الملاك الجريح

كنت جالسًا على الأريكة تحت المظلة، انتظر التِّرام الذي يُقلني إلى بيتي. كنا بعد منتصف الليل، في ليلة خريفيةٍ نسماتها باردةٌ ومنعشة. وكنت قد تأخرت عند الأصدقاء بعد أن طال بنا الحديثُ والجدل الذي لا ينتهي حول أزمة الثقافة والأدب والشعر والفن في مجتمعٍ مأزوم من كل ناحيةٍ. وعندما تنبَّهت إلى الساعة، استأذنت وجريت إلى محطة التِّرام لعلِّي أُدركه قبل أن يتوقف. يبدو أن جلستي طالت أكثر مما كنت أتوقع، وأنني أغفيت قليلًا فحدث ما حدث. فقد وقعت عيني في منتصف الشارع تمامًا على شيء ارتطم بالأسفلت بلا صوتٍ، وتمدَّد على الأرض كطائر كبيرٍ أبيض. لم أدر هل هبط من السماء في غفلة من العالم، أو خرج من باطن الأرض. وما جعلني أتحرك وأنتفض من مكاني كأن زلزالًا رجَّني فجأة هو سماع صوت أنين خافت ينتهي إليَّ من وسط الشارع، واستمرار حركة المركبات والناس حول الجسد كأن أحدًا لا يراه. أيقنت أنني أنا وحدي الذي رأيته، وعبرت شريط الترام وانحنيت عليه. كان وجهه الناعم الوسيم كوجه رضيعٍ يبتسم ويبكي في وقت واحد، وكان شعره الأشقر الطويل يتهدَّل على كتفيه اللتين كان من الواضح أنهما جريحتان، ويتدلى منهما جناحان كبيران ملوثان بالدم والتراب، وممدان على الأرض كجناحي نسر عملاقٍ يحتضر من شدة الألم.

قلت له: من أنت؟ يبدو أنك غريبٌ عن هذه المدينة. ألا تخشى أن تدوسك عربة أو تنتبه إليك الشرطة أو يتزاحم حولك الناس؟

تأوه، وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه، وقال: لا تنزعج واسمعني، فأنا ملاكٌ جريح لا يراني أحد. لا النور يراني ولا الريح، ولا زجاج النوافذ. نعم، ولا زجاج النوافذ. أسير كالميت في الشوارع بلا صوت ولا ظل. قلت أطل على مدينتكم التي تصاعدت منها الضوضاء والروائح الكريهة، وصرخات الجياع والمحرومين والضائعين. اخترقت الأبواب والجدران دون أن يحسَّ بي أحد، حتى المرايا نفذت فيها ولم يرتسم وجهي على إحداها، ولم يرني صاح ولا نائم، لا رجل ولا امرأة، ولا طفل ولا شيخ. تجوَّلت في مدينتكم العتيقة العريقة. دخلت أحياء كان من المفروض أن تندثر من زمن طويل، كما اندثرت مدن قديمة وانقرضت حيوانات لم تصلح للحياة. طفت بالمدارس والمستشفيات والأحياء العشوائية، ومسحت يدي على حياة المتعبين والنائمين على الأرصفة والمشردين العاطلين في الشوارع وعلى شاطئ النهر. رحت أقول لنفسي: يا إلهي! كل هذا العدد من المظلومين … وكل هذا العدد من الظالمين! يا إلهي! كل هذا القبح … هذه الضوضاء … هذا الفقر! أنا ملاك الفقراء لا أملك أن أُطعم جائعًا أو أكسو عاريًا أو أُخفف بؤس أسرةٍ مستورة وراء الجدران. ومع أنِّي ملاك كما ترى، فقد أغمى عليَّ بعد كل ما رأيت وسمعت ولمست بنفسي، ووقعت على الأرض مغشيًّا علي، فانكسر جناحي. لا مفر من أن أرجع مرة أخرى على رأس جيش من ملائكة الفقراء، ربما نستطيع أن نشفي جرحًا أو نجفف دمعة أو نعيد البسمة إلى فمٍ يتيم أو شيخ مطحون.

أما أنت يا صديقي الذي رآني وسمعني دون بقية الناس والكائنات فلا تحزن عليَّ. بعد قليل سيحضر من يأخذني بين ذراعيه أو على جناحيه إلى الملأ الأعلى. بعد قليل تبلغ شكوى المظلومين والمنسيين الضائعين في مدينتكم العجوز البائسة إلى آذان الملائكة والقديسين والخالدين، وربما تحوم أصداؤها حول العرش العظيم.

انتبهت على يدٍ تهزُّني من كتفي. فتحت عيني فوجدت رجلًا في مثل سنِّي يضحك بصوت عالٍ: كلانا فاته الترام، ألا تنتظر مثلي الخط رقم ثلاثة عشر؟ فات آخر ترام يا صاحبي. يبدو عليك أنك تسكن في نفس الحيِّ الذي أسكنه، هيا بنا نتسلَّى بالمشي معًا إلى الحيِّ الذي تطوي أرضه الكنوز وتحتفظ بأعجب آثار أبي الهول والأهرام ومراكب الشمس … هيا بنا يا صاحبي … هيا بنا.١
١  وفي هذه اللوحة استلهام لبعض قصائد الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي عن الملائكة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤