الفصل الأول

الْغَرِيقُ النَّاجِي

(١) لَيْلَةٌ لَا تُنْسَى

وَقَعَتْ حَوَادِثُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْجُحَوِيَّةِ الشَّائِقَةِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَأَلْفٍ مِنَ السِّنِينَ.

ذَاتَ مَسَاءٍ: كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ: عَبْدُ اللهِ دُجَيْنُ بْنُ ثَابِتٍ» يَسِيرُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ. كَانَتْ لَيْلَةً لَا تُنْسَى! كَانَتْ حَافِلَةً بِالْمُفَاجَآتِ! كَانَ لَهَا فِي حَيَاةِ «أَبِي الْغُصْنِ» أَكْبَرُ الْأَثَرِ.

مَا أَظُنُّهُ نَسِيَهَا طُولَ حَيَاتِهِ. مَا أَظُنُّ الْقَارِئَ سَيَنْسَاهَا طُولَ حَيَاتِهِ.

كَانَ الظَّلَامُ يَغْمُرُ الْكَوْنَ. كَادَ الظَّلَامُ يَحْجُبُ الطَّرِيقَ عَنِ الْعُيُونِ، لَوْلَا بَصِيصٌ١ ضَئِيلٌ مِنْ ضِيَاءِ النُّجُومِ، تُرْسِلُهُ السَّمَاءُ إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا يُرْسِلُ الرَّجَاءُ نُورَهُ إِلَى ظُلُمَاتِ النَّفْسِ؛ فَيَكْشِفُ مِنْ يَأْسِهَا الْحَالِكِ،٢ وَيَفْتَحُ لَهَا طَرِيقًا نَيِّرًا تَسْلُكُهُ فِي ظُلُمَاتِ الْحَيَاةِ!

شَاعَ الصَّمْتُ وَسَادَ السُّكُونُ، لَوْلَا نَقِيقُ الضَّفَادِعِ الْمَرِحَةِ مُنْبَعِثًا مِنْ ضِفَّةِ النَّهْرِ.

جَلَسَ «أَبُو الْغُصْنِ» هَادِئَ النَّفْسِ مُطْمَئِنًا، بِرَغْمِ مَا لَقِيَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ كَوَارِثَ وَأَحْدَاثٍ.

لَوْ أَنَّ بَعْضَ مَا حَلَّ بِبَطَلِ قِصَّتِنَا مِنَ الْمَصَائِبِ أَصَابَ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ، لَمَا وَجَدَ الْعَزَاءُ إِلَى نَفْسِهِ سَبِيلًا، وَلَضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِمَا رَحُبَتْ، وَدَارَتْ بِهِ الْأَرْضُ قَائِمًا.

(٢) أَيَّامُ الشِّدَّةِ

تَسْأَلُنِي: مَاذَا لَقِيَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنَ النَّكَبَاتِ؟

اعْلَمْ — حَفِظَكَ اللهُ وَرَعَاكَ، وَسَلَّمَكَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَعَافَاكَ — أَنَّ أَحَدَ الْأَشْرَارِ أَحْرَقَ بَيْتَ «أَبِي الْغُصْنِ».

هَكَذَا عَبَسَ لَهُ وَجْهُ الزَّمَانِ! هَكَذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ:

اسْتَهْدَفَتْ٣ أُسْرَتُهُ لِلْجُوعِ وَالْمَرَضِ. تَنَكَّرَ لَهُ أَصْحَابُهُ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا مَا حَلَّ بِهِ مِنَ الْمُلِمَّاتِ. هَجَرَهُ عَارِفُوهُ، وَابْتَعَدَ عَنْهُ خُلَصَاؤُهُ وَمُرِيدُوهُ. أَنْكَرَ صَدَاقَتَهُ مَنْ كَانُوا يَتَوَدَّدُونَ إِلَيْهِ وَيَلْتَمِسُونَ مَعُونَتَهُ. قَبَضُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ بَعْدَ انْبِسَاطِهَا.

لَمْ تَمْتَدَّ إِلَيْهِ — بِالْمُسَاعَدَةِ — يَدُ أَحَدٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ كَانَ يَدَّخِرُهُمْ لِلنَّوَائِبِ، وَيَسْتَبْقِيهِمْ لِلشَّدَائِدِ.

تَمَّتْ لَهُ — بِذَلِكَ — كُلُّ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ. لَمْ يَكُنْ يَنْقُصُهُ شَيْءٌ لِيَكُونَ أَتْعَسَ خَلْقِ اللهِ إِنْسَانًا!

(٣) جَارَةٌ مُحْسِنَةٌ

لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعِينٌ — فِي نَكْبَتِهِ — غَيْرُ جَارَتِهِ «زُبَيْدَةَ» الْمُحْسِنَةِ.

لَوْلَا عَطْفُ هَذِهِ الْجَارَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدَيْهِ، لَهَلَكُوا جُوعًا!

لَكِنَّ اللهَ لَطَفَ بِهِمْ، فَأَتَاحَهَا لَهُمْ لِتَتَعَهَّدَهُمْ فِي أَيَّامِ الْمِحْنَةِ وَالشَّقَاءِ.

(٤) نَفْسٌ رَاضِيَةٌ

أَتَعْرِفُ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ — كَيْفَ لَقِيَ «أَبُو الْغُصْنِ» تِلْكَ الْأَحْدَاثَ وَالْخُطُوبَ؟

لَقِيَهَا بَاسِمَ الثَّغْرِ وَضَّاحَ الْجَبِينِ، عَامِرَ الْقَلْبِ بِنُورِ الْيَقِينِ!

لَعَلَّكَ تَدْهَشُ إِذَا قُلْتُ لَكَ: إِنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْهَائِلَةَ بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ رَاضِيَةٍ.

(٥) عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ

كَانَتِ الضَّفَادِعُ — قَبْلَ حُضُورِهِ — تَمْلَأُ الْجَوَّ بِنَقِيقِهَا. سَكَنَتِ الضَّفَادِعُ حِينَ رَأَتْهُ قَادِمًا عَلَيْهَا.

اسْتَقَرَّ بِهِ الْجُلُوسُ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ.

عَاوَدَتْهَا الشَّجَاعَةُ. أَنِسَتْ بِهِ. اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ. أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ.

سُرْعَانَ مَا عَاوَدَهَا الْمَرَحُ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا الْبَهْجَةُ.

انْطَلَقَتِ الضَّفَادِعُ تَقْفِزُ فِي الْفَضَاءِ، وَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا بِمَا تَمْلِكُ مِنْ قَبِيحِ الْغِنَاءِ!

(٦) نَجَاةُ الْغَرِيقِ

أَحَسَّ «أَبُو الْغُصْنِ» صَوْتَ جِسْمٍ يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ. سَمِعَ اسْتِغَاثَةً ضَعِيفَةً خَافِتَةً، تَنْبَعِثُ فِي إِثْرِ الصَّوْتِ، طَالِبَةً النَّجْدَةَ. خَفَّ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى النَّهْرِ. انْدَفَعَ إِلَى مَصْدَرِ الصَّوْتِ. قَذَفَ بِجِسْمِهِ فِي الْمَاءِ فِي غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا وَجَلٍ.٤ ظَلَّ يَسْبَحُ٥ فِي إِثْرِ الْغَرِيقِ جَاهِدًا.

عَثَرَ بِطَرَفِ ثَوْبٍ! أَطْبَقَتْ يَدَاهُ عَلَيْهِ، وَجَذَبَهُ إِلَيْهِ. بَذَلَ قُصَارَى جُهْدِهِ حَتَّى أَنْقَذَ الْغَرِيقَ. حَمَلَهُ إِلَى الشَّاطِئِ، بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَ كِلَاهُمَا عَلَى الْغَرَقِ.

(٧) شُكْرُ النَّاجِي

أَقْبَلَ «أَبُو الْغُصْنِ» يَتَأَمَّلُ وَجْهَ التَّاعِسِ الَّذِي أَشْرَفَ عَلَى الْغَرَقِ، بَعْدَ أَنْ كَتَبَ اللهُ سَلَامَتَهُ عَلَى يَدَيْهِ. أَبَصَرَ شَيْخًا٦ زَرِيَّ الْهَيْئَةِ، مُغْمًى عَلَيْهِ.
لَمْ يَلْبَثِ الشَّيْخُ أَنْ أَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ. نَظَرَ إِلَى مُنْقِذِهِ بِعَيْنَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، يُظَلِّلُهُمَا حَاجِبَانِ كَثِيفَانِ.٧ قَالَ لَهُ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ،٨ يَكَادُ يَخْتَنِقُ مِنَ الْبُكَاءِ: «شُكْرًا لَكَ — يَا أَخِي — عَلَى مَا أَسْدَيْتَ إِلَيَّ مِنْ صَنِيعٍ!٩

أَبَى لَكَ فَضْلُكَ وَمُرُوءَتُكَ، إِلَّا أَنْ تُخَاطِرَ بِحَيَاتِكَ، لِتُنْقِذَ حَيَاتِي! جَزَاكَ اللهُ — بِمَا صَنَعْتَ — خَيْرًا. لَوْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، لَكَانَ الْهَلَاكُ نَصِيبِي!

(٨) حِوَارٌ عَجِيبٌ

أَنَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِي. لَسْتُ أَدْرِي — عَلَى التَّحْقِيقِ — أَجَمِيلًا صَنَعْتَ مَعِي، أَمْ قَبِيحًا؟! لَسْتُ أَدْرِي — عَلَى التَّحْقِيقِ — أَخَيْرًا قَدَّمْتَ إِلَيَّ، أَمْ شَرًّا؟!»

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَاذَا تَعْنِي؟ أَكُنْتَ تَقْصِدُ عَامِدًا إِلَى إِغْرَاقِ نَفْسِكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟!»

قَالَ الشَّيْخُ: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ! ذَلِكَ مَا لَا يَدُورُ بِبَالِ عَاقِلٍ كَرِيمٍ! مَا كُنْتُ غَبِيًّا فَاسِدَ الرَّأْيِ، وَلَا جَبَانًا ضَعِيفَ الْقَلْبِ، فَأُفَكِّرَ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْحَيَاةِ. إِنَّمَا زَلَّتْ قَدَمِي، وَأَنَا أَمْشِي عَلَى الْجِسْرِ. لَمْ أَلْبَثْ أَنْ هَوَيْتُ إِلَى قَاعِ النَّهْرِ. ثُمَّ حَمَلَنِي التَّيَّارُ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ الْحَالِكِ.١٠ كُنْتُ — لَوْلَا أَنْتَ — مِنَ الْمُغْرَقِينَ.»

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَا بَالُكَ — إِذَنْ — تَنْدَمُ عَلَى نَجَاتِكَ؟ لِمَ لَا تَحْمَدُ اللهَ عَلَى سَلَامَتِكَ؟»

قَالَ الشَّيْخُ، فِي أُسْلُوبٍ حَزِينٍ، يَفِيضُ مَرَارَةً وَاكْتِئَابًا:١١ «حَمْدًا للهِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ. كُلُّ مَا يَنَالُنَا — مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ — مَقْدُورٌ عَلَيْنَا، لَا حِيلَةَ لَنَا فِي دَفْعِهِ، وَلَا سُلْطَانَ١٢ لَنَا عَلَى رَدِّهِ.»

(٩) آلَامُ الشَّيْخِ

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَاذَا يَحْزُنُكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟»

قَالَ الشَّيْخُ: «مَثِّلْ لِنَفْسِكَ شَيْخًا فَانِيًا مِثْلِي، مَاتَتْ أُسْرَتُهُ جَمِيعًا: أَوْلَادُهُ وَزَوْجَتُهُ، وَأَخَوَاتُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَأَقَارِبُهُ الْأَدْنَوْنَ وَالْأَبْعَدُونَ. مَاتُوا جَمِيعًا!

أَصْبَحَ — فِي شَيْخُوخَتِهِ — يَعِيشُ بِلَا أَهْلٍ وَلَا أَمَلٍ. أَصْبَحَ لَا يَجِدُ — فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ — فُؤَادًا يَهْفُو١٣ إِلَيْهِ، وَلَا يَظْفَرُ بِمَوْرِدِ عَيْشٍ يَقْتَاتُ مِنْهُ، بَعْدَ أَنْ حُمِّلَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ، مِنْ أَعْبَاءِ السِّنِينَ. كَيْفَ يَكُونُ شُعُورُ هَذَا الرَّجُلِ الْفَانِي، إِذَا هَيَّأَتْ لَهُ الْمُصَادَفَةُ أَنْ يَغْرَقَ، ثُمَّ كُتِبَتْ لَهُ السَّلَامَةُ مَرَّةً أُخْرَى؟

أَتُرَاهُ يَسْعَدُ بِذَلِكَ أَمْ يَشْقَى؟ أَتُرَاهُ يَبْتَهِجُ بِاسْتِرْدَادِ حَيَاتِهِ، أَمْ يَأْسَفُ لِخَلَاصِهِ وَنَجَاتِهِ؟

إِنَّ لِلْفَتَى وَالشَّابِّ — مِنْ أَمْثَالِكَ — آمَالًا كِبَارًا، يَسْعَيَانِ إِلَى تَحْقِيقِهَا وَالظَّفَرِ بِهَا. فَإِذَا بَلَغَا مَا بَلَغْتُ مِنَ السِّنِينَ، وَذَرَّفَا١٤ عَلَى السَّبْعِينَ؛ فَأَيُّ أَمَلٍ يَبْقَى لَهُمَا فِي الْحَيَاةِ؟ أَيُّ مَطْلَبٍ يَسْعَى لَهُ الشَّيْخُ الْفَانِي وَيَتَمَنَّاهُ؟»

(١٠) بَرَاءَةٌ مِنَ الضَّعْفِ

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» يُنَاجِي نَفْسَهُ، فِي صَوْتٍ خَافِتٍ: «مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَسْتَنْكِرُ الْبَقَاءَ، وَيَلْعَنُ الْحَيَاةَ؟!»

كَانَ سَمْعُ الشَّيْخِ مُرْهَفًا.١٥ لَمْ تُفْلِتْ مِنْهُ تِلْكَ الْهَمْسَةُ.١٦ قَالَ لِمُنْقِذِهِ قَوْلَةَ الْمُتَثَبِّتِ مِمَّا يَقُولُ: «كَلَّا، يَا صَاحِبِي. لَا تُسِئْ ظَنَّكَ بِي. لَسْتُ كَمَا تَقُولُ. مَا أَنَا بِمُبْغِضٍ لِلْبَقَاءِ، وَلَا كَارِهٍ لِلْحَيَاةِ. كَلَّا، لَمْ أَسْتَنْكِرِ الْحَيَاةَ كَمَا ظَنَنْتَ، وَلَا لَعَنْتُهَا كَمَا تَوَهَّمْتَ. أَنَا أَحْتَقِرْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَشَدَّ الِاحْتِقَارِ.

(١١) آهَةُ الْمَحْزُونِ

عِشْتُ — طُولَ عُمْرِي — مُؤْمِنًا بِاللهِ، مُسْتَسْلِمًا لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، مُفَوِّضًا أَمْرِي لَهُ،١٧ تَجْرِي عَلَيَّ مَشِيئَتُهُ، وَيَنْتَهِي أَجَلِي مَتَى اقْتَضَتْ إِرَادَتُهُ. لَمْ يَمْنَعْنِي إِيمَانِي بِالْقَدَرِ عَنِ السَّعْيِ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ،١٨ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ.

إِيَّاكَ أَنْ تَأْخُذَ عَلَيَّ مَا سَمِعْتَ! إِنَّهَا آهَةٌ مَحْزُونَةٌ. إِنَّهَا كَلِمَةٌ حَمْقَاءُ، سَبَقَتْ إِلَى خَاطِرِي، فَنَطَقَ بِهَا لِسَانِي فِي سَاعَةِ أَلَمٍ عَارِضَةٍ، لَمْ يَتَدَبَّرْ عَقْلِي مَغْزَاهَا، وَلَا تَثَبَّتَ فِكْرِي مِنْ مَعْنَاهَا!»

أَطْرَقَ الشَّيْخُ لَحْظَةً. طَأْطَأَ رَأْسَهُ بُرْهَةً.١٩ كَأَنَّمَا خَجِلَ مِمَّا فَاهَ بِهِ لِسَانُهُ مِنْ شَكْوَى.

(١٢) أَسْبَابُ السَّعَادَةِ

قَطَعَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى الشَّيْخِ صَمْتَهُ. سَأَلَهُ: «مَنِ الرَّجُلُ؟»

أَجَابَهُ الشَّيْخُ: اسْمِي: «لَعْلَعٌ»، كُنْيَتِي: «أَبُو شَعْشَعٍ»، اسْمُ أَبِي: «دَعْدَعٌ»، اسْمُ جَدِّي: «هَدْرَشٌ.»

صَمَتَ الشَّيْخُ قَلِيلًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَائِلًا: «خَبِّرْنِي أَنْتَ! مَا بَالُكَ مُنْفَرِدًا فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُوحِشِ؟ لِمَاذَا آثَرْتَ٢٠ الْعُزْلَةَ، فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، كَأَنَّمَا تَفِرُّ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكَ؟! إِذَا صَحَّتْ فِرَاسَتِي، وَصَدَقَ ظَنِّي، فَمَا إِخَالُكَ سَعِيدًا فِي حَيَاتِكَ!»

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «كَلَّا، يَا صَاحِبِي. السَّعَادَةُ لَمْ تُفَارِقْنِي طُولَ حَيَاتِي. مَا أَذْكُرُ أَنَّنِي شَعَرْتُ بِالتَّعَاسَةِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ عَلَى كَثْرَةِ مَا أَصَابَنِي مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ.

أَلَا تَرَى كَيْفَ تَتَوَالَى الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ: صَيْفٌ يَتْلُوهُ خَرِيفٌ، وَشِتَاءٌ يَتْلُوهُ رَبِيعٌ؟!

كَذَلِكَ يَتَعَاقَبُ حُزْنٌ وَفَرَحٌ. انْقِبَاضٌ وَانْبِسَاطٌ، يَأْسٌ وَرَجَاءٌ. شِدَّةٌ وَرَخَاءٌ. عُسْرٌ وَيُسْرٌ. فَقْرٌ وَغِنًى. ظُلْمَةٌ وَنُورٌ. مَرَضٌ وَصِحَّةٌ. لَا يَبْقَى حَالٌ وَلَا يَدُومُ! إِنَّ الْحُزْنَ وَالسُّرُورَ — فِيمَا أَرَى — يَتَعَاقَبَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.»

قَالَ الشَّيْخُ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا سَمِعْتُ — طَوَالَ حَيَاتِي — أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِكَ، وَلَا أَحْكَمَ مِنْ رَأْيِكَ! لَئِنْ صَحَّ ظَنِّي؛ لَيَكُونَنَّ لَكَ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاتِكَ، وَبَعْدَ مَمَاتِكَ.»

(١٣) مَأْسَاةُ «أَبِي الْغُصْنِ»

أَطْرَقَ الشَّيْخُ لَحْظَةً، اسْتَأْنَفَ بَعْدَهَا قَائِلًا: «تُرَى: مَنْ تَكُونُ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الْكَرِيمُ؟»

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: اسْمِي: «عَبْدُ اللهِ دُجَيْنٌ»، كُنْيَتِي: «أَبُو الْغُصْنِ»، اسْمُ أَبِي: «ثَابِتٌ»، اسْمُ جَدِّي: «جَحْوَانُ.»

قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا صِنَاعَتُكَ؟»

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «كُنْتُ — إِلَى يَوْمِ أَمْسِ — تَاجِرًا غَنِيًّا. لَكِنَّ حَرِيقًا شَبَّ فِي بَيْتِي وَمَخْزَنِي، الْتَهَمَهُمَا الْحَرِيقُ جَمِيعًا. أَتَى الْحَرِيقُ عَلَى كُلِّ مَا أَمْلِكُ مِنْ أَثَاثٍ وَبَضَائِعَ. لَمْ يُبْقِ لِيَ الْحَرِيقُ — مِمَّا مَلَكْتُهُ — كَثِيرًا، وَلَا قَلِيلًا.

حَمْدًا للهِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ. تَدَارَكَنِيَ اللهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، سَلِمَ كُلُّ مَنْ فِي الدَّارِ … سَلِمَتْ زَوْجَتِي، وَوَلَدِي وَابْنَتِي. شُكْرًا للهِ عَلَى بَدِيعِ أَلْطَافِهِ.

كِدْنَا نَهْلِكُ جُوعًا؛ لَوْلَا جَارَتُنَا الْكَرِيمَةُ «زُبَيْدَةُ». مَا أَطْيَبَ قَلْبَهَا، وَمَا أَكْرَمَ صُنْعَهَا! شُكْرًا لَهَا. مَدَّتْ إِلَيْنَا يَدَ الْمَعُونَةِ، أَحْوَجَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهَا. تَكَفَّلَتْ بِإِطْعَامِ زَوْجِي وَوَلَدَيَّ.

تَسْأَلُنِي: مَاذَا لَقِيَ الْجَانِي بَعْدَ أَنْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي بَيْتِي وَمَخْزَنِي؟ الْجَانِي فَرَّ.٢١ لَمْ يَقِفْ لَهُ أَحَدٌ عَلَى أَثَرٍ!»

•••

قَالَ الشَّيْخُ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا أَعْجَبَ قِصَّتَكَ! أَنْسَتْنِي مَصَائِبُكَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — كُلَّ مَا لَقِيتُ فِي حَيَاتِي مِنْ أَحْدَاثٍ وَآلَامٍ.»

(١٤) فَضْلُ الصَّبْرِ

عَادَ الشَّيْخُ إِلَى صَمْتِهِ. أَطْرَقَ هُنَيْهَةً. ارْتَعَشَ جِسْمُهُ. ظَلَّ يَصْرِفُ نَابَهُ.٢٢

اسْتَأْنَفَ الشَّيْخُ يَقُولُ: «كَيْفَ تَكُونُ الدُّنْيَا إِذَا خَلَتْ مِنْ ذَوِي الْمُرُوءَةِ وَالْفَضْلِ؟ كَيْفَ تَكُونُ الْحَيَاةُ إِذَا خَلَتْ مِنْ كِرَامِ الْمُحْسِنِينَ؟»

•••

ظَنَّ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنَّ الشَّيْخَ يُعَانِي مِنْ آلَامِ الْبَرْدِ مِثْلَ مَا يُعَانِي. حَسِبَ ضَيفَهُ يَسْتَجْدِيهِ الْمَعُونَةَ.٢٣ حَسِبَهُ يَرْتَجِفُ أَلَمًا.

قَالَ لَهُ «أَبُو الْغُصْنِ»: «دَعْنَا مِنْ حَدِيثِ الْأَحْزَانِ. لَيْسَ فِي ذِكْرَيَاتِ الْمَصَائِبِ فَائِدَةٌ تُرْجَى. سَيَنْقَضِي وَقْتُ الشِّدَّةِ إِذَا صَبَرْنَا لَهَا. سَيَعْقُبُهُ وَقْتُ الرَّخَاءِ. سَوْفَ تُنْسِينَا بَهْجَتُهُ جَمِيعَ مَا كَابَدْنَاهُ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَآلَامِهَا.

مَتَى صَبَرَ الْإِنْسَانُ لِجَهْدِ نَازِلَةٍ أَصَابَتْهُ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى احْتِمَالِهَا، وَابْتَسَمَ لِلْكَوَارِثِ وَالنَّكَبَاتِ — غَيْرَ هَيَّابٍ وَلَا وَجِلٍ — لَمْ تَلْبَثِ الْغُمَّةُ أَنْ تَنْجَلِيَ عَنْهُ وَيَنْسَاهَا، كَمَا نَسِيَ غَيْرَهَا مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ.

الْعَاقِلُ مَنْ يَرْضَى بِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ! هَيْهَاتَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَاقِلُ لِلضَّعْفِ! إِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ شِدَّةٍ مُدَّةً، ثُمَّ تَنْقَضِي. إِنَّهُ يَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ صَبَرَ لِلْمِحْنَةِ غَلَبَهَا، وَانْتَصَرَ عَلَيْهَا!»

(١٥) فِي ضِيَافَةِ «أَبِي الْغُصْنِ»

صَمَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» قَلِيلًا. اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «هَلُمَّ، يَا «أَبَا شَعْشَعٍ». اتْبَعْنِي إِلَى الدَّارِ. أَنْتَ وَاجِدٌ فِيهِ — عَلَى ضِيقِهِ — مَكَانًا تَأْوِي إِلَيْهِ. سَنُحْضِرُ بَعْضَ الْحَشَائِشِ وَالْأَعْشَابِ. سَوْفَ نُوقِدُهَا، لِنُجَفِّفَ ثِيَابَنَا الْمُبْتَلَّةَ.»

•••

أَطْرَقَ «أَبُو شَعْشَعٍ» لَحْظَةً. اسْتَأْنَفَ يَقُولُ: «قَبِلْتُ ضِيَافَتَكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». شُكْرًا لَكَ! لَعَلَّ اللهَ — سُبْحَانَهُ — يُوَفِّقُنِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى أَدَاءِ هَذَا الْجَمِيلِ إِلَيْكَ.»

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «إِنَّ فِي صُنْعِ الْمَعْرُوفِ لَذَّةً يَتَضَاءَلُ أَمَامَهَا كُلُّ جَزَاءٍ مَهْمَا جَلَّ، وَتَصْغُرَ — بِالْقِيَاسِ إِلَيْهَا — كُلُّ مُكَافَأَةٍ مَهْمَا عَظُمَتْ. حَسْبِي سُرُورًا وَابْتِهَاجَا أَنْ يُمَكِّنَنِي اللهُ — عَلَى فَقْرِي — مِنَ الْقِيَامِ بِوَاجِبِ الضِّيَافَةِ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى جَزَاءٍ وَلَا شُكْرٍ. فَخَيرُ مَا يُكَافَأُ بِهِ الْإِنْسَانُ — يَا سَيِّدِي — شُعُورُهُ بِأَنَّهُ أَدَّى وَاجِبَهُ، وَفَرَحُهُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ!

هَلُمَّ، يَا صَاحِ، فَاعْتَمِدْ ذِرَاعِي. اتَّكِئْ عَلَيْهَا لِتُسَاعِدَكَ عَلَى السَّيْرِ.»

(١٦) دَعَوَاتٌ مُسْتَجَابَةٌ

قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا أَبْعَدَ نَظَرَكَ، وَأَحْكَمَ رَأْيَكَ، وَأَصْدَقَ نِيَّتَكَ، وَأَسْلَمَ طَوِيَّتَكَ! أَنَا عَلَى ثِقَةً أَنَّ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ مُقَدَّرَانِ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا!

اللهُ — سُبْحَانَهُ — يَتَوَلَّى حِمَايَتَكَ، وَيُخَلِّدُ — عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ — اسْمَكَ وَسُمْعَتَكَ.

اللهُ — سُبْحَانَهُ — يُسَخِّرُ لَكَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ لِمُعَاوَنَتِكَ وَخِدْمَتِكَ، وَيَجْعَلُهُمْ طَوْعَ مَشِيئَتِكَ، وَرَهْنَ إِشَارَتِكَ.»

•••

مَشى كِلَاهُمَا فِي ضَوْءِ النُّجُومِ الْمُتَأَلِّقَةِ٢٤ فِي السَّمَاءِ يَلُفُّهُمَا ظَلَامُ اللَّيْلِ، وَيُؤْنِسُهُمَا نَقِيقُ الضَّفَادِعِ، وَيَحُوطُهُمَا اللهُ بِرِعَايَتِهِ، وَيَكْلَؤُهُمَا٢٥ بِعِنَايَتِهِ.
١  بريق أو لمعان.
٢  الشديد السواد.
٣  تعرَّضت.
٤  بلا خوف.
٥  يعوم.
٦  رجلًا طاعنًا في السن.
٧  غليظان.
٨  متقطِّع في ارتعاش.
٩  جميل.
١٠  الشديد السواد.
١١  غمًّا، وسوء حال، وانكسارًا من الحزن.
١٢  ولا قدرة.
١٣  يتحرك ويعطف عليه.
١٤  زادَا.
١٥  دقيقًا حادًّا.
١٦  الصوت الخفيُّ.
١٧  تاركًا إليه الحكم فيه.
١٨  أرجائها ونواحيها.
١٩  زمنًا.
٢٠  اخترت.
٢١  هرب.
٢٢  يحكُّ ضرسه، فيُسمع له صوت.
٢٣  يسأله المساعدة.
٢٤  المتلألئة.
٢٥  يحفظهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤