الغراب

كنت أتمشَّى — كما هي عادتي — قبل الغروب بقليل، في الحديقة المجاورة للبيت الذي أسكنه عندما رأيتهم وسمعت أصواتهم تدوم من فوقي وتدمدم في غموض، كخشخشة رياح عاصفةٍ تتخلل أوراق الشجر في يوم خريفي. رفعت رأسي فظننت في البداية أنها هي السحابة السوداء، وإن كان ينبعث من جوفها هدير أشبه بهدير أجنحة طائرات مروحية ثقيلة تحاول أن تهبط بالقرب منِّي. بعد قليلٍ تبيَّن لي أنها أسراب غربان كثيفة، لم تلبث أن حطَّت على الأرض وانتظمت بصورةٍ عجيبة في مستطيل، اكتشفت أنني أشغل ضلعه الرابع بينما تشغل الغربان السوداء أضلاعه الباقية. تقدم منِّي غراب كبير خرج من بين الصفوف، وأخذ يحجل حتى وقف أمامي، ولشدة دهشتي سمعته يقول:

– طبعًا لم تكن تتوقع مجيئنا … وربما لا تعرفنا أيضًا …

قلت، وأنا أتماسك حتى لا أبدو ضعيفًا أمامه:

– لا أحد يجهل غربان الشؤم، ألم يسبقكم النعيق والنعيب المخيف؟ أما أنني توقعت مجيئكم فهذا صحيحٌ.

قال، وهو يهزُّ رأسه ويستدير ليشهد الباقين على فصاحته، وربما على جدارته بأن يكون زعيم القبيلة ورئيس الجوقة:

– ما دمت قد توقعت مجيئنا، فهذا يسهِّل علينا مهمتنا … لكن كيف توقعت ونحن نجيء على غير انتظارٍ، ونذهب أيضًا على غير انتظارٍ؟

قلت، وأنا أحاول أن أبتسم لأبدو رابط الجأش أمام الضيوف السود:

– سبق لي أن رأيتكم في نومي أكثر من مرة، وبخاصة في الأيام الأخيرة …

سأل في لهفةٍ:

– ولماذا الأيام الأخيرة؟

قلت، كأني أُصارح صديقًا بما لم أبح به لأحدٍ قبله:

– لأنني فكرت في الأيام الأخيرة أن أكتب وصيتي. شعرت بآلام قاسيةٍ في منطقة الصدر وفي البطن، رحت لأكثر من طبيب وخضعت لأكثر من كشف وتحليل. أُجريت لي عمليتان بالمنظار، وقمت بأكثر من رسم للقلب وأشعة على البطن …

قاطعني قائلًا:

– إذن، فأنت على استعداد. لا داعي للقصص والحكايات وهيا معنا …

قلت ممتعضًا، ولكن بحزمٍ شديدٍ:

– ألا تقول لي أولًا من أنتم؟ من أنت ومن هؤلاء …

قال بهدوء، وكأنه يضحك أو يبتسم لا أدري:

– أما أنا فأقوم بمهمتي الأزلية، وأما هؤلاء فقد أرسلوهم معي ليمشوا في الجنازة الرسمية … هل رأيت الآن كم نهتم بك؟ …

قلت، كأنني غير مكترثٍ بشيءٍ، ولكنني مع ذلك لا أُخفي استيائي وقلقي:

– ولماذا التعجل؟ هل يمكن أن تقول لي لماذا؟

ضحك، وهو يرفرف بجناحيه ويحجل بقدميه وينعب بصوت عالٍ، كأنه يُشهد بقية الغربان على شيء غير مسبوقٍ:

– وتقول التعجل؟ ألم تتخط السبعين؟ ألم تنظر صباح اليوم في مرآتك؟

قلت، وأنا أضع يدي على صدري بعد أن أحسست بشكَّةٍ مفاجئةٍ:

– نعم نظرت ورأيت كما أفعل كل يومٍ. إذا كنت تقصد الشعر الأبيض كالثلج، والأسنان التي تساقطت، والتجاعيد والأخاديد التي حفرتها المرارة على وجهي، فمعك الحق إذا تصورت أن الأوان قد آن، لكنني لا أحب أن يباغتني أحد …

قال بصوتٍ متزن، كأنه يخرج من فم أحد الحكماء:

– نحن لا نباغت أحدًا، هذه أوامر ننفذها فحسب.

قلت، وأنا أتكلَّف الابتسام والصبر:

– إذن، فقل لهم إنني أطلب مهلة …

ضحك الغراب كمهرج سيرك، وأخذ يقفز ويعلو ويهبط في المسافة الفاصلة بيني وبين جوقة الغربان، الذين أخذوا كذلك يضحكون ويتقافزون كالمجانين:

– تصوروا … يطلب مهلة … لكن قبل أن نتوجه للمسئولين، هل تقول لنا لماذا؟

قلت باختصارٍ من ضاق بالحوار العقيم:

– لديَّ أمورٌ لم أنجزها.

قال الغراب، وكأنه ينتظر ذلك الجواب:

– سينجزها غيرك. لست وحيدًا فوق الأرض …

قلت في لهجةٍ غاضبةٍ:

– ولديَّ نصوص لم أكتبها بعد.

قال الغراب، وهو يترنَّح ويتأرجح كالسكران:

– قصص ومسرحيات ومقالات … أليس كذلك؟ … ألم تكتب ما فيه الكفاية؟ ألم تتعلم من تجاهل القرَّاء والنقاد وأهل المسرح؟ … ألم يكن في الوقت متسع لما كتبت طول عمرك ولأكثر منه … ألم …

قلت، كأني أحذره من الإنكار والمغالطة:

– تعلم خيرًا من غيرك كيف سرق العمر … تدريس للمئات … غدر من الزملاء والتلاميذ، خيبة أملٍ في الحياة والحظ والحب والناس. الأيام كانت تمر بي كالأسود التي تلتهمني فأنتزع منها قصة أو قصيدة أو مسرحية قبل أن تعود لالتهامي … والآن أكتب سيرة حياتي …

قال الغراب، كأنه يقرر حقيقة مؤكدة: يمكن أن يكتبها غيرك بعد رحيلك معنا للشط الآخر …

صحت، وقد نفد صبري: أنا لا يكتبني غيري. لحني لا يعزفه أحد سواي. أحزاني وأفراحي القليلة لم يطَّلع عليها إلَّاي. لماذا لا تريدون أن تعطوني مهلة؟ لماذا تمهلون الشجر والحجر والنجم والقمر والطغاة وأمراء الشر، ولا تمهلون قلمًا يريد أن يعبِّر عن نفسه ويقدم لقطات من خيبته فوق الأرض، من حكمته أو حمقه، من تجاربه مع الحب والزمن والحياة. الحياة التي قست عليه، ويتمنى أن يسرد لوحات منها حتى لا تقسو على غيره … لماذا لا تريدون أن تمهلوني قليلًا حتى أقول كلمتي …

قال الغراب، وهو يثبِّت عينيه الثاقبتين في عيني:

– ألم تقل وتكتب ما لم يكن له أي صدى ولا قدم ولا أخر أبدًا …

قلت، وأنا أكاد أبكي غيظًا وكمدًا:

– سيرتي شيء آخر … حتى ولو لم تترك أي صدى ولم تقدم ولم تؤخر، فهي حلم حياتي الذي عشت لتحقيقه … ما الذي يضايقكم في أن أحلم قليلًا قبل أن أصحو على الموت؟ لماذا تضنون عليَّ بتحقيق هذا الأمل الضئيل؟

انطلق الغراب إلى زملائه، وأخذ يمرُّ عليهم من اليمين إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق. كانوا يهزون رءوسهم ويتمايلون قليلًا، ويصدرون في بعض الأحيان نعيقًا قصيرًا كأنه صوت النفس الأخير من صدرٍ محتضر. وجاء الغراب أخيرًا وهو يحجل وينط ويقفز، كأنه يحمل لي القرار الأخير:

– بعد استشارة المسئولين والاتصال بهم بطرق لا تعرفها، نبلغك بأننا وافقنا على المهلة، لكن عليك أن تعمل وأن تعلم …

قلت، وأنا أهزُّ يدي ورأسي علامةً على الشكر والامتنان:

– أما العمل فأنا لا أتوقف عنه، لقد ولدت وتعبت وسأظل أتعب حتى أموت …

قال الغراب وهو يضحك بنعيب بشع:

– قل حتى نجيء إليك في المرة القادمة كما جئنا اليوم.

قلت في لهجةٍ راضيةٍ مستسلمة:

– تقصد على غير انتظارٍ.

قال، وهو يتجه إلى زملائه الذين أخذوا يضربون الهواء بأجنحتهم ويستعدون للانطلاق:

– بل أقصد في موعد غير معلومٍ، لكنه محدد ومؤكد.

وقبل أن أفتح عينيَّ، كانت سحابة الأسراب السوداء قد مرَّت فوق رأسي في موكب جنائزيٍّ مهيب. حاولت أن أنام، لكنها كانت قد أطارت النوم تمامًا من عيني، وتركتني أنظر من النافذة إلى الحديقة المجاورة التي كانت السحب المتلبدة تنقشع بالتدريج عن سمائها، التي حلَّق فيها غرابٌ وحيدٌ.١
١  في هذه اللوحة تنويعات على قصيدة «حوار الموت المعلن»، للشاعر عادل قرشولي السوري الأصل، والمقيم في لايبزيج الألمانية منذ أكثر من أربعة عقود. راجع كتابي: الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي، القاهرة، هيئة قصور الثقافة، سلسلة آفاق عالمية، سبتمبر ٢٠٠١م، العدد الثالث، ص٢٥١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤