الخروج من الكهف

رأيتُني ذات صباحٍ باكرٍ أتجوَّل في حديقة متراميةِ الأطراف، يغمرها الضباب الكثيف وتُظلِّل سماءها السحب الثقيلة السوداء. كنا في أحد أيام الخريف التي يلتمس فيها الشيوخ من أمثالي نسمةً معطرةً تشرح صدورهم المهمومة وتنفِّس الكرب عن قلوبهم المحزونة المطعونة، وتُتيح لهم شيئًا من المسرَّة وراحة البال خلال التنزُّه وسط الأشجار والزهور وجداول المياه الرقيقة الهامسة. كانت الحديقة شبه خالية من البشر، والضباب المُنتشِر يخلع على الأشجار الواجمة الصامتة مسوح الكهنة العجائز والحكماء المستغرقين في الصمت والتأمل. وبينما أنا أُفكِّر في حالي وأتصبَّر عن تدهور عافيتي وتيبُّس عظامي وغروب شمس أحلامي وآمالي، طافت بذِهني صورة الكهف الذي طالَما صورته وكتبت عنه، وعشت مع سجنائه المقيدين منذ طفولتهم بالسلاسل والأغلال من أعناقهم وسيقانهم، القابعين أمام حائط يعكس أشباح ظلالٍ وأصداء أصوات آتية من عالم لم يرَوه ولم يَعرِفوه، في مسكن سفلي أو كهف كئيب لم يألفوا غيره، وهيأ لهم الظن والوهم والتعود أن عالَمهم الشاحب البعيد عن نور الوجود والحقيقة هو العالم الذي لا يُوجد عالم سواه. ومع التفكير في صورة هذا الكهف الساحر العجيب، فكَّرت في صاحبها الذي جعلني أومن معه بأن السجناء المساكين هم أبناء البشر، وأن كهفهم البائس هو رمز حياتهم اليومية التي يُكدرها العذاب والشقاء. وفجأة، انشقَّ ستار الضباب عن شبحٍ هائلٍ يتقدم نحوي، وكلما اقتربت تبينت في وجهه وقامته الشامخة وجبهته العالية ونظراته الصارمة وذراعه المرفوع إلى أعلى، وهي تُشير بسبابة يدها إلى عالمٍ علويٍّ هو في رأيها العالم الحق. تبيَّنت صورة الفيلسوف الضخم كما رسمها فنان إيطالي مشهور. اقترب منِّي وهو يسدِّد سبابته نحوي، ويهتف باسمي بصوت المعلم الغاضب لتلميذه الخائب: أنت؟

قلت: نعم يا سيدي، وقد جئت أتمشَّى في نزهتي اليومية قبل أن أتوجه لزيارة أهلي وبعض أصحابي …

قال بصوت المُتهدِّج: أنا أهلك وصاحبك القديم … امتلأت حياتك وفاض عقلك وقلبك بحبي أكثر ممَّا امتلأ بحب أي إنسانٍ آخر. أنا …

قاطعته بالخشوع الواجب: أفلاطون؟ شيخي وشيخ كل المُفكِّرين؟ قال، وهو يسير بجواري ويُربِّت على كتفي لتهدئتي: نعم نعم، وقد تابعتك وقرأت بعين الروح كتابك الصغير عنِّي، واغتبطت باهتمامك بقراءتي.

قلت في خجلٍ وبصوتٍ مرتجف بالرهبة: ليتني استطعت أن أقدِّم أكثر مما قدمت. لا بد أنك تعلم أيضًا مدى اضطراب حياتنا، وانصراف جهودنا إليك وإلى عشرات غيرك من الفلاسفة والشعراء … إني أعتذر عن تقصيري …

قال ضاحكًا: لكنكَ بدأت مبكرًا. كأني أراك الآن وأنت تَفتح أول محاوراتي …

قلت مُسرعًا: أجل أجل. لا أدري إن كنت تفهم مُصطلحاتنا وغرائب لغتنا، ولكنني بدأت أقرؤك وأنا في الثانوية العامة. مدرس الفلسفة الحبيب — ولا أذكر للأسف اسمه، ولا أعرف إن كان حيًّا أو ميتًا — أعارني ترجمة بعض مُحاوَرات شبابك، كريتون وأويطفرون وفيدون. أحببتها وعشتُ بحسِّ المُتيَّم بالمسرح في أجوائها، وقضيت وقتًا لا يُنسى مع ساعات سقراط الأخيرة، التي قضاها في إثبات خلود الروح بدلًا من البكاء على نفسه أو الجزع من مصيره الأليم …

قال، وهو يثبت نظراته الثاقبة على وجهي: واتصل اهتمامك بي بعد أن تعلمت لغات غير لغتك، بل أتقنتَ إحدى هذه اللغات أثناء قراءاتك لمحاوراتي …

قلت بصوتٍ محزونٍ، وكأني أحد سجناء الكهف الذي صوَّره في الكتاب السابع من الجمهورية: لكن صورة الكهف ثبتَت في مخيلتي وملكت عليَّ عقلي وقلبي، وعندما كبرت في السن وعملت سنواتٍ طويلة بالتدريس، كان أحبَّ شيء إليَّ أن أشرح هذه الصورة وأبيِّن للشباب كيف يفهمون رموزها ومعانيها …

قاطعني قائلًا: تقصد مغزى الصورة والرمز ودلالتهما على التربية ونقص التربية؟

قلت متحمسًا: أقصد أكثر من ذلك. تحوُّل النفس بكليتها نحو المعرفة، وخروجها من ظلام الجهل والظن والوهم إلى نور الوجود والحقيقة واليقين. كان الخروج من الكهف؛ أي من حياة الذل والشقاء والسأم اليومي والعمل المُمل العقيم، هو كل همِّي. وأنت نفسك أوضحت أن أحد المسجونين الذي تحرَّر من قيوده وأغلاله ورأى نور الشمس وعاين الحقائق والمثل التي تَستضيء وتتدفَّأ بنورها. هذا المتحرِّر الذي سمَّيته بالمنقذ، لم يرض بأن يستأثر بالنور والمعرفة والحقيقة لنفسه، فقد هبط إلى إخوته ورفاقه السابقين وحاول أن يُقنعهم بأنهم يحيَون في الظلام والجهل والتخلُّف والبؤس، ولا بدَّ أن يُحرِّروا أنفسهم بأنفسهم ويصمموا، كل على طريقته وبقدر جهده على الخروج من الكهف؛ أي حثهم بالقول والعمل على أن يُنقذوا أنفسهم بأنفسهم، وأن تكون حياتهم سعيًا دائبًا على طريق التحرُّر …

قال الشيخ، الذي بدأت ملامحَه تتَّضح مع انقشاع أستار الضباب والدخان: وهل بيَّنت لهم خطر المحاولة وجسامة المجازفة؟ إن معلمي وأعز الناس وأطهرهم عندي قد راح كما تعلم ضحية المحاولة. حاول أن ينقذ سكان الكهف فانقضُّوا عليه، واتهموه وحاكموه وأعدموه.

قلت مؤكِّدًا كلامه: لم يغب هذا عنِّي، وسيبقى سقراط هو الرمز المجسِّد للمُنقذ الشجاع المستنير، المنقذ الباسل والمقبل على الموت وهو يَبتسم. لكن الأمر اليوم لم يعد سهلًا كما كان على أيامكم …

سأل أفلاطون وهو يَنظُر في وجهي: ولماذا يكون اليوم أصعب مما مضى؟ أليس الإنقاذ ضروريًّا في كل يوم وكل لحظةٍ وكل زمان ومكان؟ أليس القلم الذي تحمله أنت وأمثالك المُتمرِّدون والحالِمون بواقع أفضل وأجمل وأعدل من أهم أدوات الإنقاذ؟ أمَّنت على كلامه، وقلتُ بنغمةٍ حزينةٍ لم تغب عنه: لكن الخروج من الكهف والدعوة له أصبحت أصعب، والكاتب من أمثالي يُنادي ويصرخ ولا يملك غير كلماته العاجزة. وفي الوقت الذي يُصور فيه عذاب السجناء في الكهف، تدور عجلة الأحداث التي لا يستطيع أن يوقفها …

قال الشيخ، قبل أن يتلاشى شبحه ويَذوب تحت أشعة الشمس: ومع ذلك لا تتوقفوا عن محاولة الإنقاذ. لهذا عشت ولهذا أدعوك أنت وكل من يَحمل قلمًا في يده أو ريشة أو إزميلًا … تذكَّروا أن الفكر إنقاذ والشعر إنقاذ والفن إنقاذ. ولا تنسَ يا صديقي أنه لن يُنقذك سواك، ولن يُغيِّر العالم إلَّاك أنت وأمثالك.

سألت، قبل أن يَختفي تمام الاختفاء: برغم الشيخوخة وفساد الأحوال وتعاسة الأوضاع والبشر؟

قال بصوته المتحشرج والمتهدج: وبسببها وفي غمارها، تشتد ضرورته وتتحتم المغامرة في سبيله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤