تمهيد

الخميس: ٣ أكتوبر ٢٠١٣م

في الرابعة والنصف صباحًا لا يستطيع «مجاهد» النوم مجددًا.

يظل على سريره لدقائق، يرمق السقف في شرود وهو يفكر في أحداث اليوم السابق. وهي عادته في السنوات الثلاث الأخيرة التي ظلَّ فيها يعمل مساعدًا في إحدى حافلات النَّقل العام.

والدته تعرف زوجة «الجلابي» صاحب الحافلة شخصيًّا، وقد توسَّطَتْ له عندها؛ حتى يستطيع الحصول على الوظيفة. فبعد أن تُوفي والده، اضطر لترك المدرسة والعمل للمساعدة في نفَقات البيت، ومصروفات دراسة أخته الصغرى.

يرمق مروحة السقف العتيقة التي تدور في إنهاك، وإصدار صوت صريرٍ مزعج، (تحتاج بعض الزيت)، يفكر في نفسه.

لا بد أن يتذكر أن يشتري بعضًا منه في أقرب فرصة.

بالأمس كان ذلك الراكب الذي افتعل مشاجرةً معهما، واتهمهما بالجشع وفراغ العين؛ لأن «عم عبد الله» ظل يُماطل في التحرك من المحطة حتى تمتلئ الحافلة، ثم ابتدأت نوبة من النقاش المحموم بين ركَّاب الحافلة الذين راحوا يؤكدون أن كل سائقي الحافلات جَشِعون فارغُو العين، ويتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي ولَّى، عندما لم يكن سائقو الحافلات جشِعين إلى هذا الحد.

انبرى أحد الركاب، وقال في ذكاء واضح: «زمن نميري الناس كان عندها ضمير.»

هز الجميع الرءُوس استحسانًا، ثم تحول النقاش إلى «زمن نميري».

هناك شاب نحيل متعرق، يحاول بمرفق يدِه ملامسة صدرِ الفتاة التي تجلس بجانبه، ويتظاهر بأنه لا يفعل، وقد ارتسمت على وجهه كل آيات البراءة والنقاء وصلاح القِدِّيسين.

هناك طالب جامعي يضع سماعات الهاتف المحمول في أذنيه، وظل طوال الرحلة يعبث في شعره بأصابعِه، وينظر عبر النافذة في شرود هائمًا في ملكوت الله.

هناك شخص يتحدث عبر الهاتف المحمول بصوت جَهْوَري، ويحكي أدق تفاصيله الشخصية أمام بقية الركاب الذين يُرهفون السمع في استمتاع واضح.

هناك ذلك الرجل العصبي الذي أصرَّ على عدم دفع الأجرة الجديدة، ثم شتَمه وشتم السائق وشتم البلد وشتم الحكومة.

«الحرامية أولاد الكلب، بتسرقونا عيني عينك كده؟!»

هكذا توسط العقلاء وأولاد الحلال لتهدئة الرجل، وقام أحدهم بتسوية الأزمة، ودفع المبلغ المتبقي عنه. ثم ابتدأت حلقة نقاش أخرى بين ركَّاب الحافلة، الذين راحوا يؤكدون أن الحكومة تسرق أموالهم بالفعل، ويتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي ولَّى، عندما لم تكن الحكومات تفعل ذلك.

انبري أحدهم، وقال في ذكاء يُحسد عليه: «نهاجر الخليج نخليها ليهم.»

فهز الجميع الرءُوس استحسانًا، ثم تحول النقاش إلى مزايا ومساوئ العمل في دول الخليج.

«عم عبد الله» (السائق) رجل كبير في السن، قضى نصفَ عمره في قيادة حافلات «الجلابة». فبعد أن أُحيل للصَّالح العام بعد قدوم الحكومة الجديدة لم يجد لنفسه عملًا يُتقنه غير القيادة.

عمل في بعض الشركات الخاصة، وقاد شاحناتها لنقل البضائع عبر الولايات، وعمل في التهريب لفترة عبر حدود بلاد الأحباش، قبل أن يستقرَّ في عمله في حافلاتِ النقل العام.

وقد كوَّن ثروة لا بأس بها طوال سنوات عمله العشرين؛ حتى يستطيع ترك شيء ما لزوجته وأبنائِه بعد وفاته، وهو ما كان واردًا حدوثه بشدة بعد قائمة الأمراض التي يَجمعها في إصرار.

ابتداءً بالسكري والضغط، وحتى مشاكل القلب وهشاشة العظام. ومؤخرًا أخبره الطبيب بأنه مصاب بمرض نادر في الدَّم يسمى «فقر الدم الانحلالي المناعي الذاتي».

لم يفهم حرفًا مما قيل، لكنه راح يحدِّث الجميع عن «فقر الدم الانحلالي المناعي الذاتي» الذي أصابه دون سائر خلق الله.

كان يؤمن بأنه كلما ازداد مرضه كان هذا دليلًا على صلاحه وتقواه.

– «المؤمن مبتلى» يقولها في خشوع، ثم يحمل المسبحة ويتمتمُ ببعض الأوراد.

بعد سنوات من العمل في المجال تعلَّم أنه حتى يستطيع الحفاظ على اتزانه النفسي في هذا العمل، فعليه أن يتحاشى المعارك الصغيرة، وأن يتجاهل تحرُّش الركاب الغاضبين به وبمساعده الشاب الصغير.

فهؤلاء ليسوا غاضبين منه فعليًّا (يقول لنفسه)، لكنهم يبحثون عن متنفس ما يخرجون فيه غضبهم المتراكم من ضغوط حياتهم الشخصية.

وهو ما كان يتفهمه جيِّدًا؛ نظرًا للأوضاع المعيشية التي ظلت تضيق منذ سنوات.

لكنه كان يحتفظ دومًا بفأس جميلة تحت مقعده تحسُّبًا للأسوأ.

بعد الرابعة والنصف صباحًا، لا يستطيع «مجاهد» النوم مجدَّدًا كما قلت.

لذلك يبدأ روتينه اليومي بأن يشرب الشاي بالزلابية اللذين يجدُ والدته تعدهما. يصلي الفجر في المنزل، يقبل رأسها وتدعو له بالتوفيق والرزق. ثم يقود الحافلة حتى النيل بجوار كبري المنشية، يقوم بغسلها وتنظيفها، ثم يقودها مع شروق الشمس إلى منزل «عم عبد الله»، ليبدأ يومًا جديدًا.

اليوم تحديدًا رأى شيئًا غريبًا بجوار الكبري.

كان ينظف الحافلة من الداخل كالمعتاد، الشارع خالٍ في ذلك الوقت المبكر من الصباح قبل شروق الشمس، عندما رأى سيارة بوكس تتوقف أعلى الجسر، يستطيع أن يراها بوضوحٍ من مكانه بالأسفل.

وتساءَل مع نفسه عن السبب الذي جعل السائق يقود السيارة، وقد أطفأ ضوء الكشافات الأمامية برغم الظلام الحالك.

رأى شبح رجُلين يخرجان من السيارة، ثم يتجهان لمؤخرة السيارة ويلتقطان شيئًا ما يتعاونون لحمله بصعوبة واضحة، ثم يرمُونه من أعلى الجسر في النهر.

دوَّى صوت الشيء إذ يرتطم بالماء، يغوص لثوانٍ قبل أن يعود ويطفو مجدَّدًا، وينساب مع تيار الماء، حتى اختفى في الظلام.

الرجلان يقفان على حافَة الجسر ينظران إلى مكان سقوط الشيء لدقيقة، ثم يعودان للسيارة وينطلقان.

لم يكن «مجاهد» يفهم ما رآه، وإن بدا له الموقف مريبًا على نحو خاص، لكن الرجلين كانا يتصرفان بثقة وهدوء.

لا أحدَ يفعل شيئًا مريبًا، ويتصرف بهذا الهدوء.

«نفاية!» فكر في نفسه، وهو يرمق السيارة؛ إذ تختفي من مجال بصره.

لكن من الذي يتخلص من نفاياته في الخامسة والنصف صباحًا؟! ثم من الذي يتخلص من نفاياته بهذه الطريقة؟!

لا وقت لديه للفهم، عليه أن ينتهي من التنظيف؛ حتى يصل لعم عبد الله في الموعد.

– «المروحة تحتاج بعض الزيت.»

قالها مذكرًا نفسَه، وهو يعود لتنظيف مقاعد الحافِلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤