كأسك المرة ورسالة استغاثة في زجاجة البريد

كأسك المرَّة يشربها في الصباح، يشربها في المساء، يشربها في الصحو وفي النوم، يشربها في النهار والليل، يشربها يشربها.

كأسك المرَّة يا رجاء، يا دعاء، يا هناء، يا سناء، يا أسما — لا أفصح عنه — يحوي الأسماء، يشربه في الليل والنهار، في الصبح والمساء …

والرجل الطيب المكتئب ذو الشعر الأبيض، كالثلج يشرب كأسك المرة يَشربها، يحفر لنفسِه في كل الأوقات قبرًا يسكنه، لا يبرحه، قبرًا لا يرى فيه غيرك ولا يحسُّ بغيرك، ويشرب كأسك المرة في أوقات الليل والنهار … يشربه يشربه منذ شبابه الباكر عندما أحبَّكِ — يا جارته المرَّة — حب الجنون، ومنذ أن خذلتِه ورفضتِ حبَّه الكسير المستحيل، منذ أن شلَّه العجز والخجل الفطري الملعون فلم يخاطب لسانه لسانك، ولم تلمس يده يدك، ولم يعرف إلا نظرة عينيك القاسيتين الساحرتين، من شبَّاكك أو شرفة مسكنك، عينيك السوداوين الواسعتين اللتَين نفذَت سهامهما المشتعلة في صدره، ولم يزل يشرب كأسهما المرَّتين في الصباح والمساء، في العمل وفي الراحة، وهو جالسٌ إلى مكتبه يقرأ ويكتب، وهو في قاعة المحاضرات أو الندوات والمؤتمرات يثرثر ويثرثر، منذ ذلك اليوم الذي رآكِ فيه ونفذت سهامك المشتعلة في صدره، في غرفه السريَّة الدفينة، في قلب كيانه البائس الكئيب، وهو يَشرب كأسك المرة، يشربها، ويشرب ويشرب.

كأسك المرة يا حبيبتي المستحيلة التي يراها بالصدفة كل سنة كل سنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس: تحفُّك المرارة من الجانبَين، تسبق خطاك وتمشي مع ظلك، تتحرك مع حركة قدميك وذراعَيك، مع لفتاتك ونظرات عينيك حين ترفعينهما وحين تخفضينهما، مع ما تقولينه لمن يصحبك وما تفكرين فيه. مرَّة أنت والمرارة تحيطك وتغمر ما تكونينه وما تملكينه وما ترتدينه — وهو — إذا رآك مرة بمعجزة الصدفة، يسألك في سرِّه ويسأل نفسه: مرة أنت ولكن، هل تَدرين أنك عندي عذبة، وعذوبتك هي أعذب ما رسخ في نواة كياني التي تشرب كأسك المرة في الصباح … تشربها في الليل … تشربها حين يراك وحين لا يراك، تشربها وتشربها وتشربها؟

أصبحت الآن أمًّا وأصبحت جدَّة، ربما أُحلتِ للمعاش أو أحلتِ نفسك إليه، وانسدَّت للأبد الآبد كل الطرق إليكِ، والرجل الطيب المكتئب كم تمنَّى — كلَّما رآك وأسعفت الصدفة البخيلة — لو يستطيع أن يُناديَ باسمك، أن يوقفك لحظة ليسلم عليك وتلمس يده يدك. وكم يشرب كأسك المرة حين ينقضُّ عليه التصور القاتل بأنه سيُحتضَر يومًا من الأيام قبل أن يُقلِّب عينيه في عينيك، وتلمس يده يدك، ويسألك الصفح عن الحرج الذي وضعك فيه وسط الطريق. وهو يحتضر سيَشرب كأسك المرة، كأسك المرة، حين يتذكَّر أنهم سيلقونه في الكفن ويضعونه في القبر، ويُغلقونه عليه قبل أن يقلب عينَيه في عينيك، وتلمس يده يدك، ويسألك عن أحوالك وأولادك، ويطلب منك السماح والغفران …

كأسكِ المرة يا حبيبتي البعيدة المستحيلة يشربها ويستغيث بك، ثم يخطر بباله — والجسور كلها مقطوعة ومعدومة بينه وبينك — أن الغرقى القدماء كانوا يُرسلون رسائل استغاثةٍ في زجاجات يلقونها في البحر، وحين ترسو بها الأمواج على شاطئ يقرؤها من يتصادف وقوفه على الشاطئ وعثوره عليها، فيفكر — مجرَّد تفكير — في أن يهبَّ لنجدتهم ويستجيب لاستغاثتهم، وذلك بعد أن يكونوا قد غرقوا وشبعوا موتًا …

الرجل الطيب المكتئب ذو الشعر الأبيض كالثلج، يضع رسالته في زجاجة، زجاجة يُلقيها في البحر، ويجرفها الموج بعد أيام أو شهور أو بعد سنين إلى الشاطئ. لكن من يضمن حتى في الحلم أن تكوني أنتِ هناك، واقفة على الشط حين تصلُ الزجاجة إلى يديك، وحين تفتحينها وتعرفين أنها موجهة لك أنت — لك أنت وحدك — يا كأسي المرة التي أشربه في الصباح، أشربها في المساء، وأشربها حين أكتب كتبي السخيفة، وحين أُسوِّد قصصي ومَسرحياتي التي لم تُحرِّك ماءً راكدًا في البحيرة، ولم تترك صدًى واحدًا في كهفِ وجودنا الخانق البليد، ولم تصل أبدًا إليك أنت يا كأسي المرة مع أنها لم تُكتب إلا لك، ولم تكن إلا لأجلِك ومن وحيك.

كأسُك المُرة … الرجل الطيب المُكتئب يُرسل إليك استغاثة في زجاجة لن تصل إليك … يحتضر دون أن يُخاطب لسانه لسانك، أو تلمس يده يدك … يموت ويغلقون عليه قبره قبل أن يسألك الصفح والسماح والغفران قبل أن يكلمك، قبل أن يَلمس يدك …

كأسك المرة يشربها ليل نهار، وصبح مساء. يشربها حين يئنُّ من المرض، وحين يكتب ويكتب ويكتب ما لا تقرئينه أبدًا، ولا يصل إليك، ولن يصل إليك …

يشرب كأسك المرة في الصحو والنوم، في الحركة والسكون، في الحلم والعلم، يشربها ويشربها ويشربها.١
١  بناء هذه اللوحة وتركيبها مُقتبَسٌ من قصيدة مشهورة بعنوان «لحن الموت»، للشاعر باول سيلان (١٩٢٠–١٩٧٠م)، كما أن بعض معانيها وأفكارها عن المرارة مُستوحًى من قصيدة «آماريلليس» للمُستشرِق والمستعرب والشاعر فريدريش ركرت (١٧٨٨–١٨٦٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤