القلم

أنكمش على نفسي كعنكبوت بائسٍ داخل نسيجه الوحيد. أمن البرد القارص في أول الشتاء الذي جاء مبكرًا بأمطاره وسُحُبه (لم يكن عليَّ بالطو مثل بعض زملائي، ولم يلف أحد حول رقبتي كوفية ولا تلفيعة)، أم كان انكماشي وتداخلي في بعضي بسبب الرهبة الفظيعة؛ رهبة أول يومٍ أدخل فيه المدرسة الابتدائية الواقعة في الطرف الشمالي من البلد.

بعد طابور الصباح الذي صفُّونا فيه داخل الحوش الرحب، الذي تحيط به مباني المدرسة وفصولها، وبعد التفتيش على نظافة الأيدي والأظافر وياقات القمصان والملابس والحقائب الصغيرة التي ستَمتلئ بعد قليلٍ بالكتب الدراسية، التي يتمُّ توزيعها في أول يوم ومع أول حصةٍ، قاد المعلم طابور التلاميذ الجدُد إلى فصولهم ووزَّعهم على التخت والمقاعد، فكان مكاني — لصغر حجمي وضآلتي — في أول صفٍّ من الفصل. أخذ يعيد علينا التعليمات التي ألقاها علينا الناظر أثناء وقوفنا في الطابور، ثم يَزيد عليها تعليماتٍ أخرى عن النظام والاحترام والقيادة للأساتذة، وعدم الجلوس قبل أن يسمحوا لنا بذلك.

تلفتُّ حولي وقلَّبت بصري في وجوه بقية التلاميذ الذين راحوا يتبادَلُون الهمس والتغامز، ويضعون أيديهم على الأفواه ليكتمُوا ضحكاتهم. كانوا مشغولين بإخراج كراريسهم وأقلامهم، ووضعها مع الريش والمَحابر الصغيرة أمامهم. لم أر على وجوههم علامات الخوف والرهبة التي كانت تَنفضني أكثر مما يفعل البرد. لكنني تذكرت تحذيرات أمي من الشياطين الصغار، وبكاءها قبل خروجي من باب البيت؛ لأني قليل الحيلة وضعيف ومسكين: ابتعد عن العيال الأشرار. خلِّك في حالك. هذا ما قالته وما فعلته منذ ذلك اليوم الأول طوال حياتي.

مع دخول معلم اللغة العربية من باب الفصل، قُمنا وقوفًا. ومع التحقق من منظره الضخم كالجمل الهائل، ومشيته البطيئة وهو يخب في عباءته الصفراء، وتلمع فوق وجهه المتورم عمامة بيضاء، وتتأرجح يده بعصا طويلة. جللنا الصمت والخوف والترقب، ولم نجلس على مقاعدنا حتى أمرنا بالجلوس. كان جاري على التختة قد همَس في أذني لدى دخوله بأنه هو الشيخ عبد القادر، وأنه علَّم كل الأجيال في بلدنا، ويعرف آباء جميع التلاميذ بأسمائهم وأعمالهم.

حيَّانا الرجل تحية العام الجديد، فتوقفت أعضاؤنا قليلًا عن الارتعاش والارتجاف. وبعد أن عرَّفنا بنفسه ومواعيد دروسه وألوان عقابه لمن لا يَحرصُون على النظام والأدب، أو يُفرِّطون في أداء الواجب الذي سيفرضه علينا في الدين واللغة العربية، اتجه نحو السبورة، وأعطانا ظهره العريض، وبدأ يَكتب بالطباشير وسط الجزء الأعلى منها: إنشاء. راح يتنقل بنا بين الموضوعات المُختلفة التي يُمكننا أن نكتب فيها موضوعات الإنشاء: اسرحوا بخيالكم في الأرض والسماء، انظروا جيدًا إلى كل ما يُحيط بكم من نبات وحيوان وإنسان. استفيدوا من تجاربكم اليومية في الحياة العادية، وحاولوا أن تعرفوا أحوال الناس: الفلاح في حقله، والتاجر في دكَّانه، والأم في بيتها، والعامل في مصنعه، والطالب في مدرسته. المهم أن تَفتحوا عيونكم وتُركِّزوا عقولكم وتطلقوا خيالكم يسبح بكم ويسرح.

كنتُ قد استجبت للشيخ الهائل الجرم، ورحت أسبح وأسرح معه وأحدق بعيني وأعقد حاجبي لأتابعه كلمة كلمة. لكن يبدو أن منظري لم يش بتركيز ولا انتباه، وأن عيني كانت رغمًا عنِّي، تحلق في السقف أو تتطلع من النافذة العريضة المُجاورة لمكتبه، إلى السماء التي تُغطِّيها الغيوم والأفق المترامي وراء حدود المدرسة. وفوجئت به يقف أمامي مباشرة، وهو يصيح بصوتٍ كالرعد:

– أنت يا ولد … ما اسمك واسم أبيك؟

قمتُ واقفًا، وأخبرته وأنا أرتعش باسمي واسم أبي.

عاد صوته يُدوِّي:

– سرحان وتائه من أول يوم؟ ومن أول يوم وعينيك كلها نوم؟!

وشعرت بيدٍ تلطمني على صدغي لطمةً لسعتني كالسوط، وزلزلت دماغي وكبست الطربوش على عيني فغطى جبهتي. رفعت يدي إلى وجهي غير مصدِّق. وبينما يرتعش كياني، ويوشك أن ينفجر في البكاء، أحسست بيد غير رحيمةٍ تشدني من وراء التختة، وبالصوت الراعد يدمدم والذراع الممدودة تشير إلى الباب: قم يا ولد كفاية نوم. رح عند الحنفية في الحوش واغسل وجهك وعينيك. يا الله يا ولد … يا الله! …

خرجت من الباب، وظهري ينتفض على مرأى من الجميع من شدة البكاء. كان صوت الشيخ يلاحقني، وهو يشخط في بقية الأولاد: التركيز والانتباه يا أولاد، ضروري نصحى من النوم ونفتح عيوننا، في درس العربي وفي كل الدروس. اصحوا وانتبهوا، يا ويل التائه والسرحان في الدنيا وفي الآخرة.

ما زلت أتذكر ذلك القلم الجبار وتلك الصفعة المباغتة. وكلما خطرا على بالي، تحسست وجهي وهززت رأسي لكي أفيق وأمعن التركيز الذي علَّمتني الأيام أنه أبو الفضائل جميعًا. لكن هل استطعت منذ ذلك اليوم الأول حتى بلوغي سن المعاش ودخولي في الشيخوخة، أن أفيق تمامًا من السرحان والتوهان والسقوط في الغيبوبة مع كل عمل أُقدم عليه، أو كل كتابة أشرع فيها؟

لا أظن ذلك، ربما عزَّيت نفسي أحيانًا بأن معظم أعمالي هي أبناء وبنات الصمت والسرحان والتوَهان، وأن غيبوبة الكاتب في ملكوته لا يخرجه منها أن يغسل وجهه وعينيه بمياه كل البحار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤