انتظر فسوف تستريح

فوق كل القمم،
هدوء،
في أعالي الشجر،
لا تكاد تحس،
نفسًا واحدًا،
الطيور الصغيرة،
أخلدت للسكينة،
وكسا الغابة صمتٌ،
انتظر أنت أيضًا،
فقريبًا تستريح.

القصيدة لأمير الشعر الألماني «جوته». كتبها في ليلة السادس عشر من شهر سبتمبر سنة ١٧٧٠، على جدار كوخ خشبيٍّ، متواضع بالقرب من مدينة «الميناو»، كان قد تعود أن يلجأ إليه، كلما أحسَّ بالتعب أثناء جولاته بين الجبال وخلال الغابات. والقصيدة في رأي مؤرخي الأدب ونقَّاده معجزة من معجزات الشعر الحقيقي في كل اللغات والآداب. لازمني حبها وترديد أبياتها منذ أن قرأتها ودرستها في لغتها وإيقاعها الأصلي، منذ أواخر الخمسينيات إلى أوائل الستينيات وحتى اللحظة الحاضرة. وظلت القصيدة في عيني ووجداني أشبه بكوكبٍ دريٍّ متألقٍ وبعيد، يرسل إليَّ شعاع عزائه في الأزمات والملمات. ومع أنني كتبت عنها من قبل مرتين، فلا بأس في هذا السياق المختلف من الاكتفاء بسطور قليلةٍ تلقي بصيصًا من الضوء على جمالها وجلالها وتفرُّدها في الشعر العالمي، وفي شعر صاحبها نفسه.

تُعبِّر القصيدة عن حنين الشاعر إلى الراحة والهدوء في عالم تلفُّه السكينة والسلام. إنه لم يصل بعد إلى هذا الهدوء، ولكنه ينتظره في ثقةٍ واطمئنانٍ. وبناء القصيدة نفسه يُعبِّر عن هذا الهدوء، ويعكس التجانس التام بين التكوين اللغوي والإيقاع الحيوي في الطبيعة. ليس هناك انفصالٌ أو تنافر بين إحساس الشاعر الذاتي وبين حالة الطبيعة الموضوعية. فالأنا لا تطلُّ برأسها لحظة واحدة، ولا تفسد الانسجام الشامل والوحدة السعيدة. إنها تشعر بنفسها كما لو كانت قطرةً صغيرة في عباب البحر الكبير، وتندمج وتذوب في العالم المحيط بها، فلا تعود تقول له أنا وأنت. ما من صراع أو تضاد، بل استسلام وديع وانتظار هادئ واطمئنان إلى أن النفس التي لم تتخلص عذابها ستستريح يومًا من الأيام، أو حتى لحظة من لحظات الزمن الكوني على صدر الأم الرءوم. والقصيدة تهبط شيئًا فشيئًا في خط ناعمٍ ممتد من القمم العالية إلى أعالي الشجر في الغابة، حتى تصل إلى الأرض التي يقف عليها الشاعر. وهي تتدرج في سلَّم الحياة العضوية من الأشجار إلى الطيور إلى الإنسان، حتى تصبح هي نفسها عالمًا عضويًّا صغيرًا يعكس العالم العضوي الكبير. ما من تشبيه أو وصف أو رمز أو استعارة، بل ثلاث حقائق تقريرية بسيطة ومباشرة تنتهي بأمل في المستقبل. واللغة ذاتها تكشف عن إحساس الشاعر برهبة السكون في المساء، فيكفي أن نقرأ كلمة «هدوء» ونمدُّ الواو فيها لنشعر بالهدوء الشامل الذي يرفرف بجناحيه على الطبيعة بعد الغروب، والهمسة الرقيقة في كلمة «نفس» تكاد تصور لنا الطبيعة كأنها كائنٌ يزفر زفرة المستريح أو كأنها بين أوراق الشجر أنَّات الريح. وتصبح السكينة هي الكلمة الرئيسة في القصيدة، وتطوف الذات المستغرقة في الكل بالقمم والأشجار والطيور الناعسة لتعود إلى الهدوء الشامل في الطبيعة وفي القلب. كأن اللغة لم تعد في حقيقة الأمر تصوِّر السكون في المساء، بل أصبحت هي نفسها سكون المساء. والراحل المتجول في الليل والغابة لم يعد يواجه الطبيعة ليملأ عينيه منها، أو ليلاحظ الهدوء الذي يتمنَّى أن يلمس صدره المتعب ذات يوم، ولم تعد الطبيعة هي الآخر الذي يحيط به أو يعكس أشواقه ومشاعره، فقد ذاب بكليته فيها، واتحدت نبضات قلبه الصغير مع قلبها الكبير، وصار هو وقصيدته ولغته طبيعة في حضن الطبيعة الأزلية الأبدية، أو جنينًا في رحم الأم العظيمة الطيبة …

لازمتني هذه القصيدة منذ الستينيات — كما سبق القول — في كل الأزمات والمحن التي تعرضت لها. في كل مرة كنت أقول لنفسي، والحسرة والذهول والعدمية تضيق الخناق على عقلي وقلبي: انتظر فسوف تستريح. لم يكن ذلك عن تفاؤل أو تشجيع للذات المكسورة أو حتى عن رضا أو تسليم بالمقدور، بل كان استجابة لصوتٍ آتٍ من بئر باطني عميق، وكأنه حبل النجاة الممدود للسادر في نفق الهلاك: تذكر أنك تقف في نفس الطابور المؤدِّي حتمًا إلى الهاوية! حاول أن تواصل السير وأن تحافظ على شمعتك فتشعلها وترعاها كلما أطفأتها الريح!

لكن أي الأزمات والمحن أذكر وأيها أدع؟ هل أذكر محنة فراق الأهل والأحباب والأصدقاء (منذ رحيل أبويَّ وشقيقتي وثلاثة أشقاء إلى رحيل صديق العمر صلاح عبد الصبور، إلى صدمة غياب شكري محمد عياد، والعزيزين عبد الرحمن فهمي وفاروق خورشيد والحبيب الطيب الخجول كالعذراء، وهو طبيب القلب والموسيقي، والروائي محمد راضي الذي لم أكد أتعرَّف عليه وأشرع في اكتشاف عالمه الغريب المحيِّر، حتى فوجئت قبل أسابيع قليلة بنعيه المفاجئ في الصحف، وكأنه طائرٌ مجهولٌ حطَّ على أرضنا سنوات ثم هاجر قبل أن يسمع أحد تغريده أو يطَّلع على إبداعه). وهل أذكر محنتين مررت بهما في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات عندما أطعت نداء القلب الساذج، وخطبت من تصورت أن وجهها البريء المستدير شبيه بوجه النجمة الوديعة الحنون التي كنت أحبها (وهي أودري هيبورن) قبل أن أكتشف أنني كنت الجسر الغبي الذي داست عليه، واستحثت من فوقه حبيبها الحقيقي؛ ليتقدم إليها؟ ثم خطبت مرة أخرى تلك السكندرية الأنيقة، التي أركبتني عربتها لتستثير غيرة طليقها السابق، الذي تعلَّق به قلبها ولم تستطع هي ولا سابقتها أن تقتنعا بالخجول التائه في متاهات القراءة والكتابة؟ أم أتحدث عن محنتي القاسية أثناء عملي في الجامعة عندما وقعت في كمين، وطعنتني سكاكين الغدر وخناجر التزوير بأيدي بعض زملائي وتلاميذي، فقدَّمت استقالتي — بعد صدور الحكم بالبراءة — وذهبت إلى بلد خليجيٍّ للعمل في جامعته، وغادرت بلدي كما غادر أوديب ثيبة (طيبة)، يد تمسك بيد ابنتي ذات الأعوام الأربعة، واليد الأخرى تسند على الصدر، الابن الذي لم يكن قد أكمل سنتين من عمره. …

وها هي عشر سنوات — منذ أن قدَّمت استقالتي من ذلك العمل الأخير؛ أملًا في التفرغ للكتابة الحرة — قد انقضت تحت سقف الحلم الذي توهمت أن الخروج من المحنة والسعادة الحقيقية لن يتمَّا إلا على يديه. وهنا أصل إلى المحنة التي عانيتها معظم حياتي، محنة التمزق بين حياة أكاديمية تستهلك الوقت والجهد في جامعات لا بد من الاعتراف بتخلفها، واختلال العلاقات الإنسانية والعلمية فيها، وبين التفرُّغ لإبداع حرٍّ وبعيد عن أي تكليف خارجي. هل تحقق شيء من هذا الحلم القديم على مدى السنوات العشر الماضية؟ هل أُتيح للاعب البائس على الحبلين أن يحافظ على التوازن الصعب المنشود؟ لا بد من القول بأنني انتظرت ولم أجد الراحة. صحيح أنني استمتعت بشكلٍ محدودٍ بالرجوع إلى الكتابة القصصية، وربما استمتعت أيضًا ببعض الدراسات والترجمات المنظومة لأشعار غربية. لكن التكليفات التي انهالت عليَّ وشغلتني بترجمات ومراجعات وفحوص مبددة للطاقة والجهد، والمشاركة في ندوات واجتماعات واحتفالات لا آخر لبحور الثرثرة التي تغرقها، ثم زحف الأمراض مع زحف الشيخوخة، لاسيما آلام الظهر وضعف البصر، ومفاجآت بركان القولون العصبي مع مشكلات الأسرة والأولاد في مجتمع وزمن مبتلى بالانحطاط والفساد وكل أنواع التلوث. كل هذا يجعلني الآن بعيدًا عن أن أقول لنفسي، كما اعتدت أن أقول مع كل المحن السابقة، انتظر فسوف تستريح … وهو يدفعني دفعًا لأن أصرخ بنداء يخرج من أعماق الضمير: لا! لا! لا تنتظر ولا تضع البقية الباقية من أيامك في الانتظار! أمسك القلم وحاول ألا تضيع لحظةً متاحة من اللحظات القادمة التي تقرِّبك مع كل خطوة من القبر. ربما صحَّ ما يُقال من أن الراحة الحقيقية الكاملة لن تكون إلا في القبر، ولكن من الصحيح أيضًا بالنسبة لك ولأمثالك أن الراحة قرينة الإبداع الممتع الأليم. ليس الشكل الذي يتخذه هذا الإبداع العذب المر هو المهم، الأهم أن يكون العمل حيًّا وصادقًا وحاضرًا وناضجًا كالثمرة التي تنتظر من يقطفها. وكما قلت لنفسك كما قال الشاعر الكبير: انتظر فسوف تستريح، فلم تذق طعم الراحة، جرِّب أن تقول الآن: لا تنتظر! … فربما تستريح!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤