قرطبتي وحيدة وبعيدة

سمعتُ وقرأت عنها في صباي. عرفتُ أن سماءها زرقاء، والقمر الذي يطلع فيها أخضر وكبير، وأن أبراجها العالية تُطلُّ على أهلها في صمتٍ وحنان، وناسَها طيبون وسُعَداء وحكماء، والطريق إليها خطرٌ وطويل … سمعت وقرأت أيضًا أن فيها قبابًا ومآذن وبقايا جوامع وأعمدة وحدائق ونوافير … وكم كان اسمها المنغَّم يطربني، وتاريخها المفعم بالبطولات والأحزان والأشجان يُشجيني.

عندما كبرت قليلًا، حلمت أن أرتدي ملابس الفرسان، وأعتلي صهوة فرسٍ أسود صغير، وأنطلق إليها وأسأل كل من ألقاه عن قرطبته الوحيدة البعيدة، لكنَّني كنت مجرد حالم بائس، لا يملك فرسًا ولا يستطيع أن يحصل على ملابس الفرسان، ولا يعرف طريق البرِّ ولا طريق البحر إليها. مع ذلك لم أيئس من الوصول إليها، وإن بقيَت عزيمتي وإيماني مجرد أحلام تراودني في الصحو وفي المنام.

ثم كبرتُ أكثر، ورحتُ أقرأ عن المدن المثالية الفاضِلة التي يُقال — كذبًا — إنها لا تُوجد إلا في الأحلام والأوهام. وبدأت أكتب وأكتب وقرطبة الوحيدة البعيدة تتجلَّى كوجهِ محبوبة جميلة ومُستحيلة وراء أقنعة الحروف والكلمات والعبارات. أراها في قصائد الشعراء، وأحسُّ ريحها المعطرة بالذكريات والأشواق تلفح وجهي أثناء انكبابي على قراءة الفلاسفة، ومن بين السطور والصفحات الطويلة التي أُسوِّدها عنهم …

وأبلغ صحراء الكهولة، ثمَّ أوغل في متاهة الشيخوخة والحلم بقرطبتي الوحيدة والبعيدة لا يزال يلحُّ عليَّ، كأنه الملاك الذي يُنقذني في المِحَن الكثيرة ويَنتشلني من مستنقع البلادة والملل والخسَّة والغدر والظلم والتجاهُل والمرارة الذي طالما أوشكت أن أغرق فيه. ومن بعيد تتخايَل أمامي قرطبتي الحبيبة الغامضة البعيدة، أتجوَّل بين ناسها الطيبين السُّعداء، أبتهج بالمشي في حدائقها الغنَّاء والتطلُّع لأبراجها الشمَّاء، أفرح بالجمال والنظافة والانسجام والوئام الذي تكاد تنطق به الأحجار الصمَّاء. وكم يبهرني ويدهشني أن تطلَّ شمسها الربيعية الدافئة في النهار، وقمرها الأخضر كالكرمة المتوهجة في الليل على شوارعَ وميادينَ وقصورٍ وبيوت تغمُرها السعادة والسكينة والسلام، ويعمرها العدل والتراحُم والحنان.

أحيانًا يَنتابني الإحساس بأن الموت يُحدِّق فيَّ من أبراج قرطبة، وأنه سيخطفُني حتمًا قبل أن أبلغ قرطبة. لكنَّني أُعزِّي نفسي بأن أُناسًا غيري ربما بلغوها وعاشوا فيها، وتنعَّموا بخيراتها وثمارها وأنوارها، وكنوز الحكمة والسعادة والحقيقة التي ستصبح في متناول أجيال أخرى تأتي من بعدي، أو أبناء أو أحفاد أو أحفاد أحفاد ربما يُساعدُهم الحظ والتاريخ وحكمة العقل والبصيرة أن يصلُوا إليها ويُحقِّقوا حلمي وحلمهم بالعيش فيها.

وأظل أحلم بقرطبة الحرة العادلة الجميلة …

وتظلُّ قرطبتي وحيدة وغامضة وبعيدة.١
١  في هذه اللوحة تنويعاتٌ نثرية على قصيدة «لوركا» الشهيرة «أغنية فارس»، وتجد نصها الأصلي في ترجمات عربية عديدةٍ، وفي كتابي المتواضع «ثورة الشعر الحديث: من بودلير إلى العصر الحاضر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤