النبع القديم

أطفئ النور، إذا شئتَ، ونم. نم في أمان، فأنت هنا بالقُرب من النبع. النبع الذي يُسمِّيه الناس حينًا بالعَين الضاحكة، وحينًا آخر بالعَين الباكية. وإن كنت أنا أفضل أن أُسمِّيه النبع وحسب؛ لأنه يفور من قلب الأرض الغنيِّ بالأسرار. وسواء رأيت أن مياهه الصافية دموع منهمرة، أو ضحكات متلألئة؛ فهو يجيش بها على الدوام، وخريره مسموعٌ ومتصلٌ لمن يُكلف نفسه بالاقتراب منه أو الإصغاء إليه. هل يُزعجك هذا الخرير الذي يترنَّم أبدًا بأغنيتِه، كأنه طفلٌ يحلم بالشرب من الثدي المُفعَم بالسكينة والنقاء؟ إن كل الضيوف الذين يشرفون بيتنا الوحيد المُتواضِع، ويبيتون تحت سقفه، سرعان ما يتعوَّدون على أنين هذا الخرير وأصدائه المُوغِلة في الأعماق.

هل قلت إنك لا تُريد أن تَنام الآن؟ ربما تُفكر في تأليف قصيدةٍ أو كتابة قصةٍ أو تدوين لحنٍ أو رسم صورة. هذا شيءٌ متروك لك، نحن هنا لا نتطفَّل على أحد. وربما تكون شاعرًا أو كاتبًا أو مُصوِّرًا أو مُلحِّنًا، أو مجرَّد إنسان يَلتمِس عندنا الهدوء وراحة البال. إنسان استغنى عن العالم، أو استغنى العالم عنه، وترك وراء ظهره ضجيج المدن وفساد القرى وأسواق اللغط والصراع والزحام. إنسان جاء إلى هنا ليكونَ بالقُرب من الأصل والمنبع، بجوار مسكن الحقيقة ومأوى البراءة ومثوى الصفاء والنقاء. هل ذهبت اليوم إلى النبع فشربت واغتسلت؟ وهل تجوَّلت في الصحراء الشاسعة الممتدة حتى اللانهاية، والمطهرة من كل رجسٍ وإثمٍ؟ لا بد أنك تعبت من السير ومن التأمُّل والتفكير. العشاء الخفيف — عشاء الزاهِدين المُعتكِفين — جاهز وفي انتظارك. فإذا أكلت ورجعت لتنام، فلا تنزعج إن لاحظت شيئًا من القلق أو الاضطراب حول البيت والنبع المخلدين على الدوام إلى السكون والكتمان. وحتى إذا صحوت فجأةً من حلمك ومنامك، فاعلم أن الحصى المتناثر حول النبع، قد داسته خُطى أقدامٍ غريبة فأخذ يخشخش ويُطقطق ويقطع عليك سماع خرير الماء وأنينه وترنيمته الأزلية. عندئذ لا تفزع ولا تنزعج! فالنجوم ساطعةٌ ومكتملة العدد فوق النبع وفوق السقف الذي تنام تحته. إن هو إلا متجولٌ وحيدٌ، أو مسافر مُتعب اتجه إلى حوض النبع القديم ليطفئ ظمأه، ويغسل تراب العيش والعالم عن وجهِه ويدَيه. ولعلك لو نظرت من النافِذة لرأيته يغترف الماء براحة يده، ولو دقَّقت النظر فقد تَلمح رعشة فمه، الذي يُتمتم ويُدندن ويبارك أرواح الماء الراقصة تحت قبة السماء. اطمئنَّ إذا سمعت هذا أو رأيته، فسوف يرجع الغريب من حيث جاء، وسيستأنف النبع خريره، وتصل أغنيتُه إلى أذنيك. وافرح إذا قالا لك على لسان المسافر الغريب: لست هنا وحدك مهما تمسَّكت بالوحدة. كم من متجولٍ وجوَّاب جاء إلى هنا وشرب وغمر عينيه ووجهه بالماء، ثم مضى وبريق النجوم الفضِّي يلمع فوق رأسه. وكم من مُتجولٍ غريب، لا يزال كذلك في الطريق إليك وإلى النبع القديم.

اطمئنَّ يا ضيفنا العزيز ولا تجزع. أنت الآن بالقُرب من النبع. فابق بقرب النبع! ابق بقرب النبع!١
١  مُستوحاة بتصرف عن الشاعر والكاتب هانز كاروسا (١٨٧٨–١٩٥٦م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤