الغسل

عندما دخلت الأخت الكبرى وفي يدها مصباح المطبخ، الذي أرسل أشعته القلقة في جو الصالة المظلم وهوائها العطن المشبَّع بالملح — كان الغريب المجهول الراقد فوق الطاولة الخشبية الكبيرة قد أصبح غريبًا ومجهولًا تمامًا — جاءت الأخت الصغرى أيضًا ووقفت وهي تسعل سُعالًا خفيفًا أمام الجثمان الممدَّد والغائب عنهما وعن العالم كله. راحت تذهب وتجيء في عصبيةٍ، وهي تحاول أن تكتم أسئلة تخنقها وتحاول أن تخرج من فمها. أما الأخت الكبرى، فجلست على كرسي الطاولة ووضعت رأسها بين يديها وهي تتنهد بين الحين والحين وتسعل أيضًا.

كانت الأخت الكبرى — التي تعودت على الاستيقاظ مُبكرًا، وتنظيف البيت قبل أن تصحو أختها من نوم الضحى — كانت قد وجدته ممددًا على جنبه أمام عتبة الباب التي أرادت كنسها كما تفعل كل يومٍ. روَّعت للمفاجأة، وفتحت عينيها جيدًا قبل أن تجسر على الاقتراب منه. هزته لم يتحرك، رفعت ذراعه اليسرى إلى أعلى فسقطت منها كالحجر. ولما لمحت بقعة من الدم الملوث بالتراب على فمه وتحته مباشرة، صرخت صرخة كتمتها على الفور، وصعدت تُعلن أختها بما رأته. وقفتا أمام الغريب حائرين، ثم استقر رأيهما على حمله إلى الداخل إلى أن يرتفع ضوء الصباح ويبلغا المسئولين.

كان المجهول قصير القامة، طويل الشعر كأنه خاصم الحلاق منذ شهور، يرتدي سروالًا غامقًا وقميصًا ملوثًا بالعرق والتراب، وفوقه سترة قديمة حائلة اللون. وضعت الأخت الصغرى يديها تحت رأسه، ورفعته الكبرى من جذعه وساقيه. وبعد أن وضعاه على الطاولة في الصالة، بدأت الأسئلة القلقة تنهمر منهما: من هذا الغريب يا تُرى؟ ما اسمه وعنوانه وماذا يعمل؟ وما الذي جاء به من بلده ليموت أمام باب أرملتين فقيرتين؟ من مات غريب مات شهيدًا. البوليس والنيابة سيقومان باللازم بمجرد أن نخطرهما. لكن الدنيا ليل والفجر لم يطلع، ولا بد من الانتظار حتى تدب الرِّجل في الشارع. الواجب إكرام الضيف؟ لو كان حيًّا لأطعمناه وسقيناه. وهل بقي أمامنا الآن إلا أن ننظفه ونغسِّله والثواب عند الله؟ …

تهيأت الأختان للقيام بعملهما … أخذا يجرِّدانه من ملابسه قطعة قطعة، وهما يستعيذان بالله وتتلوان الدعوات، ولا تستطيعان أن تخفيا شعورهما بالخوف والخجل والحرج. والأخت الصغرى لم تستطع كذلك أن تخفي حب الاستطلاع، ففتشت جيوب السترة والسروال بدقة. كانت أختها مشغولة بتحضير ماء الغسل والصابون والليفة والإسفنجة والفوط والمناشف والملاءة الكبيرة. قالت الصغرى إنها لم تجد بطاقة ولا أي شيءٍ يدل على شخصية الضيف الغريب. ولكنها هتفت بعد قليلٍ عندما عثرت على بعض الأوراق وفحصتها بإمعان: صدقي يا أختي أو لا تصدقي، الميت شاعر. سألت الأخت: وكيف عرفت؟ قالت التي تعرف القراءة والكتابة: الورق مملوء بسطور بينها مسافات، تمامًا كالأشعار التي كانوا يعطونها لنا في المحفوظات، لكن يا إلهي، كم أن خطه رديء كنبش الفراخ أو نقش السحرة والمجانين! نهرتها الكبرى وطلبت منها أن تترك الأوراق للسلطة والمسئولين، وتنتبه للعمل الذي ينتظرهما.

لم يكن الأمر بسيطًا كما تصوَّرا في البداية. أخذت إحداهما الليفة والأخرى الإسفنجة التي بللتها بالخل، وراحتا تدعكان الوجه والرقبة والصدر المنفوش الشعر والساقين والقدمين. كان العمل مرهقًا للكبرى التي سبق لها أن مرَّت بالتجربة من قبل، وكان بشعًا ومفزعًا للصغرى التي غلبها البكاء أكثر من مرةٍ. قرأت الكبرى سورة يس، وتلت الصغرى بعض قصار السور، وأخذا يدعوان بالرحمة والمغفرة للغريب الغارق في غربته وغيابه. توقفا مرات ليستريحا ثم استأنفا العمل وهما تسعلان قليلًا، وتواصلان التمتمة ببعض السور والأدعية. وعندما انتهيا من العمل كان الفجر قد بدأ يكشف عن وجهه الوردي، والأشعة الخافتة الباهتة تتسلَّل من النافذة المنزوعة الستائر، والليل يتراجع بجيوشه المظلمة عن الغريب والأختين اللتين ظلتا تتحركان طوال الوقت كشبحين مجللين بالرعب والسَّواد. أما الغريب — الذي أسبلا عينيه — فقد بدا وجهه مُتصلبًا، وجسده الأبيض المكسو بغلالة داكنةٍ أشبه بتمثال جيري أُخرِج لفورِه من باطن الأرض، وغُطي بطبقةٍ شمعيةٍ تُشبه الإسمنت.

بعد أن لفَّاه في الملاءة الكبيرة وضعا ثيابه عند رأسه، وبجانبها الأوراق التي تصورت الأخت الصغرى أنها مملوءة بالأشعار. وعندما أتما استعدادهما للخروج لإبلاغ الشرطة، وقبل أن يفتحا الباب، استدارا إلى الجسد الغريب الحاضر في غيابه عن كلِّ شيءٍ. كان الوجه صامتًا ومنكمشًا كأن تقاطيعه ازدادت تصلبًا وقسوة، وكانت اليدان المتشنجتان تقولان لهما وللعالم كله إنه لم يَعُد يشعر بالعطش، لم يعد يكترث بشيءٍ …

أغلقت المرأتان الباب وراءهما، وبقي الضيف الغريب في الصالة الواسعة التي بدأ ضوء الشمس يكشف غشاوتها ويطارد أشباحها. بقي الشاعر وحيدًا في الصمت يشرع قوانينه بنفسه، ويبني أسواره الخاصة حول نفسه.١
١  تنطلق هذه اللوحة من قصيدة بنفس العنوان للشاعر راينر ماريا رلكه (١٨٧٥–١٩٢٦م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤