من منن الدهر التي يشكره عليها عبد الحميد. والآن وقد أنزله الله من عرشه وجعل مأواه بيتًا كان لا يرضى أن يهبَ مثله لنديم من ندمانه، وترك لنا بقية ملك يحاول كل عثماني أن يرقعها بشغاف فؤاده، فلا يجمل بنا أن نخدع أعقابنا ونوهمهم أن الرجل الذي أبت نعمة الله أن تساكنه كان ملكًا من كبار الملوك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤