الفصل الأول

هل تحممت بعطر وتنشفت بنور!

عينان واسعتان شفافتان بريئتان شعر أمامهما بأنه وغدٌ جدًّا، نجس جدًّا، منحطٌّ جدًّا، ملوَّث جدًّا.

تلك عيون لم تُخلق للبكاء أو التكدر، ولم تر صاحبتهما سوءًا طوال حياتها.

عينا ملاك لو كان للملائكة عيون، تحكيان عن البراءة الخام كما خلقها الله.

***

١

هل تسمحين لي يا سيدتي بإشعال سيجارة؟

حسنًا، شكرًا لك.

سأخبرك سرًّا لا يعلمه أحد سواي. أنا لا أحب التدخين ولا المدخنين ولا أطيق رائحة السجائر، وبرغم هذا أحمل في جيبي علبة سجائر دائمًا.

تسألينني: ولماذا أدخِّنُ إذن؟!

أعتقد أن السجائر تساعدني على التركيز وترتيب أفكاري.

ربما أنا أمارس الإيحاء على نفسي بأن أعتقد أنني سأصبح فجأة أكثر حنكة وحكمة عندما أنفث الدخان، وأرى الدخان السام يتراقص أمام ناظري قبل أن يتلاشى، وكأنها مشاكل فكري ذاتها تتلاشَى أمام ناظري.

يقولون: إن «فرويد»، أبا التحليل النفسي، كان الغليون لا يفارق شفتيه، كل علماء النفس العظماء كانوا يدخِّنون بشراهة، ربما السجائر تجعلني أشعر أنني مثل هؤلاء العظماء على نحوٍ أو آخر.

نوع من التقمص إن صح التعبير. إن لم أكن مثلهم؛ فسأحاول أن أبدو مثلهم.

حين أفكر في «عمار» أدرك كم كان القدر مراوغًا وظالمًا معه.

لقد بعثره يا سيدتي بلا ذنب جَنَاه، صنع منه مأساة تمشي على قدمين، وأفقده إيمانه فينا وفي عدل الله.

نعم، كنت أعرف «عمار».

ليس بقدر معرفتك به ربَّما، لكنني استطعت أن أنفذ خلف أسوار الصمت والغموض التي أحاط بها نفسه، كان كظلمات بحر لجِّي ليس له قرار، تغشاه الأمواج وتغلف حقيقته.

غامضًا كالموت، تعيسًا كإبليس، عندما طرد من رحمة الله.

من أين جاء «عمار»؟ وكيف عاش؟

كيف كانت لحظاته الأخيرة؟

هل وجد الراحة التي كان ينشدها؟

هل وجد الأجوبة على تساؤلاته التي طالما أقضَّت مضجعه، وجعلته كارهًا لكل شيءٍ؟

فيم كان يفكر وهو يمشي متثاقلًا يجرجر قدميه، خارجًا من عيادتي لآخر مرة، بعدما عرف ما لم يكن عليه أن يعرفه؟!

لا أعرف بالضبط فيم كان يفكر، ولكنني أستطيع رؤية النظرة الخالية من أي تعبير التي كسَتْ وجهه. نظرة من لم يعد لديه شيء ليخسره.

هل فكر في أمه العجوز الطيبة وأخته، وهو يغلق عينيه للأبد؟!

هل بكى؟

لن أعرف أيضًا.

كل ما أستطيع تقديمه هو مجموعة من الفرضيات، ونظرتي الخاصة لما حدث، خصوصًا بعد كمِّ الغموض الذي غلَّف حياته ووفاته.

ما أعرفه يقينًا أنه كان يحتوي على أشلاء شخصية مبعثرة للغاية، شخصية مرضية غير سوية، فشلت في التعاطي مع المجتمع ومع الواقع كما هو.

لكنه برغم كل شيء قد صنع معناه في الحياة كما شاء.

كسر شماعة الظروف والرِّضا بالمقسُوم في حياته. لم يستطع الواقع أن يسيطر عليه كباقي الظانِّين مثلي. إنهم بطول تواجدهم في الحياة فقد عاشوا حيواتهم الباهتة لنهايتها.

شربوا من كأسها المترع، حتى آخر نقطة.

فيما أرى، فهو وأمثاله سيلهمون شباب هذا الجيل والأجيال التالية في هذا البلد التعِس. هو وكل الشباب الصادق النضر الذي هتف معه في شوارع الخرطوم. إنهم يستطيعون التغيير حقًّا.

لا حدود للطموح. يمكنك أن تحقق المستحيل طالما أردت ذلك.

وقد صدق الشافعي رحمه الله عندما قال: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم. وعاش قوم وهم في الناس أموات.

الظلم يا سيدتي يقهر الرجال، وقد قهره وحطمه.

كنت أنا وهو ضدَّيْن في كل شيء، وبالضد يظهر عمق الخلاف وتزيد هوة الفرق بين الأجيال.

جيلي وجيله.

أسعى للتبرير، وهو يسعى للإدانة.

أومن بالقضاء والقدر خيره وشره. وهو يوقن أننا سادة أقدارنا، وأصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في حيواتنا.

«لسنا أحجارًا في رقعة شطرنج، نسير وفق ما رُسم لنا سلفًا» هكذا قال لي.

كنت أقاومه طالبًا بعض التأني والحكمة، وهو يدفعني بسرعة جنونية طلبًا للمجد.

ماذا سيستفيد من صنع مجد لن يعيش ليراه ويستمتع به؟

كدون كيشوت في معركته العبثية؛ إذ يحارب طواحين الهواء، كانت تلك حياته المأساوية.

غاضبًا دائمًا كأحد آلهة الإغريق الأسطورية.

متمردًا على كل شيء، كافرًا بكل شيء.

المرات التي التقيتُه فيها كانت كافية لأعرف أنك، يا سيدتي، كنت أحد الفصول المهمة في حياته، لا أراني مبالغًا إن قلت إنك كنتِ الفصل الأهم في حياته التعِسَة.

القشة التي قصمت ظهر البعير، إن صح التعبير.

أرى الحيرة والتساؤل في عينيك. لقد دعوتك لزيارتي في عيادتي المتواضعة بعد معاودتك الاتصال بي، دون أن أعرفك بنفسي أو سبب زيارتي، وهذا مما لا بدَّ منه ما دمنا سنمضي في التفاصيل القادمة معًا.

لم أعتقد أن «هادية» ستحتفظ برقمي وتسلمك إيَّاه فعلًا، ظننتها سترميه في أقرب سلة قمامة، أو تنسى كل شيء عني. أشكرها لهذا وأرجو أن توصلي لها اعتذاري لكَذبي عليها بخصوص هويتي.

أعتقد أن اللافتة التي رأيتِها في باب المكتب، والتي تقول: د. جمال عبد الرحمن — الطبيب والمعالج النفسي، تختصر الكثير. لكنها لن تقول لك ما أنا بصدد إخبارك به الآن.

إن لم تخني الذاكرة؛ فقد حدثت كل هذه الأحداث التي سأحكيها لك الآن في الفترة التي كان «عمار» يتردد فيها على عيادتي ما بين شتاء عام ٢٠١٢م وخريف عام ٢٠١٣م. أما الأحداث نفسها فقد ابتدأت قبل هذا بكثير. بعض التفاصيل عرفتها لاحقًا من أصدقائِه الذين التقيتهم، وبعض التفاصيل لم أعرفها حقًّا وما زالت غامضة بالنسبة لي، لكني حاولت ملء الفجوات المتناثرة هنا وهناك باستنتاجاتي الخاصة.

هل حصلت على انتباهك كاملًا يا سيدتي؟

حسنًا، أعتقد أن القصة بدأتْ كالتالي.

٢

كانت السماء تصطبغ بلون أحمر قاتم يميل للسَّواد، وراحت السحب السوداء القاتمة تتراكم بسرعة بصوت قرقعة مكتوم، وكأن الرعد يتنحنح قبل أن يطلق زئيره القادم، وبسرعة بدأت الموجودات في التلاشي في قلب الظلمة. شقَّ لسان من البرق قلب السماء والتمع الوهج القوي الخاطف يبهر عينيه، وقبل أن يتلاشى بالكامل، دوى زئير صوت الرعد يصم الآذان.

كان خائفًا كما يجب، قلبه يتواثب بين ضلوعه، وهو يتأمل الصحراء الخالية المنبسطة أمامه، والرمال الناعمة الحمراء بلون السماء. ويتساءَل مع نفسه كيف جاء هنا؟

لا يعرف، ما يعرفه أنه خائف، وأن أنفاسه تتلاحق، وأن عليه أن يهرب.

وكأن الوضع ليس كابوسيًّا بما فيه الكفاية، ظهر ذلك الصقر في الأفق من لا مكان، وهو يحلِّق بسرعة. وعندما التمع وهج البرق مجدَّدًا وأضاء الموجودات. لثوان أدرك أن الصقر ضخم على نحو غير طبيعي. كما أدرك أنه يندفع من الأعلى نحوه بالذات.

هكذا أطلق ساقية للريح.

صوت الرعد يزداد قوة ورعبًا وهو يجري، ينظر للخلف، يتعثر ويسقط في الرمال الحمراء، وهو يسب ويلعن، ينهض ويجري مجددًا. يشعر أن قدميه تتثاقلان أكثر فأكثر.

سمع صوتًا جَهْوريًّا يتردَّد في إصرار، وبلهجة آمرة:

«دافع عنها بحياتك»، «دافع عنها بحياتك»، «دافع عنها بحياتك».

يدافع عمَّن؟!

لم تكن هناك جهةٌ جغرافية يَصدُر منها الصوت، كان يتردَّد في كل مكان. ولغرابتِه فقد بدا له مألوفًا.

قدماه تتثاقلان أكثر وأكثر. السحب تزداد سوادًا وكثافة، وصوتُ الرعد يزداد ضجيجًا.

لسانٌ جديد من البرق يشق المكان، وينير الموجودات حوله لجزء من الثانية.

التفتَ خلفه. كان الصقر على بعد عشرة أمتار منه، وقد فرد أجنحته ومد مخالبَه للأمام متهيئًا للانقضاض عليه، وهو يضحك بصوت عالٍ أشبه بالقهقهة.

منذ متى تضحك الصقور بصوت عالٍ أشبه بالقهقهة؟!

فتح «عمار» عينيه.

ولوهلة ظلَّ يحدق في الأعمدة الحديدية المتشابكة أسفل السرير الذي يعلوه، ويحاول استيعاب أين هو وماذا يفعل بالضبط؟

نفس الحلم للمرة الثانية في شهرٍ واحد.

نفس الحلم بنفس التفاصيل.

كان «إبراهيم» ينظر له منحنيًا عليه بنصفه الأعلى، وهو يضحكُ بطريقته المميزة التي تشبه القهقهة.

– «شكله كان كابوس.» قال إبراهيم.

نظر له متسائلًا، فأضاف وهو يرمي منشفة الاستحمام على كتفه ويتجه للحمام المرفق بالغرفة: «كنت بتتكلم وانت نايم، اصحى ورانا جامعة».

راح يتمطى، وهو يلوك تلك الأشياء الغامضة التي يلوكها كل من يصحو من النوم. اليوم أول أيام الجامعة.

جامعة الخرطوم الجميلة المستحيلة، كما يسميها أبناؤها. كانت الدراسة فيها حلمًا بعيدَ المنال بالنسبة له في فترة من الفترات، والآن أضحت واقعًا غير قابل للتصديق.

فمنذ أن انتقل إلى الخرطوم — منذ حوالي الشهر — وظل في هذا السكن الداخلي الخاص بالطلاب، وهو يكرِّس كل جهده لشيء واحد، أن يدرس بجد ويتخرج بتقدير عالٍ حتى يستطيع بناء حياته العملية لاحقًا.

كنت تعلمين بالتأكيد يا سيدتي؛ فهو لم يكن من الشخصيَّات التي يمكنك وصفها بالاجتماعية، وطوال فترة وجوده بالسكن لم يعقد صداقات مع أي من الشباب المقيمين معه، فقد كان شخصًا صموتًا منعزلًا، لا يريد شيئًا في الدنيا إلا أن يترك لشأنه، لكن صداقة حميمة انعقدت أواصرها بسرعة بينه وبين «إبراهيم» منذ بداية انتقاله للمكان، عندما اقترح عليه الأخير الانضمام للمِيز الشهري الذي يقيمونه بالسكن، وهو مبلغ زهيد نوعًا ما يتشارك الشباب في دفعه؛ لشراء مستلزمات الأكل بالجملة مرة في الشهر، ثم يتقاسمون الأدوار للطبخ فيما بعد. وقد أعجب هذا الاقتراح «عمار» أيما إعجاب، خاصة وأن قدرته المالية لم تكن تسمح له برفاهية الأكل الخارجي يوميًّا، فلم يكن لديه أسرة في ولايته التي قدم منها ترسل له مصروفًا شهريًّا كبقية الطلبة، لكنه يمارس بعض الأعمال الهامشية، حتى يستطيع توفير بعض المال للدراسة وإيجار السكن، وما يتبقى — وهو قليل — يذهب تكاليف المعيشة. كان يعمل في أحد دكاكين تقطيع أكياس البلاستيك في السوق الشعبي بنظام اليومية، يدرُّ عليه مبلغًا لا بأس به يغطي احتياجاته الأساسية في اليوم. أحيانًا يقوم بشراء كميات كبيرة من صاحب الدكان يبيعها له بسعر الجملة، ثم يقوم هو ببيعها لأصحاب البقالات في المنطقة بالتقطيع، لم يكن يربح الكثير، لكنه يتحصَّل على مبلغ إضافي يضعه في مكان جانبي؛ لتغطية رسوم التسجيل للجامعة أو الامتحانات أو أي طوارئ قد تحصُل له.

«إبراهيم» على النقيض منه، كان شخصًا اجتماعيًّا لدرجة بعيدة، كثير الحركة والكلام والضحك، يعرف كل شخص في السكن بالاسم والتفاصيل الدقيقة. شخص حيوي متبسط في الحديث يندر أن تراه مستقرًّا في مكان واحد، ودائمًا ما تسبقه ضحكتُه المجلجلة المميزة التي اشتهر بها تدوي في أرجاء المكان.

عرف فيما بعد أن «إبراهيم» سيدرس معه في نفس الدفعة، برغم أنه يسبقه بعام في الكلية، لكنه أعاد العام الأول؛ لرسوبه في نصف المواد دفعة واحدة، وكاد أن يتعرض للفصل من الجامعة، لولا تدخل رئيس رابطة الطلاب الاتحاديين بالجامعة — التي كان هو عُضوًا فيها — وبعض الأجاويد، وفاعلي الخير، فتمَّ قبول إعادته للعام الدراسي فقط.

«إبراهيم» ينفي الحادثة جملة وتفصيلًا، ويؤكد بعد القسَم المغلظ أنها مؤامرة ضده من الهيئة التدريسية بالكلية؛ فقد اقتحم مكتب أحد أعضاء الهيئة التدريسية من قبل؛ للاستفسار عن شيء ما بخصوص الامتحان، ورأى بأم عينيه الدكتور الأشيب الوقور في وضع مخلٍّ مع إحدى الطالبات الجدد، وكاد أن يملأ الدنيا صراخًا ويجمع الطلاب، لولا بكاءُ الطالبة وتذلُّل الدكتور له؛ حتى لا يثير فضيحة لا داعي لها. قال له إنه سيشتري صمته بأن يضمن له النجاح في كل المقررات طيلةَ سنوات دراسته؛ حتى يتخرج بالتقدير الذي يشاء.

صفقة جميلة وافق عليها بسرعة، وتصافحا، ثم خرَج لحالِ سبيله.

– «ابن اليهودية خدَعني وغدر بي. كان يعرف أنني سأكون شوكة في حلقه؛ لذلك جعلني أعيد العام حتى يستفرد بها، لكنني لن أصمت، وليكونن انتقامي مريعًا تتناقله الأجيال، وتحكيه الجدَّات في خوف لأحفادهن على ضوء القمر ليلًا.»

لكن لا أحدَ يصدق «إبراهيم»؛ فروايته التي حكاها للكل — حتى عم الطاهر صاحب البقالة العجوز في ناصية الشارع — كانت تتغيَّر كلَّ يوم، بل تتغير في اليوم ذاته عدة مرات. فتارة يقول إنه رآهما عاريَيْن في المكتب، وتارة أخرى وجدَهما في سيارة الدكتور الخاصة، وأحيانًا تتحول الطالبة إلى والدة إحدى الطلَّاب، ثم إحدى المدرسات بالهيئة التدريسية، ثم فتاة ليل ترتدي ملابسَ عارية مثيرة، وتحمل سوطًا تضربه به، بل أحيانًا ينسى كل هذا، ويقول إنه ضبطه متلبسًا، وهو يمارس العادة السرية ويحملق في صورة إحدى مذيعات القنوات الفضائية، ويصرخ كالنساء من أثر اللذة.

يضيف ما يشاء من البُهار بما يراه مثيرًا يجذب انتباهَ المستمع، ويحذف ما يشاء مما يراه لا يخدم قصته أو يقلل من تشويقِها، ثم يعيد صياغتها وتركيبها لتغدو رواية جديدة آخرَ النهار. وفي كل مرة يحلِف أيمانًا مغلظة بالله وملائكته ورسله والشيخ البرعي أنها الحقيقةُ، ولا شيء سواها.

لم يكن اليوم الأول في الجامعة كما تصوَّره «عمار»، وقد شعر بالإحباط عندما وجد أن الجامعة كانت شبه خالية، ولم يكن فيها سوى بعض الطلبة، قال لهم أحد أصدقاء «إبراهيم»، عندما التقوه في ساحة النشاط: إنه لن تكون هناك محاضرات حتى الأسبوع القادم. هكذا جلسا في الكافتيريا وطلبا بعض السندويتشات، ثم خرَجَا أمام بوابة الجامعة، وجلسا في صناديق البيبسي الفارغة بجوار «ميري» التي تبيع الشاي والقهوة.

قال «إبراهيم»: «بما إنك برلوم لسه، وده أول يوم حاكون أنا دليلك في الجامعة. أنصحك تمسك في طرف قميصي، عشان ما يخدعوك السناير، ويدخلوك استراحة البنات زي ما حصل مع حسن التعبان.»

ردد «عمار» الاسم في تساؤل: «حسن التعبان؟»

وكأنه كان ينتظر الرد المتسائل. راح «إبراهيم» يحكي له، بفخر، كيف أنه قد قام بخداعِ أحد الطلبة الجدد في موسم التسجيل للعام الدراسي السابق، عندما أقنعه بأن استراحة الطالبات هي مكتب العميد، ثم جلس مع شلَّته يضحكون مع صُراخ الفتيات في الداخل، قبل أن يخرج الطالب ممتقع الوجه، بينما أصوات الشتائم واللعنات تنهالُ عليه من الطالبات في الاستراحة.

ثم أطلق ضحكته المجلجلة، وقال: «المسكين من يومها اتعقد، أطلقنا عليه لقب «حسن التعبان»، وهو ما اشتهر به في الكلية، وظل يلازمه حتى الآن.»

سأله «عمار»: «ولماذا فعلتم هذا؟»

– «لأن الجامعة مملة يا صديقي، بعض المرح لن يؤذي أحدًا.»

– «قلت إنه قد تعقد من الموقف، هذا مؤذ.»

وضعت «ميري» أمامهما كوبَي الشاي في صينية فضية صغيرة، وقالت مخاطبة «إبراهيم» وهي تعود لمقعدها بلهجة عربي جوبا المحببة: «لم تبدأ الدراسة بعد؟»

قال «إبراهيم» وعيناه تلاحقان الطالبات اللائي رحن يتدفَّقن عبر بوابة الجامعة دخولًا وخروجًا: «ليس بعدُ، يقولون إنها ستبتدئ الأسبوع القادم؛ لإتاحة الفرصة لتقديم مزيد من الطلاب.»

– «يتأخرون دومًا، وكل مرة بعذر جديد»، قالت ميري وهي تقوم بتذويب السكر في قهوة أحد الزبائن.

تساءل «عمار»: «هل يفعلون هذا كل عام؟»

قالت «ميري»، وهي تقوم بتحريك الصينية النحاسية الصغيرة بحركاتٍ سريعة؛ لإشعال الجمر: «كل عام، وكثيرًا ما تتوقَّف الدراسة في الكلية عند حدوث الاضطرابات والاعتصامات السياسية.»

قال «إبراهيم»: «لقد أوقفوا الدراسة لمدة شهرَيْن في العام السابق؛ لأن أحد الأساتذة منع طالبًا من دخول امتحان منتصف العام، وقد تضامن معه طلاب الدفعة، وأضربوا كلهم عن الجلوس للامتحان.»

قالت «ميري»: «الله يحلكم بالسلامة يا أولادي.»

ورد «إبراهيم»: «الموضوع ولادة فعلًا.»

ثم غمز ﻟ «عمار» بعينه، وقال وهو يلكزه بمرفقه مغيرًا مجرى الحديث: «الطالبات الجدد! أعرفهن من ملابسهن الزاهية الجديدة، دماء جديدة تحقن في شريان الكلية، وفرص جديدة للذئاب المخضرمين من الطلاب القدامى.»

قال «عمار» مبتسمًا: «تقصد بالذئاب القدامى أنت طبعًا.»

قال مقهقهًا: «فقط أمنحهم ما يريدون.»

– «ماذا تقصد؟» تساءل «عمار».

– «ألا ترى تلك الوجوه المرسومة بعناية، وأطنان المكياج تلك. لم تبذل الواحدة منهنَّ كل هذا الجهد كل يوم حتى لا تنظر إليها، سيكون هذا نوعًا من عدم العرفان وقلة الذوق؟!»

قال «عمار» ضاحكًا: «منذ متى كان غضُّ بصرك عن الفتيات نوعًا من قلة الذوق».

قال «إبراهيم» في حماس: «بل هو الواقع. عندما تنظر لها فأنت تسديها جميلًا، نوعًا من الإقرار بجهدها. عيناك ستقول لها أنتِ جميلة ولافتة للنظر، ولا بأسَ ببعض عبارات الغزل العابر. لن تشعر أن كل هذا الجهد في التزين كان بلا داعٍ، ستمنحها الدعم النفسي الذي تحتاجه.»

– «أرجو أن تعفيني من فلسفتك الغريبة تلك.»

– «ليست فلسفةً غريبة. انظر إلى تلك المؤخِّرات المنتفخة والصدور الثائرة، وكأنهن خرجن بذات المواصفات من خط إنتاج مصنعٍ ما، هل تظنها مصادفة؟»

نظر له «عمار» متسائلًا دون أن يجيب، فأضاف بذات الخبث: «كل هذا من أجلي ومن أجلك يا صديقي المثالي. هذا العرضُ المجاني هو الفخ الذي يقُمْن بنَصْبِه بصبرٍ لذلك الأحمق الذي ينظر. يعجبك ما ترَى ثم تبدأ في التقرُّب منها والتعارف؛ طمعًا في الحصولِ على بعض هذا الشيء. ثم «بوووم»، تجد خاتمًا في يدك وصالة تمتلئ بالمهنئين، بينما تبتسم ببلاهة لمصور الزفاف.

وقبل أن تدرك ما هنالك تجد نفسك بين سبعة أطفال عراة يسيل المخاط من أنوفهم، وتراقب في هلع الآنسة الهيفاء الرقيقة ذات الصدر الناهد الذي سال له لُعابك من قبل، والعقل المثقف الجميل الذي كان يناقشك في أشعار نزار قباني وروايات إحسان عبد القدوس وفلسفة ابن رشد وإميل سيوران، وقد تحولت إلى ذلك الكائن الأسطوري الضخم الذي يشخر بجانبك الآن في السَّرير، كائن شَحْمي مترهل قادم من أسوأ كوابيسك، لا همَّ له سوى فرك البامية ومتابعة الدراما التركية، والجلوس في وضع الصليب وربط أكياس البلاستيك حول الحنَّاء حتى تسودَّ جيدًا.

وستلومك على كل شيء. ستلومك لحماقتك عند اختيارك الدائم للطماطم التالفة، واللبن المغشوش، واللحم السيِّئ. ستلومك على حظها التعس الذي أوقعها معك برغم صفوف الأطباء والمهندسين وروَّاد الفضاء الذين كانوا يصطفون أمام بيتها لطلب يدها، لا بدَّ أن «السارة» جارتهم الشمطاء التي كانت تكيد لها عند «فكي أبكر» كانت شريكتك، أو كنت شريكها في مؤامرة إتعاسها. ستلومك على قطوعات الكهرباء، وفيضانات الخريف، وثقب الأوزون، وندرة قردة البونوبو في غابات الكونغو الاستوائية.

ستدرك بعد فوات الأوان أن معشوقتك «مخطوطة المتنين غير مفاضة، ريَّا الروادف بضة المتجرد» قد تبخرت مع أحلامك للأبد، وأنك قد تعرضت لخدعة محكمة. إن كيدهن عظيم، كما قال النبي ().»

قال «عمار» مصحِّحًا: «تلك آية قرآنية، وليست حديثًا نبويًّا.»

– «ما اختلفنا»، ورشف رشفة سخية من كوب الشاي «لكنني لن أقع في مثل هذا الفخ. أكتفي بالنظر وحفظ كل شيء هنا»، وأشار لرأسه «كله يحفظ في هذه الفلاشة الربانية، أعيد تشكيله فيما بعد كيفما شئْت عندما أنفرد بنفسي في الحمام، تلك اليد الجميلة يمكنها أن تتحول إلى أي فتاة أشاء.»

وراح يقهقه بذات الضحكة المجلجلة، وهو يلوح بيده اليسرى أمام وجه «عمار» المتقزز.

– «عليك اللعنة. أنا أستعمل معك ذات الحمام.»

قالت «ميري» ضاحكة: «لا تدع صاحبك المستمني هذا يلوث أفكارك، إنه معقد من جنس البنات لأنه لا يجد أي فتاة تقبل به.»

قال «إبراهيم» في حدة: «بل لا توجد فتاة أقبل أنا بها.»

– «عليك النبي!»

– «وحياتك يا ميري»، ورشف المزيد من الشاي «محسوبك معشوق الجنس اللطيف في الكلية، كلهن رهن إشارة مني، لكنني لا أريد، لا أميل لتلك السحالي الملطخة بالأصباغ المنتفخة بالمركبات الكيميائية، وهل هذا جمال يغري؟ لا يوجد جمال طبيعي كالذي يوجد من حيث أتيت.»

– «الكديس لما ما يلقى اللبن بقول مسيخ. قل إنك لا تقدر عليهن وتتحجج بهذه الحجج الخائبة.»

قال «إبراهيم» في تحدٍّ: «هل تريدين تجربتي يا بنت ملوال، حتى تتأكدي بنفسك.»

ابتسم «عمار» خجلًا، وضحكت «ميري» حتى بانت أسنانها الدقيقة المتراصة في عناية. كانت ذات جسد نحيف ممشوق وأطراف طويلة، ليست جميلة على نحو خاص، لكن لا يمكنك نعتها بالقبح بضمير مستريح، تملك نوعًا من الكاريزما المبهمة غير واضحة المعالم، جاذبية خاصة تنبعث منها كالسحر عندما تتحدث بصوتها الأجشِّ، ولهجتها التي تأخذ فيها من اللغة أساسياتها، ولا تراعي فيها تصريفات الأفعال، أو دقة نطق الضمائر، أو ما اصطلح الشارع على تسميته بعربي جوبا.

لا أحد يعرف متى قدمت للخرطوم تحديدًا، ولا متى بدأ نشاطها أمام الجامعة، لكنها كانت دومًا موجودة هناك. هي نفسها لا تذكر متى قدمت للعاصمة تحديدًا، تسميه يوم الكتاحة؛ فقد كانت هناك عاصفة ترابية هائلة تجتاح العاصمة عند قدومها، اعتبرته نوعًا من الترحيب الحكومي — وربما الإلهي — احتفاء بقدومها إلى مدينة صنع القرار. أو كما تقول «محل الطيارة تقوم والرئيس ينوم». تعرف أنها قررت شد رحالها بعد وفاة زوجها منذ سنوات إثر إحدى غارات الجيش على مواقع تمركز كتيبتهم في الجنوب، قبل أن تضع الحرب أوزارها لاحقًا ببضع سنوات. وقد ترك لها طفلًا وحيدًا جميلًا أشعرها بالإحباط والمسئُولية، فلم تعد حرة بعد اليوم، فكرت في البداية في التخلي عنه وتركه لعمها «بيتر» ليشتد عوده قليلًا، ثم يلحقه بالجيش المحلي الذي يحارب الحكومة، لكنها — وفي نفس الليلة التي قررت فيها ذلك — رأت فيما يرى النائم السيد المسيح (عليه السلام) يزورُها في منامها، هابطًا من السماء وسط هالة نورانية مقدسة باسطًا يديه أمامه، بينما صوت الجوقة الكنسية يدوي مرتلًا لحن «المجد لله في الأعالي»، بصوت الأخت «تابيتا»، وقد خيرها إما أن تبيع بيرة الكويتي، وهي بيرة منزلية تصنع من دقيق الذرة، أو العرقي الذي تقطره من البلح، أو تذهب وتبحث عن عمل ما في الخرطوم، لكنها لن تتخلى عن الطفل بأي حال من الأحوال، فسيكون له شأن عظيم مستقبلًا.

اجتهدت في تربيته منذ ذلك الوقت.

ولما لم تكن قد حصلت على أي تعليم يذكر، لم تجد بدًّا من صناعة الشاي والقهوة ومشروب الكركدي الساخن لطلاب الجامعة، منذ ذلك الوقت. وقد تعلمت كيف تتحدث وتتعامل ببذاءة الرجال حتى تمنع تحرشات الطلاب المتدفِّقين بفعل هرمونات البلوغ بها، فلا شيء يغري الرجل أكثر من المرأة المستسلمة الضعيفة، ولا يخيفُه شيء أكثر من المرأة القوية التي لا تخشاه، وتعرف كيف تتحدث وتتعامل مثله، وربما ألعن منه. وقد ساعدها صوتها المبحوح الذكوري وطلاقة لسانها في مسعاها على ما يبدو.

قالت من بين ضحكاتها، وهي ترفع طرف ثوبها وترمي به على كتفها لينزلق ويسقط مجددًا: «لم يلمسني رجل في حياتي غير المرحوم جوزيف، الله يرحمه، كان شديدًا لا يكل ولا يمل من هذا الشيء، لا يوجد رجل مثله، فلا تضع نفسك في رهان خاسر، واحتفِظْ ببضاعتك التي تشبه بضاعة الأطفال تلك، ولوح بها في مكان آخر بعيدًا عني.»

قال «إبراهيم» في خشوع: «الله يرحمه.»

وأضاف بسرعة، بعد أن تلاشت هالة الخشوع من على وجهه في لمح البصر: «لا بد أنه مات لأنك اعتصرتِه حتى آخر قطرة. أعرف نساء الدينكا جيدًا، يحببن الجنس أكثر من حبهن لأولادهن. صدقيني لولا أنَّك في مقام والدتي يا ميري؛ لكنت فعلت بك شيئًا بذيئًا منذ العام السابق، لكنني شاب متدين أخشى الله، وأخشى أن تدمني الصنعة بسببي، وأحمل ذنبك في رقبتي ما حييت.»

واختلطت ضحكته المجلجلة بضحكتها المبحوحة المسترسلة، ثم مسحت دموع الضحك من عينيها بطرف ثوبها، وقالت، وهي تحمل آنية فضية بها أكواب شاي، لتقدمها لبعض الزبائن: «استغفر الله، جنا فور مجنون، خليني استرزق.»

ابتسم «إبراهيم» ساخرًا، وهو يشعر بالرضا عن نفسه، بعد أن استشعر بعض الخجل في ردها، أن يجعل «ميري» سليطة اللسان التي تتحدث وتشتم ببذاءةٍ طوال الوقت، وتستجلب سيرة الأمهات في شتائمها دومًا تشعر ببعض الخجل، لهو إنجاز تاريخي بكل المقاييس، يجب أن يجد مكانه في الصفحات الأولى من الصحف المحلية والعالمية، لو كان هناك عدل في هذه الدنيا. فقط عليه ألا ينسى أن يحكي خبر انتصارِه للشلَّة في يوم ما عندما يلتقيهم، سيضحك عبد الرحمن كثيرًا، وسيكذبه سعيد كالعادة لكنه لن يهتم، يعرف كيف يجعل القصة أكثر تشويقًا وإثارة للانتباه.

والتفت إلى «عمار» الذي ظل صامتًا طوال فترة جلوسهما، متسائلًا عن سبب صمته، لكن هذا كان يحملق تجاه بوابة الجامعة في تركيز.

كانت تلك الفتاة تقف أمام الباب في ارتباك واضح، وهي تبحث في حقيبة يدها، ثم تخرج هاتفًا محمولًا وتحاول الاتصال بشخصٍ ما، بدا واضحًا أن محاولاتها لم تكن موفقة من أثر الانزعاج الذي اعتلى وجهها وهي تحاول تكرار الاتصال عدة مرات.

أطلق «إبراهيم» صفيرًا قصيرًا منبهرًا، وكذا فعلت «ميري»، ثم ألحقته بعبارة غزل فاحشة.

التفتت الفتاة ناحيتهم فجأة فدفن كلٌّ منهما وجهه في كوب الشاي بسرعة، وتظاهروا بأنهم منشغلون في شيء ما، وعندما رفع «عمار» عينيه مجددًا رآها قادمة ناحيتهما تمشِي على استحياء.

فتاة دقيقة الحجم هي، ذات جسد نحيف نوعًا ما، مكتنز من وسطه، تحكم لفَّ طرحتها حول وجهها حتى أخفَتْ ذقنها داخلها، وإن سمحت لبعض الخصلات من شعرها المصفَّف بعنايهٍ بالانزلاق قليلًا من طرف الغِطاء المحكم، تحمل شنطتها النسائية على كَتِفها، وتضم كتابًا ما على صدرها بكلتا يديها. بدا له شكلها طفوليًّا جدًّا وقتها. أما أكثر ما شد انتباهه فقد كان عينيها اللتين تطلان على الوجود من خلف نظارة طبيَّة أنيقة بلا إطارات.

عينان واسعتان شفافتان بريئتان، شعر أمامهما بأنه وغدٌ جدًّا، نجِسٌ جدًّا، منحطٌّ جدًّا، ملوَّثٌ جدًّا. تلك عيون لم تخلق للبكاء أو التكدر، ولم تر صاحبتهما سُوءًا طوال حياتها.

عينا ملاك لو كان للملائكة عيون، تحكيان عن البراءة الخام كما خلقها الله.

توقفت بجوارهما، وسألتهما بصوتٍ طفولي عَذْب جدير بتلك الملامح عن مكتب المسجل.

«هل هكذا تبدو رائحة الجنة؟» سأل «عمار» نفسه عندما غمره أريج عطرها، وحين أحسَّ بالرعشة الباردة تسري في جسده، وأخطأ قلبه عدة خفَقاتٍ، أدرك أنه نسي — تقريبًا — كل شيء عن اللغة العربية في تلك اللحظة.

كيف يتحدث الناس، وكيف تصدر الأصوات؟

نهض «إبراهيم» بسرعة من مجلسه — لم يلحظ ارتباكه لحُسنِ الحظ — وراح يصف لها مكان مكتب التسجيل، وهو يشير بيده الممدودة تجاه الكلية، بينما يحني رسغ راحته يمينًا ويسارًا؛ لتأكيد الاتجاهات.

كانت تلك المرة الأولى التي التقاك فيها يا سيدتي، وقد تحدَّث فيما بعدُ كثيرًا، وبإسهاب أثناء الجلسات عن تلك اللحظة، وعن شعوره وقتها باعتبارها لحظة ميلاد جديد بالنسبة له. لم يكن مجرد انجذابٍ عاطفي، أو حتى جنسيٍّ تجاه أنثى ما بالنسبة له، لقد أصابته رؤيتك في صميم الروح.

أعتقد أن تعبير الحب من النظرة الأولى تبسيط مخلٌّ للعواطف المعقدة التي بدأ يكنُّها تجاهك.

– «شهادة عربية.»

قالها «إبراهيم» بلهجة تقريرية كأنه يفسر لغزًا محيرًا، وهو يعود ليجلس في مقعده، وأضاف: «هذا الوجه الناعم الرائق وتلك الملامح البريئة الخالية من أدوات التجميل، من الجلي أنها لم تكتوي بلفح شمسنا الحبيبة من قبل، هذه الفتاة لم تقتحم ازدحام السوق العربي، ولم تتعارك للظفر بمقعد شاغر في حافلات المحطة الوسطى بحري، ولم تضع مستحضرًا لتبييض وجهها أو نفخ مناطقها السعيدة. فليقطع ذراعي إن لم تكن من طالبات الشهادة العربية، ربما إحدى دول الخليج كذلك من لهجتها الغريبة.»

قال «عمار» في شرود، وهو يتحسَّس السوار الأبيض الذي يحيط بمعصمه كالساعة، وقد نقشت عليه كلمات باللغتين العربية والإنجليزية بخطٍّ منمق دقيق: «هل تعرف التخصص الذي ستنتسب له؟»

قال «إبراهيم»: «اقتصاد، ستكون معنا في نفس الدفعة يا روميو، اسمها «هبة» بالمناسبة.»

وأضاف وهو ينهض من مجلسه: «هلم. أريد أن أعرفك ببعضِ الشباب في الشلة.»

وقف «عمار» شاردًا يرمق طائرة هليكوبتر حربية تحلق من بعيد، وهو يفكر في تلك الفتاة، بينما ما زالت رائحة عطرها تفوح في المكان وتدغدغ دواخله بلطف. قال «إبراهيم» مخاطبًا «ميري» شيئًا ما عن إضافة قيمة الشاي إلى حسابه معها. غمغمت «ميري» بعدم رضا شيئًا ما عن عدم سداده لدينه القديم معها منذ شهور، ورد «إبراهيم» ضاحكًا بشيء ما عن ظروف الطلبة وحنان الأم.

لم يكن «عمار» يَعِي ما يدور حوله. شعر للحظةٍ بدقات قلبه تتزايد، وكأنه على وشك فقدان الوعي. الأرض تميد تحت قدميه وبرودة قاسية تسري في أطرافه.

لا يدري كم استمر على هذا الحال، لكنه وجد نفسه فجأة على الأرض، بينما «إبراهيم» يهزه من كتفيه في عنفٍ، وهو يقول شيئًا ما.

وفي لحظة انتهى كل شيء، وسمع صوت «إبراهيم» الجزع يسأله عما أصابه.

استند على الحائط ونهض، وهو ينفض التراب عن سرواله، وقال: «لا شيء أنا بخير.»

– «ماذا تعني أنك بخير، تجلس على الأرض فجأة، وترمقني بعينين مذهولتين زجاجيتين، ثم تنهض وتقول لي إنك بخير؟»

– «صدقني أنا بخير، لا بد أنها ضربة شمس، أو شيء من هذا القبيل. لا شيء يخيف.»

نظر له «إبراهيم» في شك، ثم راح يتواصل حديثه الذي انقطع، وبينما كان «عمار» يتظاهر بالاستماع والاهتمام، كان خياله يجرفُه إلى ما بعد لحظات من رؤية «هبة». ثم يغمض عينيه، ويسترجع رائحة عطرها التي علقت في ذاكرته للأبد.

الآن تقفز بنا التسجيلات الصوتية للجلسات قفزة هائلة إلى مطلع العام الدراسي الثاني. عندما بدأ يتحدث فيها عن بداية نشاطه السياسي بالجامعة، بتردده بدايةً على أركان النقاش في الكلية، ثم مشاركته فيها خطيبًا، وهو ما كان يفتخر به على نحوٍ خاص. فبعد الحادثة الأخيرة التي حدثتْ في يونيو قبل أشهر، عندما قامت الشرطة بمُحاصرة الكلية واعتقال بعض الطلاب الناشطين سياسيًّا، وبسرعة البرق وبتأثير تلك الأحداث وموجة الغضب التي عمَّت الطلاب، ظهرت عشرات الحلقات السياسية، وأركان النقاش في كليات الجامعة. كان خطيبًا حماسيًّا، ويمتلك قدرة عالية على أسر انتباه الحضور وتهييج العواطف، يسوق الحديث سهلًا بلا تعقيد أو إسفاف، ويتحدث بلهجة هادئة بدون صُراخ وانفعال عن جيفارا والمهاتما غاندي وسالابوس وعروة بن الورد، ويضرب الأمثال للناس شارحًا ومفسرًا ومقارنًا بين التجربة المحلية، وتجارب دول العالم المختلفة.

وقليلًا قليلًا بدأ نجمُه يسطع، وتحول إلى اسم معروف في الكلية ثم الكليات المجاورة ثم الجامعة ثم الجامعات المجاورة.

وبالتوازي مع نشاطه السياسي وازدياد شعبيته في الجامعة، كانت العلاقة تتطور بينه وبين «هبة» بسرعة.

في البداية كانت العلاقة بينهما هادئةً متحفظة، مجرد ابتسامات من على البعد من باب التحية وردها. ثم بدأ الأمر في ذلك اليوم عندما كان يتحدَّث في وسط حلقة النقاش عن خطة الحكومة؛ لرفع الدعم عن بعض السلع الأساسية وتحرير سعرها، فرآها تقف من بعيد مع إحدى صديقاتها، تحتضن دفترًا مزخرفًا بكلتا يديها، وتضمه لصدرها بذات التأثير الطفولي الذي يعشقه، وتنظر له في فضول. وعلى الفور قطع حديثه وراح ينشد إحدى أغاني فيروز، وهو ينظر لها مباشرة، ويقوم بعمل حركات استعراضية بيديه؛ لتتماشى مع نسق الكلمات:

أعطني النايَ وغنِّ فالغِنا سرُّ الخلود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
هل تَخِذْت الغاب مثلي منزلًا دون القصور
فتتبَّعت السواقي وتسلَّقت الصخور
هل تحمَّمت بعطر وتنشَّفت بنور
وشربت الفجر خمرًا في كئُوس من أثير
أعطني الناي وغنِّ فالغِنا خير الصلاة
وأنين الناي يبقى بعد أن تفنى الحياة

ومع أن الجمع حوله لم يفهم معنى ما قاله أو علاقته بموضوع النقاش السياسي، إلا أنهم راحوا يصفقون في حماس. وهو ما كان يطلق عليه في الجلسات غرور الإنسان السطحي، فأغلب هؤلاء لم يفهموا معنى ما قال ولا علاقته بأي شيء، لكنهم اعتبروا أنه يتحدث بشيء فوق فهومهم وإدراكهم اللحظي، ولما لم يشأ أحدهم الظهور بمظهر الأحمق الذي لم يفهم عمق المعاني، راح الجميع يصفِّق بحرارة.

وحدها هي من عرفت أن الكلمات تخصها، فاحمرَّت وجنتاها وأطرقت للأرض خجلًا، ثم انسحبت من المكان بسرعة هربًا من نظراته. ثم رويدًا رويدًا بدأت تحضر الحلقات التي يقيمها على نحو منتظم. تنظر له في إعجاب، فيزداد أداؤه حماسًا، ويلقي بأول قصيدة تقفز لذهنه، فتشعر بالخجل مجددًا، ويزداد تصفيق الحضور حرارة. قال لي: «كنت أعرف أنها السبب الرئيسي لاستمراري في تلك الحلقات، علَّني أظفر برؤياها وأستَرِق نظرة شاردة أو ابتسامة من ثغرها الجميل. كان حضورُها يدفعني دومًا لتخطى إمكانياتي، ومحاولة إثارة إعجابها في كل مرة.»

ومع نهاية العام الدراسي الأول، وبداية العام الثاني، وفي يوم صيفي حار، صارحها بحبه لها.

ولم ترُدَّ. فقط التمعت عيناها بذلك البريق الخافت، وراحت تحدق في المنديل الورقي الذي تُمسكه في يدها بخجل، وإن بدَتِ السعادة بوضوح على وجهها الطفولي التقاطيع. عرف واطمأن وقتها أنها تبادله نفس المشاعر.

أَحبَّ تلك التقطيبة التي تظهر بين حاجبيها عندما تفكر أو تتظاهر بالدلال، وتلك اللمعة الخافتة في عينيها الساحرتَيْن عندما تنظر له وفي عينيها ألف حديث وحديث، أحب طريقة إشاحتها بوجهها عنه، وعندما تضربه في كتفه برقَّة عندما تشعر بالخجل. أحب الطريقة التي تغمض بها عينيها عندما تضحك في قصص «إبراهيم» المختلقة.

أحب «إبراهيم»؛ لأنه يضحكها، فتشع كل هذا السحر.

أحب الضحكة ذاتها.

عَشِق غيرتها، وأحلامها، وطموحها، وجنونها، ودلالها. أَحبَّ الاستماع بلا كللٍ لساعات عن تفاصيل يومها، ماذا قالت لصديقتها؟ وماذا قالت تلك لها؟ فيم كانت تفكر قبل النوم، وبعد النوم؟ آراؤها في الحياة، ماذا تحب وماذا تكره؟ ورغبتها الدائمة في سماعها ترديده عبارات الحب كتعهُّد يومي، حتى يثبت صدق مشاعره وأنه لم يتغير بعد. أحب طريقة عتابها له عندما تقطِّب حاجبيها كالأطفال وتلتصق به وتسند رأسها على صدره وهي تعبث في أزرار قميصه.

عَشِق تلك التفاصيل الصغيرة.

لكنه كان متعبًا جدًّا بفكرة محدودية علاقتهما.

يرهقه شعوره الدائم بأنه ليس ملائمًا لها.

وقال له «إبراهيم» ذات يوم، وهما يرشُفان الشاي عند «ميري»: «تحبها وتحبك، وتتبادلان عبارات الغزل وقصائد نزار قباني، كل هذا جميل وإنني لأحسُدك عليه وعلى علاقتك بأجمل بنات الدفعة. لكن فلنكن صريحَيْن، ما الذي تأمله من تلك العلاقة حقًّا؟»

– «ماذا تعني؟»

– «ما هي الخطوة التالية؟»

– «سنتزوج.»

قال «إبراهيم» مشفقًا: «هل أنت بهذه البراءة فعلًا؟ وهل تظن أن والدها سيقبل بك؟!»

– «ولم لا؟»

– «من هن على شاكلتها يتزوَجْن من أبناء رجال الأعمال، أو وزراء الحكومة، أو ذلك القريب المقيم في الخارج، والذي ينتظر في شوق اليوم الذي تتخرج فيه حتى يختطفها ويطير بها إلى حيثُ يقيم، وليس شابًّا معدمًا حديث التخرج، يعمل باليومية في السوق الشعبي.»

قال «عمار» في ضيق: «لن أعمل باليومية للأبد، سأجد عملًا بعد التخرج.»

– «ليست تلك المشكلة، هبْ أنك وجدت عملًا جيدًا، وقمت بتغيير وضعك المعيشي، وهذا ما أراه مستحيلًا في هذا البلد، لكن ليست تلك المشكلة الحقيقية.»

– «وما هي المشكلة الحقيقية؟»

قال «إبراهيم» في بساطة: «يا صديقي الساذج، أنت من دارفور. لن يقبلوا بك زوجًا لبنتهم ذات العرق العُروبي الأصيل.»

نظر له «عمار» في حِدَّة ولم يرد، من الواضح أنه فهم ما يرمي إليه على الفور. فكَّر للحظةٍ أن يقوم بخنق «إبراهيم» ليصمت ويكف عن الحديث. وفي الواقع فقد لمس حديثَ صديقه ذات الوتر الحساس الذي ظل يؤرقه طوال شهور، فحتى هو كان يشعر في قرارة نفسه بنفس الشعور.

الشعور بحرمة تلك العلاقة اجتماعيًّا بحسب قاضي المجتمع الصارم. الشعور بأن العلاقة بينهما مؤقتة تنتهي بانتهاء مراسِم الدراسة، ثم ينتهي كل شيء. لا يوجد أكثر من ذلك.

قالت له «هبة»، وقد جلس ثلاثتهم في مجلس «ميري»، إنها تخشى عليه من بطش الحكومة، وتخشى أن يصيبه مكروه، وطمأنها ألا تحمل همًّا، فلن يصيبه إلا ما كتبه الله له.

قال «إبراهيم» ممازحًا: «وأنا المسكين لا أحدَ يخاف عليَّ، أو يخشى عليَّ من شيء. راعوا مشاعري.»

قالت «هبة» ضاحكة: «أنت شيطان رجيم، لن يصيبك شيء.»

– «مظلوم وحياتك.»

التفتت «هبة» إلى «عمار» ونظرت له نظرة طويلة بعينيها الواسعتين حتى شعر بالاضطراب. قالت وقد تغيَّرت لهجة حديثها بما يشبه الهمس: «هل لا تزال تلك الحالة الغريبة تصيبك؟»

قال «عمار» وقد سره اهتمامها وطريقة حديثها: «بضع مرات فقط، اطمئني، ليس شيئًا يثير القلق.»

قالت، وهي تقطب حاجبيها: «هل فكرت في الذهاب إلى المستشفى؟»

– «ذهبت مرة فعلًا. وقد قال الطبيب إنني بخير، لم يعرف ما أصابني، قال إنها أعراض نقص السكر في الدم، وقد نصحني بالإكثار منه وتجنب الشمس المباشرة.»

قال «إبراهيم» مقتحمًا النقاش: «أي سكر؟ هؤلاء الأطباء لا يفقهون شيئًا. صدقني عندما أقول لك إنك ممسوس، هذا من تأثير الجن. خالتي أُصيبت بذات الأعراض التي تصيبك، وقد حفيت قدماها في مراجعة الأطباء بلا فائدة، اكتشفوا في النهاية بعد وفاتها أن جارتها — تلك الحيزبون — تدفن لها عملًا تحت زير الشَّارع.»

– «يا أخي فال الله ولا فالك.»

قال «إبراهيم» بذات الحماس متجاهلًا تعليق «هبة» الغاضب: «أعرف شخصًا في حلة كوكو يعمل بالقرآن، ويقوم بطرد الجن المتلبِّس بمبلغ رمزي، يمكنني ترتيب جلسة لك لو أردت.»

قال «عمار» ضاحكًا: «مثل جلسات طرد الأرواح الشريرة.»

– «شيء من هذا القبيل. وسأكون موجودًا لتكبيلك وربما ضربك كذلك، في حال ما إذا قررت الصراخ والانتفاض عند خروج الجن منك.»

ضحك «عمار»، وقال: «لا، شكرًا. لا أومن بهذه الأشياء.»

نظرت له «هبة» في تساؤل، وقال «إبراهيم» ممتعضًا: «لا تؤمن بالقرآن! أي فاسق أنت ومن أي مباءة جئت؟!»

– «لا أقصد هذا. بالطبع أومن به، فقط لا أومن بتحميله أكثرَ مما يطيق.»

قالت «هبة»: «لن تخسر شيئًا إذا قمت بجلسة في كلِّ الأحوال، فلم لا تجرب؟»

وقال «إبراهيم»: «هناك الكثير من الأحاديث المروية عن النبي () عن فضل الرقية الشرعية في فك السِّحر وطرد الجن من الجسم، سيقرأ عليك القرآن، وسيخرج الجن من طرف أصبع قدمك الأصغر. هذا كل شيء.»

لم يشأ «عمار» أن يخوض في نقاشٍ خاسر كما قال لنفسه، فوعدهم بالتفكير في الأمر والمحاولة في يوم ما. وبينما انخرطت «هبة» في نقاش جانبي مع «إبراهيم» بدأ يشعُر بأنه ليس على ما يرام.

حسنًا. اعتقد أن التأثير كان ساحقًا هذه المرة. بل كان مدمرًا لو شئتَ الدقة.

ففي البداية كان الدوار.

والأرض تميد تحت قدميه، بينما كل شيء يتأرجح ويهتز أمام ناظريه.

ثم بدأ الضيق يجتاح صدرَه فجأة، يشعر بأنه لا يستطيع أن يتنفس. وقف على قدميه دفعة واحدة، ثم انحنى للأمام متَّكئًا براحتيه على ركبتيه وكأنه يصلي، فغَرَ فاه عن آخره وهو يعبُّ الهواء في نهَمٍ، يتدفق شلال الأوكسجين، لكنه لا يصل إلى رئتيه فعلًا. لا تزال رئتاه تنقبضان.

بدأ قلبه يخفق بجنون، وراحت دقَّاته تزداد بشكل كبير حتى بدَأ يسمع صوت الدويِّ في أذنيه بوضوح. وبرودة قاسية تسري في أطرافه التي بدأت في الارتعاش فعليَّا.

«لا بد أنها مشكلة في القلب»، قال لنفسه وهو يجاهد للتنفُّس. وعندما بدأ يشعر بالانفصال والاغتراب عن المكان داهمَهُ ذلك الشعور المرعب والمسيطر بقوة بأنه سيموت هنا والآن.

يحاول أن يصرخ في هلع: لا أريد أن أموت الآن. لكن صوته الراجف يحتبس في حلقه. شفتاه ترتجفان كما أطرافه.

هذا هو الموت يا صاحبي وتلك سكراتُه، ولكم كانت حياتك قصيرة مختصرة!

كحشرة المايفلاي تُولد وتموت قبل غروب شمس نفس اليوم. تلك هي حياتك.

لكنني لا أريد أن أموت. لم أصلِّ منذ أيام.

وبينما يردد الشهادتَيْن بصوت مرتجف، وهو يسقط بركبتيه على الأرض، كان يفكر أن آخر ما سيراه سيكون وجه «إبراهيم» الممتقع، ووجه «هبة» الجميل المذعور، وهي تنحني نحوه إذ سقط على الأرض وتصرخ بشيء ما، وأن آخر ما سيسمعه سيكون صوت «ميري» المبحوح المولول.

«أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.»

أصوات متداخلة، أيادٍ تتلقَّفُه بسرعة وتحشر جسده كيفما اتفق في سيارة توقفَتْ على جانب الطريق، صوت تنفس ثقيل ولهاث.

«الحقوا الولد بيموت.»

«حاسب الرَّاس، بالراحة.»

حشد غفير من المارة على جانب الطريق يراقبون الموقف في فضول واستمتاع واضح. البعض يقف على أطراف أصابع قدمَيْه ويشرئب بعُنقه فوق الجموع، حتى يحصل على زاوية أفضل لمشاهدة العرض الشائق.

شخص يموت في الشارع العام. يا للمتعة!

صوت بكاء «هبة» يسمعه كأنه قادِم من وادٍ بعيد، وصوت طالبة تصرخ في جزع من مكان ما، وقد أرعبها الموقف.

«أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.»

٣

أذكر عندما رأيتها أول مرة.

أذكر رائحة عطرها.

أذكر رائحة الشاي والنعناع، رائحة الغبار، وأصوات أبواق السيارات في الشارع الرئيسي.

وفي اللحظة التالية لم يعد هناك سوانا.

اكتسى العالم بالسواد، ولم يبق إلا نحن.

أنا وهي فقط.

كل الأصوات والأشخاص والروائح في الخلفية مجرد ممثِّلين يعزفون سيمفونية لقائنا الأول.

كانت ترتدي عباءة سوداء وتمشي على وجل إذ تتقدم ناحيتنا، وعلى وجهها الدقيقِ الملامح شامة صغيرة تستقرُّ على خدها الأيمن فتزيدها فتنة وكمالًا، وخوف طفولي وشعور بالضياع خفَقَ له قلبي.

هشة جدًّا.

خجولة جدًّا.

أنثى جدًّا.

وعندما التقت عينانا، تحرك شيءٌ ما في داخلي في تلك اللحظة.

شيءٌ لم أكن أدرك حتى وجوده من قبلُ.

عرفت أنها هي.

هي المنتظرة. مَن كنت أبحث عنها طوال حياتي. وكأن الله بعث لي ملاكًا من الجنة؛ ليعوض روحي الجرداء المتعبة، ويجزيني خيرًا بعد صبر وطول انتظار.

حمدت الله على نعمته.

وحمدت الله عليها كثيرًا.

«…» صمت.

سألت نفسي: هل هو الحب؟ ربما، لا أعرف؛ فأنا لم أجرب الحب من قبل.

لكن ذلك الشعور الدافئ في صدري يقول بأنني وجدت ضالتي أخيرًا، وقد حان الأوان لأغرس رُمحي في الشط، وأرفع علم ملكيتي وحيازتي، وأعلن وصولي وانتصاري بهذا الفتح الجديد.

«…» صمت.

يقولون: إنه لم يوجد بعد ذلك الرجل الذي يتعامل مع الأنثى بطريقة عادلة. فهو إما رفَعَها عاليًا وتعامل معها بقدسية الأم والأخت، أو حطَّ منها واعتبرها جسدًا لإشباعه، أو جاريةً خُلقت لخدمته، أو ماكينة بيولوجية للتفريخ وتمرير الجِينات.

بالنسبة لي لم يكن شعوري تجاهها أيًّا من هذا، وصدِّقْني عندما أقول لك إنني لا أفهم طبيعة مشاعري تجاهها على نحو واضحٍ بعدُ، ليس حبًّا خالصًا وليس اشتهاءً خالصًا، وليس إعجابًا محضًا. هو شيء من هذا وذاك.

«…» صوت سُعال خفيف في الخلفية.

«…» صمت.

فتنتني عيناها، وتلك النظرات النقية التي تحمل نقاء أَلْف طفل، وتحتضنك بدفءِ حضنِ أنثى محبة، وتخبرك بكل أسرار عبارات الحب، وغزل شعراء الجاهلية وعذاباتِ قيس، ورهبة الجمال. سقطت نظراتها على روح قاحلة ظامئة أنبتَتْ فيها بعض الخضرة هنا وهناك، وبعض الأمل.

لا أريد شيئًا من الدنيا سوى أن أفني سنوات عمري القادمة أمام تلك العيون، أنهل المزيد حتى أرتوي.

وفي محرابهما أخلع قناعي الاجتماعي الزائف، وأتعرى أمامهما بكل ما فيَّ من عيوب وأسرار، وأشعل بخوري وألبس صليبي، وأحمل سجادتي للصلاة.

ستكون عبادتي التي أتقرَّب بها لوجه الله، وأشكره على بديع صنعه.

عندما التقتْ عينانا أدركت أنني قد تغيرت للأبد.

كان هذا تاريخَ ميلادِي الجديد.

ما كان مِن قبلها لم يكُنْ.

وما كان وما سيكون من حياتي، بدأ في تلك اللحظة.

«شريط تسجيل رقم «٠٤»، حالة «٥٥١٤٨»، جلسة «٠٦»، عيادة الطب النفسي، مستشفى الخرطوم التعليمي». ملاحظات: «تداعي حر Free association CBT Session. تشخيص: «لا يوجد».»

٤

في نهاية شهر ديسمبر ٢٠١٢م، قابلت «عمار» للمرة الأولى.

كان قد تمَّ تحويله إلى عيادتي بواسطة الدكتور أنور حسين، أحد الزملاء بقسم الباطنية بالمستشفى، بعد أن تمَّ إسعافه للمستشفى في حالة يُرثى لها إثرَ أعراض جسدية شديدة الوطء. فشلت كل فحوصات الدم وتخطيط كهربائية وصدى القلب، وفحوصات الأوعية في إيضاح مسبب عضوي ما، وإن لاحظوا وجود كمية زائدة من هرمون الأدرينالين في تحليل الدم. وقد اشتبه الزميل الفاضل في أن التمظهرات الجسدية ذات طبيعة نفسية ما. قال لي، وكان محقًّا، إنه يظن أن الأعراض الجسدية المصاحبة للحالة ربما تكون انعكاسًا لاضطراب نفسي غير مفهوم، وقد أراد مشورتي الطبِّية بالخصوص.

كانت الأعراض واضحة: ضيق التنفس وبرودة وارتعاش الأطراف، وشعور الاغتراب والانفصال عن الواقع، إضافة إلى الشُّعور المسيطر بدنو الموت، والجو العام المشحون بالذعر المتطرف. من الوهلة الأولى عرفت أنه كان ضحيةً لإحدى نوبات الذُّعر، وهي نوبات مرعبة تنشأ فجأة بدون سببٍ حقيقي يفسر كل هذا الرعب، وكل ردود الأفعال الجسمانية الشديدة المصاحبة للنوبة من تأثير إفراز الأدرينالين في الجسم. عند بدء النوبات قد يعتقد المصاب أنه يتعرَّض لنوبة قلبية أو مشكلة في التنفس، لكن أكثر ما يميِّزها هو الشعور المؤلم بقرب الموت.

في الغالب لم أكن من نوعية الأطباء المتحمسين لاستخدام العلاج الكيميائي المباشر، ووصف مانعات استرداد السيروتونين والنورأدرينالين، أو أيٍّ من المهدِّئات الصغرى، فليست مضادات الاكتئاب هي العلاج الأنجع دائمًا. قد تعطي مفعولًا وقتيًّا مهدئًا للأعراض، لكنها لن تفيد على المدى الطويل، لم يكن أمامي سوي اتباع نمط العلاج السلوكي الإدراكي (CBT)؛ لأستطيع الوصول بالتحليل النفسي لجذور الأفكار السلبية التي تسبِّب له تلك النوبات وتغذيها، لتغييرها لاحقًا بأفكار أكثر صحية.

هكذا قمتُ بتحديد جلستَيْن شهريًّا معه، مع بعض النصائح العامة إذا ما داهمته نوبة أخرى مجددًا، خاصة عندما عرفتُ أنها النوبة الثالثة التي تداهمه خلال شهرَيْن فقط. وأنه قد تعرَّض لأولى النوبات قبل شهرين في الجامعة، وقد تلاشت بسرعةٍ قبل أن يصل للمستشفى.

«حاول أن تسترخيَ، تنفَّسْ من أنفك، تذكر أنه لا يوجد تهديدٌ حقيقي على حياتك الأمر لا يتعدى رد فعل خاطئ من جسدك تجاهَ خطر غير حقيقي. احصُل على بعض الرياضة، لا تفزع قدر الإمكان.»

لم يكن «عمار» من الشخصيات السَّهلة السبرِ، كان شخصًا متحفِّظًا دفاعيًّا، ومنغلقًا على نفسه بشدة، ولإحساسه في البداية بعدم الأمان ظلَّ يعاملني بعَداءٍ مستمر. لكن سرعان ما تخلَّى عن سلوكه هذا بعد مُضيِّ عدة جلسات، وأصبحتْ تصرفاته أكثرَ انفتاحًا وتقبلًا.

تمدَّد على الأريكة وجلستُ خلف رأسه، وككل الجلسات يحكِي لي عن أي شيء يشاء، بينما أقوم أنا بتسجيل المحادثة وتدوين المُلاحظات، ومحاولة توجيهِ ذكرياته لمعرفةِ شيء ما قد يُفيد في فهم جذور أزمته.

– «ماذا أحكي اليوم؟» سألني وهو يحرِّك جسده على الأريكة لوضع أكثر راحة.

– «أي شيء.» قلتُ له: «ما الذي تحبُّ أن نتحدث عنه؟»

– «لا أعرف.» قالها في هدوء.

قلت له: «حسنًا، يمكنك أن تحكيَ لي عن اليوم الذي أصبت فيه بالنوبة الأولى.»

قال مغمضًا عينيه، وهو يشبك كفَّيْه فوق بطنه: «أعتقد أنه كان قبل عامٍ تقريبًا.»

– «هل كان هنالك شيء مميز في ذلك اليوم؟»

– «لا، كان اليوم الأول لي في الجامعة.»

قمت بكتابة بعض الملاحظات، ثم سألته: «حسنًا، متى أصبت بها مجددًا؟»

صمت لحظات، ثم قال: «أعتقد أنها كانت بعد شهرين أو ثلاثة من النوبة الأولى، كانت في ديسمبر نهاية العام السابق.»

مجددًا سألته: «هل كان هنالك شيء مميز في ذلك اليوم؟»

قال، وهو يتململ في رُقاده قليلًا: «كانت هناك احتجاجات وسط الطلاب بالجامعة. بدأ الأمر عندما قامتْ قواتُ الأمن باقتحام إحدى داخليات السكن الطلابي، ثم راحتِ الأمور تتأزَّم وتخرج عن السيطرة. وانتظم الطُّلاب في حملة احتجاجاتٍ واسعة بالجامعة، حتى قاموا بإلقاء القنابل المُسيلة للدُّموع علينا، ثم اقتحموا الجامعة واعتقلوا بعضَ الطلاب.»

– «هل كنت تشارك في الاحتجاجات؟»

– «لا، كنت أزور بعض الأصدقاء في الكلية.»

– «وبعد؟»

– «لا أتذكر كل الأحداث جيدًا، قاموا بتطويق الكلية من الخارج، وكنا نختبئ نحن في إحدى القاعات عندما داهمتني النوبة. تعاون بعض الطلاب على حملي والخروج بي من الجامعة بطرق ملتوية حتى أوصلوني للمستشفى. لكن النوبة انتهتْ قبل وصولي للمستشفى.»

قمت بتدوين بعض الملاحظات في مفكِّرتي: «هل أصبت بنوبة أخرى؟» سألته.

– «نعم.» رد باقتضاب.

– «متى؟» سألته.

قال: «في شهر يونيو، منتصف هذا العام.»

سألته: «هل كان هنالك شيءٌ مميز في ذلك اليوم؟»

– «كانت هنالك احتجاجات في العاصمة، وقد قامت الشرطة بحصار الجامعة ورميها بقنابل الغاز، بل قاموا بإطلاق الرصاص الحي. رأيت طالبًا يموت أمام ناظري، بعد أن قاموا بإصابته برصاصة في رأسه من خارج أسوار الجامعة. لم أستطع النوم يومها ولعدة أيام تالية، وظلت صورته وهو مسجًّى على الأرض، ورأسه ينزف بلا انقطاع، تبرُز أمامي كلما أغلقت عيني. وفي ذات الليلة داهمتني ذات الأعراض.»

مرتْ لحظة صمت، بينما كنت أحاول أن أستوعب ما سمعته. وبسرعة طفَتْ على سطح ذهني ذكرى انتفاضة أكتوبر، بعد أن قامت الشرطة بقتل القرشي، طالب جامعة الخرطوم في ذاك الوقت، وقبل أن يجفَّ دمه اندلعت ثورة عارمة في البلاد أطاحت بحكومة عبود.

كنت صبيًّا صغيرًا آنذاك، لكنني ما زلت أذكر صوت هدير الجموع، عندما تدفقت للشوارع وهي ترفع اسم القرشي على لافِتاتها، وأهازيج النصر وأغاني الحماس التي تتغنَّى بمجد تلك الأيام، والتي حفظناها فيما بعد عن ظهر قلب. تعلق في ذاكرتي تحديدًا أغنية مُحمد الأمين:

يا أكتوبر نحن اللي عشنا ثواني زمان
في قيود ومظالم وويل وهوان
كان في صدورنا غضب بركان
وكنا بنحلم بالأوطان
نسطَّر إسمك يا سودان

لم أكن أعرف أن قتل الطلاب أضحى عملًا اعتياديًّا الآن، لا يحرك غضب الشوارع، ولا يطير رقاب الحكومات. قلت له: «وآخر النوبات هي التي أصابتك قبل أيام، وتمَّ فيها إسعافك للمستشفى؟»

– «نعم.»

– «تقول إنها كانت بدون سبب واضح؟»

– «نعم.»

– «هل يمكنك أن تصِفَ شُعورك في ذلك الوقت، أعني قبل أن تداهمك النوبة الأخيرة؟»

صمَتَ لدقائق طالتْ، ثم قال بهدوء، وهو يشدد على الحُروف: «الكراهية.»

وساد الصمت مجدَّدًا للحظات، إلا من صوت بكرة جهاز التسجيل مجددًا؛ إذ يدور في هدوء، وصوت قمرية حطَّت على أسلاك أعمدة الكهرباء في الخارج، وهي تسجع بصوتها اللحني الجميل بما يُشبه عبارة «احمدوا ربكم»، كما كانت تقصُّ عليَّ والدتي رحمها الله في عهد الطفولة الغابر، وتقول: إن نداء القمرية لحمد الله نداء مقدس، وهو مصداق حقيقي لقوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، وأنها ساعة مستحبة للدعاء يُجيب الله فيها أي شخص، فكانت كلما رأتْ واحدةً أو سمعت سجعها ترفع يديها أمام وجهها، وتتمتم بعبارات خافتة.

أضاف «عمار» بذاتِ الهدوء: «كراهية شديدة كانت تعتملُ في صَدري، بدون أن أعرف لها سببًا أو جهةً.»

«حسنًا، هذا هو.» قلتُ لنفسي مفكرًا: «أعتقد أنني قد وضعتُ يَدي على أول الطريق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤