الفصل الخامس

أنبل ما فينا

لقد قُتل هؤلاء آلاف المرات، قبل أن يقتلهم الرصاص والبحر.

تحولوا لجثث تمشي على قدمين.

جثث أفقدها الظلم، الذي كانوا يتجرَّعونه صباحًا ومساءً، حُلمَها وأملَهَا بغد أفضل.

***

١

في تمام الخامسة وتسع دقائق، صباح يوم الخميس، الثالث من أكتوبر توقف قلب «عمار» عن الخفقان.

يقول تقرير الطبيب الشرعي إن سبب الوفاة كان لنقص السوائل بسبب النزيف الداخلي والخارجي للجِسم. بالإضافة لفشل الكثير من الأعضاء الحيوية في العمل دفعةً واحدة.

كأنه كان متماسكًا، حتى قرر الكف عن الحياة فجأة.

بعد شهر ونيف من بقاءِ الجثمان في المشرحة، والكثير من المعاملات الورقية والإجراءات الإدارية المعقدة، أقف في المقبرة حول الجثمان المسجَّى على «عنقريب» خشبي مجدول، بينما اللحاد يخرج من القبر بعد أن استكمل اللمسات الأخيرة فيه.

«الفاتحة على روح المرحوم.»

ترتفع الأكف أمام الوجوه الواجمة، ويتردد حرف السين بكثرة من بين الشفاه شبه المغلقة.

أرمق الجثمان المسجى على «العنقريب» الخشبي، وقد كف عن الحياة للأبد.

كنت أتمنى أن أقول إن الجنازة كانت أسطورية، وقد تقاطر المئات من المشيعين يبكونه في حرقة، بينما تلطم النساء، ويشققن ملابسهن في لوعة. لكن لم يكن هناك شيء من هذا، لم يتجاوز المشيعون أصابع اليدين، أنا و«إبراهيم» وبضع من الشباب من دفعتِه في الجامعة.

هذا كل شيء.

«آمين.»

«آمين.»

يتعاون شابَّان مع اللحاد في إنزال الجثمان في القبر، بينما كنت أرمق «إبراهيم» خلسة من خلف نظارتي السوداء؛ إذ يقف واجمًا مطرقًا للأرض.

كانت الخرطوم قد استعادت هدوءَها، ظل اهتمام الناس منصبًّا على شهداء الثورة، لذلك لم تنَلْ وفاته قدرًا من الاهتمام، لقد توفي في خلفية الحدث الأهم الذي يشغل الناس فلم يعيروه انتباهًا.

أتحسس السوار الأبيض الذي يحيط بمعصمي كالساعة، وقد نقشت عليه كلمات باللغتين العربية والإنجليزية بخط منمق دقيق.

عندها رأيتها.

كانت تقف خارج المقبرة، تستظل من حرِّ الشمس بأحد الأشجار، وتحمل منديلًا ورقيًّا تدفن فيه أنفها، وهي تبكي بلا انقطاع.

على يديها نقوش طازجة لرسومات حِناء مزخرفة، والقلادة والأساور الذهبية حول جيدها ويديها، مع الثوب السوداني الخفيف المميز للمتزوجات حديثًا. كانت هي.

الجسد الأنثوي الصارخ النحيف نوعًا، والنظارات الطبية الأنيقة، والعينان الواسعتان البريئتان اللتان تشعرانك بأنك وغدٌ جدًّا، نجسٌ جدًّا، منحطٌّ جدًّا.

عينا ملاك لو كان للملائكة عيون، تحكيان عن البراءة الخام كما خلقها الله.

نفس العينين اللتين فتنتا «عمار» من قبل.

الآن أعرف أنه يجيد الوصف حقًّا.

هممت أن أتقدم نحوك وقتها يا سيدتي؛ لأقدم واجب العزاء، لكنني أحجمت عندما رأيت ذلك الشاب الوسيم يقف بجوارك، ثم يضع رأسك الباكي على صدره ويحتضنُك معزيًا. آثار الحناء على يديه ورأسه الحليق يوحيان بأنه متزوج حديثًا كذلك.

ثم رأيتك تركبين معه السيارة، وتنطلقان بعيدًا.

هكذا وجدتني أقود سيارتي في شرود، عبر شوارع «ود نوباوي» متجهًا إلى المنزل، بعد انتهاء مراسم الدفن. صوت العطبراوي يتردد عبر أثير الراديو:

أيها الناس نحن من نفرٍ، عمَّروا الأرض حيث ما قطنُوا
يُذكَر المجدُ كلما ذُكِروا، وهو يعتزُّ حين يقترنُ
حكَّموا العدل في الورى زمنًا، أتُرى هل يعودُ ذا الزمَنُ؟
ردَّدَ الدهرُ حسنَ سيرتهم، ما بها حطةٌ ولا دَرَنُ
نزَحُوا لا ليَظلِموا أحدًا، لا ولا لاضطهادِ مَن أَمِنوا

أبتسم في سخرية مريرة مع المقطع الأخير للأغنية، وأقول لنفسي بصوت مسموع: «لم نضطهدهم فقط، لقد قتلناهم يا عطبراوي.»

«عمار» الطفل يلتفت لي، وهو يبكي، يحمل أختَه على كتفه، ثم يمد أصبعه السبابة في وجهي، وفي عينيه اتهام صامِت.

– «ظننت أنه يوم القيامة، كانت النيران هائلة، والصراخ رهيبًا، ورائحة الموت تعبق في المكان، وتزكم أنفاسي.»

أتنهَّد في عمق، وأنا أرمق الطريق بعينين غائمتين لا تريان، أدرك أن عينيَّ مغرورقتان بالدموع. فأوقف السيارة على جانب الطريق، وأجذب فرامل اليد لأعلى، وأريح رأسي على مسند الرأس في الكرسي.

في ذلك اليوم؛ إذ نحن جلوس في الميدان المظلم الخالي، قال لي «إبراهيم»، وهو يطوح بزجاجة «العرقي» الخالية في منتصف الميدان: «قالوا إنهم ألقوا بالجثة في النيل، وسيجعلون الأمر يبدو انتحارًا؛ حتى لا تكون هناك أسئلة، قالوا لي إنه يجب عليَّ أن أتعاون معهم، لو أردت أن أضمن سلامة والدتي وأخي.

أعرف أنهم لا يمزحون؛ فقد قتلوا أحد الشهود، وكان هذا صبيًّا صغيرًا رآهم يلقون بالجثة في النيل، وأبلغ الشرطة. وقد قتلوه بلا رحمة. قالوا لي هذا، وهم يضحكون لتخويفي، وأحسبهم قد نجحوا في ذلك.»

ثم أشعل سيجارةً، وراح يشفط الدخان في نهَمٍ، وينفثه في قلب الظلام وهو يتأمَّلُه في شرود، وأضاف: «أعرف أنهم سيتخلصون مني في أقرب فرصة تسنح لهم ما إن تهدأ الأمور، لا يتحمَّلون وجود شهود قد يثيرون لهم المتاعب. لن أنتظرهم مكتوف اليدين، حتى يأتوا ويتخلصوا مني، لقد قررت الخروجَ من هذا البلد اللعين الذي يتحكمون في كل شيء فيه. أعرف شخصًا ما سيساعدني وأسرتي على الوصول إلى الحدود الليبية، وسنحاول من هناك الوصول إلى أي بلد أوروبي يَقبل بنا كلاجئِين. أنصحك بأن تفعل الشيء ذاتَه حفاظًا على سلامتك، لا بدَّ أنهم قد لاحَظُوا ما تفعله.»

سألته: «إذن لم توجد مشاجرة، كانت الجروح على جسده من آثار التعذيب في المعتقل؟»

قال، وهو يقذف بعقب السيجارة: «نعم. لقد لقنوني ما شهدت به في قسم الشرطة كشاهد على انتحاره، قاموا بنسج قصة مشاجرتِنا تلك حتى يبرروا بها آثار الكدمات والجروح على جسده. أعتذر أنني كذبت عليك مسبقًا، أرجو أن تتفهم موقفي، لم يكن لدي خيار.»

– «إذن فقد كنت أنت الشاهد الذي رآه يرمي بنفسه في النيل؟»

– «نعم.»

– «ماذا عن بقية الشهود؟»

– «لا يوجد بقية، أنا الشاهد الوحيد.»

مرت فترة صمت ثقيلة، إلا من صوت طفل ما يعوي في أحد المنازل المحيطة بالميدان. سألته وأنا أتأمل الميدان الخالي: «ماذا تعني عبارة كانوا أنبلَ ما فينا؟»

نظر لي في تساؤل، فأضفت موضحًا: «قبل وفاته اتصل بي المرحوم، وقال لي عبارة «كانوا أنبلَ ما فينا»، لم أفهم ما يعنيه.»

وضع راحتي يده على مقدمة جبهته، وانحني للأمام قليلًا مسندًا مرفقيه على فخذَيْه، بدا لي وكأنه يشعر بالصداع. صمت للحظات، ثم قال: «يقصد قتلى سبتمبر. في الفترة الأخيرة، كان يقول باستمرار إنهم أظهروا أنبل ما فينا، فليس في تاريخ الإنسانية ما هو أنبل من الثورة على الظلم، أو الموت من أجل هذا المبدأ. وأن العسس الذين قتلوهم في الشوارع كانوا أسوأَ إخفاقاتنا الإنسانية، لقد قتلوا من تمرَّد ليطالب بحقه وحقهم في الحياة.»

نهضت من مجلسي بصعوبة، لقد طالت مدة جلوسنا على الإطار حتى تيبست مفاصلي، وشعرت أن ردفي يزنان أطنانًا.

شعور غامر بالسلام الداخلي يغمرني. أستطيع أخيرًا أن أقول بضمير مستريح: إنني قد حصلت على الخاتمة التي أنشدها، أشعر أنني قد وصلت لآخر الطريق، هذه هي الحقيقة.

لم يخيِّب «عمار» ظني بعد كل شيء.

وتذكرت عبارة الحقوقية الأمريكية جلوريا ستاينم «الحقيقة ستحررك، حتى لو أزعجتك في بادئ الأمر». أعتقد أن المقولة تنطبق على كلينا — أنا وإبراهيم — في هذا الموقف.

وقبل أن أنصرف، سألته: «لماذا حكيتَ لي كل هذا».

برغم الظلام الدامس استطعت أن أرى كمية الألم التي كانت ترتسم على وجهه لحظتَها. عيناه تتلألآن بالدموع (في الواقع هو لم يكف عن البكاء منذ ابتدأت الجلسة)، وتتسع طاقتي أنفه باستمرار، كأنه على وشك النحيب.

عرفت أنه يقاسي جدًّا. هذا شخص عانى كثيرًا، وهو يتقلب في فراشه ليلًا.

إن للضمير قدرة هائلة على المحاكمة والإدانة والعقاب. قاضٍ يقِظ يراقب أفكارك وعواطفك، سكناتِك وخلجاتك، وما تسول به نفسك، ويجلدك بلا رحمة، حتى إن البعض كان يفضل الهروب منه بالانتحار، كما كنا نسمع أحيانًا عن قصص الجنود العائدين من مَناطق الحروب.

«الأنا العليا» المثالية عندما تتصادم مع «الهو» العابث، تنتج صراعًا ملحميًّا جديرًا بالأساطير.

قال بصوت متهدِّج جدير بتلك الملامح: «لقد كان صديقي الوحيد، كان أقرب للأخ من الصديق، وقد مات بسببي؛ بسبب جبني ووشايتي. حاولت أن أتناسى ما حصل، لكن زيارتك الأخيرة لي أعادتْ لي كل شيء، لم أستطع الاستمرار، ضميري يقتلني. لم أعد أستطيع النوم؛ حتى لا أراه في أحلامي مجددًا، لم أعد أستطيع الاستيقاظ؛ حتى لا أفكر فيه، أتمنى أن يسامحني أينما كان.»

دعيني يا سيدتي أشرح لكِ بعض خيوط الأحجية المعلقة، قبل أن يدهمنا الزمن ونتفرق، وقد حانتْ ساعة الفراق.

أعرف الآن أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بعد مكالمة الهاتف الأخيرة تلك، أعتقد أنهم ضبطوه متلبسًا بالهاتف؛ مما جعلهم يمعنون في تعذيبه أكثر، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بين أيديهم بعدَها بقليل.

لا أعرف يقينًا كيف تحصل على الهاتف المحمول في وضعه ذلك، لكنني لا أحتاج لكثير من الذكاء أو الخيال؛ لأعرف أنها كانت محاولة المساعدة التي قدمها له ذلك الحارس النَّحيل طويل القامة قليلًا، ذو الملامح الطفولية الوادعة، الذي كان يتعاطف معه في محنته.

أو ربما قام بسرقتِه بطريقة ما.

لا أعرف يقينًا، لكن لا يوجد تفسير آخر.

أعرف أنه قام بالاتصال بمنزلك وقتَها، عندما أحسَّ بالحاجة لسماع صوتك ربما، ومن سوء حظِّه قابل والدك. لا بد أن والدك تحدث كثيرًا وقتها، لا بدَّ أنه أهانه جدًّا.

لا بد أنه أخبره بما كان يخشاه، رفضه القاطع لتلك الزيجة لعدم تكافؤِ الأنساب والقبائل «… وما عندنا بنات بتزوجوا عبيد.»

لا بد أنه تحدث إلى أختك «هادية».

لا بد أنها بكت كثيرًا، وهي تخبره عن حفل زواجك لابن عمك العائد من السعودية، والذي يتمُّ في تلك اللحظة بالتحديد.

أن يفقدك للأبد، كانت تلك القشَّة التي قصمت ظهره، اللحظة التي تكف فيها الصخرة الصمَّاء عن تحمل المزيد من القطرات، فتنهار أمام قطرة الماء التالية، ويتصدع شرخ البرود والتماسك، ويظهر عاريًا بكل ما فيه من وهن.

لم يتحمل فكرة فقدانك؛ لهذا كف عن التحايُل على الموت ورفع راية الاستسلام الأخيرة.

أعرف أنه أحبك جدًّا.

لقد كنتِ الجزء الأكثرَ بهجة في حياته التعسة.

ربما لهذا طلبت منك زيارتي اليوم؛ لأبلغك رسالته القصيرة الأخيرة «قل لها إنني قد أحببتها.»

وأرجو أن تتقبلي أسفي؛ لأنها لم تكن قصيرة إلى هذا الحد.

أعرف كذلك أنهم استطاعوا تتبع رقمِ هاتفي في تلك المكالمة، عرفت هذا عندما كنت أرى ذات سيارة البوكس رابضةً خلفي، كلما أدرت رأسي.

أعرف أنهم باتوا يراقبون منزلي وعيادتي منذ فترة.

يريدون أن يعرفوا ما الذي توصَّلت إليه بالضبط؛ لهذا — يمكنك أن تفهمي — لَم أعد آمَنُ على نفسي أو أسرتي بعد اليوم، لقد رتبت كل شيء؛ حتى أغادر البلاد مع زوجتي في الأيام المقبلة.

تبكين في ألم.

أعرف أن قبضته الباردة تعتصرُ قلبك الآن.

ولم الحزن؟! ألسنا نحن الأحق بالرثاء منه؟!

سنظل نواجه كلَّ هذا القبح، بينما هو في راحة أبدية الآن، بين يدي ربِّه. ربما يجد عنده بعض الإنصاف الذي فقدَه معنا.

لا أراه شهيدًا ولا بطلًا. أعرف أنه كان ضحيةَ أقداره الخاصة، وبطلًا بلا بطولة.

كدون كيشوت إذ يحارب طواحين الهواء، ويندفع إلى مصيره المحتوم بحماس محموم، ذاك كان هو.

كان يعيش الكذبة يا سيدتي، وعندما عرف قبحَ الحقيقة كان أضعف من أن يتحمَّلها، فاختار الهروب إلى الأمام على أن يعيش في الزيف.

الهشاشة النفسية تجعلنا نعلق ذواتنا بأول شخص يفتح لنا أذرعه محتضنًا رءُوسنا. وهذا ما فعله بالضبط.

لكن، أعتقد أن الوقت قد حان لأخرس قليلًا، وأكف عن الثرثرة، وأدعك لبعض مما أنتِ فيه.

٢

الثلاثاء: ٢٦ ديسمبر ٢٠١٧م

تدق الساعة في مكتبي معلنةً أنها التاسعة مساء.

أكتب على ذيل الورقة: «تدق الساعة في مكتبي معلنةً أنها التاسعة مساء.»

ثم أضع الورقة فوق كومة الأوراق الأخرى التي ظلَّت تتكدس في بطء وإصرار طوال السنوات الأربع الأخيرة.

أخلع نظارتي، ثم أحمل كأس «النبيذ» براحة يدي، وأضم قاعدته الزجاجية الطويلة بين أصابعي، وأنا أهزه في رفق.

أنهض من مجلسي، وأقف أمام النافذة الزجاجية التي تحتل كل الحائط الغربي من مكتبي بشقَّتي الواقعة في الطابق الحادي والعشرين من البناية (في الواقع احتجت للعديد من الأشهر، حتى اعتدت النظر عبر النافذة بدون أن تتجمد قدماي رعبًا، أو أشعر بالدوار المميز لفوبيا المرتفعات)، أرمق مدينة تورنتو المضيئة، وهي تستعد لاحتفالات العام الجديد.

الكرات الثلجية الهشة تتساقط من السماء بطريقتها الهادئة الساحرة التي تُغريني بالخروج والتجول في الشوارع بلا هُدى، لكنني لست مولعًا بشكل خاصٍّ بالسكتات الدماغية المفاجئة أو الذبحات الصدرية، أو أن أُصاب — في أفضل الحالات — بالغنغرينا وأفقد أحد أطرافي، ثم أتجمد وأموت.

ربما في ليلة أخرى.

أحدق من ارتفاعي الشاهق في طبقات الجليد ناصعة البياض التي تغطي الشوارع ورءُوس الأشجار، بينما المارة يرتدون الملابس الشتوية الثقيلة، ويمشون على الطرقات الزلقة. قالوا في نشرة الطقس الليلة إن الحرارة ستسقط ما دون الصفر في هذه الأيام. بحيرة أونتاريو الفاتنة تتلألأ من بعيد في ظلام الليل، تحت تأثير أضواء تورنتو التي لا تنام، وتترك ذلك التأثير الذي أعشقه.

رائحة البخور السوداني الذي أشعلته زوجتي آمال في الشقة، قبل أن تخرج لعملها في العيادة القريبة تفعم رئتي، وتحرك في دواخلي شبقًا جنسيًّا خافتًا يدغدغ مشاعري، ويستجلب من ذاكرتي كل روائح الدلكة والدخان، وطقوس ليالي الخميس الماجنة في السودان.

لقد أنجبنا طفلًا جميلًا منذ عامين. ألم أخبركم بعد؟

منذ عامين بدأت الحياة تدب في زوجتي أخيرًا. ولأول مرة منذ سنوات أرى ابتسامتها الساحرة تعود من جديد، وتُضيءُ المكان.

تضحك، تقهقه، يتورد وجهها فرحًا وخجلًا، تغازلني في دلال، تقف على أطراف أصابع قدمَيْها، وتقبلني في نهم.

تتقافز في المكان فرحًا كالأطفال.

تقول لي إن «عمار» الصغير يشبهني — لسوء حظه — فأقول لها إنه يشبهها أكثر. تلك الابتسامة الجميلة تقول إنه يشبهها أكثر.

أرشف النبيذ، وأرجع بالذاكرة إلى الوراء.

أربع سنوات تحديدًا.

كنت جالسًا لوحدي في العيادة، أرمق الظلال المتراقصة على جدران المكتب، والتي يرسمها ضوء الأباجورة على سطح مكتبي، وأحدِّق في الباب حيث خرجت «هبة» في شرود.

تغمرني رائحة عطرها التي ما زالت تفوح في المكان.

صوت نقيق ضفدع في مكان ما يغازلُ أنثاه، متوسدًا أحد المستنقعات الطافحة في الشوارع.

من بعيد، يتناهى إلى مسامعي صوت رصاص يُطلق في مكان ما، ثم صمت مطبق، ثم يعاود صوت الرصاص تمزيق هدوء الليل مجددًا.

وكأنها ظاهرة ديجا-فو، رحت أحدق مجددًا في الظل الماثل أمامي يتشكل من العدم، فأراه واقفًا يشد قامته إزائي، ثم ينظر لي بهدوء بوجهه الصلب البارد الخالي من التعابير، ويقول: «برغم كل شيء؛ فقد ساعدتني كثيرًا يا دكتور، وإني لك من الشاكرين.»

يختفي الظل، ثم أراه مجددًا يقف بجواري قبالة النافذة، يرمق الظلام في الخارج عاقدًا يديه خلفَ ظهره. يرهف السمع في انتباه لصوتٍ غاضب تحمله الرياح من بعيد، يتردد في الأرجاء ويشق سكون الليل:

يا والدة أعفيلي، وعدي القطعتو معاك
إنو الكلام ممنوع، في شلة الحكام
يا والدة دمي بفور، لما البلد تغلي
لما العساكر ديل، الشوهو الإسلام
سجنونا باسم الدين
حرقونا باسم الدين
كتلونا باسم الدين
الدين بريء يمه
الدين بقول الزول، إن خلى حقو يموت
الدين بقول تمرق
تمرق تقيف في الضد
وتواجه الحكام

وسمعت أصوات تصفير، وأصوات تكبير، وهتافات مختلطة غير مفهومة.

لا بدَّ أنها مظاهرة تتكوَّن الآن.

أصوات رصاص بعيدة تحملها رياح الليل. ثم يعود السكون.

قال دون أن يلتفتَ لي: «كانت شرارة سبتمبر بعض الأمل الذي فقدوه. عرفوا مدى هشاشة ذلك الفيروس الشيطاني الذي ظل يتخلل مسام جسدهم ربع قرن من الزمان. رأوا ضعفه أمام حفنةٍ من طلاب الثانوي والجامعة العزل إلا من بعض إيمانهم.

عرفوا أنه — كأي فيروس في الواقع — يقوى ويستمر على حساب ضعف الجسد المضيف. يقوى بشعورنا بالأفضلية تجاه إخواننا في ذات الوطن المختلفين عنا في اللون درجةً، وفي الدين مذهبًا، وفي القبيلة مسمًّى.

تستحكم قبضته المستبدة على أعناقنا، كلما نبَذ بعضُنا بعضًا بمسميات الأفضلية القبلية، والتفاضل الديني، ونقاء الدم وعراقة الأصل. وننسى أننا على ذات المركب الغارق.

وبينما نشغل أنفسنا في مجالسِنا، وفي صفحاتنا على الفيسبوك بتوافه الأشياء، يزداد من خلفنا الطوفان الذي سيبتلعنا جميعًا.»

أغمغم لنفسي وأنا أتحاشى النظر إليه: «سيشوهون سيرتك وسيرتهم، سيلبسون عليكم مسوحَ الشياطين، ويصفونكم بالعمالة والارتزاق، وكل ما ليس فيكم.»

– «لا أحد سيصدقهم.»

– «بل سنصدقهم.»

أقولها في عصبية، ثم أشعل سيجارة. أدرك سخافة موقفي الآن فيما لو دخل عليَّ أحد الزملاء، ووجد الطبيب الأشيب الوقور يتحدَّث إلى نفسه!

أضيف بنفس العصبية: «اكذب واكذب واكذب؛ حتى يصدقك الناس. نظرية وزير الإعلام النازي «جوبلز» إياها. وهم يا صاحبي يكذبون بوجهٍ صلب، يكذبون بوقاحة، يكذبون بأعصاب باردة، ويبيعوننا أكاذيبهم صحفًا يومية ندفع مقابلها من قوت أولادنا.

وسنصدقهم؛ ليس لأننا حمقى، بل لنفس الأسباب التي نصدق بها الخرافات، نرغب في تصديق ما يُريحنا ويعيننا على تقبل واقعنا المزري ولو كان كذبًا، عوضًا عن اعتناق حقيقة قد تؤلمنا. إنها طبيعة النفس البشرية كما تعلم.»

– «لا أظن ذلك، ما زلت أرى بعض الأمل.»

– «وأنا لا أرى سوى الظلام الكئيب.»

أنفث الدخان في بطء، وأنا أتأمل الدخان المتراقص في فضاء المكتب.

بعين الخيال أرى صورةَ ذلك الطفل في زيِّه المدرسي المميز لطلاب المرحلة الثانوية، وقد انكفأ على وجهه في الشارع العام، وكف عن الحياة، الدماء تغرق رأسه، وتسيل على الأرض في غزارة.

أرى تلك الوالدة تضعُ يدها على قلبها في قلق، وترمق الأفق بنظرة ساهمة في انتظار عودته.

ربما سيطرق الباب الآن.

ربما سيعود.

أرى فشل جهود المحامين المتطوعين في تقديم أي بينة ضدَّ أيٍّ من المتهمين بقتل المتظاهرين، وتقييد القضايا ضد مجهولين.

لا يوجد متهمون يا سادة، فانفضوا.

أرى النظرات الحزينة البائسة على الأجساد النحيلة في الشوارع، وقد ازدادت حزنًا وبؤسًا واستسلامًا.

خطؤهم الشنيع أنهم سمحوا لأنفسهم ببعض الأمل عند انطلاق الانتفاضة الشبابية، ظنُّوا أنها ستكون اللحظة الفارقة في إخراجهم من بؤسهم الذي استمرَّ قرابة ربع قرن من الزمان.

كان ضوءًا باهتًا أضاء ظلام مستقبلهم فجأة، ثم عاد وانطفأ ليعود الظلام أكثر تكاثفًا.

«أستغفر الله العظيم.»

تقولها والدتي، وهي تمسح دموع الضحك بطرف ثوبها، لتعود وتستغفر من ذلك الذنب العظيم، ثم ترتسم على وجهها ملامح الحزن المفاجئ، كأنها تعاقب وجهها بتلك الملامح، لأنه تجرأ على رسم ملامح الفرح ولو لحين.

وكأن الضحك كبيرة تحتاج طلب الغفران.

«أستغفر الله العظيم.»

تقولها الوجوه التعيسة في الشوارع؛ إذ تستغفر من الذنب، بعدما اكتشفت إثم أملها في شيء من التغيير. كان ذنبهم أنهم شعروا بالأمل بسبب بعض الشباب الحالم، حتى استيقظوا ذات صباح على أملهم مبعثرًا في الطرقات مع دماء شبابهم الثائر.

عندما نعتاد على الفقر سنين عددًا، تغدو تطلعات الرفاهية والعيش الكريم نوعًا من الترف الفكري. تابو أسطوري لا يصح مناقشته، وذنب يستوجب الاستغفار لمجرد التفكير فيه.

أرى المظاهرة الليلية تبدأ في التشكل، وتبدأ الحشود في التوافد حول ذلك الشخص النحيل الذي يرتدي الجلباب والطاقية المميزين للزي السوداني التقليدي، تحمله الأكتاف، وهو يهتف وتردد الجموع خلفه بصوت هادر:

حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.
حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.

من بين عشرات الوجوه التي تزدحم في تلك المساحة الضيقة، أرى ذلك الشاب ذا الملامح الأنثوية المبهمة يلتفُّ ببطانية ثقيلة اتقاءً للبرد القارس، ويحتضن بيمناه ويسراه امرأة كبيرة في السن وصبيًّا يافعًا، عيناه الصافيتان تلتمعان في قلب الظلام؛ إذ تحدقان في شاطئ غير مرئي، بينما المركب المتهالك يمخر بهم عُباب البحر، بلا يقين في النجاة.

يتهادى في العدم حيث لا شيء سوى الظلام البكر الخام، ولفحة برد قارس، وبعض ضوء شحيح باهت، يتسرَّب من بين ثنايا السحب القاتمة، يبعثه لهم القمر المتواري خجلًا — ربما — من رؤية مصيرهم البائس.

وعندما ابتلعهم الموج الأسود.

لم يصرخ أحد.

انتهى كل شيء بسرعة.

كان لا يزال يقف أمام النافذة يرمق المظاهرة التي تتشكل من بعيد باهتمام. يتكاثف الظلُّ ويهتز باستمرار بتلك الطريقة البلورية المرهقة للعين، كعدسة كاميرا تحاول تركيز البؤرة على مشهدٍ ما، يعود التركيز لثوان قبل أن يهتز مجددًا. أعتقد أن كلمة (Focusing) في اللغة الإنجليزية، والتي يعرفها كل من يتعامل مع برامج تحرير الصور، تصف هذا المشهد بالضبط.

قال في شرود: «لقد قُتل هؤلاء مئات المرات قبل أن يقتلهم الرصاص والبحر، تحولوا لجثث تمشي على قدمين، جثث أفقدها الظلم، الذي كانوا يتجرعونه صباحًا ومساءً، حلمَها وأملها بغد أفضل. لم يعد لهم خيار سوى البقاء ومواجهة الموت جوعًا ومَرَضًا، أو مواجهته أمام فوهات البنادق، وفي أعماق بحر داكن ليس له قرار، يتلمظ ويطلب المزيد من أجسادهم التي كانت تضج أملًا وحلمًا ببلاد بعيدة، يعيشون فيه كما شاء لهم الله.

أحرارًا.

انتشر البؤس على وجوههم كعدوى فيروسية، لا تضعفها كل المضادات الحيوية لأكاذيب الساسة، ولا فتاوى تجار الدين بحرمة الخروج عليه.

بثورتهم أعطوهم بعض الأمل الذي فقدوه. قالوا لنا: من حقكم أن تعيشوا بأفضل مما تفعلون، بإمكانكم تغيير واقعكم إن أردتم، هذا حقكم في الحياة، وليس مكرمة تُساوَمون بها مقابل أمنكم. بموتهم قالوا لنا ذلك، هؤلاء الذين قضوا في سبتمبر كانوا أنبل ما فينا.»

الصوت الغاضب المبحوح يواصل الصُّراخ في الخارج:

يمة الشباب بحيو، وأنا بالسكوت ميت
هزاع وسنهوري، أيمن ولي الدين
حازم وفاء واحمد، ديل كلهم حيين
أكرم صهيب أحمد، ومحمد الخاتم
مازن منى وعاصم
لابسين حرير أخضر
سندس وإستبرق
وأنا «دمي» بتفرَّق، ساكت وبتفرج
وأم در عروس النيل
لابسة الرحط والحق، مليان بخور ولبان
ويزغردن نسوان
للكل يوم عرسان.

الهتاف يقلق سكون الليل ويستدعي المزيد من الجموع للتوافد في المكان. أصوات زغاريد النساء تنطلق في خلفية الهتاف، وتزيد من حماسة الشباب الغاضب.

مدرعات مكافحة الشغب تحمل الرجال المدججين بالأسلحة النارية، والهراوات وقنابل الغاز، تتقدمها مجموعة من دوريات الشرطة وهي تتوجه لمكان التجمع، وصوت السرينة؛ إذ يعوي بذلك الصوت الطويل المنذر بالويل وأضواؤُها الخاطفة تنتشر في كل مكان، وتبدد ظلام الليل.

أبواب البيوت في الشوارع تفتح، وتمتد الرءُوس من الداخل في خوف واضح. هناك نفوس ستقابل خالقَها هذه الليلة.

ثم فجأة — وكأنما هبط عليَّ وحي ما — أدركت الآن لماذا اهتممت ﺑ «عمار» كل هذه الفترة.

كان ابني.

هذا ما كنت أراه فيه بلا زيادة أو نقصان.

كان يمثل لي الابن الذي تمنيته أن يكون، ولم أرزق به طيلة حياتي، ولما قابلته طورت ناحيتَه مشاعر أبوية صادقة.

وإن كانت غير مفهومة بالنسبة لي في وقتها.

ظننتها إعجابًا وشفقة، وقد كنت مخطئًا مجددًا.

مخطئًا كالعادة.

أعتقد أنه في قرارة نفسه كان يبادلني نفسَ المشاعر.

كانت «هبة» هي احتياجه للحب الأنثوي الذي دفن مع والدته منذ سنين.

بقليلٍ من الذكاء وكثير من الخيال والتركيز أرى الآن القاسم المشترك الذي رآه هو — لاشعوريًّا — بين والدته و«هبة» (وهو متروك لخيال قارئ هذه الأوراق الآن).

كان يراها فيها.

لهذا انجذب لها بتلك السرعة.

لهذا أحبَّها بذلك العنف.

ولهذا يئس من الحياة عندما فقدها؛ فهو لم يفقد محبوبته في واقع الأمر، لكنه فقد والدته مجددًا.

كنت أنا الأب الذي لم يجده معه في عهد الطفولة، والمراهقة والشباب.

الأب الذي يستمع، ويتفهم، وينصح، ويوجِّه بحكمة للصواب.

ويحمي!

ما ظننتها آخر فصول أنانيته المستمرة لجري إلى عالمه المأساوي، كانت تلك المكالمة — في واقع الأمر — هي نداء الاستغاثة الأخير منه.

استغاث بي طلبًا للحماية.

لجأ لي عندما أحس بالخوف والوحدة، وهو ينزف ويلفظ أنفاسه الأخيرة على أرض الزنزانة الإسمنتية الباردة.

كان بحاجة إلى مَن يحميه منهم.

في لحظاته الأخيرة تلاشتْ هالة البرود والتعالي الذين لطالما أحاط بهما نفسه، عاد طفلًا صغيرًا خائفًا منكمشًا على نفسه يخشى الظلام ويرجو حماية الكبار.

أعرف أنني في أعماقي قد أدركتُ هذه الحقيقة.

عرفت أنني قد تخلَّيْت عنه في الوقت الذي كان يحتاجني فيه جدًّا، برغم عدم إدراكي الواعي لحقيقة مشاعري.

لهذا كان الشعور بالذنب يقتلني.

لم أستطع مساعدة «منى»، ولم أستطع مساعدته.

وللهروب من شعوري بالتقصير تجاهه، رحت أبحث في قضيته بعد وفاته، حتى أجد ما أبرِّئ به نفسي أمامها.

هل كان بإمكاني تغيير أي شيء حقًّا؟! هل كان بوسعي تلافي أي مما حصل؟!

ثم أمسك القلم وأبدأ الكتابة.

«هل كان بالإمكان تلافي بعض مما كان؟»

السؤال الذي ظلَّ يؤرقني ويقض مضجعي.

تلك هي اللعنة التي أورثني إياها «عمار»، وظلت تطاردني منذ وفاته.

القاضي الصامت في أعماقي ينظرُ لي في صرامة. حان وقت المحاكمة يا عزيزي.

لكن لم يكن بإمكاني تغيير شيء، تلك أقدارك ومشيئتك، ومن أنا لأغير خطتك الأزلية؟!

لسنا سادة أنفسنا، ولا أصحابَ مصائرنا. فما بين الكاف والنون كان كل شيء، وما سيكون كذلك. كل القتلة والقديسين والأنبياء والعاهرات واللصوص والملوك والفقراء بلا مأوى ولا قوت والملائكة والشياطين، من عاش ومات منهم ومن سيعيش، كل قصص الحروب، ومجازر ما قبل التاريخ وما بعده، من قَتل ومن قُتل، من زنى ومن عفَّ، من صدق ومن كذب، من آمن ومن هرطَقَ، ومن أباد البشر والشجر في دارفور، وفي التاريخ ألف دارفور. ما كل هؤلاء إلا دمى الماريونت التي تتراقص بلا هوادة على خشبة مسرحك الأزلية، ولا يُسمح فيها بالارتجال عن النص المكتوب، فلا تملك الأعناق إلا الانصياع مكرهة.

فلماذا تقاضيني على ما قضيته لي رغمًا عني بلا حيلة مني في تغييره؟ ولماذا تؤلِّب عليَّ ضميري؟ لم يكن بوسعي تغيير شيء، هل تسمعني؟

لم يكن بوسعي تغيير شيء.

تلك مرافعتي عن نفسي وذاك دفاعي، فانظر ماذا ترى.

ولا تتحجَّجن بجهل الأولين، ولا تقفُ ما ليس لك به علم. وهل عرفت يا ابن آدم أي شيء عن نفسك، قبل أن تدعي معرفة كل شيء عني!

تتحدث كحكماء القصص القديمة يا رب، مرَّ وقت طويل منذ أن تحدثنا معًا آخر مرة، لم تعد تزورني مؤخرًا، فقط تسمعني وتتجاهلني كالعادة.

أقولها وأنا أحدق مشدوهًا في الضوء الباهر المتراقص، كالموج عبر ثقب انفتح بغتةً في السماء.

ثم بدأ ذلك النبض يخفق في صدغي.

بهدوء، لكن بإصرار.

لا بدَّ أنها نوبةُ صداع أخرى على الأبواب.

وأنظر عبر نافذة العيادة حيث الشارع الخلفي الخالي شبه المظلم، فأرى ذات السيارة البوكس متوقفة عبر الطريق، وفي مساحتها الخلفية المكشوفة يجلس شخص سقطت عليه إضاءةُ عمود الشارع من الأعلى، فأخفت ملامحه في الظلام، وعكست حدود جسده الخارجية بطريقة السلويت المميزة مما جعل مظهره مرعبًا، ينفث دخان السيجارة في هدوء، ومن وضعية جسده قدرت أنه ينظر لنافذة العيادةِ في تركيز.

صوت بعيد حاد لأجراس كأجراس الكنائس يتردَّد في مكان ما وهو يتعالى رويدًا رويدًا. يتردد داخل عقلي بوضوح مزعج، هل تسمعه معي؟

أرى الظل يظهر من العدم، ويتشكل أمامي بتلك الطريقة المتموجة المخيفة.

«عمار» الطفل يحمل أخته على كتفه، وهو يجري هربًا من الموت المتربص في كل خطوة، يجري ويبكي عبر الدخان والنار، ووسط شهقات الاحتضار.

ببراعة يقهر الموت، ويُفلت من قبضته المستبدة.

أرى الدخان يتصاعد من أطلال قريته التي تمت إبادتها عن بكرة أبيها.

الظل يتموج ويتشكل بسرعة، تتمطى أجزاءه الخارجية، ثم تعود للاندماج لتعيد تشكيل المشهد. هل رأيت من قبل صورة مجهرية للأميبا؟ حسنًا. يشبه الأمر هذا بالضبط.

أرى والدته تتعرض للاغتصاب.

تصرخ، تقاوم، تخمش، تبكي، تتوسل، تئن، تستغيث، تدعو.

بينما يتناوب عليها الجنجويد بالعشرات، ثم يطلقون عليها النار في الرأس.

أرى أخته تموت في الجبل موتًا بطيئًا مؤلمًا.

صوت الأجراس هذا!

لا أدري إن كنت رأيت هذا في الظل حقًّا، أم هي خِدَع الظلام والظلال البصرية، أم أن عقلي لا زال يتلاعبُ بي.

لكن هل هناك ظلٌّ فعلًا؟

أصوات أقدام وجلبة خارج المكتب، وأصوات همهمات تردد فيها اسم «عمار» عدة مرات. أرى ومضات من ضوء كشافات يدوية تنعكس لثوانٍ على الزجاج الخشن في باب المكتب. لا أعرفُ ما يحدث، لكن الأصوات أشعرتني بالخوف فعلًا.

هو ليس هنا حقًّا. فبالتأكيد أنا خاضع لنوع من أنواع الهلوسة. هلوسة بصرية وسمعية، فأرى وأسمع وأتفاعل مع أشياء ليستْ موجودة في الواقع.

ربما كنت أهلوس من البداية. ربما لم أعرفه أصلًا.

من يضمن لي أنني طبيب أصلًا، ولست أحد المرضى المحتجزين في المستشفى؟

هل كانت «هبة» هنا فعلًا؟

يصعب عليَّ تخيل نفسي جالسًا لساعات، أحكي كل هذه الأحداث للكرسي الخالي أمامي.

صوت الأجراس هذا!

وأنظر إلى نفسي في انعكاس غطاء الأباجورة النحاسي اللامع الموضوع على سطح المكتب، يعمل بكفاءة كمرآة جيدة الصقل، وكثيرًا ما كنت أستخدمه لتشذيب شاربي، ليست ملامح وجهي التي أعرفها. اختفى الشيب وتلاشت الملامح العجوز المرهقة واختفت النظارات، وجدت نفسي أحملق في الوجه الجامد ﻟ «عمار» في انعكاس المرآة يحدِّق في بإصرار. أحرك وجهي يمينًا ويسارًا في بطءٍ، وعيناي معلقتان على الانعكاس فيقلدني بدقة.

لماذا يرتدي نفس قميصي؟

أتحسس السوار العريض الذي يحيط بمعصمي كالساعة. وأرفع معصمي أمام وجهي وأنا وأدفع النظارة لأعلى قليلًا على قصبة أنفي بسبابتي، وأضيق عيني أكثر. برغم الضوء الخافت أستطيع أخيرًا أن أقرأ المكتوب بخط منمق دقيق:

(عمار سليمان، ح، رقم: ٥٥١٤٨ — فصام/SchizophreniaDSM code 295.1/ICD.)

ما معنى هذا؟!

بدأت أشعر بذلك النبض يتزايد في الصدغ الأيسر في رأسي. يخفق بقوة بدوي كدويِّ الطُّبول يسري كالتيار الكهربي في تلافيفِ مخِّي.

أشواك حادة تغزو أعلى عيني أسفل الجفنين.

الصداع يتعاظم، الصداع اللعين يتعاظم.

الأسبرين.

أين الأسبرين عندما تحتاجه؟!

صوت الأجراس هذا!

من جديد أرى الظل يتراقص عبر المكان، ثم يتمدَّد على الأريكة أمامي، يبكي في حرقة. ينظر لي ويقول، وهو يمسح الأثر الملحي على وجهه: «لقد فقدت إيماني يا دكتور، لم أعُد أومن بإلهٍ غير مكترث لا مبالٍ، ولماذا الخضوع لسطوته؟! لا أومن به، ولا أحب فكرة أن أمي قد ذهبت للعدم. وصارت إلى اللاشيء، إنه لا يوجد قصاص، أتمنى وجوده وأرفضه بكل جوارحي.»

«يا إلهي» يصرخ بها بألمٍ بالغ، وضيق متعاظم ناءَ به صدره المرهق.

«لماذا خلقتني لكل هذه المعاناة، أنا لم أطلب ذلك.»

يخفت الظل ويتلاشى، فأقول له صارخًا: «كيف تتمرد عليه وأنت صنيعته؟! قفزت إلى المجهول، ووقعت بين يَدي من ليس كمثله شيء. أنت الجزء من الكل، الفاني من الخالد. أنت جزء من روحه ذاتها منذ نفخك من روحه الأبدية قبل ملايين السنين. كما جاء في الأساطير الأولى. وكما نطق القرآن.

فاعرف، يا بني، أنه سيتفهم معاناتك كما تفهمتها. وسيعذر ضعفك كما فعلت. لا أتوقع منه أقل من ذلك.»

فيجاوبني صدَى صوت بعيد، ما زال يتردد في الأرجاء، ويشق سكون الليل:

يا والدة أعفيلي، وعدي القطعتو معاك
الطلقة ما بتكتل
بكتل سكات الزول

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤