كبرية

كانت إحدى أقارب أبي، لا أدري من ناحية أمه أو من ناحية أبيه. تزورُنا في بيتنا بين الحين والحين، وتحطُّ علينا بقامتها النحيلة الفارعة، كنسرٍ هائل يُخيِّم بظلاله الكبيرة السوداء، وتراه فجأة وسط البيت أو بالقرب من الفرن حيث تجلس أمي أمام الخبيز. كيف دخلت ومن أيِّ باب؟ هل رأت الباب الخشبي المفتوح على الحارة الصغيرة مُواربًا فتسلَّلت منه كالقضاء والقدر، أم جاءت من الشارع ورفعت «السقاطة» بنفسها وضغطت على الباب الرئيسي الثَّقيل فانفتح لها؟ المهم أنها كانت تتوسَّط الدار فجأة، وملسها الأسود يزحف وراءها، ونسمع صوتها الخشن وهي تنادي: يا أهل الله … يا أولاد … وترد أمي التي تكون قد لمحتها وهي تقترب من قاعة الفرن، بينما تتمتم شفتاها — أي شفتا أمي — مستعيذة بالله من كل شيطان رجيم: تعالي يا عمة كبرية … خطي وقولي باسم الله الرحمن الرحيم … وتخطو كبرية العجوز متحسسة طريقها بعينيها الكليلتين، وفي الضوء الخافت الذي ينزل على القاعة من بئر السلم: يجعلو عمار يا ابن عمي … يسترك ويستر أولادك يا قادر يا كريم … عوافي يا أولاد …

كانت تظهر كل موسم، كأنَّما تُذكِّر أبي «بالعادة» التي لم يقطعها أبدًا. فلا يكاد يُقبل موسم الحصاد حتى يرسل لها ولغيرها المعلوم، يكلف أولاد الحلال بأن يحملوا زكائب القمح والأرز، في الستر من سكات وبعد مغيب الشمس، إلى عدد من المُحتاجين الذين يعرفهم هو ولا تأتي سيرتهم أبدًأ على لسانه، وإلى بعض الأقارب الذين يشعر بهم وبأحوالهم أكثر من غيره، ويَرفُض أن يُفصِح عن أسمائهم لأحد منا، ولا لأمي نفسها؛ إيمانًا منه بأن المؤمن الحقيقي هو الذي يُنفِق لوجه الله دون أن تَدري شماله بما أعطَت يمينُه …

تجلس عمَّتي كبرية مع أمي في قاعة الفرن. أُحسُّ بقدومها وأسمع صوتها فأتحاشى لقاء العنزة العجوز — كما كنتُ أُسمِّيها، فتضحك أمي حتى تكاد تقع من طولها — وأختفي في إحدى الغرف، أو أواصل لعبي بالعربات الصفيحية الصغيرة وكرات البلي والخرز والحصى والزلط في الممر الواصل بين بابَي البيت المطلين على الشارع والحارة. لكن كبرية لا تتركني في حالي، تتذكَّرني فجأة وهي تهتف: آخر العنقود فين؟ نادولي على الولد «الثلث» لأعطيه الحاجة الحلوة … وتُنادي أمي عليَّ، فأتلكَّأ وأرفع صوتي بالصياح أو الغناء أو الشجار مع لعبي المختلفة، لأجد ذريعةً للبُعد عن العنزة السوداء العجوز. لكنَّها تُصمِّم على معاودة النداء بصوتها الجهوري العالي علو قامتها الفارعة: تعالى يا ثلث! أنت أوحشت عمتك يا حبيبي. تعال أبوسك من خدودك وشعرك وعينيك، … تعال يا ضيَّ عيني … ربنا يحميك لأبيك الطيب الأمير.

لكني أواصل التلكُّؤ مع الارتجاف من الرعب … وأُفاجأ بخالتي بسيمة — وهي جارتنا الوحيدة التي تأتي لزيارتنا ومساعدة أمي كل يوم خبيز — أفاجأ بها تقف أمامي، وتُحاصرني من كل ناحية، وهي تقول: عمتك تسأل عنك …

– تعال يا حبيبي وأنا معك، تعال تعال …

وتهجم عليَّ خالتي بسيمة، وتقطع عليَّ أي طريق للهرب. أترجاها أن تتركني في حالي، وأهمس في أذنها بأنني خائفٌ، فلا تسأل فيَّ. وتمدُّ ذراعيها على اتساعهما فتُمسك بي وتشدُّني وراءها إلى حيث تَجلس كبرية، وتُمدِّد ساقيها اللتين لم أرَ في حياتي أطول منهما.

تضحك أمي، وهي تهتف: ولد أهبل صحيح … عمتك تسأل عنك … تعال تقرأ الفاتحة وتسمِّي عليك … تعال يا حبيبي، اسمع الكلام … اسمع الكلام واقترب من كبرية، التي تلمُّ ملاءتها كنسرٍ هائل ضخم يضم جناحيه السوداوين، وتفرد ذراعها وهي تتلفَّت حولها ولا تستطيع أن تحدد مكاني، بينهما أنا واقفٌ في مكاني، ترتعش ساقاي ويدقُّ قلبي بعنفٍ، وأستنجد بأمي وخالتي بسيمة دون فائدة. وفجأة — لا أدري كيف — تَحتويني ذراعان طويلتان نحيلتان، كأنهما ذراعا أخطبوط مخيفٍ، وأسمع دمدمة لا أتبيَّن كلماتها ولا أفهمها: تعالَ يا ابن الحبيب … يا غالي يا ابن الغالي … تعال ربنا يطول في عمرك ويرحم إخوتك … راحوا يا حبة عيني وتركوك لوحدك. تعالَ يا حبيبي لحضن عمتك وعمة أبيك …

أُحاول أن أتخلَّص من الذراعين الحديديتَين، فلا أستطيع … أراها تمسح على رأسي بكفها وهي تُتمتِم بالفاتحة، فأمسك يدها وأبعدها بعنفٍ … تمد فمها الأهتم وتُحاول تقبيلي، فأستغيث بأمي، وأنا أصرخ: لا … لا … الحقيني يا أمه … الحقيني.

وتقوم أمي من أمام فوهة الفرن المتوهِّجة، فتمسكني من ثيابي وهي تُربِّت على كتف العمة العجوز، وتُخلصني من ذراعيها الضاغطتين على صدري وبطني وظهري، كخشبتين خشنتين. وفي هذه الأثناء يرتفع بكائي عاليًا، كأن ثعبانًا أو عقربًا لدغني … وأجري مفزوعًا مرعوبًا إلى الممر الذي تركت فيه عرباتي وكراتي التي كنت ألعب بها … لكنني أسمع بعد قليل أصوات نشيج مُتقطِّع ينفذ كشظايا الزجاج في صدري، وأترك لعبي وأتلصَّص على المشهد من بعيدٍ وبحذرٍ شديد، كانت العمة كبرية تمسح دموعها بمنديل محلاوي كبير ورأسها وجسمها كله يرتجف. وبينما تُحاول أمي أن تهدئها، قائلة: صلِّي على حضرة النبي، لا تعملي عقلك بعقل عيِّل صغير وعبيط … قومي يا شيخة اغسلي وجهك وصلي ركعتين … منك لله يا عبده … الست كلها بركة وقصدها ترقيك وتقرا الصمدية على رأسك … اسكتي يا عمتي وبلاش النهنهة والبكا … قطعت قلبي … استغفري لله، وأنا سأقول لأبيه يضربه علقة …

يستمر نشيج العنزة السوداء، التي انزوت في الركن البعيد، وراحت تبكي بكاءً مريرًا، وأحسُّ بأنها تنتفض وتهمس وتدمدم في الوقت نفسه بكلمات لم أتبينها بوضوح …١
١  الفكرة عن قصيدة نثرية لشارل بودلير، وردت في ديوانه «سأم باريس» تحت عنوان «يأس العجوز»، ص١٥ من الترجمة العربية للشاعر محمد أحمد حمد، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، العدد ٣٦٥، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤